ادعمنا بالإعجاب

سلطان الهند خواجه معين الدين الجشتي واحة الروحانية الهندية، ഖാജാ മുഈനുദ്ധീന്‍ ചിശ്തി അല്‍ അജ്മീരി

بقلم : عبد السليم الأماني الفيضي

الصلب الفاخر والسلالة الشريفة
 السيد خواجه غياث الدّين! الرجل الزاهد المتدين، ومن أشراف قرية سانجار الإيرانية.  كان مزارعا يتقن فنّ الزراعة، وقد أسبل الرحمان عليه أموالا موفورة وحكمة قوية.  وكان ملجأ الفقراء والمعدمين يطعمهم ويسقيهم ويكسوهم. أودع الله في قلبه حب الخيرات. وكانت زوجته السيدة ماحي نور أيضا مثله ورعة متقشفة متوغلة في العبادات ليل نهار. و كلاهما ينتميان إلي بيت نبوي شريف.
وكان الشيخ غياث الدين داعية كبيرا يخلص في الدعوة الدينية الفعالة. وكانت أيامه قلقة مضطربة يتكالب الناس فيها حتى في أتفه الأمور. وحينما فشلت جميع محاولاته لتأمين الشعوب وإراحة القلوب أرادت هذه الأسرة هجر موطنها والانتقال إلى خراسان.
ولادته ومرحلته الابتدائية
ضريحه بأجمير الهند
وفي هذه الظروف القاسية، وفي 14 رجب عام 530هـ، ولدت السيدة ماحي نور ابنا جميلا سمي بمعين الدين الذي أصبح من بعد إمبراطورا روحانيا ملأ جنبات البلاد الهندية بالثقافة الإسلامية وبالحيوية الروحانية. وكان هذا الطفل يتميز بميزات عديدة ومحاسن كثيرة، وكان تعامله مع الحياة جديا وبناء.
وكانت هناك وقائع كثيرة مصدقة حكيت عن صبوته. ففي يوم من أيام النحر كان معين الدين في طريقه إلى المسجد، إذ أقبل عليه طفل فقير ارتدى بقميص بال متمزق، وفي وجهه آثار اليتم والفاقة، لم يلبث أن رأى معين الدين هذا البائس الضائع، أخذ به إلى بيته ونزع قميصه وألبسه إياه. هكذا نرى الشيخ يمسح دموع المستضعفين ويكسو ويطعم البائسين المعدمين في صبوته وفي مراهقته و في شبابه ومراحل حياته كلها.
وكان معين الدين المولود متعطشا إلى العلوم والمعرفة مند صباه. تلقى العلوم الابتدائية والدروس القرآنية من والده ومن حضرة حسام الدين أحد العلماء البارزين آنذاك، وكل كلمة من كلمات القرآن المجيد أثّر قلبه تأثيرا بليغا وغير مجرى حياته، وصيره صاحب قلب صقيل مستنير بالإيمان، وتفتحت أمامه آفاق الحكم وانسابت إليه مكنونات المعارف.
لكن ما يجري حوله في المجتمع من الأنشطة الهدامة العدائية كان موجعا ومحرقا لقلبه الصغير- الغارات التترية العشوائية العديمة الإنسانية كانت ضارة ومضجرة لشخصيته الساذجة. وعاين خراسان وطوس ونيسابور، البقعات الأثرية الإستراتيجية التي أنجبت كثيرا من عباقر الأئمة متعرضة للنهب والتخريب، ورأى السيدات المسلمات منتهكات الأعراض.
وكانت وفاة والديه صدمة كبيرة في حياته..... لكن! من يقدر على مقاومة الفعلات الإلهية، و رد قضائه المبرم. وإنما خلفا لمراهقة ابنهما الحنون اليتم والعزلة فقط. وفي هذه المرحلة القاسية أراد أن يهجر موطنه وأن يضحي نفسه ونفيسه لأجل العلم.
تجارب مريرة
رحلات ممتلئة بالعناء والمشقات...... قطع في هذه الرحلات المستمرة كثيرا من البلاد العالمية، مصادر العلوم متمتعا بالجمال العلمي الجذاب والروعة الحكمية الخلابة لهذه الأماكن المقدسة. وكانت بغداد ومصر وقرطبة وتركيا ونيسابور وسمرقند وبخارى مستنيرة بالحكمة والمعرفة في تلك الأيام . وزار المشايخ والأئمة واقتبس من قبسات تجاربهم وعلومهم وتمهر في الفنون المختلفة .
وهذه اللقاءات التاريخية والاستطلاعات الروحانية لهي التي كونت للهند سلطانا  روحانيا لامثيل له،  يقود الناس -عامتهم وخاصتهم - إلى سبيل الهدى والرشاد، ويثقفهم بالثقافة الدينية الوهاجة، ويوقد فيهم نور الإيمان وجلاء المعرفة، وقد بنى إمبراطورية العدل والإحسان في خلفية هندية يسود فيها التدهور وحرمان الحقوق.  
وكان الشيخ خواجه عثمان الهاروني في مقدمة سلسلة مشايخه، وقرأ عليه معظم العلوم، وقبل منه الطريقة الجشتية، وكان ممن زاره ببغداد الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس الله سره العزيز، وكان هذا اللقاء تجديدا لعلاقة نسبية بينهما.  
وكانت مسيراته العلمية عامرة بالتجارب المريرة، وكثيرا ما أحس بتعاملات سيئة من بعض الحكام الفجرة.
حينما زار مدينة ساب سوار تجمعت حشود كثيرة لاحتفائه معبرين حبورهم المتزايد وكان أهلها مظلومين مضطهدين.
ضد الحكام الفجرة
وكان محمد يادكار حاكم ساب سوار يعرضهم لألوان العذاب وأنواع الظلم. وكان رافضيا متشددا يتمتع بالملذات المادية ويطيع للشهوات الشيطانية.  وكان لا يبالي ولا يعتبر برعيته المتضجرين ولا تهمه سعادتهم.
وكان قدوم الشيخ الجشتي إليهم في وقت مناسب وحاسم، حيث كانوا ينتظرون رجلا  يقوم بتحريرهم، طبيعي أن تزبد زبدة السرور في قلوب هؤلاء السذج حينما حل فيهم رجل مقدس يبهر العالم بالعشق والمعرفة. انتهض القوم الضعفاء الجبناء وصاروا شجعانا أقوياء وارتفعت رؤوسهم بعد أن كانت مطرقة.
لكن ساب سوار الظالم أعد عدته لتفتيك هذا التجمع الروحاني. وخاف فوات ملكه ونفوذه. وتآمر لإبادة الجشتي وأتباعه.
لكن سلطان الهند الذي لا يخاف أحدا إلا الله، مشى وحيدا إلى قصر الملك.....وفي باب القصر الكبير منعه الحارس وسل سيفه من الغمد. وكان الناس ينظرون ويتوقفون خوفا فيما يقع.
لكن الشيخ لحظ إلى وجه الحارس لحظا شديدا مرعدا. أحس الحاجب بأن جميع قوته يخرج ويتسرب وخر مغشيا عليه. وفي لحظة يتوقف فيها الحراس حائرين مدهشين مشى الشيخ نحو عرش الملك. جيوش الملك وأتباعه يتوقفون مرتجفين ساكنين.....
لحظ الشيخ لحظة إلى وجه الملك وناداه جهوريا "يادكار، ... إنما في يدك لأخباز متلطخة بدماء رعيتك الأبرياء وإنما جئت لتكملة حسابك"
ولم يلبث إلا قليلا من الساعات بعد ما خرج رحمه الله من قصره، شاهد الناس ذلك المشهد العجيب..... يادكار الذي لم يعمل خيرا قط في حياته يصل إلى رباط الشيخ ضارعا مطرقا .... ويقول مرتعدة فرائصه ومرتجفة ركبتاه "منذ هذه اللحظة أنا خادم لك أيها الشيخ الكريم! وكل ما لدي من الممتلكات أقدمها أمامك وأنا راغب عن كل ما أتمتع به من الملذات. هكذا صار زاهدا ورعا يلازم شيخه حيثما كان، ويتبعه أين ما يتوجه، وعرج من بعد درج المعرفة.

قدومه إلى البلاد الهندية
للبلاد الهندية دور فعال مثمر في بناء الحضارة الإنسانية. أصالتها المتميزة ووراثتها العلمية وتراثها العريق الجذاب جعلها فائقة على كثير من البلاد العالمية.
وكان قدوم الجشتي رحمه الله عام 561هـ إلى هذه البلاد منة عظيمة مَنَّ الله بها عليها.  
لا غرو ولا تضخيم أن قلنا بأنه غيّر الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية الهندية وطراز حياة شعوبها جذريا.  وتعاليمه غيرت كثيرا  من الأوضاع الاجتماعية التي كانت سائدة في تلك المدة في مختلف أنحاء وأقاليم الهند.
الطبقات المتخلفة المنبوذة المتعرضة للعنصرية رأت فيه مرشدا ومحررا يسودها إلى حياة راقية عامرة بالخيرات، وذاقت في تعاليمه رسالة شهية جديدة لم تعرفها من قبل.
وكانت دلهي المدينة الأولى التي حل فيها الجشتي رحمه الله من المدن الهندية، وقد اهتم بتقديم الأمة المستضعفة والشعوب المنبوذة. ونفذ كثيرا من المشاريع لتحسين مستوى حياة هؤلاء الطبقات الذين كانوا يعانون  من مختلف المشكلات الحيوية.
وكنتيجة لأعماله ومساعيه المكثفة تحسنت الأوضاع الاجتماعية الهندية كثيرا. وذابت عقلية السجان في أفئدة الناس. وتدفقت آلآف من الناس إلى مقر الإمام الجشتي رحمه الله.
وبعد هذه الثورة الروحانية التي غيرت الظروف الهندية جذريا وبعد ما قام بتنشيط  المجالات العلمية والدعوية في مناطق دهلوية مشى مع تُباعه نحو أجمير.... وكانت منطقة أجمير تحت حكم الملك بروتهويراج جوهان آنذاك. وكان مشركا متشددا يعادي الإسلام ويغضب مبادئه الوهاجة.
وكان قلبه قلقا متوترا بعد ما سمع قدوم الشيخ الجشتي رحمه الله، بل وكان خائفا في فوات ملكه وفقدان سلطانه. فكر عن القضاء على هذا الشيخ الدخيل وإبادة تباعه، ولكن عطاء الرسول ورسول الرسول  أبطل مساعيه كلها، وتغلب على مكائده لإطفاء نور الحق ونور الرسالة السماوية الخالدة.
أعد الملك عدده وعدده لإخراج الشيخ ومريديه من بلده ودبر تدبيرا. ولم يلبث إلا قليلا، تبين الملك بأن هذا الرجل ليس كأحد من الرجال الدعاة وأن قوته قوة إلهية لا تقاوم. واعتناق بعض من أمنائه ومقربيه هذه الديانة الجديدة زاد فيه هذا الشعور وخيبة الأمل.
كان شانتي ديف وجيابال من أصفياء الملك ومن رؤساء سحرته، وقد وكلهم الملك مهمة معارضة الشيخ ورفقته. ولكن ما ذا وقع ؟ خسِرا أمام قوة الكرامة المبهرة التي أظهرها الشيخ الجشتي رحمه الله !! وكانت هذه صدمة كبيرة لم يكن لها شبيه في حياته .
يادكار محمد، شانتي ديف، وجيبال صار كل من هؤلاء من أتباع الشيخ ومريديه بعد أن كانوا من أصفيائه ومخلصيه.
لكن الدهر يعمل عمله لا يرد صرفه وتبدل أطواره. عادت الجيوش الغورية مرة ثانية وغارت على هذا الملك الظالم وتغلبت عليه حيث كان ملك الإمبراطورية الغورية شمس الدين محمد غوري قد خسر في  اشتباكات مع بريتهويراج الملك في المرة الأولى،  ولكنه في هذه المرة استلم قضاء الله المبرم في المعركة الثانية، اقتتل بريتهويراج في اشتباكات عنيفة وعاد إلى عالم إلهي لا جور فيه ولا تميز، والى عالم لا ينفع فيه عدل ولا شفاعة .
ومع اغتياله تحرر الناس من أغلال العبودية وتنفسوا  هواء حرية الحياة. وفي المملكة الغورية تقدمت دلهي والمناطق المجاورة كثيرا واتسعت السلطة القضائية للغوري .
وكانت الإمبراطورية الروحانية التي يحكمها الجشتي أكبر وأوسع قوة ونفوذا من تلك الإمبراطورية السياسية التي يحكمها الغوري أو مولاه قطب الدين أيبك.
وكان عدد الزائرين إلى رباط الشيخ الجشتي رحمه الله أكثر من ذلك العدد الذين يأوون إلى قصر الملك .
ولكن هاتان المملكتان كانتا في ألفة ووحدة وتكامل وتكاتف، والملوك كلهم كانوا يعرفون قدر الشيخ ومكانة رباطه حق المعرفة،  حيث يزورونه ويسابقون على نيل بركته وحصول مرضاته.
وهذا كان عصر التقدم والازدهار، يسود الأمن في كل الأماكن، ويتمتع الشعب بالراحة  والاستقرار.
وكان العدل والإنصاف ميزة تفضل الحكام، والمساواة كانت الصفة المحمودة التي  اتصفت بها الخلافات الإسلامية. المسلمون كانوا مهتمين بالأنشطة الخيرية والإغاثية  أيضا مثل ما اهتموا بالخدمات الاجتماعية والسياسية .
زواجه وعِشرته
ولم يتزوج خواجه الجشتي  قدس سره إلا بعد ما اجتاز بحبوحة شبابه حيث كان مولعا ومهتما بالدعوة والأنشطة العلمية والروحانية. أخيرا حسب أمر واقتراح من النبي الأمين (صلعم) في المنام أراد أن يتزوج .
وكانت أمة الله  تلك السعيدة التي وفقت لأن تكون شريكة حياته، كانت ابنة ملك من ملوك الهند الذي أصبح مهزوما في معركة مع ملك يدعى  بالخطاب. وكانت أمة الله في أسره، فأهداها إلى الجشتي رحمه الله، لكنه أبى أن يقبلها، بل سلوكه وعفافه أعجبها جدا، واختارت الجشتي شريك حياتها .
وقد ولدت ابنة سميت بحافظة جمال. وكانت له زوجة ثانية اسمها بيفي عصمت التي كانت ابنة السيد وجيه الدين الجشتي من كبار الصوفيين الهنود. وقد أنجبت ثلاثة أبناء.
وفاته.

الموت قضاء من الله المبرم لا ينجو احد من قبضته ولا يخلد الدهر أحدا. توفي رحمه الله عام 627 هـ الموافق 1259 م بعدما وكل خلافة طريقته إلى الشيخ قطب الدين بختيار الكعكي رحمه الله  من كبار مريديه.

مواضيع ذات صلة
الأعلام،, دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات