ادعمنا بالإعجاب

الرسول القاضي

السيد محمد كويا جمل الليلي الفيضي
مفهوم القضاء ومشروعيته

يمكن تعريف القضاء بأنه الفصل بين الناس في الخصومات حسما للتداعي وقطعا للنزاع. فهو من عمل الرسل عليهم الصلاة والسلام ، يدل على ذلك قوله تعالى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ }{ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } ، وقوله : { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ }
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة الخاتمة والدائمة كما كان مأمورا بالدعوة والتبليغ، كان مأمورا بالحكم والفصل في الخصومات. وقد ورد في القرآن الكريم في كثير من الآيات ما يشير إلى ذلك ، منها قوله تعالى : { احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } وقوله : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } وقوله : {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
الحكمة من مشروعية القضاء
القضاء أمر لازم لقيام الأمم ولسعادتها وحياتها حياة طيبة، ولنصرة المظلوم، وقمع الظالم، وقطع الخصومات، وأداء الحقوق إلى مستحقيها، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللضرب على أيدي العابثين وأهل الفساد، كي يسود النظام في المجتمع، فيأمن كل فرد على نفسه وماله، وعلى عرضه وحريته، فتنهض البلدان ويتحقق العمران، ويتفرغ الناس لما يصلح دينهم ودنياهم.
وقد تواترت الآيات في وجوب الحكم بالعدل وتحريم الظلم ، ومن ذلك قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } وقال تعالى : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } والشنآن هو البغض والشقاق . وقال تعالى : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } وقال تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } وفي الحديث القدسي : « قال الله تعالى يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا »
الهدي النبوي في القضاء
إن سيدنا محمدا قضى بين الناس على منهج الحق مع بهجة الصدق، لم ترفع إليه قضية إلا قضى فيها قضاء مبرما بما أنزل الله، لايتبع فيه الهوى، ولا يخاف لومة لائم. فصار مثالا للقضاة في جميع العصور بقضائه وسيرته، كما قدم الإرشادات اللازمة لجميع من يتقلد منصب القضاء في كر الدهور ومر الأعوام.
وقد وعد النبي أجورا عظيمة وفوائد جسيمة لمن يتولى القضاء ويقوم به أحسن قيام، فجعله من النعم التي يباح الحسد عليها. فقد جاء في حديث ابن مسعود عن النبي أنه قال: { لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَيْنِ رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِمُهَا } .وفي حديث عائشة رضي الله عنها { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَنْ السَّابِقُونَ إلَى ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالُوا .اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ الَّذِينَ إذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ وَإِذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ وَإِذَا حَكَمُوا لِلْمُسْلِمِينَ حَكَمُوا كَحُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ } .وفي الحديث الصحيح { سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ } الحديث، فبدأ بالإمام العادل. وقال : { الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ}
على أنه أنذر بوعيد شديد لمن يجور في حكمه وقضائه. عَن ابن بريدة، عَن أبيه، عَن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قال: القضاة ثلاثة فقاضيان في النار، وقاض في الجنة. فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، وأما اللذان في النار فرجل عرف الحق فجار في الحكم، ورجل قضى على جهل؛ فهما في النار." و قال رسول الله : الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تبرأ الله منه ولزمه الشيطان"
وقد رغب النبي عن طلب القضاء و عن التطلع إليه. عَنْ أَنَسِ أنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وَابْتَغَى عَلَيْهِ الشَّفَاعَةَ وُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أُكِْرهَ عَلَيْهِ أَنْزَلُ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ.
و كان النبي يوصي من يوليهم القضاء بتوصيات قيمة، ويبين لهم ما يحتاجون إليه في القضاء.فقد روي عن معاذ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إِلَى اليمن،فَقَالَ لَهُ: كيف تقضي إن عرض لك القضاء ? قال: أقضي بما في كتاب الله؛ قال: فإن لم يكن ذلك في كتاب الله ? قال: أقضي بسنة رسول الله؛ قال: فإن لم يكن ذلك في سنة رسول الله ? قال: أجتهد رأيي، ولا آلو؛ قال: فضرب رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدره بيده، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعلم النبي أن من الآداب التي يجب أن يتأدب به القاضي أن يكون في حالة نفسية هادئة راضية حينما يجلس للقضاء حتى يكون مستعدا تمام الاستعداد لسماع الدعاوى وما يقدمه الخصوم من بينات ودفوع ، فقد جاء في الحديث الشريف الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان » فنص صلى الله عليه وسلم على الغضب ونبه على ما في معناه ، ولهذا قال الفقهاء ينبغي أن يكون القاضي خاليا من الجوع الشديد والعطش والفرح الشديد والحزن الكثير والهم العظيم والوجع المؤلم ومدافعة الأخبثين أو أحدهما ، والنعاس ، لأن هذه الأشياء ونحوها مثل الغضب تأثر في حالة القاضي النفسية وحضور ذهنه لمقتضيات الدعوى واستعداده المطلوب لسماع أقوال الخصمين .
وعلى القاضي أن لا يقضي بعلمه لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض ، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها » .
وينبغي للقاضي ان يجلس في مجلس قضائه محترما مهيبا لا تأخذه في الحق لومة لائم، وأن يسوي بين الأمير والحقير وبين الشريف والوضيع، و أن يكون غير مستكبر عن مشورة من معه من أهل العلم، ورعا ذكيا فطنا، متأنيا غير عجول، نزها عما في أيدي الناس، عاقلا مرضي الأحوال، موثقا باحتياطه في نظره لنفسه في دينه وفيما حمل من أمر من ولي النظر لهم، غير مخدوع، وقورا مهيبا، متواضعا من غير ضعف، حاكما بشهادة العدول، لايطلع الناس منه على عورة ولا يخشى في الله لومة لائم. ويجتهد أن يكون جميل الهيئة ظاهر الأبهة وقور المشية والجلسة حسن النطق والصمت محترزا في كلامه من الفضول وما لا حاجة إليه.
ونرى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرا من الأمثلة للتأدب بمثل هذه الآداب المثلى، حتى إن القضاة الأفاضل في العصور الأوائل كانوا يتمسكون بهذه القيم والآداب اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم كما يروي لنا كتب التاريخ. مثلا، دخل الأشعث بن قيس على القاضي شريح في مجلس الحكومة فقال شريح : مرحبا وأهلا وسهلا بشيخنا وسيدنا ، وأجلسه معه ، فبينما هو جالس معه إذ دخل رجل يتظلم من الأشعث فقال له شريح : قم فاجلس مجلس الخصم وكلم صاحبك ، فقال بل أكلمه في مجلسي فقال له : لتقومن أو لآمرن من يقيمك ، فقام امتثالا لأمر القضاء.




مواضيع ذات صلة
النبويات, دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات