كان النبي (ص) يدعو الناس إلى توحيد الله
تعالى بالقرآن والحديث في أوائل صدر الإسلام. فظهر أثرهما في قلوبهم من تغير
أحوالهم الجاهلية إلى الثقافة الدينية لأنهم يتفاضلون بالعصبية
ويتفاخرون بالأنساب فجمعهم في حبل واحد وهو الأخوة ولا فضل لأحد منهم إلا بالتقوى كما قال (ص)
ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى[1]. فانقلب حياتهم
انقلابا دينيا سياسيا اجتماعيا فأبطل الإسلام الآداب التي تعارضه مثل الكهانة[2]. وأحدث الإسلام
آدابا جددا مثل العلوم الشرعية وقام هناك بعض الآداب الجاهلية مثل الخطابة
والشعر وزاد الإسلام فيهما رونقا وروعة وما زال العرب يتأثرون من التصويرات
الشعرية لفرط حاجتهم إلى شعر في تقييد مآثرهم وتفخيم شأنهم والتهويل على عدوهم
لأنهم شغلوا بالفتوح والجهاد والأسفار والدعوة الإسلامية ورفض من الفنون
الجاهلية رفعة القبائل والمعارك بينهم والخمر والنساء والتشبيب. فانقبض انتشارهم
في انشاء القصائد ولم يرفض الأصول والقواعد لها.
فالشعر الإسلامي في عهد النبي والخلفاء
الراشدين منبعه ومشرعه الشعر الجاهلي واعتبروا منها ما كان
حسينا ورفضوا منها ما كان قبيحا ذكر عند رسول الله (ص) الشعر فقال هو كلام فحسنه
حسن وقبيحه فقبيح رواه أبو داود[3]. وما قال النبي (ص)
ان من الشعر لحكمة يشير إلى إعجاب الشعر إذا كان دينيا إبطالا للفحش والمنكر.
والأحاديث الواردة في مدح الشعر كثيرة منها ما روي عن عمرو بن الرشيد عن أبيه قال
ردفت رسول الله (ص) يوما فقال هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء قلت نعم قال هيه (أ ي زده) فأنشدته
بيتا فقال هيه ثم فأنشدته بيتا فقال هيه حتى أنشدته مائة بيت رواه مسلم[4]. ومنها ما روي انه
قال رسول الله (ص) يقول لحسان أجب عني اللهم أيّده بروح القدس متفق عليه[5]. ومنها ما روي عن
ابن عباس(ر) انه قال جاء أعرابي فجعل يتكلم بكلام فقال (ص) ان من البيان سحرا وان
من الشعر حكمة. قالت عائشة (ر) الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع
القبيح وقال الثعلبي كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان عثمان يقول
الشعر وكان علي اشعر من الثلاثة. وروي عن ابن عباس (ر) انه كان ينشد الشعر
في المسجد ويستنشده فرأى انه دعاء عمر بن أبي ربيعة المخزومي فاستنشده قصيدة فأنشده
إياها وهي قريبة من تسعين بيتا[6]
ثم ان ابن عباس أعاد القصيدة جميعها حتى حفظها. وأن أبا بكر (ر) رقي على المنبر ذات يوم وخاطب الأنصار
بأبيات من الشعر مطلعه:
جزى الله عنا جعفرا حتى ازلفت
بنا
نعلنا في الوطئين فزلت[7]
وعمر (ر) كان
كثير الاعتناء بالشعر يسأل الشعراء ويستمع إليهم، كتب مرة إلى أبي موسى الأشعري
ولي العهد بالكوفة "مر من قبلك يتعلم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب
الرأي ومعرفة الأسباب". وكان عثمان (ر) يحتفي بالشعر ويستشهد به كلامه، وكان
شديدا كعمر(ر) مع الشعراء الذين لا يوافقون الحق. فإن عمر (ر) زجر الحطيئة في
هجائه بالشعر على زبرقان بن بدر ثم حبسه. ولما كتب أبياتا من السجن يشكو إليه حال
أهله فأخرجه وهدده بقطع لسانه وأذنيه فتوسط الصحابة فأطلقه وأوصاه ان يكف لسانه عن
الهجاء. وفعل عثمان بن عفان (ر) هكذا مع ضابئ بن الحارث هجا قوما من بني نهشل هجاء
أقذع ورمى أمهم بالكلب، فقال وأني لأراك لو كنت على عهد رسول الله (ص) لأنزل الله
فينا قرآنا ولو كان أحد قبلي قطع لسان شاعر في هجاء لقطعت لسانك[8].
ويتضح مما ذكر أن
الشعر الذي يلائم الدين لا بأس به في الإسلام. فأما ما روي عن النبي (ص) انه لم
يكن راغبا في الشعر لأنه من عوامل التفريق بين القبائل، والإسلام يدعو إلى
الاجتماع. وكان إذا رأى شعرا لا يلتفت إليه قال "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا
خير له من ان يمتلئ شعرا" وفي رواية حتى يَرْيَه¨ خيرمن ان يمتلئ شعرا[9]؛
وما روي أنه كان النبي (ص) يحارب الشعراء وينهاهم عن رواية الشعر لأنه إذا غلب على
قلب المرء حتي يشغله عن دينه وإقامة فروضه ويمنعه من ذكر الله وتلاوة القرآن فكل
هذا عن الشعر القبيح فقط بحسب الأغراض الجاهلية، لأن عمر (ر) نفسه حرّض المسلمين
على حفظ الشعر فقال رووا أولادكم ما سار من المثل وحسن من الشعر[10].
فيرجع ضعف الشعر في الطور الأول من الإسلام إلى الأغراض ذاتها، فالأغراض التي نظم
فيها المخضرمون أشعارهم بعد الإسلام هي المعاني التي أدت إلى ضعف شعرهم.[11]
تأثير القرآن في
تطور الشعر:وقد أثّــر
القرآن في تطور الشعر مباشرا . يدل عليه هذان الحديثان. عن ابن عباس (ر) انه قال
إذا قرأتم شيئا من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب فإن الشعر ديوان
العرب وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعرا[12].
وقال عمر(ر) عليكم بديوانكم لا تضلوا قالوا وما ديواننا قال شعر الجاهلية فإن فيه
تفسير كتابكم ومعاني كلامكم[13].
عرف منهما انه يجب لتفسير كتاب الله تعالى وفهم معانيه الإطلاع على الأشعار
الجاهلية ويرجع إليها إدراك أسلوب القرآن وبلاغته ومحسناته.
فأسوب القرآن
يتفق بعض أوزان الشعر إذا نظم ليسهل الاقتباس وقد وقع بعض الآيات على وزن معتبر في
الشعر كآيات : "لن تنالوا البر حتى *
تنفقوا مما تحبون" القرآن مظهر الحياة العقلية والحياة الأدبية عند
العرب في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع الميلادي ومال طه حسين إلى أنه
مرآة للحياة الجاهلية يجب ان يلتمس في القرآن لا في الأدب الجاهلي، لأن نص القرآن
ليس فيه شك فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي وأدرسها في شعر هؤلاء الشعراء الآخرين
الذين جاءوا بعده[14]. نزل هذا الكتاب بحسب
الوقائع بأسلوب بديع لا عهد به للآذان والأذهان بمثله فلا هو موزون مقفى كالشعر
وليس هو سجعا يتجزأ فيه المعنى في عدد من الفقر إنما هو آيات مفصلة متجاوزة عجزوا
عن الإتيان بمثله فقالوا مضطرين انه شعر شاعر أو فعل ساحر أو سجع كاهن[15].
ولكن رأى بعض
العرب في بلاغة القرآن وفي روعته وجماله في الأسلوب ما بهرهم وآثار إعجابهم به ان
امتنع بعضهم عن قول الشعر كما فعل لبيد ين ربيعة أحد أصحاب المعلقات اسلم وأحسن
إسلامه واستغنى بالقرآن وقراءته عن الشعر الذي نبغ فيه وقد ورد عنه انه قضى في
الإسلام أربعين سنة وأنشد في هذا العهد بيتين فقط وهما :
ما عاتب الحر
الكريم كنفسه
والمرء يصلحه الجليس
الصالح
الحمد لله إذ لـم
يأتني أجلي
حتى لبست من الإسلام سربالا[16]
وكان إذا سئل عن
شعره تلا سورة من القرآن وقال أبدلني الله هذا خيرا منه[17]
هذه المادة تبرز على قلة الشعر وفقده في صدر الإسلام بالنسبة إلى الجاهلية ولكن
تأثير القرآن في الشعر كان عميقا شاملا لكل ما عدوا فيه مع الدين الحنيف. وتأثر
الشعراء الإسلاميون بالمثالية الروحية التي يدعو الإسلام إليها والتفوا حوله وحول
دعوة الرسول ونتيجة ذلك ظهور شعر الخشوع والابتهال كما يدل عليه البيتان السابقان
فلذا هجروا بروح الإسلام الأغراض التي تتعارض الدين الحق ومبادئه.
موقف القرآن في
الشعر والشعراء:أما لفظ الشاعر
فقد ورد في أربع آيات وهي 1) "بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو
شاعر"[18].2) "ويقولون أئنا
لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون"[19].
3) "أم يقولون شاعر يتربص به ريب المنون"[20].4)"وما
هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون"[21].
ولفظ الشعر ورد في قوله تعالى "وما علمناه الشعر وما ينبغي له ان هو إلا قرآن
مبين"[22]. ولفظ الشعراء وقع في محل
واحد من القرآن وهي "والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون
وأنهم يقولون مالا تفعلون"[23].
فالآيات الثلاثة
الأُوَل نزلت في قول المشركين حيث قالوا عن النبي(ص) هو شاعر والقرآن شعر فرد الله
زعمهم والآية الرابعة نزلت لنفي الشاعرية عن النبي والخامسة تدل على نفي تعليم
الشعر له (ص) والسادسة تدل على ان الشعراء يقولون تخيلاتهم ويتبعهم فيها الغاوون
اي الضالون. فهذه الآية الأخيرة فيه ذم عليهم لأنهم في كل واد أي فن من فنون
الكلام يمضون فيتجاوزون الحد مدحا وهجاء ويتحدثون من الكذب[24].
فإن الشعراء يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم فيستكثرون بما ليس لهم[25].
ثم استثنى الله منهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا. معناه أن
الشعراء فريقان أحدهما الشعراء الذين بعدوا عن الحق وثبتوا في الضلال ووقفوا
بشعرهم يصدون عن سبيل الله يهجو الرسول والصحابة. وثانيهما الشعراء الذين آمنوا به
وعملوا الصالحات ولم ينسوا عن ذكر الله وهم وقفوا يدافعون بشعرهم هجاء الآخرين عن
الرسول والصحابة. فالفريق الأول من الآثمين ومن أهل الوزر وشعرهم ممقوت عند الله،
والفريق الثاني من المأجورين ومن أهل الرضى وشعرهم مقبول عند الله.
وأما في عهد
الخلفاء الراشدين فكان الشعر أقل شأنا وأحط مكانة لذهاب المعارضة ولشدة الخلفاء في
تأديب الشعراء وانصراف همم العرب إلى الفتوح ومظاهر الحضارة قد أخذت تؤثر في
الأذهان فظهر أثر ذلك ضئيلا في شعر المخضرمين ككعب بن زهير والحطيئة ومعن بن أوس
ولم يتأثر الشعراء بالإسلام إلا تأثرا عرضيا كضعف الأسلوب أو قلة الإنتاج في
القريحة فظل الشعر العربي في الجاهلية وفي الإسلام واحدا في مظهره وجوهره ونوعه[26].
وظهر ايضا شعر الفتوح لما خرج العرب من جزيرتهم إلى الفرس والروم ثم استولوا على
الشام ومصر وكانوا في أثناء هذا الجهاد ينظمون أناشيد حماسية مدوية يتغنون بها في
انتصارهم ويمتدحون بشجاعتهم. وروي أيضا أشعار مشهورة في حرب القادسية واليرموك
والنهاوند وغيرها. وشعراء هذا الفتح عمرو بن معدي كرب وبشر بن ربيعة وقيس بن
المكشوح الأسود بن شأس وغيرهم. فالنتيجة الواضحة مما سبق أن الإسلام لم يردّ العرب
عن الشعر ونظمه لما كان كثير من الصحابة ينظمونه ويتناشد ونه في المسجد. ومن
المشهور أن عمر (ر) كان كثيرا مّا يسأل وفود القبائل عن شعرائهم. فالشعر لم يتوقف
ولم يتخلف في هذا العصر وهذا طبيعي لأن من عاشوا فيه كانوا يعيشون على طريقة في
الجاهلية وقد انحلت عقدة لسانهم وعبروا بالشعر عن عواطفهم ومشاعرهم فلما أتم الله
عليهم نعمة الإسلام ظلوا يصطنعونه وينظمونه كما ثبت في كتب الأدب والتاريخ، والشعر
يسيل على كل لسان منهم.
الروح الإسلامية
في شعر المخضرمين:الشعراء المخضرمون هم الذين عاشوا في الجاهلية ينظمون الشعر وأدركوا
الإسلام واعتنقوا به وانشدوه بعده وأما من سبق إليه الموت من الشعراء في عهد النبي
(ص) ولم يسلموا أو اسلم ولم ينظموا شعرا فهم ليسوا بمخضرمين بالمعنى الصحيح فإن
الخضرمة هي الاختلاط لأنهم اختلطوا في حياتهم بين الجاهلية والإسلام فعاشوا في
العصرين معا [27]. ولذا يدخل دريد بن الصمة
(ت8هـ)والأعشى (ت629م)وأمية بن أبي الصلت (ت623م) والأسود بن يعفر (ت600م) في غمار
الجاهليين فشعر هؤلاء الشعراء كان أعلى طبقة وأرفع مزية في العصرين معا في الفنون
والأغراض مدحا وهجاء ورثاء فشعرهم ينقسم إلى قسمين أحدها الشعر الذي نظم قبل
الإسلام والثاني ما نظم في الإسلام وقد اعتبر بعض الأدباء الشعر الجاهلي من
المخضرمين أجود وأحسن من الشعر الذي نظم في الإسلام لأن الإسلام يحجز عن الكذب
والشعر يزيّنه الكذب[28].
وأما الشعر
الإسلامي ظهرت فيه روح الإسلام مع ما كان فيه من الأغراض الجاهلية من المدح
والرثاء والهجاء وغيرها ومن هؤلاء المخضرمين الفحول المذكورة وكعب بن مالك وأبو
محجن الثقفي والحطيئة ومتمم بن نويرة والنابغة الجعدي وخنساء ولبيد بن ربيعة ومنهم
من لم يبلغوا الشهرة وهم أبو قيس بن صرمة وأبو الدرداء وعبد الله بن الزبعري
وغيرهم. فقد ثبت ترجمة 25 شاعرا من المخضرمين مع شرح أشعارهم في الملجد الخامس من
موسوعة الشعر العربي[29].
وفي شعر هؤلاء كثير من النماذج للروحية الإسلامية المتأثرة به وقد رفضها اكثر
المؤرخين والأدباء. ومنها أنه كان عبد الله بن رواحة دائم الاستمداد من القرآن
يستلهمه في هجائه للمشركين ومن شعره هذه القطعة:
شهدت بأن وعد الله حق
وأن النار مثوى الكافرينا[30]
وقول أبي قيس
صرمة بن أبي انس الأنصاري في قصيدة بديعة يقول:
ونعلم ان الله لا شيء غيره
وأن
كتاب الله أصبح هاديا
ويدل شعر أبي
الدرداء على قضاء الله وإرادته والمرء يتبع مناه وآماله فقال:
يريد المرء ان
يؤتى مناه
ويأبىالله أفـضل ما
استفادا
يقول المرء
فائدتي ومالي
وتقوى الله أفضل ما
استفادا
ويقول ابن
الزبعري يكفر عما قدمت من الذنوب واعتذر فيها للرسول (ص)
يـا رسول الـملـيك ان لساني
راتق ما فـتقـت إذا أنا بور
إذا جارى الشيطان في سنن الغـ
ـي ومـن مال مـيله مثبور
آمن اللحم والعظام بما قلـــ
ـت فـنفسي الفدا وأنت النذير
ورثى أبو سفيان
ويتوجع حين انتقل النبي (ص) الى الرفيق الأعلى يقول :
لـقـد ظلت مصيبتنا وجلت
عشية قتيل قد قبض الرسول
نبي كان يجـلو الشك عـنا
بـما يـوحى إليه وما يقــــول
واشتهر عبدة بن
الطيب في شعر الفتوح يوصي أبناءه بتقوى الله وبر الوالدين والحذر من النمام الذي
يزرع الضغائن بين الناس مستلهما بالذكر الحكيم
يـوصيكم بتقى الإلـه فـإنـه
يعطي الرغائب من يشاء ويمنع
وبـبر والـدكـم وطاعة أمره
ان
الأبـر من الـبنين الأطوع
واعصوا الذي يزجي النمائم بينكم
متنصحا ذاك السمام الـمقـنع
يزجي عـقـاربه ليبعث بينكم
حربا كما بعث العروق الأخدع
ويقول في رثاء
قيس بن عاصم:
عليك سلام الله قيس بن عاصم
ورحمته
ما شاء ان يترحما
فلم يك قيس هلـكه هلك واحد
ولـكنه بنيان قـوم تهدما[31]
وقال سويد بن أبي
كاهل اليشكري:
كتب الـرحمن والحمد له
سعة
الأخلاق فينا والضلع
واباء لـلـدنـيـات إذا
أعطي
المكثور ضيما فكنع
وبـناء للـمعـالـي إنما
يرفع الله
ومن شاء وضـع
نـعـم لله فـينا ربـهـا
وضيـف
الله والله صـنع
والحصين بن
الحمام يقول مشيرا إلى آي القرآن ومقتبسا منه:
ويوم تسحر في الحروب
لبست إلى
الروع سربالـها
فلم يبق من ذاك إلا التقى
ونفس
تـعـالـج آجالـها
أمور من الله فوق السماء
مقـادير
تنزل أنـزالـها
أعوذ بربي من الـمخزيا
ت يوم
ترى النفس أعمالها
وخف الموازين بالكافرين
وزلزلت
الأرض زلزالها[32]
وتوجد الروحية الإسلامية في أشعار لبيد بن
أبي ربيعة¨وقد قيل أنه لم ينظم شعرا بعد الإسلام إلاّ
بيتين سبق ذكرهما والنماذج كثيرة في الأشعار التي تنسب إليه وتفيض فيها المعاني
الإسلامي والروحية حيث يقول فناء الدنيا وهلاك مافيها
وما الناس إلا كالـديار وأهـلها
بها يوم حلوها وغدوا بلاقع
وما المرء إلا كالشهاب وضوءه
يحور
ماذا بعد إذا هو ساطع
وما البر إلا مضمرات من التقى
وما
المال إلا عاريات ودائع[33]
وهو يتحدث عن
التقوى والأبرار والعمل الصالح وأن الناس معرضون على الله يوم القيامة وعن أمور
الآخرة في قصيدة فيها هذه الأبيات :
وإنما يحـفـظ الـتقى الأبرار
والى الله يستقـر الـقـرار
والى الله ترجعون وعـند اللـ
ـه ورد الأمـور والاصدار
وكل شيء أحصى كتابا وعلما
ولـديه
تـجـلـت الأسرار
ان يكن في الحياة خير فقد أن
ظـهـر
لو كان ينفع الإنظار
عشت دهرا ولا يدوم على الأيـ
ـام
إلا بـرمـرم وتـعـار[34]
ومما استجاد بها
رسول الله (ص) قصيدته وقال أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد[35]
مطلعها هذان البيتان :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل
نـعيم لا محالـة زائل
وكل أناس سوف تدخل بينهم
دويهـية تصفر منها الأنامل
وقد عدّ حطيئة من
المخضرمين واختلف الرواة هل قدم على الرسول بعد فتح مكة فأعلن إسلامه أو انه تأخر
في اعتناقه بالإسلام هل ارتد بعد وفاة الرسول بأنه أعان بشعره ضد أبي بكر وخلافته
حتى قال فيها :
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا
فـيا لعباد الله ما لأبي بكر
أيـورثها بكرا إذ مات بعده
فتلك وبيت الله قاصمة الظهر
ومنهم من نسبهما
إلى أخيه الخطيل وجمهور شعره يدور في المديح والهجاء والحق أن الرواة بالغوا في
اتهامه بالبخل ودناءة النفس كما بالغوا في اتهامه بفساد الدين قد يكون رقيقه ولكنه
ليس فاسده فقد كان يستشعره في الهجاء بشهادة لسانه فإنه يوجد يكثر المدح في ذكر
جزاء الله لممدوحه حيث قال:
فليجزه الله خيرا من أخي ثقة
وليهد بهدى الخيرات هاديا
ويستهل المدح
بالثناء على الله في مثل قوله:
الحمد لله إني في جوار فتى
حامي الحقيقة نفاع وضرار[36]
ومن قوله:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
وبالغ في وصف
التقى والعمل الصالح حيث قال:
ولست أرى السعادة جمع مال
ولـكن التقى هو السعيد
وتقوى الله خير الـزاد ذخرا
وعند الله للأ تقى مزيد[37]
فهذه المواد كلها
تدل على ان حطيئة لم تطفئ له الروح الإسلامية وأنه يقول ان السعادة ليست في الدنيا
بل في الآخرة ونعيمها ومتاعها الخالدة الذي لا ينالها إلا بالتقوى وعاش إلى خلافة
الأمويين وسافر إلى العراق والحجاز وان صح ما اتهم عليه فلعله
تاب في آخر عمره وتوفي سنة 59 هـ.
ومن أشعر المخضرمين النابغة الجعدي قال
كثيرا من الشعر في الجاهلية وصافا للخيول ثم نبغ في الإسلام وكان قد أنكر الخمر
والمسكر وهجر الأزلام والأوثان اسمه عبد الله بن القيس الجعدي سمي بالنابغة كما
سمي لزياد بن معاوية الذبياني بالنابغة لأنه ظل ثلاثين عاما ساكتا عن الشعر
ولم ينطقه ثم تفجر على لسانه ونبغ بالشعر في الإسلام ووفد على الرسول (ص) معلـنا إسلامه مع قومه
سنة تسع للهجرة وأنشده قصيدة يقول فيها :
بلغـنا السماء مجدنا
وجدودنا وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
فقال له الرسول الكريم فأين المظهر يا أبا
ليلى ؟ فأجابه الجنة ! فأعجب الرسول بشعره ومنطقه فقال له لا يفضض الله فاك.[38]
أقام الجعدي بالمدينة ولازم النبي (ص) مجاهدا في سبيل الله وأنشد قصائد كثيرة في
الفتوح ونشر الدعوة المحمدية وتصور فيها حياته في الإسلام وابتغاءه رضوان الله
بجهادهوتقواه جميعا حيث يقول :
أتيت رسول الله إذا
جاء بالهـدى
ويـتلـو كـتابا كالمجرة نيرا
وجاهدت حتى ما أحس
ومن معي
سهيلا إذا ما لاح ثمت غـورا
أقيم على الـتقوى وأرضي بفعلها
وكنت من النار المخوفة أوجرا
ومن قوله مايدل على حديثه عن نعمة الله
عليه بالإسلام وتحوله من ظلمات الوثنية إلى أضواء الدين الحنيف يقول:
عمرت حتى جاء أحمد
بالهـدى
وقـوارع تتلى من
القرآن
ولبست ملئ الإسلام
ثـوبا واسعا
من سيب لا حرم ولا
منان
وله أيضا موعظة بليغة من قصائد رواها كثير
من الرواة ويصور فيها الثناء على الله مقرا بوحدانيته مستعينا بالآيات والذكر
الحكيم مطلعها:
الحمد لله لاشريك له
من لم يقلها فنفسه ظلما
المولج الليل في
النهاروفي الليـ
ـل نـهـارا يـفـرج الظلما
ثم يقول مشيرا إلى آية وبدلنا هم بجنتيهم
ذواتي أكل خمط والى آية وجعلوا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقنا هم كل
ممزق فقال:
فمزقوا في البلاد واعترفوا الـ
ـهون
وذاقـوا البأساء والعدما
وبـدلوا السدر والأراك به الـ
ـخمط
واضحي البنيان منهدما
هكذا كانت
الروحية الإسلامية منتشرة في قصائده وهو أسن من النابغة الذبياني وبالغ الرواة في
عمره حتى عاش مائة وثمانية سنة بل تزيدون عليها والحق انه توفي بإصبهان عن سن
عالية حين استولى ابن الزبير في الحجاز سنة 65هـ .[39]
والخنساء الشاعرة
تعرف بكثرة الرثاء قال النابغة الذبياني "هي اشعر الإنس والجن". اسمها
تماضر بنت عمر بن الشريد السلمي ولدت سنة575م في أواخر الجاهلية[40]وأدركت
الإسلام وهي عجوز والخنساء لقب أضفي عليها لأن انفها كان متأخرا من وجهها وأرنبته
مرتفعه بعض الشيء ثم غلب اللقب على أسمها واشتهر بالرثاء في أخويها صخر ومعاوية،
واستشهدا في المعركة وشهدت حرب القادسية وحرّضت أولادها الأربعة للثبات في القتال
فلما حمي الوطيس تقدموا واحدا واحدا ينشدون الرجز يذكرون فيهم وصية والدتهم حتى
قتلوا عن آخرهم. فلما بلغها الخبر قالت الحمد لله الذي شرفني بقتلهم[41].
وتوفيت في خلافة عثمان (ر) سنة 24هـ ولها سبعون سنة وتظهر الروحية الإسلامية لها
في هذا البيت:
لا شيء يبقى غير وجه مليكنا
ولست أرى شيأ على الدهر خالدا[42]
وفي قصيدة أخرى
تقولها رثاء على صخر:
وقائلة والنعش قد فات خطوها
لتدركه يا لهف نفسي على صخر
ألا ثكـلت أم الـذين مشوا به
إلى القبر ما ذا يحملون إلى القبر[43]
وتعتقد ان الحياة
الباقية هي الآخرة وتقول عن صخر:
عاش خمسين حجة ينكر المنكر
فـيـنا
ويـبـذل المعـروفا
رحـمـة الله والسلام عـلـيه
وسقى
قـبره الـربيع خريفا[44]
و هكذا نجد أنّ الشعر العربي قد أصاب
أغراضه بعض التّغيير و التّطوّر بتأثير من الإسلام؛ فأضيفت إليه معانٍ مستحدثةٌ
إضافةً إلى المعاني القديمة ممّا جعل الشّعر يزدهر في ظلّ العقيدة الإسلاميّة التي
أكّدت تأثيراتها على أنّها لم تكن مجرّد عقيدة دينيّة، و إنّما هو نظام اجتماعيّ و
فكريّ شمل جميع مرافق الحياة. كما ظهر موضوع الوعظ والإرشاد
المتصل بأوامر الدين ونواهيه.
[9]أبو داودسنن أبي داود في كتاب الأدب باب ما جاء في الشعر الحديث رقم 4356
وابن
ماجة سنن ابن ماجة باب ما يكره من الشعر رقم 3749
[24]جلال الدين محمد بن
أحمد المحلي تفسير الجلالين (طبع مليباري) ص435
وعبد الله بن أحمد النفسي تفسير
النفسي جاملي محله مومباي ج3 ص200
¨عمر له 145 سنة قضى
90 سنة منها في الجاهلية نزل بالكوفة أيام عمر بن الخطاب (ر) وتوفي بها سنة 41 هـ
في أوائل خلافة معاوية بن أبي سفيان
0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا