ادعمنا بالإعجاب

المفارقات والتهكم في شعر مصطفى وهبي التل

زين الدين ب. ت

ولد شاعر الأردن مصطفي وهبي التل الملقب بعرار في مدينة إردب في الأردن الشمالي سنة 1899م. تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مسقط رأسه، وتنقل بعده إلى دمشق في سورية حيث أتم دراسته الرسمية, وانشغل في السياسة حتى نفي إلى حلب. أثناء ذلك تعلم القانون بنفسه، وبدأ يعمل محاميا في إحدى محاكم الأردن، ثم عين مدرسا في مدرسة الكرك، وبعدُ  حاكما إداريا لثلاث نواحي في الأردن، وارتقى في المناصب المختلفة كالمدعي العام، ومتصرف للبقاء وغيرها، ولكن لسانه الحاد وطبيعته الثائرة جلبا له كثيرا من المشقات والضرر، واتهم بالمؤامرة ضد الحكومة، واقتيد إلى سجن المحطة في عمان عاصمة الأردن، وبعد أن أطلق سراحه اشتغل بالمحاماة. وتوفي في سنة 1949م، ودفن في تل إردب. وفي سنة 1989م نقل رفاته إلى منزله الذي ولد فيه ودفنت هناك. وكان لقبه "عرار" الذي اتخذه الشاعر لنفسه، واشتهر بهذا الاسم.

كان يتقن اللغات الفارسية والتركية والفرنسية إلى جانب لغته الأم، وترك عرار خمسة مؤلفات من بينها ديوان شعر واحد اسمه "عشيات وادي اليابس"، ومن مؤلفاته "بالرفا والبنين"، "الأئمة في قريش"، "أوراق عرار السياسية"، "ترجمة رباعيات عمر الخيام".
تجديده في الشعر :
يعد عرار أشهر شعراء الأردن في أيام نهضة الأردن، وفي شعره جودة ورصانة، وتتضح جرأته وصراحته ودهاؤه في تناوله لقضية وطنه ومصلحة أهاليه، وقد عبر عن هموم الإنسان العربي في منطقته وأهواله وأحواله، فأصبح قريبا إلى قلوب شعبه، ورائدا في الشعر الأردني. وأما معالجته لقضايا شعبه في قصائده "نجدها في الأغلب الأعم تدور حول قضايا أساسية هي : الشعر الوطني والذي غالبا ما يدور حول الأردن وتشكيلاته المكانية والتي يعلن الشاعر انحيازه إليها[1]" وبعضه يدور حول قضايا سياسية وأمراض اجتماعية مثل قضية فلسطين. وأما ريادته في الشعر فترجع إلى تفننه في موسيقى الشعر. وكانت أغلب قصائده في إطار الشعر العمودي إلا أنه ترك استعمال البحر التام في كثيرها وانتحى إلى المجزوء والمشطور، واعتمد على البحور الخفيفة المجزوءة في الموضوعات ذات السمة الهازلة أو الراقصة كالحديث عن الصبابة والخمر، وحديث الدعابة مع الأصدقاء وسخريته وتهكمه. "وبهذا نكتشف أن نسبة تقارب ثلث شعر الشاعر قد تمردت على الإيقاعات التقليدية التامة، وانحازت إلى محاولات التخفف من البحر الرتيب، لصالح تشكيلات خفيفة نسبيا، وهذا يكشف نزعة لدى الشاعر تقوم على محاولة ربما غير واعية للتمرد على المألوف الإيقاعي. وإذا ما رصدنا البعد الدلالي والرؤيوي لدى الشاعر، فإننا نجده يحمل نزعة حادة للتمرد على القيم السائدة، ورغبة في الخروج على المعطيات المتحققة اجتماعية وقيمية، ولما لم يكن الإيقاع آنذاك يتقبل فكرة التمرد الكلي على نظام البحر المعهود، والذي كان يمثل سلطة لا يتسنى لشاعر في مرحلته أن يتمرد عليها، فإنه خاض شكلا من أشكال التمرد بالانحياز إلى الأوزان المجزوءة والخفيفة إلى حد ما[2]".
ولم يقتصر تجديده في موسيقى الشعر على البحور المجزوءة والخفيفة فقط، بل تجاوزها إلى شعر التفعيلة عند ما وجد الفرصة سانحة، وكانت وفاة الشاعر سنة 1949م. قبل ذلك بسنتين ظهر الشعر الحديث في بلاد العراق، فتوجه إليه ووضع ثلاث قصائد على وحدة التفعيلة، وهكذا كان الشاعر عرار متمردا على القيم السائدة في المستويات الاجتماعية والسياسية والفنية والشعرية، فهو شاعر نزاع إلى لتجديد ومؤثر في القيم الفنية في عصره ومتفاعل معها.
المفارقات:
كانت حياة الشاعر وطبيعته مملوءة بكثير من المفارقات والتضاد، وهذه المفارقات تسربت إلى أعماله الشعرية أيضا، "جمع الكثير من الأضداد في سلوكه وإبداعه حتى ليحار الدارس لحياته وشعره أن يرسم صورة معبرة عنه بدقة. فالمفارقات التي أدخل نفسه فيها، وعبر شعره عنها تضع التضاد محصلة لمعظم تجاربه الحيوية والإبداعية، فهو حضري في التفكير والثقافة والسياسة والوظيفة، لكنه بدوي في الوقت نفسه في الارتباط بالأسرة وعاداتها وتقاليدها ورموزها[3]". وكانت له علاقات وطيدة مع الملوك والأمراء، ومنهم الشريف حسين بن علي الملك طلال، والملك عبد الله بن الحسين. وفي نفس الوقت هو متصعلك مع غيرهم يعيش الصعلكة بكل عنفوانها لا سيما في خيام الفجر "النور"، وكانت علاقته بتلك القبيلة الفجرية مشهورة. حتى أثرت هذه العلاقة في موسيقى شعره أيضا، "وفي ظني أن ميل الشاعر أحيانا إلى الشعر الخفيف الراقص هو الذي دفعه إلى الاعتناء بمجزوء الوافر، ولاسيما إذا ما عرفنا ـ وهو أمر لا يحتاج إلى بيان ـ أن عرار كان يرتاد خرابيش النور ويسمع غناء حسانهم، ولهذا فإن شعره في أحيان كثيرة جاء مرضيا هذه النزعة الطاغية في نفسه والتي ألحت عليه في شعره أيضا[4]".
وتسمية ديوانه "بعشيات وادي اليابس" أيضا ترجع إلى تعلقه بتلك القبائل المتصعلكة، وأشار عرار نفسه إلى أنه سمى ديوانه تيمنا بالوادي الذي تسكنه تلك الفتاة النورية، أو ربما نسبة إلى النوريات اللواتي كن يقطن ذلك الوادي، وهو "وادي اليابس" الذي يقع إلى الشمال الغربي من مدينة عجلون، وكان الشاعر يختلف الزيارة إليهم فيه كثيرا.
وفي ديانته أيضا توجد المفارقات وهو يظهر أحيانا ملتزما بالإيمان وبعيدا عن ارتكاب المعاصي تائبا إلى الله مثل قوله :
أمـــولانـــــــا أمـــــولانا                 هجرنا الدن والحانا
وبدلنا من المنظوم                        والــمــنـــثـــــور قـــرآنا
فمن هود إلى طـه                نرتــلـــهــا ورحـــمـــانا[5]
وهو في أحيان أخرى بعيد عن هذا الاتزان الديني والالتزام له، فيحب البؤر المضيئة والمواخير التي تجمعه بندمانه حتى يقول :
