ادعمنا بالإعجاب

الرسول اليتيم

محمد صلاح الدين الوافي
إن من حكمة الله البالغة أن جعل خاتم أنبياءه محمدا صلى الله عليه وسلم يتيمًا فاقدَ الوالدين منذ صغره ثم أن آواه الله إلى كنف من يكنفه وجعله سيدا ومثالا لجميع العالمين.

  واليُتمُ : الانفراد أو الإبطاء: قيل منه أُخِذ اليتيم لأن البر يبطئ عنه[1]. قال العلامة الآلوسي، اليُتم: انقطاع الصبي عن أبيه قبل بلوغه [2]. واليتيم : من فقد أباه ولم يبلغ مبلغ الرجال[3]. فإن حال اليتيم هو منتهى الضعف وانعدام الحيلة، وقد بدأ محمد صلى الله عليه وسلم حياته يتيما. والملك والسيادة هو ذروة السلطة المادية، وقد انتهت حياته إليها. وقد تقلب حاله من صبي يتيم إلى لاجئ مضطهد ثم إلى سيد لأمةٍ – بالمفهوم الديني والدنيوي – بكل ما فيه من تجارب وتقلبات وتغيرات من ضياء وظلام ، من غنى و فقر، من ارتقاء وانحدار. فقد جعله الله يقاوم محن الدنيا ويخرج منها سالما ليكون مثالا يقتدى به في كل مرحلة من مراحل الحياة. وقد آواه الله وأيده وهداه حين وجده يتيما ضالا، فقال ﴿ألم يجدك يتيما فآوى ² ووجدك ضالا فهدى﴾ [سورة الضحى : 6 ،7]
الطفل اليتيم
ولد محمد صلى الله عليه وسلم يتيما لم يذق حب الوالد وحنانه طرفة عين، لأن أباه عبد الله بن عبد المطلب قد توفي وهو في بطن أمه.
رُوي أن عبد المطلب أرسل عبد الله إلى المدينة يمتار لها تمرا فمات بها[4]، وقيل : بل خرج تاجرا إلى الشام فأقبل في عير قريش، فنزل بالمدينة وهو مريض، فتوفي بها. ودفن في دار النابغة الجعدي[5]. قال أكثر المؤرخين بأن وفاته كانت قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: بل توفي بعد مولده صلى الله عليه وسلم بشهرين[6]. أيا كان، لم ير النبي صلى الله عليه وسلم أباه قط.
ولم يرث هذا اليتيم الفقير من أبيه كثيرا ، بل جميع ما خلفه عبد الله خمسة أجمال، وقطعة غنم وجارية حبشية تدعى أم أيمن بركة ، حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم[7]
المرضعات يأبين اليتيم
ولما علم جده عبد المطلب بولادة آمنة دخل به الكعبة ودعا الله وشكر له ثم التمس لحفيده اليتيم المراضع على عادة الحاضرين من العرب. وكانت المرضعات يأبينه ولا يقبلنه بسبب يتمه، يقلن: يتيم! وما عسى أن تصنع أمه وجده! ووجد عبد المطلب أخيرا حليمة بنت أبي ذؤيب من بني سعد بن بكر فأرسله معها إلى البادية.
كانت حليمة تحدث: " قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرآة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه! إذا قيل له إنه يتيم. وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول يتيم! ما عسى أن تصنع أمه وجده! فكنا نكرهه ذلك. فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا غيري. فلما أجمع الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنـّه. قال ، لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت إليه فأخذته. والله ما حملني على أخذي إلا أني لم أجد غيره"[8]
فأسبل الله سبحانه على حليمة السعدية وعلى أهلها من معروفه و عطاياه أضعافا مضاعفة، أكثر مما يوجد من أب أو أم.
يتيم الأبوين
وبعد ما عاد محمد صلى الله عليه وسلم إلى أمه في مكة بعد غربة عنها دامت قريبا من خمس سنوات، بدأ حياته مع أمه الحنين آمنة بنت وهب التي كانت في غاية الشوق إليه. لكن لم تبق هذه العيشة الهنيئة التي ذاق الرسول صلى الله عليه وسلم فيها حنان أمه وعطفها وحبها ورعايتها ما جعله في أشد تعلق بأمه، إلا عدة شهور أو سنة واحدة على الأكثر حتى غابت عنه صلى الله عليه وسلم فجأة إلى يوم القيامة.
وذلك أن أمه آمنة قررت على رحلة مع ابنها لزيارة قبر أبيه والعيش مع أخواله بني النجار لفترة وجيزة. وكانت معها أم أيمن تحضنه. فأقاموا عند بني النجار شهرا. وفي طريق عودتهم إلى مكة مرضت آمنة مرضا شديدا وكانوا في الأبواء بعيدا عن المدينة حوالي 150 كيلو مترا. فتوفيت أمه صلى الله عليه وسلم في الطريق[9] ، ولم يكن معه أحد سوى أم أيمن فدفنتها. وبذلك صار صلى الله عليه وسلم يتيم الأبوين.
تَخَيّلْ هذا الصبيَ اليتيم ، رأى أمه تموت بين يديه في الصحراء ولم يكن معه إلا مرأة جبشية! ولم ينس ذكر أبيه من قلبه، وصورة قبره لم يزل أمام عينيه! وهو لم يتجاوز من عمره إلا ست سنوات! وقد ضاع منه ملجأه الحبيب ومأواه الوحيد!
وكان صلى الله عليه وسلم في أشد تعلق بذكرى أمه حتى في أيامه الأخيرة من حياته. وقد روي  "لما مر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في عمرة الحديبية بالأبواء قال: إن الله قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فأتاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأصلحه وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، فقيل له فقال: أدركتني رحمتها فبكيت"[10].
في كفالة جده
وقد وقع خبر وفاة آمنة على جده عبد المطلب، بل على جميع أهل مكة كالصاعقة، وشق على الجد الشيخ يُتم حفيده في هذه السن الصغيرة فاحتضنه في كنفه وجعله تحت رعايته ليعوّضه فقدان كل من الأب والأم. وبقيت أم أيمن قائمة على خدمته. وكذلك آواه الله إلى ذاك الصدر الحاني. وكان يفرش له عباءته حبا وتعلقا بحفيده اليتيم محمد صلى الله عليه وسلم. والصبي هذا لا يلعب مع الصبيان ولكن يجلس بجوار جده ليستمع إلى أحاديث سادة قريش. وكان عبد المطلب لا يدعه لوحدته، ويؤثره على أولاده ويقول لهم: ‘دعوا ابني هذا فو الله إن له لشأنا’، ويمسح ظهره بيده ويسره مايراه يصنع.[11]
وما طالت هذه الكفالة المباركة حتى توفي جده عبد المطلب لثماني سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلى الله عليه وسلم [12]
في رعاية عمه الفقير
وبعد ما انتقل عبد المطلب إلى جوار ربه كلّفه عمه الشقيق أبو طالب، فألقى الله سبحانه وتعالى محبته في قلب عمه، فقدمه على أبنائه وبالغ في إكرامه. وكان أبو طالب مقلا من المال، ومع ذلك كان يخصه صلى الله عليه وسلم بالطعام حيث لا يمد صلى الله عليه وسلم يده المباركة إلى الطعام مع الصبيان.
وكان يقرّب إلى أولاده طعامهم فيجلسون وينتهبون ويكفّ ذاك الصبي اليتيم يده لا ينتهب معهم. وكان صلى الله عليه وسلم ، كما قالت أم أيمن حاضنتها،  يغدو إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربه فربما عرضنا عليه الطعام فيقول لا أنا شبعان شبعان"[13]
وكان أبوطالب لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج فيخرج صلى الله عليه وسلم معه، فكان أبوطاب يدا حانية له أحبه حبا شديدا لا يحبه ولده. فكذلك ربى الله هذا الولد اليتيم وأعده فأحسن إعداده ليكون سيدا للعالمين كافة ، ومثالا للأمة الإسلامية جميعا.
اليتيم الفقير يرعى الغنم لأجل طعامه
وكان صلى الله عليه وسلم يعرف الأعباء في بيت كفيله، فأراد أن يخففها ففكر في عمل يسد به حاجته ويساعد به عمه، ولم يتجاوز الولد اليتيم إلا ثمانية سنوات من عمره. ولم يكن في مكة عمل للأولاد الصغار إلا راعي الغنم ، وهذا العمل لا يعمل به إلا الفقراء. فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم راعيا فقيرا يرعى الغنم على قراريط لأهل مكة[14]، بعد ما كان قبل أشهر يجلس بين سادة قريش الأغنياء.
وهذا هو الإعداد الرباني لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ليتعلم الحياة من صغره ويعرف الغنى والفاقة، ويعرف السيد والفقير. وكذلك تحمل صلى الله عليه وسلم مسؤوليته من عمره الثامن. ومازال صلى الله عليه وسلم يكتسب بهذه الوظيفة إلى أن بلغ عمره 15 سنة. واشتغل بعد ذلك بالتجارة حتى الخامس والثلاثين من عمره.
لِم جعل الله يتيما فآوى؟
ومما لا شك فيه أن الله الحكيم سبحانه هو الذي ربّاه يتيما منذ صغره في رعاية من يريده من عباده ليجعل ختاما لسلسلة الأنبياء والمرسلين، وليكون إنسانا كاملا قبل النبوة وبعدها. فعد الله يتمه فإيواءه نعمة من عند الله سبحانه حيث قال ﴿ألم يجدك يتيما فآوى﴾ [سورة الضحى : 6] وقال ﴿أما بنعمت ربك فحدث﴾ [سورة الضحى : 11] كما قال الله تعالى حكاية عن فرعون لموسى عليه السلام حيث رباه في قصره الملكي ﴿ألم نربك فينا وليدا﴾ [سورة الشعراء: 18]
فكان أول أمره صلى الله عليه وسلم في رعاية حليمة السعدية، رضيت باليتيم حين تأباه غيرها، ثم في حب أمه سنة واحدة، وبعد ذلك في كنف جده الحاني ، سيد قريش، لمدة سنتين، ثم في رعاية عمه الفقير المقل لسنوات طوال.
ونرى حكما بالغة ودروسا هامة في كونه صلى الله عليه وسلم يتيما وفي عيشه في كفالات عديدة، فلنختصر
·       لئلا يكون لأحد منة سوى كفالة الحق تعالى
·       ليعرف صلى الله عليه وسلم من تتابع الأموات أمامه، أن هذه الدنيا فانية ليست تبقي على أحد
·       وقد يكون حكمته تعالى تقتضي أن يكون نبيا بعيدا عن التدلل فيأدبه ربه فيحسن تأديبه
·       ليتعلم الحياة منذ صغره ويعرف الغنى والفاقة ، والسيد والفقير
·       ليتعلم تحمل المسؤولية والمساعدة والمشاركة في الأمور. فقد اكتسبها من رعاية الغنم، كما اكتسب منها الصبر والتحمل، واليقظة، والقدرة على إمساك زمام الأمور وجمع الشتات.
·       ليعرف الزهد والكفاف والتباعد عن الدنيا ليكون نموذجا للأمة في الامتناع عن التكالب على الدنيا
·       وقد يكون من حكمة الله تعالى أن يجعله وحيدا لا أخ له شقيق كما لم يعش له الأبناء من أولاده. (ولا ننسى ما نسبت الشيعة إلى علي رضي الله عنه، وهو ابن عمه دون شقيقه)
·       ولم يجعل الله يتيما ممقتا على قومه ومغضبا عليهم لحرمان الحب والحنان بل جعله في رعاية من يحبه حبا لا مثيل له، فتربى في كنفهم. ولذا صار صلى الله عليه وسلم رغم يتمه وفقره سيد شباب قريش حيث قال عمه عند خطبته خديجة رضي الله عنها: " إن ابني هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل شرفا ونبلا وفضلا، فإن كان في المال قلَّ فإن المال ظل زائل، أمر حائل وعارية مستردة"[15]. والله أعلم
ولنتمثل بقول أبي طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه  ثمال اليتامى عصمة للأرامل





[1] المنجد في اللغة
[2] تفسير روح المعاني للعلامة الآلوسي : سورة الضحى
[3] المنجد في في اللغة
[4] تفسير روح المعاني: سورة الضحى
[5] الرحيق المختوم : صفي الدين  المباركفوري ص : 60
[6] نفس المصدر
[7] صحيح مسلم  2-  96 
[8]السيرة النبوية  المعروف بسيرة ابن هشام : عبد الملك بن هشام ، ص 1-103
[9] محمد رسول الله : محمد رضا : ص 30 / سيرة ابن هشام : ص 1- 106
[10] الطبقات الكبرى لابن سعد:  ص  1-117
[11] سيرة ابن هشام : ص 1- 106
[12] الرحيق المختوم للمباركفوري : ص 67
[13] عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعلامة العيني : ص 9- 397
[14] صحيح البخاري ، رقم الحديث : 2262
[15] نور اليقين : خضري بك : ص 12

مواضيع ذات صلة
النبويات, دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات