ادعمنا بالإعجاب

علي أحمد باكثير أديبا إسلاميا

إسماعيل أولايكارا[1]
الأدب الإسلامي مصطلح محدث لم يظهر إلا في آخريات القرن الرابع عشر الهجري وصار مقبولا منذ سنوات قليلة. ولا يراد بذلك أن الأدب الإسلامي لم يظهر إلا حينما ظهر هذا المصطلح ولا يراد أن علماء الأدب الإسلامي كانوا غافلين عنه أو جهلوا عن خصائصه ولكن أنه لم تكن هناك ضرورة ظهور هذا المصطلح في القرون الماضية وظهرت هذا المصطلح وصار ضرورة في إطار الصحوة الإسلامية بعد مرحلة الهزيمة التي لحقت بالأمة الإسلامية في مرحلة الهزيمة العسكرية والحضارية الاستعمارية التي بدأت منذ الاحتلال الفرنسي لمصر وزالت مستمرة حتى الآن. هذه المرحلة انتهت إلى طرد العسكرين عن أرض الإسلام ، وغيرت الساحة الإسلامية بعد التحرر من الساحة الإسلامية المتحدة إلى دولة الإسلامية المتعددة المضطربة لا تلتقي على منهج واحد فاجتاحت هناك إلى ظهر مصطلحات أخرى مصل الإقتصاد الإسلامي والإعلام الإسلامي وغيرها.

هناك تعريفات عديدة للأدب الإسلامي في الكتب النقدية المختلفة. ومنها رأي الأديب الإسلامي محمد قطب وهو يقول: " التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان ومن خلال تصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان"[2]. الأدب الإسلامي وهو من أشرف الفنون الملتزم بالإسلام يعبر باللغة والبيان، أحسن لغته من اللغات اللغة العربي، التي اختارها الله لدينه الحق كما يقول عدنان على الرضى النحوي : " الأدب الإسلامي باب من أبواب الفن الملتزم بالإسلامي، وهو أشرفها وأعزها. وهو فن التعبير في اللغة والبيان. لغته اللغة العربية التي اختاره الله لدينه الحقي بيانا معجزا في كتابه الكيم. وهو ثمرة التفاعل بين القوى العاملة في فطرة الإنسان المؤمن، مروية بري الإيمان والتوحيد، وبصورة خاصة التفاعل بين العاطفة والتفكير وما تحمل كل منهما من شحنات الواقع وزاده، التفاعل الذي تشعله الموهبة، فينطلق النص الأدبي شعلة مضيئة يحمل جماله الفني من تفاعل الخصائص الإيمانية والخصائص الفنية في فطرة الإنسان، مع صدق النية، وعلى قدر حق من الله سبحانه وتعالى ، يحمل رسالة ربّانية ويسعى للمساهمة في تحقيق أهداف ربّانية لبناء حضارة الإيمان في الواقع البشري، ميدانه الكون والحياة والإنسان والدنيا والآخرة، فيكون بذلك الأدب الإنساني العالمي"[3].
مساهمة علي أحمد باكثير في الأدب الإسلامي
يعدُّ علي أحمد باكثير من روَّاد الأدب الإسلامي والقصَّة الإسلاميَّة في العصر الحديث، وله إسهاماتٌ جيِّدة في مجال المسرحيَّة والرواية والشعر.تأثَّر باكثير في رواياته بالتصوُّر الإسلامي، واستطاع أنْ يبرز من خِلالها الفكر الإسلامي والقِيَم .إنَّ باكثير نشَأ نشأةً إسلاميَّة، وجعل الفكر الإسلامي فلسفة لأدبه ومنهجًا لحياته، كما وصلت إلى أنَّه في آثاره صاحِبُ فكرة وصاحِبُ رسالة يدعو إليها ويسعى إلى خِدمتها دون أنْ يخلَّ بفنيَّة آثاره.
 يمكن للدارس أن يكتشف خِلال دراسة رواياته كثيرا من المظاهر الإسلاميَّة تتجلَّى من خِلالها ثقافته الدينيَّة ورؤيته الإسلاميَّة. بدأ علي أحمد باكثير حياته الأدبيَّة شاعرًا غنائيًّا غلَب عليه طابع التقليد للقُدَماء، وفي الحجاز تعرَّف على المسرحيَّات الشعريَّة وتأثَّر بأحمد شوقي كثيرًا؛ فكتب مسرحيَّة "همام أو في عاصمة الأحقاف" بأسلوب الشعر المقفَّى، كما كتب قصيدة (نظام البردة أو ذكرى محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم)وهو في أفكارها ومعانيها يتبع شوقي ويُحاكِيه في تضمينها روح العصر ومشاكل المجتمع الإسلامي.
وفي فترة الستينيَّات التي تُعتَبر مرحلة النضج الفني والأدبي لباكثير تسلَّل اليساريون والاشتراكيون إلى الصحف والمجلات، وتسلَّطوا على الأوساط الأدبيَّة ووسائل الإعلام ودور المسرح والنشر، ودبَّروا حملة ماكرة من التشويه أحيانًا، والتجاهل أحيانًا أخرى، وتعمَّدوا نسيانَه رغم محاولاته القيِّمة في عالم المسرح والرواية والشعر، وتجاهل "المسرح القومي" له، وامتنع عن عرض مسرحيَّاته، رغم ريادته في هذا الفن، كما امتنع كثيرٌ من دور النشر عن نشر آثاره ومسرحيَّاته؛ حيث بقي كثيرٌ منها مخطوطة طُبِعت بعد موته بسنوات، وقد عبَّر فاروق خورشيد عن هذا التجاهل وهذا النسيان وقال: "لم يظلم النقد الأدبي كاتبًا - على كثرة مَن ظلمهم - كما ظلَم علي أحمد باكثير، صاحب المغامرات الكثيرة في دُنيا القلم وعالم الكتابة، وقد ظُلِم باكثير حاليًّا؛ فقد تناساه النقَّاد أو تعمَّدوا نسيانه رغم كتبه التي جاوَزت الثلاثين، ورغم محاولاته في دنيا المسرح ودنيا الرواية ودنيا الدراسات وعالم الشعر الرحب... كما أسرع الدارسون والنقَّاد بعد وفاته بإغلاق صفحة الحديث عنه بعد مقالٍ هنا وكلمة هناك وحفلة تأبين باهتة في هذا المحفل الأدبي، وحفلة أخرى خَلَتْ من المحتَفِلين في محفلٍ أبدي آخَر، وهذا الموقف الظالم من واحدٍ كعلي باكثير إنما يُمثِّل تمثيلاً صحيحًا مرض العصر في دنيا النقد الأدبي، إنَّه مرض المواقف، فلا يكفي الجهد العاتي الذي يبذله الكاتب طول عمره بحثًا وتنقيبًا، ثم مُعاناة وتجربة، ثم تعبيرًا عن كلِّ هذا في صبر وموالاة؛ ليكون جواز مرور عند الحكومة الأدبيَّة التي تُسَيطِر على مَنابر النقد وتمسك بزمام التاريخ الأدبي والفني"[4].
 ويرجع هذا الموقف السلبي من باكثير وآثاره إلى إيمانه بأصالة الفكر الإسلامي، والتزامه به فلسفةً لأدبه ومنهاجًا لحياته، ومُعاداته للشيوعيَّة والأفكار الواردة على الوطن الإسلامي والعربي، فقد نقل عنه نجيب الكيلاني أنهم كانوا يغمزون نحوه في مجالس الأدب ومنتدياته ويقولون عنه في سخرية "إسلامستان"، وهو كان يضحك ويقول: إنه لَشرفٌ عظيم لي أنْ أُتَّهم بالإسلاميَّة فيما أُقدِّمه من أدب[5].
 ولكن باكثير) رغم تألُّمه الشديد من هذا الصمت والتجاهُل) لم يخرج من الميدان ولم يترك عمله الفني، بل واجَه هذا التحدِّي بتحدٍّ من نوعٍ آخَر، فعكف على كتابة العديد من المسرحيَّات والروايات آملاً أنْ يأتي الوقتُ الذي تظهر فيه الأعمال وفقًا لمنطق البقاء للأصلح. وقد تحقَّق أمل باكثير هذا، ولم تستطع مؤامرةُ الصمت والتجاهُل أنْ تقضي على مجد باكثير الأدبيَّة أو يُقلِّل من شأنه؛ لأنَّه كما قال أنيس منصور: "من المؤكَّد أنَّ فنانًا بهذا الصدق والأصالة لا يموت لصمت ناقد أو نقَّاد، فليس النقد هو الذي كتَب له شهادة مِيلاده، وإنما الفن هو الذي ولده وربَّاه، وأنضجه وسوف يبقيه"[6].
 ولذلك فقد أخذ اسمه يتردَّد في أنحاء العالم الإسلامي والعربي، وأصبح عالمًا بارزًا على مدرسة الأدب الإسلامي، وقام أحد محبي أدبه وهو الكاتب الشاعر الدكتور عبدالحكيم الزبيدي بفتح موقع خاص به على شبكة الإنترنت باسم "موقع علي أحمد باكثير رائد الأدب الإسلامي في العصر الحديث"؛ لنشر آثاره على أوسع نطاق وأشمله.
علي أحمد باكثير واتجاهه الإسلامي
نشَأ باكثير نشأةً إسلامية منذُ نعومة أظفاره؛ حيث وُلِدَ في إندونيسيا سنة 21 ديسمبر 1910 في أسرةٍ محافظة ملتزمة، وتعلَّم في حضرموت العلوم الشرعيَّة في المعاهد الدينيَّة، ودرس الإسلام من يَنابِيعه الأصليَّة دراسةً عميقة وافية، "حيث كان يطمَعُ في أنْ يكون فقيهًا وقاضيًا كعمِّه محمد بن محمد باكثير، غير أنَّ رغبته وموهبته الأدبيَّة قد حالَتْ بينه وبين أمنيَّته"[7].
 ولكن مع اتجاهه إلى الأدب ورغبته إليه لم يُهمِل جانب فكره الإسلامي، بل جعله فلسفة لأدبه ومنهاجًا لحياته، فتعمَّق فيه تعمُّقًا كبيرًا، وظلَّت دراسته للفكر الإسلامي باقية بقوَّتها إلى أخريات حياته، وحتى حينما استقرَّ في مصر والتحق بقسم اللغة الإنجليزية، وتعرَّف على الثقافة الأوروبية، وتأثَّر بالأدب الغربي حيث أخذ يُغيِّر مقاييسه الأدبية، ويُغيِّر مفاهيمَه للأدب العربي، لم يتخلَّ عن فكره الإسلامي، بل ظلَّ متمسِّكًا به ومتحمسًا له ومدافعًا عنه بفنه وأدبه.
 واستَقَى باكثير فكرَه الإسلامي من ينابيعه الأصلية؛ أي: القرآن والسنَّة؛ ولذلك أنكر الخرافات والبدع التي شاعَتْ في حضرموت، وقام بدعوة الناس إلى تنقية عقيدتهم من الشوائب ونبْذ الجمود والخمول الديني، ورأى أنَّ الإسلام هو دين المساواة، ودين العلم ودين الأخلاق والفضائل، ودين العزَّة والمنعة لا دين الضعف والخُرافات والبِدَع، وأنَّه قوَّة روحيَّة ومدنيَّة كبرى، وأنَّ الإنسانيَّة الحائرة تحتاج دائمًا إلى الاهتداء بنوره.
 وقد تأثَّر باكثير من بين زُعَماء الإصلاح الإسلامي بجمال الدين الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده، وكان معجبًا بهما وبطريقتهما في الإصلاح أشدَّ الإعجاب، وكان يرى أنهما قد أعادا للإسلام روحه الصافية النقيَّة بعد أنْ خلَّصوه من شوائب البدع والخرافات، كما أعاداه إلى ينابيعه الأصليَّة؛ الكتاب والسنة، ويبدو هذا التأثُّر عنده حينما كان في حضرموت والحجاز، كما يبدو عندما كان في مصر.
 ويتجلَّى اتجاهه الإسلامي والتزامه بالفكر الإسلامي في آثاره الشعريَّة والمسرحيَّة والروائيَّة بصورة واضحة؛ حيث يصدر فيها عن التصوُّر الإسلامي ويدعو إلى الفكر الإسلامي، ولا يرى في ذلك بأسًا؛ لأنَّه يعتقد أنَّ كلَّ كاتب لا بُدَّ أنْ يكون له فكرةٌ يدعو إليها في عمله الفني.
 وهكذا كان باكثير في آثاره صاحبَ فكرة وصاحب رسالة يدعو إليها، ويسعى إلى خِدمتها، ويسلك في سبيلها كلَّ الطرق ما دامت سليمة من الخطل، بعيدة عن المزالق التي لا تُؤدِّي إلى خير، دون أنْ يخاف في ذلك من لومة لائم.وكان يرى أنَّ على الكُتَّاب ألا يستعيروا الأيديولوجيات الأجنبيَّة، بل عليهم أنْ ينظُروا إلى الحياة من وجهة النظر الإسلاميَّة، ويُعبِّروا عن واقعهم وأحلامهم من خِلالها، غير مبالين في ذلك بِمَن يرميهم بالرجعيَّة والجمود والغيبة من الملاحدة والشعوبيِّين[8].
  الاتجاه الإسلامي في روايات علي أحمد باكثير التاريخية
أشرنا فيما سبق إلى نشأة باكثير الإسلاميَّة وتأثُّره بالفكر الإسلامي، وجعله فلسفة لأدبه ومنهجًا لحياته، كما أشرنا إلى أنَّه في آثاره صاحِب فكرة وصاحب رسالة يدعو إليها ويسعى إلى خِدمتها دُون أنْ يخل َّبفنيَّة آثاره.والذي يهمُّنا هاهنا هو إبراز رؤيته الإسلاميَّة في رواياته، ومَدَى توفيقه في إبراز الفكر الإسلامي والقيم الإسلاميَّة في صورة فنيَّة ممتعة.
 وقد بدا لي خِلال دراسة آثاره الروائيَّة حشدٌ من المظاهر الإسلاميَّة تتحدَّد من خِلالها رؤيته الإسلاميَّة وثقافته الدينيَّة، وتتمثَّل هذه المظاهر فيما يلي:
1)   تصدير رواياته بالآيات القرآنية، حيث صدَّر كثيرًا من رواياته بآيةٍ قرآنيَّةٍ تتناسب مع الفكرة التي يتبنَّاها الكاتب في أثره، وتدور الأحداث حولها.
 فقد صدَّر مثلاً رواية "سلاَّمة القس" بقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ (يوسف: 24)، حيث تحكي الرواية قصَّة حب عذري بين عبدالرحمن القس والمغنية سلامة، ويدور الصراع فيها بين الهوى والتقوى وتنتصر التقوى.
 وصدَّر رواية "واإسلاماه" بقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ (التوبة: 24)، حيث تدورُ حوادث الرواية حول جهاد المسلمين ومقاومتهم بقيادة قطز أمام الغزو الصليبي القادم من الغرب، والغزو التتري القادم من الشرق، وانتصارهم في النهاية في معركة عين جالوت الشهيرة.
 وصدَّر رواية "الثائر الأحمر" بقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ (الإسراء: 16)، حيث تتحدَّث الراوية عن فساد القرامطة المنحرِفين عن منهج العدل الإسلامي، وانهيارهم بسبب انحرافاتهم الفكريَّة والسلوكيَّة.
ولم يَكتَفِ بذلك باكثير، بل استشهد بآياتٍ قرآنية وأحاديث نبويَّة كثيرة من خِلال أحداث رواياته، خاصَّةً في روايات "سلاَّمة القس"، و"واإسلاماه"، و"الثائر الأحمر".
2)    3- موقفه من القضاء والقدر، والتجاؤه إلى الله في كلِّ حال؛ لأنَّه باعتباره أديبًّا إسلاميًّا، ينظُر إلى القدر كركنٍ من أركان الإيمان لا بُدَّ للمؤمن أنْ يرضى به دون أنْ يحدَّ لك من إرادته التي هي أيضًا من قدَر الله شيئًا، ويرى أنَّ الفاعل الحقيقي في الكون هو الله تعالى يفعل ما يشاء ويفعل ما يريد.
 فعبدالرحمن القس حينما كان يتذكَّر أمَّه الصالحة وحسن تربيتها له وقيامها عليه وكفايتها إيَّاه هموم العيش ليتفرَّغ للعبادة والعلم، كان يُعاوِده الحنين إليها ويشتدُّ به الحزن عليها "ولكنَّه كان يأخُذ نفسه بالصبر والرضا بقضاء الله، ويلجَأُ إلى الصلاة والعبادة كلَّما طاف به طائفٌ من اللوعة والبثِّ، مكتفيًا بالدعاء لها والترحُّم عليها"[9]
 وفي رواية "واإسلاماه" ينتَظِرُ قطز بالمسلمين في معركة "عين جالوت" وقت صلاة الجمعة ليُباشِروا قتال أعدائهم، وخُطَباء المسلمين على المنابر يدعون لهم بالتأييد والنصر[10]وفي نهاية المعركة وبعد انتصار المسلمين، ينسب النصر إلى الله تعالى وإلى دعاء المسلمين ويحذرهم أنْ يزهو بصنيعهم: "إيَّاكم والزهو بما صنعتم، ولكن اشكُروا الله واخضَعوا لقوَّته وجلاله، إنَّه ذو القوَّة المتين، وما يُدرِيكم لعلَّ دعوات إخوانكم المسلمين على المنابر في الساعة التي حملتم فيها على عدوِّكم من هذا اليوم العظيم يوم الجمعة، وفي هذا الشهر العظيم شهر رمضان، كانت أمضى على عدوِّكم من السيوف التي بها ضربتم، والرماح التي بها طعنتم، والقِسِيِّ التي عنها رميتُم"[11]..
3)   كشف خطط اليهود ودورهم في الحركات المشبوهة في تاريخ الإسلام، في إشارةٍ خفيَّة إلى العلاقة بين اليهوديَّة والماركسيَّة؛ حيث كان لليهود دورٌ أساسٌ في فتنة القرامطة التي بنَى الكاتب أساسها على الأصول الماركسية والشيوعية المعروفة في القرن العشرين.
 ويصوِّر باكثير هذه العلاقة ضمن اتِّصال "الكرماني"، أحد دعاة القداحيين باليهود في بغداد؛ لإيجاد الفتنة وإشاعة الفَوْضَى حيث يقول: "وكثُر اتِّصال الكرماني بتجَّار اليهود ولا سيما كبيرهم عزرا بن صمويل الذي كان يمدُّه بالنُّقود المحالة له من سلمية عليه، فتَواطَأ معهم على نشر الإشاعة المقلقة بالمدينة؛ لكي يبيع الناس أملاكهم بأثمان بخسة فيشتروها منهم، وكانوا قد أكثَروا من شراء الحبوب والأطعمة من الأسواق ليحتكروها، فانتظروا أنْ ترتفع أثمانها كلَّما زاد قلق الناس وخوفهم وانقَطَع ورود الميرة من خارج بغداد إليها، فيبيعوها للناس حينئذٍ بأغلى الأسعار"[12].
 ويكشف أيضًا دسائس اليهود لإثارة الفتنة بين المذاهب الإسلاميَّة وإشعال نار الحرب بين أُمَراء المسلمين ضمن وثيقةٍ حصل عليها أحدُ ولاة الخليفة المعتضد عند أحد تجار اليهود: "... وعثر بينها على رسالة صغيرة في حجم الوصيَّة مكتوبة بالعبريَّة، فجِيء بِمَن يفكُّ رموزها، فتبيَّن أنها سجل شركة خطيرة أسَّسها جماعةٌ من كبار تجار اليهود بمدينة الموصل في أواخر عهد الخليفة المأمون، على أنْ تبقى قائمةً طوال العصور يُدِيرُها أبناؤهم، وإذا لها دستورٌ عجيب ينصُّ على وجوب تشجيع الفتن في بلاد الدولة، وإمداد القائمين بها، والسعي لإثارة الحروب بين أمراء المسلمين وبينهم وبين الروم، وتأريث نار الخلاف بين الطوائف والمذاهب والنِّحَلِ، والإفادة من كلِّ ذلك في تجميع الأموال وتكثير الأرباح لشركتهم"[13].
4)   محاولة إثبات صلاحية الدِّين الإسلامي لحكم المجتمع وبث العدالة الاجتماعية بين رُبُوعِه، وبيان ما ينطَوِي عليه النظام الرأسمالي والشيوعي من نقائص وعُيوب، وذلك من خِلال تصوير الصِّراع الدائر بينهما وبين نظام العدل الإسلامي المتمثِّل في نظام أبي البقاء الإصلاحي، وانتصار نظام العدل الإسلامي على النظام الرأسمالي والشيوعي في نهاية الأمر.
5)    وصف الجهاد في سَبِيل الله بالنفس والمال، وما ينتظر المجاهدين من أجرٍ عظيم عند الله تعالى، وذلك من خِلال تعرُّضِه لجهاد الإيرانيين بقِيادة جلال الدين خوارزم شاه والأمير ممدود والد قطز ضد التتار، وجِهاد المصريين والشاميين ضدَّ الصليبيين القادِمين من الغرب والتتار القادِمين من الشرق في رواية "واإسلاماه"، وجهاد المصريين بقيادة أسد الدين شيركوه وصلاح الدين الأيوبي ضد الفرنج وأذنابهم. فيُصوِّر في رواية "سيرة شجاع" جانبًا من جهاد المصريين في الإسكندرية حينما حاصَرَها الفرنج مع شاور، الوزير المصري المتحالف معهم: "ولَمَّا وصَلُوا إلى الإسكندريَّة أعجزهم اقتحامها؛ لبسالة أهلها في الدفاع عنها مع جيش صلاح الدين، فحاصَرُوها من كلِّ جانب، وكان ملك الفرنج قد أرسَلَ إلى قراصنتهم بساحل الشام فأرسَلُوا سُفنَهم في مياه الثغر يقطعون الطريقَ على سفينةٍ تحمل الميرة إلى أهله، فتَمَّ تشديد الحصار عليها من البرِّ والبحر، ولكنَّ أهلها أبدوا من الصبر والمصابرة والحميَّة والبسالة في الدِّفاع ما أدهَشَ صلاح الدين وذكره بأهل بلبيس وقال في نفسه: أمَّة بعضها من بعض لو لم يذلها حكَّامها الظالمون"[14].
 وقال في وصف ما يأمل به المجاهدون في سبيل الله من أجرٍ عظيم ونعيم دائم عندَ الله في الآخِرة، في معرض حديثه عن الأمير ممدود الذي مات شهيدًا في الحرب مع التتار: "مات الأمير ممدود شهيدًا في سبيل الله ولم يتجاوَزِ الثلاثين من عمره، تارِكًا وراءه زوجته البارَّة، وصبيًّا في المهد لما يَدُرْ عليه الحول ولم يتمتَّع برؤيته إلا أيامًا قلائل؛ إذ شغَلَه عنه خروجُه مع جلال الدين لجهاد التتار، ولم يكن له - وهو يُودِّع هذه الحياة ونعيمها - مع عزاء عنها إلا رجاؤه فيما أعدَّ الله للشهداء المجاهدين في سبيله من النَّعيم المُقِيم والرِّضوان الأكبر"[15].
6)      10- الدعوة إلى الوحدة الوطنية بين المسلمين في مواجهة أعدائهم؛ حيث يرى أنَّ المسلمين لا بُدَّ أنْ يتَّحدوا ويُشكِّلوا صفًّا واحدًا لطرد الأعداء من دِيارهم، فيقول على لسان "أسد الدين" في جواب مندوب "مري" ملك الفرنج: "نحن والمصريون شيءٌ واحد، يجمعنا الجنس واللسان والوطن والدِّين، ثم يجمعنا العدوُّ الدخيل الذي هو أنتم، وأنا وجماعتي ما جئنا كذلك إلا لقتالكم وتحصين هذا الوطن العربي منكم، أمَّا بلبيس فما دخَلْناها إلا برضا أهلها وطلبهم، وقد أعانونا بكلِّ ما يقدرون في سبيل الله لا في سبيلنا"[16].
 ثبت المراجع:
1)   د. أحمد محمد علي، الأدب الإسلامي ضرورة، دار السهوة،القاهرة، 1991.
2)   د. عدنان علي الرضا النحوي، الأدب الإسلامي في موضوعاته ومصطلحاته، دار النحوي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2003.
3)   د. عبد الباسط بدر، مقدمة لنظرية  الأدب الإسلامي، دار المنارة للنشر، جدة – السعودية، الطبعة الأولى،1985.
4)   طه حسين على الحضرمي، المنظور الروائي في رواية على أحمد باكثير ، جامعة حضرموت للعلوم والتكنوليجية،كلية التربية، المكلى، 2005.
5)   بو غدارة، زكريا، علي أحمد باكثير، الأديب المسلم، الوعي الإسلامي، الكويت، العدد 371،السنة الثانية والثلاثون، ديسمبر 1996.
6)   علي أحمد باكثير، وا اسلاماه، دار مصر للطباعة،1972.
7)   علي أحمد باكثير، سلامة القس، القاهرة ، مكتبة مصر،1977.
8)   علي أحمد باكثير، سيرة الشجاع،مكتبة مصر،1985.




[1] رئيس قسم العربية، كلية سير سيد، تاليبرمبا
[2]) محمد قطب، منهج الفن الإسلامي ، ص: 6.
[3]) الدكتور عدنان علي رضا النحوي، الأدب الإسلامي في موضوعاته ومصطلحاته، دار النحوي للنشر والتوزيع - الرياض، ط1، 2003،ص: 73.
[4]) محمد أبو بكر حميد، علي أحمد باكثير في مرآة عصره، ص93.
[5])نجيب الكيلاني، نحن والإسلام، ص122 - 123
[6]) المصدر نفسه، ص88.
[7]) أحمد عبدالله السومحي، علي أحمد باكثير، حياته، شعره الوطني والإسلامي، ص182
[8]) عمر عبدالرحمن الساريسي، مقالات في الأدب الإسلامي، ص55.
[9]) علي أحمد باكثير، سلامة القس، ص5.
[10]) علي أحمد باكثير، واإسلاماه، ص192
[11]) المصدر نفسه، ص199
[12])المصدر نفسه، ص93- 94.
[13])المصدر نفسه، ص179
[14]) علي أحمد باكثير، سيرة شجاع، ص175.
[15]) علي أحمد باكثير، واإسلاماه، ص40، 41.
[16]) علي أحمد باكثير، سيرة شجاع، ص128

مواضيع ذات صلة
الأدب العربي العالمي,

إرسال تعليق

0 تعليقات