عفا الصفا وانتفى من كوخ ندماني ـ وأوشك الشك أن يودي بإيماني
وفي بعض الأحيان يمزج بين معافرة الخمر والإيمان بالله، وهذه التحولات النفسية والشعورية توجد في قصيدته "رويدا إنه العيد".
رويـــــــــــــدا إنـــــه الــــــــــــعـيد                     وإن الله مـــــــــوجــــود
وإنــــــي مـــــثـــلمــــــا قـــــــالوا                      أخو نشوات عربيـد
أليس السكر في الأعياد                عـــنــــعـــنــــة وتـــــقليد
ســــليمـــــى إن بخـــــــلكم                      عــــلى عــــلاته جود[6]
وهو حريص على بيته وزوجته، كما أنه حريص على الفجريات الحسان. وعرار عالم زاخر بالمفارقات يوجد في شعره المثيرُ المدهش إلى جانب الضعيف السطحي، وهو محافظ أحيانا حيث ينظم القصائد على البحور الشعرية التقليدية، ورائد الحداثة الشعرية بتفننه في الإيقاع والموسيقى وفي بناء القصيدة ومعناها في أحيان كثيرة.
شاعر التهكم:
كان عرار جريئا في مواقفه الحيوية وصريحا في الكشف عن خبايا نفسه ورغباته، ولا يتردد في توجيه النقد إلى قومه في حالات التردي والخذلان والهزيمة. وقد تعرض من جراء مواقفه المتناقضة في نقده سلبيات الحكام، وتسويفه لسلبياته الشخصية - لا سيما معاقرة الخمر وزياراته النو - للنفي أحيانا وللسجن أخرى، فنفي إلى الحلب ثم إلى العقبة سنة 1931م وعزل عن وظيفته في متصرفية السلط وسيق إلى السجن المركزي بعمان بتهمة التآمر على الحكومة. وهذه المطاردات من قبل الحكام مع احتفاظه بعلاقة قوية بهم، ومن قبل المجتمع الذي رفضه في فلسفته التي يقول عنها في ترجمته لرباعيات عمر الخيام "إني رجل طروب، وإني في حياتي الطروبة أفلاطوني الطريقة، أبسقوري المذهب خيامي المشرب ديوجني المسلك، وإن لي فلسفة خاصة هي مزيج من هذه المذاهب الفلسفية الأربعة"، فصب لسانه ضد المجتمع في تناقضها الديني وانتفاعيته الاجتماعية وفكرته السطحية وغيرها.
لعل إحدى السمات الأسلوبية الغالبة على عرار أنه يجنح إلى السخرية المرة والتهكم اللاذع، وهي سمة غلبت على معظم نصوصه الشعرية، "والسخرية نمط من أنماط المفارقة ( Irony ) ذلك أن المفارقة تسعى في جانب من جوانبها إلى التهكم والإزراء على الآخرين، أو الانتقاص من مواقفهم[7]" ، وهذا التهكم والسخرية تكاد أن تكون أقرب إلى شخصية عرار الذي يجنح إلى نوازع اللذة والمتعة ومواجهة الحياة بروح ساخرة عابئة غير مبالية بتقلبها وتشوهاتها، بل يمكننا أن نعده ملمحا أساسيا من ملامح تلك الشخصية وليس غريبا عليها[8]".
استخدم عرار أسلوب الاستفهام والاستفهام الانكاري في التعبير عن مواقفه الرافضة والمتمردة على الواقع وانتقاد مسالك الناس الغريبة والتي تثير غضبه وانفعاله. وكان ضد القيم الاستعلائية السائدة وتقاليد المراسم والرسوم حتى قال :
ودع المراسم والرسوم لمن عقولهم شويه
فالهجر مثلي ثم مثلك أردني التابعيه"
فجعل بذلك أصحاب المراسم الكبيرة الذين أغرتهم المناصب وجعلتهم ضد الشعب الأردني من الجهلة والساذجين وصاغرين في قلوبهم وسلوكهم.
وقد تهكم على كلام الناصحين الذين يحثونه على التوبة من شرب الخمر مستغلا أسلوب الاستفهام الانكاري رافضا مقالاتهم ودعواهم، وأعلن التمسك بالخمر في قوله :
أناشــدكم وادي الشتا وظباءه وغزلان وادي السير وهو حبيب
بغير هوى مضن وكأس مدامة  ولــحن شجي كيف كيف تطيب"
وبهذه المقولة يواجه الشاعر مقولاتهم  الناصحة ويرد عليهم، يناشدهم بغزلان وادي السير وظباء وادي الشتاء، ويسألهم كيف يمكنه التوبة عن معافرة الخمر وسماع اللحن الشجي والهوى[9]. ويكرر هذا الأسلوب في كثير من القصائد مثل "من ليالي الشوبك المحمية، الفلا والعود, وإن الوعود، وهوى الأربعين، وسكر الدهر ، ويامي ومتى، وغيرها. وفي قصيدة "لقمة الخبز" يكشف ما يواجهه الإنسان من ذل ومهانة بسبب لقمة عيشه، لقد أصبح الإنسان عبيدا لها حتى أنه لا يريد أن يغضب من بيده لقمة الخبز. وهذا الاستفهام الذي لا يريد منه جوابا يتكرر في أواخر كثير من القصائد العرارية:
أذل مطلبها الفزيز وفت في عضد الهمام
تف على بشرية ألقت لمثلك بالزمام
هانت فلم تحفظ لغير صغائر الدنيا ذمام
أأنت موضع الحياة وتستحق الاحترام؟[10]
هنا صوب الشاعر سهمه نحو البشرية بأجمعها بحيث إنه يهرب من التمرد والثورة على الأوضاع الفاسدة.
ومن أنواع أسلوبه للسخرية والتهكم اللذع واللمز بالآخرين والتعريض بهم. فقد اندفع للشراب وطلبه، واصطنع فلسفة خاصة به بسبب ما يراه من الناس، وعدم تمييزهم الصواب من الخطأ، فقام بتنهيج سياسة وتبني قيم تخالف قيم الآخرين ولا تختفي بهم.
هيا لنسري عند من


لم يعرفوا طعم الخصام

ودع السياسة للأولى


قد أتقنوا صف الكلام

لبسوا الحرير وشعببا


باهبر لا يجد المضام

نقضوا العهود فلا عهود


ولا وفاء ولا ذمام

قد أمرضتهم تخمة


وحدتك سارية العظام[11]

وفي هذه القصيدة يفضل صورة النور الذين لا يقيمون وزنا للدنيا على الذين يتقاتلون من أجل الدنيا ومشاغلها وما يعتنون به في عالم السياسة التي تقوم على الألاعيب والتي تنعم على حساب الناس. وفي هذا التهكم استخدم عرار أسلوبا قائما على المقابلة ومناقضة الموقف بموقف مضاد، وأحيانا باستخدام اللغة الجارحة خلال وصف الآخرين بأوصاف حادة قاسية.
ومن أساليبه الأخرى في السخرية والتهكم تشكيل الصورة الشعرية الكاريكاتورية "وهي صورة تجنح إلى تشويه العنصر المتشكل، بهدف تعرية سلوك الناس على نحو مثير للغرابة والفكاهة وقدرة على التجسيد والتأثير بحيث يتفاعل معها القارئ ويشارك في تصورها[12]". ومن أمثلها أنه يجعل من "عبود" "أو الشيخ عبود" صورة للمتدينين غير المتمسكين بجوهر الدين في سلوكهم وأعمالهم السرية، يقول عن قضية الفقر والغنى وصلف الأغنياء وشقاء الفقراء في قصيدة عنوانه "عبودمات[13]" :
عبودمات وما قضى وطرا


مما يسميه الورى متعة

ويح الغني من الفقير إذا


ما جاع وانتهك الطوى ربعه

عفوا لقد أخطأت إن لكم


في كل ليل أليل سمعه

أخرس، فأهل الخير ليس لهم


يا مصطفى ، عن فعله رجعه

بالأمس عن روح الغفير لقد


أكلوا شواء وأرغفا سبعه

وفي قصيدة "بوركت الأعمال والجهود" يتهكم عرار بجزاء التناقض في أعمال وأقوال أهل الدين وتدور فكرتها حول الشيخ عبود :
عبود شيخ اسمه :عبود
عمته صيرها التنضيد
ذات التفاف بابه فريد
وفقهه مختصر مفيد
موضوعه في جنة الخلود
حصة من في جيبه نقود
فخذ بهذا النهج يا بليد
فهو الطريق الواضح السديد[14]
المتابعة في أعمال عرار الشعرية تفيد أن ظاهرة السخرية والتهكم كانت متأصلة في طبيعته وتصدر عن ذهنه، وكانت سلوكه في حياته اليومية، وتكشف عن نظريته في الحياة والمجتمع، وموقفه منها. وهو لم يجهد نفسه وراء الدنيا طالبا من مغنمها، بل اتخذ موقفا لمواجهتها قائما على السخرية منها وغير مبال لها، وقنص لذته ومتعته وسعادته ما يسع له قناصه من أنياب الحياة، وتبنى فلسفة خاصة له ومارسها في طبيعته وسلوكه، ولم يأبه بالتساؤلات المنتقدة والآراء اللاذعة جاعلا قريحته سلاحا حادا ضد المنصحين والمتزمتين على السواء، وشاكيا في بعض الأحايين إلى قومه الذين لم يوفوا له مكانته في المجتمع بقوله :
وليتق الله بي شعب وفيت له                  حق الوفاء وبالنكران كافاني




[1] : د/ سامح الرواشدة : مغاني النص : دراسات تطبيقية في الشعر الحديث : وزارة الثقافة ـ الأردن ط ـ 1  2006م     ص : 176
[2] نفس المرجع ـ  ص : 174
[3] عبد الرضا علي : الذي أكلت القوافي لسانه وآخرون : شخصيات ومواقف في الشعر والنقد والكتابة : المؤسسة العربية : الأطروحة ـ 1 ـ 2009م ببيروت : ص ـ 104
[4] يعقوب العودات : عرار شاعر الأردن ، دار القلم ببيروت ـ 1980م
[5] عرار : عشيات وادي اليابس.
[6] نفس المرجع : ص ـ 202
[7] بسام قطوس، المفارقة في متشائل أميل حبيبي،مؤتة للبحوث والدراسات 1992 ،ص ـ 79
[8] د/ سامح الرواشدة،مغاني النص،   ص ـ 60
[9] د/ سامح الرواشدة، معاني النص، ص ـ 63
[10] عرار،  وادي اليابس، ص ـ 140
[11] عرار، وادي اليابس، ص ـ 145
[12] مغاني النص، ص ـ 69
[13] عرار، وادي اليابس، 234 ـ 235
[14] وادي اليابس، ص ـ 188

مواضيع ذات صلة
الأدب العربي العالمي,

إرسال تعليق

0 تعليقات