ادعمنا بالإعجاب

المدائح النبوية لشعراء الهند


عبد الرحمان كوتي الفيضي الملافلي

الشعر العربي في شبه القارة الهندية
قد أسهمت الهند في الأدب العربي مساهمة تستحق العناية والتقدير. يقول السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي: إن مؤلفات المسلمين في الهند في العلوم الإسلامية لا تحصى كثرة، وذلك موضوع كتاب كبير، ككتاب الفهرست لابن النديم، أو كشف الظنون للجلبي. و جولة في كتاب "الثقافة الإسلامية في الهند" تدل على مركز الهند العلمي وقسط علمائها ومؤلفيها في حركة التأليف والنشر.[1]
وأما الشعر العربي بخصوصه فقد لقي رواجا كبيرا في الهند حيث أنجبت نوابغ من الشعراء الذين أغنوا الشعر العربي بقرائضهم البديعة. ويرجع فضل انتشار الشعر العربي في الهند إلى النظام التعليمي السائد في المدارس الدينية في مختلف العصور حيث كان يهتم بالأدب العربي اهتماما بالغا. يقول الدكتور نبيل فولي: لم يغب عن النظام التعليمي الذي استقر في الهند على صورة "درس نظامي" الشهير هذا الرباط المقدس بين الإسلام واللغة العربية، فأولَوا علوم اللغة العربية وأدبها اهتمامًا بارزًا إلى جانب العلوم الشرعية، حتى صارت دراسة مقامات الحريري وديوان أبي الطيب المتنبي وديوان الحماسة وديوان حسان بن ثابت من ثوابت هذا المنهج.
وقد استثارت هذه الدراسة الأدبية قريحة المتعلمين، حتى شارك كثير منهم في قرض الشعر باللسان العربي، ولعل الاهتمام بحفظ هذه المتون الأدبية واستظهارها قد أسهم في تعزيز هذا التوجه نحو الشعر العربي.[2]
وأما أهم السمات التي يمكن ملاحظتها على العربية وشعرائها في شبه القارة الهندية فتتلخص فيما يلي:
أ- غلب الاهتمام بالعلم الشرعي على أكثر هؤلاء الشعراء، فمنهم المحدث والمفسر والأصولي والفقيه، ويندر أن نجد من بينهم من غلب عليه الأدب.
ب- التقليد واقتفاء أثر الشعراء السابقين، وما يتبع ذلك من الركاكة، مع فخامة الألفاظ وغرابتها في أحايين كثيرة، حيث بدا الشعر القديم نموذجًا لا يقصر الشاعر الهندي في احتذائه، حتى في موضوعاته وطرق تعبيره، فانحصر أغلب شعرهم في المدح والرثاء. ولعل من أسباب الضعف الذي عانى منه أكثر هذا الشعر أيضًا - إضافة إلى غرابة لغة القريض على طباعهم - أن الشاعر الهندي الذي كتب بالعربية كان منغمسًا في العلم والتعليم، فانعكس ذلك في شعره.[3] فكان علماء الهند كأنهم كانوا يتمثلون بقول الإمام الشافعي رحمه الله :
ولولا الشعر بالعلماء يزري                       لكنت اليوم أشعر من لبيد
المديح النبوي في الشعر العربي الهندي
شعر المديح النبوي هو الشعر الذي نظم في مدح النبي محمد  صلى الله عليه وسلم   بتعداد صفاته الخَلقية والخُلقية وإظهار الشوق لرؤيته وزيارة قبره والأماكن المقدسة التي ترتبط بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، مع ذكر معجزاته المادية والمعنوية ونظم سيرته شعرا والإشادة بغزواته وصفاته المثلى والصلاة عليه تقديرا وتعظيما. والمديح النبوي في قول زكي مبارك: "فن من فنون الشعر التي أذاعها التصوف، فهو لون من التعبير عن العواطف الدينية وباب من الأدب الرفيع، لأنها لا تصدر إلا عن قلوب مفعمة بالصدق والإخلاص"[4]
فإذا تتبعنا الشعر العربي الهندي نجد أن المدائح النبوية تحتل حصة كبيرة منه، ففي رأي الدكتور نبيل فولي "هذا اللون من القصائد المخصَّص لمدح النبي صلى الله عليه وسلم شائع في آداب المنطقة بكل لغاتها، ويسمونه بالنعت، وقد أُبدعت فيه قصائد ودواوين كثيرة جدًا، حتى إن بعض شعراء شبه القارة قد لا يبدع شعرًا إلا في هذا اللون وحده.[5]
ولعل من أروع القصائد في المديح النبوي التي جاد بها قرائح العلماء المنغمسين في العلم والتعليم والتأليف، قصيدة لشيخ الإسلام شاه ولي الله الدهلوي المتوفى عام 1176هـ والذي اشتهر بكتبه في العلوم الإسلامية والعقيدة، فقد نقلت لنا كتب الطبقات هذه القصيدة الشهيرة في مائة بيت وستة قال فيها:
كأن نجوما أومضت في الغياهب


عيون الأفاعي أو رؤوس العقارب

إذا كان قلب المرء في الأمر خائرا

فأضيق من تسعين رحب السباسب

وتشغلني عني وعن كل راحتي


مصائب تقفو مثلها في المصائب

إذا ما أتتني أزمة مدلهمة


تحيط بنفسي من جميع جوانب

تطلبت هل من ناصر أو مساعد


ألوذ به من خوف سوء العواقب

فلست أرى إلا الحبيب محمدا


رسول إله الخلق جم المناقب

ومعتصم المكروب في كل غمرة


ومنتجع الغفران من كل هائب[6]


وإليك مثالا آخر للقصائد من هذا الطراز، هو قصيدة لنجله عبد العزيز الدهلوي المتوفى عام 1239 هـ
ألا يا عاذلي دم في ملامي


فإني لا أحول عن الغرام

فجفني ساهر ما دمت حيا


وقلبي هائم والدمع هامي

فيا ريح الصبا عطفا ورفقا


إلى ذاك الحمى بلغ سلامي

وقل يا أهل ودي في هواكم


مضى شهري وأيامي وعامي

وصرت ببعدكم كالعود جسمي


على نار ودمعي في انسجام

إلام تظاهرون على كئيب


كسير القلب صب مستهام

إلام الهجر والإعراض عني


وحتام التمادي في الخصام

غرامي ثابت غض طري


وحبكم على طرف الثمام

نسيم عهدكم يا أهل ودي


كأنا ما التقينا في مقام

فإن عدتم لوصل والتئام


فأهلا بالعناق وباللزام

وإن جرتم علي فلي غياث
                                                          (نزهة الخواطر7\ 282 – 283)[7]

بباب المصطفى خير الأنام

وحينما كان معظم الشعراء الهنود ينتمون إلى بيئة علمية دينية، ويظهر أثرها في أشعارهم، كان من بينهم قليل ممن كانوا  يعتنون بالأدب، ويولون اهتماما بالغا للناحية الأدبية في قرائضهم، وكان من أبرزهم الشاعر الشهير فيض الحسن السهارنفوري، فنحن في ديوان الفيض نرى شاعرا إنسانا يخطئ ويعترف بخطئه ويؤوب ويتوب ويكثر لهذا من المدائح النبوية ويستغفر ربه، يقول في قصيدة يمدح فيها النبي (ص):
بليت ولم يكد يبلى شبابي


فنيت ولم يزل عني حبابي


أحب نواعما وأحيد عما


يراد فلا أحيد عن التصابي

ألاعبهن ثم أبيت ليلي


على لهو بجارية كعاب

أقبل ثم أرشف مستلذا


وما شيء ألذ من الرضاب

أطيب بها وكيف أطيب عنها


على وجدي وما أدراك ما بي

وحور قد خلوت بها خليا


نشيطا بات في طيب وطاب

فعدت تقول لي لا زلت حيا


ولا سلمت ثيابك من ثيابي

وينتهي أخيرا إلى أن يقول:
فلا أنا أبتغي مرضاة ربي


ولا أنا أتقي يوم الحساب

فإن لم يهدني ربي ويرحم


رسول الله يدركني عذابي

( ديوان الفيض:  ص: 7)[8]
ومن الشعراء الهنود من حاول معارضة القصائد الكلاسيكية الشهيرة في المديح النبوي مثل قصيدة البردة للإمام البوصيري، وقصيدة "بانت سعاد" لسيدنا كعب بن زهير رضي الله عنه. وعلى سبيل المثال نجد الشيخ أحمد عبد القادر الكوكني المتوفى عام 1320 هـ قرض قصيدة على غرار البردة، مطلعها: يا شوق بلغ إلى جيران ذي سلم
قال فيها:
يا لائمي وشراب الحب أسكرني


لو ذقت لذة كأس الحب لم تلم

ألست تعلم أن العذل في مهج الـ


عشاق يفعل فعل الزيت في الضرم

أعان شوقي جوى قد شب في كبدي


وخانني في الهوى صبري ومعتزمي

هوى سرى في دمي قدما فلا عجب


إن ضن عيني بدمعي وهو عين دمي

والدهر لم يكفه أني الجريح به


حتى رماني بداء غير منحسم

لم يصف لي مشرب في عيشتي أبدا


فسمم عوفيت بالآلام والنقم

ضاعت بضاعتي المزجاة صفوتها


وما اكتسبت سوى حمل من التهم

يا ليت شعري لم الخلاق أنشأني


أللتحسر والآلام والندم

هبني ذنوبي قد جمعت أ ليس لها


من الرسول شفيع رحمة الأمم

محمد بهجة الدارين نورهما


سر الوجود وعين الجود والكرم


                                                                         ( نزهة الخواطر 8\ 23 -25 )[9]
وبعض الشعراء رسموا صورة حياة النبي صلى الله عليه وسلم منذ ولادته إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى في قصائد مطولة، منهم الشيخ عبد الرحمن الأريكلي المليباري رحمه الله، فقد قرض قصيدة باسم "الجمان المعظم في سيرة النبي الأعظم"، وهذه القصيدة تتناول الوقائع التاريخية من البعثة النبوية إلى الهجرة حيث إنها نظمت بمناسبة احتفال العيد المئوي الخامس عشر للهجرة. يقول فيها عن إيذاء قريش للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:
وهموا بإطفاء الهدى نور ربهم


بأفواههم كالسرج تطفأ بالفم

وما علموا أن ذاك شعلة جمرة


متى نفخوها تلتهب وتضرم




وأما بعضهم فقد قرضوا قصائدهم حول واقعة معينة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، نجد على سبيل المثال قصيدة حول الإسراء والمعراج للشيخ رفيع الدين بن شاه ولي الله الدهلوي المتوفى سنة 1233 هـ، يقول فيها:
يا أحمد المختار يا زين الورى


يا خاتما للرسل ما أعلاكا


يا كاشف الضراء من مستنجد


يا منجيا في الحشر من والاكا

هل كان غيرك في الأنام من استوى


فوق البراق وجاوز الأفلاكا

واستمسك الروح الأمين ركابه


في سيره واستخدم الأملاكا

عرضت لك الدنيا وداعو ملة


نسخت ببعثك طامعين رداكا

فرددتهم في خيبة عن قصدهم


الله صانك عنهم ووقاكا

واخترت من لبن وخمر فطرة الـ


إسلام بالهدى إليه هدكا

قعدت لك الرسل الكرام ترقبا


فعلوت مغبوطا لهم مسراكا

وأممتهم في القدس بعد تجاور


منهم بأمر الله إذ ولاكا

وبكى الكليم لما رأوك علوته


ومنافسوك يحق منهم ذاكا

وتزينت حور الجنان بشاشة


بك سيدي شوقا إلى لقياكا

وتبشبش العرش العظيم لاثما


رجليك نال الفضل إذ آواك

خلفت روح القدس عند السدرة الـ


قصوى يخاف من الجلال هواكا[10]




وقد أبدى بعض الشعراء مهارتهم في صناعة الشعر بقرض القصيدة مرة باستخدام الحروف المهملة، وأخرى باستخدام الحروف المعجمة وحدها، منهم القاضي عمر بن علي البلنكوتي المليباري رحمه الله، فمن قصائده باستخدام الحروف المهملة قصيدة "لاح الهلال"، يقول منها:
لاح الهلال هلال لامع العلم


لله داع رسول الله للأمم

الحاكم العادل الصدر المعد له


كل المكارم سمح واسع الكرم

مدعو كل هو المأمول موعده

حال كلاما وصول واصل الرحم
معط مكارمه مول مسالمه

مصم مصادمه معطر الأدم
محمد أحمد مكرم علم


مؤمل كامل مسدد الكلم

روح العوالم سعد الله حامده


حام لعاص إمام الرسل كلهم

الطاهر الأصل مسعود وللملل


ماح مكمل سعد الحل والحرم[11] 

           
وله أيضا قصيدة كل حرف فيها منقوط، منها:
جفتني فذبتني فغظت بغيظة


فذبت بشجن بين جنبي يخفق

يشققني شغفي فخفت تجنني


بنشق شذي في نبي ينشق

نبي نجي فيض غيض بذي شجى


شفيق ينجي ضيق ضيق يفتق

جنيت ففي ذنبي تقضت شبيبتي


قنى خيفتي في ضجة بي تضيق

نجيب بني نجب تقي فينتخب


فظني بغيث نخبة في يشفق[12]


وقد قرض بعض الشعراء المدائح النبوية على ترتيب الحروف الهجائية، فرتبوا أول حرف من كل بيت من أبياتها على الترتيب المذكور. وإليك نموذجا من قصيدة نظمها الشيخ عبد القادر الفضفري المليباري:
أمان للخلائق كل حال


أمين ذو المكارم والمعالي

بديع الحسن سامي المجد عال


بهي الوجه ثغره كاللآلي

تقي القلب خير الخلق فيه


تمام ملوك أرض كالموالي

ثمال للأرامل واليتامى


ثرور الجود في أهل امتثال

جليل النعت ليس له مثيل


جميل الذات بحر للنوال

حوى كل المكارم والمزايا


حبيب للإله ذي التعالي

خليل الله أصل وجود خلق


ختام الأنبيا عالي العوالي[13]




هذا، ولم ننس مساهمة الشعراء الآخرين الذين لهم باع طويل في هذا الميدان مثل الشيخ غلام علي آزاد البلكرامي الذي كان يلقب بحسان الهند، والشيخ عمر القاهري صاحب قصيدة "ألف الألف"، والشيخ صدقة الله القاهري، والإمام العروس، والشيخ أنور شاه الكشميري وغيرهم رحمهم الله، ممن يتعسر علينا أن نسرد أسماءهم ونماذج من أشعارهم في هذه المقالة القصيرة، واستيعاب تراجمهم وقصائدهم في المديح النبوي يحتاج إلى مجلدات ضخمة، ندعو الله أن يثقل ميزان حسناتهم ويجمع بيننا وبينهم في مستقر رحمته مع عباده الصالحين.


[1] السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي، المسلمون في الهند، لكهنو، المجمع الإسلامي العلمي، ص 29
[2] د\ نبيل فولي، مجلة الوعي الإسلامي، الكويت
[3]راجع: المرجع السابق   
[4] د/ زكي مبارك، المدائح النبوية في الأدب العربي، ، المكتبة العصرية، بيروت، ط:1، 1935، ص: 17
[5] نفس المصدر
 [6] د\ أحمد إدريس، الأدب العربي في شبه القارة الهندية حتى أواخر القرن العشرين، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ج م ع، 1998م، ص: 240
 [7] د\ أحمد إدريس، ص: 270 – 271
[8] نفس المصدر، ص: 248
 نفس المصدر، ص: 280 - 281[9]
  [10] نزهة الخواطر 7\ 189- 199
[11] عبد القادر الفضفري، جواهر الأشعار وغرائب الحكايات والأخبار، طبع تروتانكور بالهند سنة 1385 هـ، ص: 281 -282
 نفس المصدر، ص: 282 - 283[12]
*- نفس المصدر، ص: 284 - 285[13]

مواضيع ذات صلة
التاريخ الأسلامي, النبويات, دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات