ادعمنا بالإعجاب

ماهاتما غاندي في منظور الغرب

كلما يمر شهر يناير عبر التقويم تتجلى الذكريات الخالدة لماهاتما غاندي – وهو بطل الهند وأبوها – في ذاكرة العالم مرة أخرى، حيث شهد اغتياله بأيدي المتطرفين الهندوكيين الأشارس، وذلك في 30 يناير عام 1948م، ويبدو أبشع عملية إرهابية عرفتها الإنسانية منذ فجر تاريخ الأمم المتحضرة. خرج غاندي كعادته صباح ذلك اليوم من غرفته في "برلا هاوس" إلى الجماهير المتجمعين في الخارج، لكي يؤمهم في ابتهالاتهم، فطلع فجأة من الحشد، الإرهابي الهندوكي السفاك ( ناتورام وينايك كودسي ), وانحنى أمام الزعيم الزاهد متظاهرا أنه يعظمه بلمس قدميه، وأخرج من فوره المسدس الذي خبأه في راحته، وأطلق الرصاص في طرفة عين طلقة بعد أخرى على صدره وبطنه المكشوفين، حتى سقط شهيدا في سبيل مبادئه في نفس الموضع! كلا، لا توجد كلمة الرأفة ومرادفاتها في قاموس الفاشية المتعطشة للدماء، سواء كانت هندوكية أو غيرها. وعلى هذا النحو انطفأ المصباح الفريد الذي سطع منه نور المودة الإنسانية، وأصبحت "الروح العظيمة في زي شحاذ" صفحة مجيدة من صفحات التاريخ. ومن المتناقضات العجيبة أن إنسانا وادعا دعا إلى اللا عنف طول حياته، هو نفسه سقط ضحية العنف، فكانت نهايته أبلغ نهاية.
  وكانت في حياتك لي عظات                 فأنت اليوم أوعظ منك حيا
الإنسان حين يتغلب على أنانيته ويخرج عن نطاق فرديته وحين ينكر ذاته ويبذل نفسه ويدخر حياته في سبيل إيديولوجية يعتقدها، إذ ذاك يترفع عن كافة الميول المادية ويصطبغ بالصبغة الإنسانية الخالصة. هذا هو غاندي! شخصية لم تكن تنتسب إلى الهند وحدها، ولكنها تجسيد حي لجل الهموم التي تشغل بال البشرية المعذبة، من الاشتياق إلى السلام والحرية والكرامة. وهذا الإنسان الفذ يستحق بكل تقدير ما أوجز عنه "ألبرت أينستاين" عملاق العلم الحديث في القرن الماضي: الأجيال القادمة قد تجد من الصعب عليها أن تصدق أن رجلا كهذا كان يعيش إنسانا من لحم ودم على وجه الأرض".
اشتهر هذا البطل الوديع بمبدئه الطرف ( الستياغراها ) اي اللاعنف أو مايسمى بالكفاح السلمي الذي لا يلجأ أبدا إلى البطش، ويهتم بحل الخلافات من خلال الإقناع السلمي، فينتصر الصدق على الكذب، والعدل على القهر، والخير على الشر في النهاية مهما طال الزمن. وجدير بالذكر أنه لا يوجد لغاندي حزب حاكم في الهند يحمل اسمه، ولكنه قاد الحركة الوطنية الهندية إلى النصر بإحراز أهدافه في نهاية المطاف، ودفع الإمبراطورية البريطانية العظمى بوسائل سلمية إلى الجلاء عن الهند عام 1947. وبهذا خفت قبضة بريطانيا عن مستعمراتها الأخرى في آسيا وأفريقيا. أما نظرية غاندي حول العصيان المدني السلمي فلا تزال تحيا حتى الآن إلهاما لحركات الاحتجاج في العالم أجمع، كما تتمثل في الحركات المناهضة للتسلح النووي في أوربا، وحركات حماية البيئة عن التلوث والإفساد في آسيا وأمريكا اللاتينية.
وهذا الرجل الذي كان للإنسانية كلها في أصالته وسلوكه وفي نضاله الفذ، كان في الوقت نفسه لشعبه ووطنه، كما كان للشرق البائس وشعوبه المتلهفة على الحرية. وكان لغاندي اهتمام بالغ بالكفاح العربي وحقوق الشعب الفلسطيني ومشكلات سائر الأمم العربية. لما عرف غاندي كثيرا عن العرب وعن مزاياهم وحضارتهم وتراثهم وتاريخهم ودينهم أصبح تواقا إلى لقائهم من قرب. وأتيحت له الفرصة سنة 1931 حيث كان متوجها إلى أوربا لبحث قضايا بلده، ونزل في عدن في الساحل اليمني، وخاطب الجماهير اليمنيين المحتشدين في استقباله، وهم يرزخون مثل الهنود تحت كابوس استعمارية غاشمة واحدة. وقال في خلال هذا الخطاب: إن هذه الجزيرة العظيمة، جزيرة العرب التي ولد فيها النبي محمد وبعث فيها الإسلام مثل حي للتسامح الديني ولإنسانية الإنسان.
ومن جهة أخرى كان العرب ينظرون إلى غاندي بعين الإعجاب والإجلال، وكانوا يتساءلون كيف تمكن هذا الرجل الوديع المسالم من مجابهة الإمبراطورية المترامية الأطراف التي لم تكن الشمس تغرب فيها والتي كانت تمتلك جل الطاقة البشرية في العالم، بواسطة الامتناع عن الطعام، وتقطير الملح على الشاطئ و(الستياغراها) والعصيان المدني ومقاطعة البضائع الأجنبية وما إلى ذلك من وسائل سلمية خالصة، على حين أنهم أنفسهم كانوا يتحملون نفس المقاساة والمضايقات تحت استبداد الغاصبين.
أما مرور غاندي بمصر خلال رحلته إلى لندن ليشارك في مؤتمر المائدة المستديرة عام 1931 للمفاوضة مع الحكومة البريطانية حول استقلال بلاده، فكان حدثا تاريخيا أبدى ما في قلوب الشعب المصري، والعرب على العموم، من شعور مفعم بالتوقير والإجلال تجاهه، حيث رحب غاندي أثناء عبوره قناة السويس في أن ينزل على شاطئ مصر، فحالت السلطات الاحتلالية البريطانية دون هذا النزول بأرض مصر ولقاء شعبها الذي كان يضطرم ثورة على جبروت الاستعمار. لقد كان غاندي بطلا شرقيا وجد فيه الأمة المصرية خصما لدودا للقوة المستعمرة، وهي العدو المشترك للهنود وأبناء النيل. وقد عبر عن هذه الروح النضالية التي كانت تسري في أوردة كلتي الأمتين، مصطفى النحاس رئيس الوفد المصري في مخاطبته لغاندي قائلا: باسم مصر التي تجاهد من أجل حريتها واستقلالها أرحب بزعيم الهند العظيم، الهند التي تحارب هي الأخرى لتحقق نفس الهدف".
وما نظمه أمير الشعراء أحمد شوقي إبان مرور غاندي بمصر يمثل أروع ما في المشاعر العربية من الأحاسيس الأخويةوالإجلال للهند الصبور وقائدها الفريد. وجد شوقي في قدوم بطل الهند إلى حدود مصر حدثا سياسيا وتاريخيا يجدر بكل حفاوة وإكبار، وخلد ذكره في قصيدة رائعة في 39 بيتا مطلعها:
بني مصر ارفعوا الغار              وحيوا بطل الهند
وأدوا واجبا واقضوا                حقوق العالم الفرد
يدعو فيها بني وطنه أن يستقبلوا بطل الهند، وهو أخوهم في معاناتهم وتضحياتهم ومطالبهم وجهودهم وجروحهم، ويؤدوا له التحيات والتهانئ في رحلته بتغطية البر والبحر ما يعبر بهما من مصر بالأزهار والرياحين.
قفوا حيوه من قرب                على الفلك ومن بعد
وغطوا البر بالآسي                   وغطوا البحر بالورد
والطائفية البغيضة التي ما زالت ولا تزال تشل مدن الهند وقراها علة لا برء منها كما تبدو للأجانب، ولاسيما للعالم العربي. وما صنع غاندي مداويا هذا الداء الذميم برسالته السمحة السامية من أدهش العجائب التي لا تتحقق إلا بطاقته النفسية الفذة:
وجاء الأنفس المرضى              فداواها من الحقد
دعا الهندوس والإسلا             م للألفة والود
تبحر من قوى الروح               حوى السيفين في غمد
وسلطان من النفس                يقوي رائض الأسد
وهذه القوة الروحية الساحرة توفيق فريد من الله البارئ لا يحظى به إلا ذو حظ عظيم من عباده الطيبين، وليست من المقدرات البشرية المعتادة.
وحظ ليس يعطاه                               سوى المخلوق للخلد
ولا يؤخذ بالحول                           ولا الصول ولا الجندي
ولا بالنسل والمال                           وبالكدح وبالكد
ولكن هبة المولى                       تعالى الله للعبد
وما أجملها من تحية يلقيها شوقي على هذا الزعيم النحيل الزاهد الذي يحيك بالمغزل ويحلب العنزة بيديه:
سلام النيل يا غاندي              وهذا الزهر من عندي
سلام حالب الشاة                   سلام غازل البرد
ثم ينصحه الشاعر أن يأخذ كل الحذر في مؤتمر المائدة المستديرة بلندن الذي كان يتوجه إليه، أثناء مفاوضاته مع رؤساء الغشاشين لئلا ينخدع بتظاهراتهم الكاذبة، وأن يتحداهم ويتغلب عليهم بقوته الكامنة:
من المائدة الخضرا                  ء خذ حذرك يا غاندي
ولاحظ ورق السير                  وما في ورق اللورد
وكن أبرع من يلعـ                     ب بالشطرنج والنرد
ولاق العبقريين                                    لقاء الند للند
وقل هاتوا أفاعيكم                 أتى الحاوي من الهند
وقد ظل غاندي في قلوب الملايين المستضعفين من العرب رمزا للزعامة الشرقية في تحديها للغرب والقوات الاستعمارية. أما الشاعر العراقي معروف الرصافي حين يتحدث عن النهضة الشمولية التي قام بها البلدان الشرقية الطامحة إلى المجد والارتقاء، يومئ إلى الثورة التحريرية الفريدة من نوعها ينجزها الشعب الهندي بدون سلاح ولا رصاص تحت قيادة قائدها العظيم، في قصيدته، مطلعها:
أرى بعد نوم طال في الشرق يقظة     نهوضية فيها طموح إلى المجد
ويقول:
وفي الهند قامت للتحرر ثورة              سياسية عزلاء قائدها غاندي
كم كان يتمنى الشعب الفلسطيني أن يكون من زعماء العرب زعيم مخلص كغاندي يقوم بالبذل والتضحيات في سبيل حماية العروبة وأرض فلسطين عن غطرسة الاستعمار ومخططاتها الخطيرة! كما أعرب عنه شاعر فلسطين إبراهيم طوقان:
حبذا لو يصوم منا زعيم                     مثل غاندي عسى يفيد صيامه
إنما كان أساس فلسفة غاندي السياسية الكفاح السلبي المسالم، والطريقة التي اتخذها للضغط على أعدائه المستبدين وإثارة مشاعر قومه المضطهدين أيضا من طراز متفرد، وهي امتناعه من الطعام. ولما أعلن غاندي صيامه ثبتت الهند كافة وراءه كأنها حصن منيع وأقضت هذه الوقفة مضاجع الحكام في إنجلترا، كما أثار هذا الصوم الغريب اهتماما بالغا وإشفاقا نادرا من جانب الصحافة وأجهزة الإعلام في كافة أنحاء العالم، وكان له أيضا تأثير بارز في نفوس أدباء العرب، وقد تصدى في آثارهم.
وهاك على سبيل المثال أبياتا من قصيدة عباس محمود العقاد يخاطب بها الزعيم الصائم، وعنوانها "إلى غاندي حين أعلن الصيام"
أتيت إلى الدنيا العريضة عاريا                        وتقضي بها جوعا، وما عز مأكل
تركت لهم حتى الطعام، فقل لنا                    على أي شيئ بعد موتك تقبل
إذا البؤس والحرمان كانا شفاعة                   لعالمك الأعلى، فما هو أفضل
أحرز ماهاتما غاندي على إثر هذا الصوم انتصارا سياسيا مبينا، بفضل عزيمته القاطعة، فتبدت من المستبدين لغة المنطق والحوار بدلا من لغة الحديد والنار، وأذعنوا لمطالب بني الوطن، وإفطاره صار مناسبة فرح وابتهاج في بلدان العالم، فيخاطبه العقاد نفسه بقصيدة أخرى "إلى غاندي يوم إفطاره"
غاندي لك النصر المبين على المدى     ولشانئيك الخسر والخذلان
لم ألق قبلك من يحرر قومه              وهو السجين الجائع العريان
ومن المعروف أن مجموعة من العرب الذين اضطروا للنزوح عن أوطانهم العربية إلى القارة الجديدة الأمريكية تحت ظروف خاصة وطلبا لرغد العيش، وفيهم رجال الأدب الذين أثروا تأثيرا عميقا في الأدب العربي من مهاجرهم في شمال وجنوب أمريكا بما يسمى ( أدب المهجر ). وهذه الفئة المهاجرة من العرب، في مهاجرهم الأمريكية أيضا كانو يكنون لغاندي من الإعجاب والتقدير ما لا يقل عما يكنه له الهنود. ويتجلى ذلك في أبيات من برازيل للشاعر القروي رشيد سليم الخوري.
من شطر بحر الغانج زأر غضنفر        أشجى لقلبي من هديل حمام
صوت يردده مسيح الهند في               دلهي لتسمع يا مسيح الشام
والشاعر المهجري إلياس قنصل ينظر إلى كفاح عدد من الأمم الشرقية ويضعها موحدة على صعيد واحد، فيتحدث عن جبروت فرنسا في سوريا وثورة الشعب السوري تجاهها، والإرهاب الصهيوني ونضال فلسطين في مقاومته، ثم ينتقل في نفس القصيدة إلى غاندي ويبالغ في تقديسه برفعه إلى مستوى الأنبياء والمرسلين.
وما غاندي الضعيف سوى نبي                       شبيه الأنبياء المرسلينا
يقول الشاعر ميخائيل نعيمه من مهجره في نيو يورك: أصبحت الملاءة البسيطة البيضاء التي تلف جسد غاندي النحيل درعا لا تخترقها مدافع أساطيل سيدة البحار. وأصبحت عنزة غاندي أشد بأسا من الأسد البريطاني".
أما مصرع غاندي ضحية لمبادئه عن طريق الغدر والخيانة، فكان له صدى بعيد في الوجدان البشري. وكان صوت الأدب العربي، شعره ونثره، في تلك الخسارة الهائلة للإنسانية من أوفى الأصوات وأصدقها وأشجاها. ومن ربوع برازيل القصية يعرب الشاعر إلياس فرحات رثاء شجية يمزجها مع دموعه في أسلوب نثري أبلغ من الشعر بعنوان "مصرع غاندي.
مات غاندي ......... قتل غاندي
   "إن اليد التي صبت السم في كأس سقراط هي التي سمرت الناصري على الصليب.
  "وهي اليد التي أطلقت الرصاص على غاندي.
"إنها يد التعصب الأعمى والحقد الأصم.
"غاندي الذي قضى حياته ملاكا بين فئات من ابالة الهنادك والمسلمين والسيخ والمنبوذين ..... مات قتيلا.
  "مات الزعيم البرهمي الروحي الذي لم يحمل سلاحا، ولم يباركه، أو يبارك حامليه.
"كان يبارك أعداءه، ويبارك لاعنيه، فوا خجلة المسيحيين.
  "مات الزعيم الذي حارب بسلاح الحق فدحرها، فوا خجلة الأقوياء المستبدين.
 "مات غاندي ... مات رجل الإنسانية الأوحد، قتله أحد أبناء الإنسانية الحمقاء.
 "إن الإنسانية التي توجت اللصوص والسفاحين ملوكا وأباطرة .... قتلت سقراط وعيسى وغاندي.
"فويل لهذه الإنسانية المأفونة التي تحيي اللصوص وتقتل المصلحين.
"ويل لهذه الإنسانية من أبنائها المتعصبين، وويل لها من السياسة والسياسيين، الفجرة المنافقين الذين يرشحون أنفسهم وشركاءهم لجائزة نوبل السلمية ويتناسون غاندي.
ولا بدع، إن السلم كان يريده غاندي سلم لا رياء فيه. سلم يقوم على المحبة والحق والعدل. هم إنما يريدون سلما قائما على الرياء والدسائس والاغتصاب والقهر.
"سلم غاندي حمائم تتناغى على الأغصان، وسلمهم ذئاب تتعاوى حول الأشلاء.
"إن هذه الإنسانية الموبؤة لا تعرف أنها فقدت أفضل أبنائها، وأحسنهم إلى الناس، وأقربهم إلى الله ..."
"إنها فقدت غاندي ... إنها قتلت غاندي
القطعة الأخيرة: كان ماهاتما غاندي يحدث عنزته وهي لاهية عنه بتناول طعامها من الحشائش التي يجمع لها، بينما هو قانع بقطرات الحليب التي تقدمها له ويعيش عليها ...

قال لها يوما: سبعة أشياء تقضي على الإنسان، هي: السياسة بلا مبادئ، المتعة بلا ضمير، الثروة بلا عمل، التجارة بلا أخلاق، المعرفة بلا قيم، العلم بلا إنسانية، والعبادة بلا تضحية.   

    

مواضيع ذات صلة
الأعلام،, دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات