ادعمنا بالإعجاب

التسامح ..مبدأ إسلامي


د.سعيد عبدالله حارب) نائب الرئيس، جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم(
 منذ بداية البشرية و اختلاف الناس في أديانهم و مذاهبهم و أفكارهم و أجناسهم و ألوانهم، تساءل بعضهم عن بعض،  فاختلاف التنوع طبيعة بشرية خلقها الله، و هو أمر حتمي لا يمكن تجاوزه أو تجاهله، وقد أقر الدين الإسلامي هذا الاختلاف قال تعالى : "وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُون "
وإذا كانت الشواهد التاريخية كثيرة فإن السنوات الأخيرة أبرزت الاهتمام بالآخر بصورة واضحة جلية مستفيدة من التواصل البشري الذي يسرته وسائل الاتصال و المعرفة و التقنية، حيث ازداد اهتمام العالم بدراسة الآخر سواء كان الآخر القريب أم البعيد، و سواء سادت العلاقة الجيدة معه أم ساءت هذه العلاقة، ولا يمكن أن يتم احترام الآخر إلا من خلال الحوار معه، فالحوار هو المنهج الطبيعي في العلاقة بين البشر، و هو التعبير الحضاري عن التواصل بينهم، خاصة حين يتم بين فئات ترتبط بعلاقة طبيعية تمكنهم من التعايش بسلام على الرغم من أسباب الاختلاف بينهم، لأنهم بذلك يعبرون عن رؤية مشتركة لهذا التعايش، بل يحولون الاختلاف إلى ميدان للتنوع الثقافي و الفكري، و في ذلك إثراء للحياة للبشرية .
و الحوار بين الثقافات و المجموعات البشرية يؤدي إلى التسامح تعبيرا عن احترام الثقافات الأخرى، و التواصل معها و التسامح لا يعتبر تنازلا عن الثقافات أو مكوناتها، بل هو تقدير لثقافة الآخرين، ورغبة في الاستفادة منها .
وقد جاءت الآيات الكريمة و السنة النبوية الشريفة لتحث على التسامح وتدعوا أهليه، سواء كان ذلك بين المسلمين أنفسهم أم بينهم و بين غيرهم من الشعوب:
فقال تعالى:"ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"
قال ابن جريرالطبري : "أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب"
وقال تعالى"ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ"
يقول القرطبي :"أُمر ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم ـ بالصفح ومكارم الأخلاق؛ فما كان منها لهذه الأمة فيما بينهم فهو محكم باق في الأمة أبدا.
وقال تعالى:" و لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"
يقول الطبري:" يقول تعالى ذكره: (وَلا تُجَادِلُوا) أيها المؤمنون بالله وبرسوله اليهود والنصارى، وهم (أَهْلَ الكِتابِ إلا بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يقول: إلا بالجميل من القول، وهو الدعاء إلى الله بآياته، والتنبيه على حُججه"
وعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله رجلا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى"
قال ابن حجر: وفيه الحض على السماحة في المعاملة واستعمال معالي الأخلاق، وترك المشاحنة، والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة، وأخذ العفو منهم.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار؟ على كل قريب هيِّن سهل"
قال القاري: "أي: تحرم على كل سهل طلق حليم، ليِّن الجانب"
كيف عالج الإسلام الاختلاف الديني
الاختلاف حالة طبيعية بين البشر، وفد خلق الله الناس مختلفين في صورهم وأشكالهم و ألوانهم، كما خلقهم مختلفين في أفكارههم و معتقداتهم وآرائهم، كما خلقهم مختلفين في أماكنهم وعاداتهم و مسلوكهم و معيشتهم.
و الاختلاف بين البشرية اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، أي أن كل أمة أو شعب يضيف الحياة الإنسانية بما يملك من فكر و ثقافة و فنون فتتطور الحياة و تثري بالجديد و المتنوع من عطاء الإنسان لبناء الحضارة الإنسانية التي تخدم البشرية جمعاء، وبخاصة في هذا العصر الذي تواصل فيه الناس و تعارفوا و أصبح بعضهم يعتمد على بعض.
إن الاختلاف حالة إيجابية مادام اختلاف تنوع، لكن خطورته تبرز حين يتحول من اختلاف إلى خلاف ! إلى إلى صراع وشقاق وحروب ,
وقد عالج الاسلام حالة الاختلاف باعتيارها حالة طبيعة حتى في صورتها الدينية التي تتعدد فيها الأديان و الفلسفات و المذاهب و الطرائق، وذلك بإقرار الاختلاف.
قال تعالى "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ.
ومع إقرار الإسلام بأن الاختلاف حقيقة واقعه لابد من التعامل معها، فإنه نظم هذه الحالة في عدة مبادي من إبرزها :
1.   الكرامة الإنسانية أساس في التعامل مع الآخرين، فالاختلاف لا يمنع الإنسان من حقه في هذه الكرامة فقوله تعالى " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ "
2.   الناس يعودون إلى أصل واحد، خلقهم الله من آدم عليه السلام، وهذا يقتضي الاعتراف بالأخوة الإنسانية بما لها من حقوق، قالت تعالى:"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء"
3.   أن الأصل في العلاقة بين الناس هو التعاون في الخير لما فيه مصلحة الجميع، خاصة حين يكون بين الناس رابط يجمعهم كالعيش في مكان واحد أو الانتماء لبلد واحد فيما يسمى بـ " المواطنة .
4.    أن الحوار و التفاهم و التعايش هوالأسلوب الأمثل في العلاقة بين المختلفين عقائديا، وقد فصل القرآن الكريم مسألى الحوار في كثير من المواضع فالحوار هو الوسيلة المُثلى للتواصل بين المختلفين، قال تعالى " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن"
5.   العلاقة الدينية بين المختلفين لا تقوم على الإكراه و الجبر، فالدين قائم على حرية الاختيار و القناعة و الرضا، وقد جاءت الآسات لتؤكد على ذلك، قال تعالى:"لا إكراه في الدين"
6.    السبيل الأمثل لدعوة الناس إلى الدين قائم على الحكمة و الأسلوب الأمثل، قال تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن "
7.   البعد عن أساليب العنف المادي أن اللفظي أو الفكري، وتجنب الإساءة للآخرين حتى و لو بدت الإساءة منهم، لأن دفع الإساءة بمثلها لا يزيد الخلاف إلا اشتعالا كما أنه لا يعبر عن الخلق الإسلامي في التعامل مع الغير، قال تعالى:"ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم"
8.    احترام حق الآخرين في العيش وفق معتقداتهم، وحريتهم في ممارسة شعائرهم الدينية وأماكنهم دون تعدي أو تجاوز، قال تعالى :"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً"
9.   العلاقة مع الآخر تقوم على السلم و التعاون و التعايش لا على الحرب و الاقتتال إلا في حالة دفع العدوان، فالأصل في العلاقة مع شركاء الوطن أو الانتماء أو النسب قائمة على البر و القسط، قال تعالى:"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم"
10.                    الاختلاف الديني ليس سبب للتشاحن و الصراع و الاقتتال، إذ أن الدين اختيار فردي، وما على أصحاب الديانات سوى حسن المعاملة مع غيرهم، وقد خاطب الله سبحانه وتعالى اليهود و النصارى في القرآن الكريم بألفاظ جميلة كلفظ " يا أهل الكتاب" التي وردت في القرآن الكريم في واحد وثلاثين موضع كما خاطبهم بـ  " الذين أوتوا الكتاب" في ثلاثين موضعا
من تجربة التسامح في الإسلام :
"لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وفيها من اليهود عدد كبير، كان من أول ما عمله من شؤون الدولة أن أقام بينه وبينهم ميثاقاً تحترم فيه عقائدهم وتلتزم فيه الدولة بدفع الأذى عنهم، ويكونون مع المسلمين يداً واحدة على من يقصد المدينة بسوء. فطبق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مبدأ التسامح الديني في البذور الأولى للحضارة الإسلامية.
وكان للرسول جيران من أهل الكتاب، فكان يتعاهدهم ببره ويهديهم الهدايا ويتقبل منهم هداياهم. ولما جاء وفد نصارىالحبشة أنزلهم رسول الله في المسجد، وقام بنفسه على ضيافتهم وخدمتهم، وكان مما قاله يومئذ: إنهم كانوا لأصحابنا مكرِمين فأحب أن أكرمهم بنفسي.
وجاء مرة وفد نصارى نجران فأنزلهم في المسجد وسمح لهم بإقامة صلاتهم فيه، فكانوا يصلون في جانب منه، ورسول الله والمسلمون يصلون في جانب آخر. ولما أرادوا أن يناقشوا الرسول في الدفاع عن دينهم، استمع إليهم وجادلهم، كل ذلك برفق وأدب وسماحة خلق.
وعلى هدي الرسول الكريم في تسامحه الديني ذي النزعة الإنسانية الرفيعة سار خلفاؤه من بعده، فإذا بنا نجد عمر بن الخطاب حين يدخل بيت المقدس فاتحاً يجيب سكانها المسيحيين إلى ما اشترطوه: من أن لا يساكنهم فيها يهودي، وتحين صلاة العصر وهو في داخل كنيسة القدس الكبرى، فيأبى أن يصلي فيها كيلا يتخذها المسلمون من بعدُ ذريعة للمطالبة بها واتخاذها مسجداً! ونجده وقد شكت إليه امرأة مسيحية من سكان مصر أن عمرو بن العاص قد أدخل دارها في المسجد كرهاً عنها، فيسأل عمراً عن ذلك فيخبره أن المسلمين كثروا وأصبح المسجد يضيق بهم وفي جواره دار هذه المرأة وقد عرض عليها عمرو ثمن دارها وبالغ في الثمن فلم ترض، مما اضطر عمرو إلى هدم دارها وإدخاله في المسجد، ووضع قيمة الدار في بيت المال تأخذه متى شاءت، لكن عمر لم يرض ذلك، وأمر عمرواً أن يهدم البناء الجديد من المسجد ويعيد إلى المرأة المسيحية دارها كما كانت!
هذه هي الروح المتسامحة التي سادت المجتمع الذي أظلته حضارتنا بمبادئها فإذا بنا نشهد من ضروب التسامح الديني ما لا نجد له مثيلاً في تاريخ العصور حتى في العصر الحديث!


مواضيع ذات صلة
الإسلام, مقالات دينية,

إرسال تعليق

0 تعليقات