ادعمنا بالإعجاب

أثر الصحبة في تزكية النفس

محمد عبد الرحمن الفيضي أريفرا

إنّ ممّا لا ريب فيه أنّ للصحبة أثرا عميقا في شخصية المرء وأخلاقه إمّا بارتفاعه إلى أوج الكمال أو بانحطاطه إلى حضيض النقصان، لأنّ الصاحب يتأثّر بصاحبه روحيّا وعمليا ويتطرق إليه أوصافه المحمودة والمذمومة مادّيا ومعنويا كما نشاهد في المجتمع أنّ من اختار شريكا من الصالحين والشرفاء ينال الصلاح والتقوى بواسطة صحبته ومخالطته وانّ من اتخذ صديقا من الفاسقين والأشقياء يكتسب الفسق والشقاوة شيئا وشيئا دون أن يشعر كلّ منهما ما حصلا من المخالطة. يدلّ ظاهر قوله صلعم "كلّ مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجّسانه" (متّفق عليه) على أنّ الصحبة مؤثّرة في الاعتقاد والعادات والتّقاليد .
قال العلاّمة محمود القاهري في قصيدة الأمثال:
وخالط الصلحا نلت الصلاح بهم
                        لأنهم في وجوه الأرض أقمار

ماء الكنيف إذا ما سال مختلطا
                        بماء نهر فزالت منه أقذار

وإلى هذه النقطة العظيمة يشير كثير من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة. قال الله تعالى: يا أيّها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (التوبة : ١١٩ ) أمر الله تعالى المؤمنين أن يصحبوا أهل الصدق والتقوى وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يحبس نفسه مع أهل الله الذين يدعون ربّهم لوجه الله بقوله تعالى: "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم بالغدوة والعشيّ يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا  الكهف : ٢٨ ) وحكم الآية يعمّ الجميع وان كان الخطاب خاصا برسول الله صلىّ الله عليه وسلم.
وأخرج الإمام البخاري (ر) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال رسول الله صلعم:  إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد فيه ريحا منتنة وروي أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلىّ الله عليه وسلمّ : الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل وقال صلى الله عليه وسلم لما سئل ايّ جلسائنا خير؟ "من ذكّركم الله رؤيته و ا زد في علمكم منطقه وذكّركم في الآخرة عمله (رواه ابو يعلى)
قد أحسن من قال :
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم
                        ولا تصحب الأردي فتردي مع الردى

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
                        وكلّ قرين بالمقارن يقتدي

فإن كان ذا شرّ فجنبه سرعة
                        وإن كان ذا خير فقارنه  تهتدي
نجد في تاريخ الأمم السالفة نماذج شتى لما يترتّب من الصداقة والمصاحبة إيجابيا وسلبيا، هذا عقبة بن أبي معيط الذي كان الجار الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدّ لطلب صديقه أبيّ بن خلف بعد أن شرح الله صدره للإسلام إجابة لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنه صنع مرة وليمة ودعا لها كبراء قريش وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له صلعم: والله لا آكل طعامك حتى تؤمن بالله فتشهد ولما بلغ ذلك أبيّ بن خلف وكان صديقا حميما له فقال: ما شيء بلغني عنك قال لا شيء دخل منزلي رجل شريف فأبى أن يأكل طعامي حتى أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي فشهدت له قال أبيّ :وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ عنقه وتبزق في وجهه وتلطم عينه ففعل عقبة كما قال صديقه أبيّ فأنزل الله فيه "ويوم يعضّ الظالم على يديه ويقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم اتخذ فلانا خليلا لقد أضلّني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا (الفرقان: ٢٧-٢٩(
وما ميزة الصحابة وفضيلتهم على سائر الأمة إلاّ مصاحبة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم واقتباس نور الإيمان منه مواجهة وهكذا حال التابعين مع الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين لأن مصاحبة النفس المطهّرة تأثر في تزكية النفوس الخبيثة تأثيرا بالغا ومن كان منهم أعلى درجة في الطهارة يكون صحبته أتم فائدة وأشدّ تأثيرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزكّيهم تدريجيا كما وصفه الله تعالى بقوله: هو الذي بعث في الأمّيّين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة (الجمعة: ٢(
وهكذا مجالسة ورا ث رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه تزكي النفوس وتوقظ القلوب وكتب الصوفية توضح أهميتها وتبيّن آثارها ومنها ما يقول الإمام حجّ ة الإسلام أبو حامد الغ ا زلي رحمه الله عن الطريق الذي يعرف الإنسان عيوب نفسه. ١.  ان يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات ويحكمه في نفسه ويتبع إشارته في مجاهدته وهذا شأن المريد مع شيخه والتلميذ مع أستاذه ٢. أن يطلب صديقا صدوقا بصيرا متدينا فينصبه رقيبا على نفسه (إحياء٣/٤٧ مختصرا(
وأما ما يجري في حلقات الدروس من تزكية الشيخ لمن يأخذون العلم منه مع صحبة دائمة ليل نهار فمن و ا رثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن التزكية شيء والتعليم شيء آخر والجمع بينها هو الكمال المطلوب باكتساب العلوم الشرعية كما ربّى رسول الله صلعم أصحابه في المسجد النبوي. لذلك نرى المتخرّجين من حلقات الدروس متمسّكين بالسنة النبوية وآثار الصحابة أكثر ممن تلقى العلوم من سائر المؤسسات التربوية. والله أعلم.


مواضيع ذات صلة
دراسات, مقالات دينية,

إرسال تعليق

0 تعليقات