ادعمنا بالإعجاب

عقدة الذنب وفكرة الإدانة في رواية ‘عائد إلى حيفا’ لغسان كنفاني


عبد الجليل بن محمد علي*

 مقدمة
القضية الفلسطينية، قضية استمد ويستمد منها الأديب عربا وعجما، قديما وحديثا ومعاصرا. والقضية قد تطورت خلال شتى مراحل من الركود والاستسلام والاحتجاج والاستنكار والانبعاث والثورة والمقاومة والانتفاضة. فتأليفات غسان كنفاني من أروع منتجات أدبية تناول القضية خلال مراحلها، من ماضيها إلى حاضرها. تسيطر في رواياته المنشورة ما بين 1963 و 1967 عقدة ذنب فلسطيني وفكرة إدانة لما مر عليه الفلسطيني فترة ما قبل النكبة وفترة ما بعدها حتى نكسة 1967م. والهدف المنشود وراء هذه السيطرة توعية الشعب الفلسطيني بواجبه نحو البلاد، أكثر من الحنان إليها، لبناء مستقبله من عنده وحده، بدلا من الوقوع في السنتيمنتالية (العاطفية الرخيصة)[1] نحو الشخصية الفلسطينية المضطهَدة. مصطلح ‘عقدة الذنب’ تشير إلى شعور الفلسطيني بقصوره إزاء واقعه التاريخي[2]، وفكرة الإدانة هي التقنيات التي استعملها غسان في رواياته لإدانة هرب الفلسطيني من موطنه ولعدم محاولاته للعودة إلى الوطن، ولإدانة القيادة الفلسطينية والعربية معا. فهذه الورقة تعالج كيفية تصوير عقدة الذنب في شخصية فلسطينية ‘سعيد’ وفكرة الإدانة في رواية ‘عائد إلى حيفا’ لغسان كنفاني.     
شخصية غسان كنفاني
غسان كنفاني أديب وناقد فلسطيني عاش القضية الفلسطينية بكل همومها وتجربتها المرة، وكتب عنها، وشهد في سبيلها. يُعَرّفه يوسف إدريس في كلماته: (إن غسان كنفاني أول كاتب في كل تاريخ أدبنا العربي يعيش قضية بلاده إلى حد الشهادة، لقد كانت قضية فلسطين موضوع حياة غسان، وموضوع كتابات غسان، وموضوع رواياته وفعاليات قصصه القصيرة، وكانت أيضا موضوع حياته وموضوع موته)[3]. فيعتبر غسان كنافني من المجاهدين الفلسطينيين الذين أثروا الثورة الفلسطينية، وترجموا القول إلى فعل وعمل حقيقي، وحولوا النظريات إلى ممارسات وأفعال على أرض الواقع[4]
غسان كنافني من مواليد 1936 في مدينة عكا الفلسطينية، وكانت ولادته حين كانت فلسطين تضطرم بالثورات والحركات المقاومية ضد الانتداب البريطاني. تعلم في مدرسة الفرير الفرنسية، فتعلم الفرنسية إضافة إلى الدراسة الابتدائة. وفي الثانية عشرة من عمره بدأ يجرب التجربية المضطربة في المنفى إذ  اضطر لمغادرة مسقط رأسه إثر النكبة في عام 1947، فهاجر إلى لبنان ثم إلى دمشق حيث استقر هنا، وأتم دراسته الثانوية مع جائزة التدريس من وكالة غوث اللاجئين الفلسطينين تحت رعاية هيئة الأمم المتحدة (United Nations Relief and Works Agency for Palestine Refugees (UNRWA)) في عام 1952م[5]. ثم عمل مدرسا في مدرسة اللاجئين. وفي نفس السنة التحق بجامعة القدس للدراسة العليا. أثناء دراسته في جامعة دمشق، انخرط في الحركة الوطنية العربية (Movement of Arab Nationalists – MAN)، لجنة يسارية العاملة للجامعة العربية، وحثه للمشاركة فيها جورج حباش[6].  وحين ما كان في الجامعة قد أعد أطروحته لشهادته الجامعية  بالعنوان ‘العرق والدين في الأدب الصهيوني’، التي أصدر من بعد دراسته الواسعة عن ‘الأدب الصهيوني’ في عام 1967م اعتمادا عليها[7] ،
وبعد خروجه من الجامعة سافر إلى الكويت وعمل هناك في التدريس وفي الأعمال الصحافية لجريدة "الرأي"، الجريدة الرسمية للحركة الوطنية العربية. وفي الكويت أيضا أعجب بفلسفة الماركسية وسياستها. وفي عام 1960م، عاد إلى بيروت وعمل محررا أدبيا لصحيفة ‘الحرية’، وفي عام 1963م، عمل كرئيس التحرير لجريدة مسيحية ‘المحرر’ وكذلك للأسبوعية باسم ‘فلسطين’.
وفي سنة 1967م أخذ يحرر في صحيفة مسيحية أخرى ‘الأنوار’ وصار رئيسا لتحرير أسبوعية هذه الجريدة. وفي هذه السنة نفسها، صار عضوا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (Popular Front for the Liberation of Palestine-PFLP)، فرع راديكلي للحركة الوطنية العربية. وعين متحدثا رسميا لهذه الجبهة.  وفي عام 1969م، استقال من صحيفة ‘الأنوار’  لتأسيس وتحرير صحيفة أسبوعية لهذه الجبهة باسم ‘الهدف’.  وقد ساهم في كتابة وصياغة برامجها. وطوال تلك الفترة كا نشيطا وفعالا في عمله ونضاله السياسي، وكان متدفقا في عطائه ككاتب مبدع وإنسان. واستمر في استيعابه لواقعه الفلسطيني العربي حتى اغتيل في انفجار قنبلة بلاستيكية مخفية في سيارته في صباح الثامن من يوليه 1972م، وهو في السادسة والثلاثين من عمره.
مؤلفاته الإبداعية:
مع أن غسان كنفاني انتقل إلى عالمه المستقر والهادئ في حيوية شبابته حيث أنه لم يعش إلا ستة وثلاثين عاما، أنه كان غزير الإنتاج، حيث ترك لتاريخ الأدب الفلسطيني إرثا لم يصنعه غيره في العمر القصير. ومن بين هذه المؤلفات الإبداعية (الروايات والقصص والمسرحيات) والدراسات القيمة الفريدة في الأدب الصهيوني وأدب المقاومة الفلسطينية والثورة الفلسطينية 1936 – 1939م. فله مجموعة من الروايات، وهي :  رجال في الشمس ( 1963)، ما تبقى لكم (1966)، أم سعد (1970)، عائد الى حيفا (1970)، الشيء الآخر (صدرت بعد استشهاده 1980)، العاشق (1966)، الأعمى والأطرش، برقوق نيسان 1971-72 (الروايات الثلاثة الأخيرة غير كاملة نشرت في مجلد أعماله الكاملة).  ومن المجموعات القصصية : موت سرير رقم 12(1961)، أرض البرتقال الحزين ( 1963)، عن الرجال والبنادق (1968)، عالم ليس لنا (1970). وقد ألف مسرحيات رائعة، منها: الباب ومسرحيات أخرى (1964)، جسر إلى الأبد (1965)، القبعة والنبي (1967). وقد ترك لنا دراسات قيمة مثل: أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948- 1966، (1966)، الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال (1968)، في الأدب الصهيوني (1967)، المقاومة ومعضلاتها (1970)، ثورة 36 - 49 في فلسطين: خلفيات وتفاصيل وتحليل (1972).
رواية ‘عائد إلى حيفا’
عائد إلى حيفا رواية (لا يتجاوز عدد صفحاتها السبعين) تعتبر من أبرز الروايات في الأدب الفلسطيني المعاصر. صدرت طبعتها الأولى في عام 1969م، وترجمت إلى العديد من اللغات مثل الانجليزية (1974) وإلى الفارسية (1991)، وإلى الروسية (1974). (وهي في نصها الفني عمل أدبي روائي، أما في نصها الإنساني أنها تجربة عاشها غسان كنفاني وعاشها كل فلسطيني، تجربة جرح وطن، وعذاب إنسان عانى قهراً وظلماً وحرماناً وتشرداً، إلا أنه دائماً وأبداً يحمل أمل العودة إلى ذاك الوطن الساكن في الوجدان)[8]
(إن رواية "عائد إلى حيفا"، أحد النماذج التي تؤشر إلى الوضع الفلسطيني المركب، والمعقد بتباين شتاته داخل الوطن وخارجه، حيث تنفتح المخيلة على أسئلةٍ طالما ركدت، بانتظارِ تغيير ما، يعيدُ ترتيب الأمور إلى نصابها الطبيعي)[9]
‘عائد إلى حيفا’ رواية تصور ضمير فلسطيني يضمر الرغبة للعودة إلى موطنه منذ عشرين عاما، ومع أنه لم يحاول أي محاولة لها حتى يقرر للعودة بعد نكسة 1967 وبعد أن سمحت قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة بالتجول بحكم أن المناطق كلها هي تابعة لدولة إسرائيل، وهو أيضا في شوق ولهفة أكبر مع زوجته إلى معرفة المصير الغامض الذي حل بابنهم الرضيع الذي ضاعه في فوضى النكبة 1947م.
يستخدم غسان في الرواية شخصيات فلسطنية من بينهم ‘سعيد’ الشخصية الرئيسية وشخصيات صهيونية من بينهم ‘دوف’ هو الابن الضائع لسيعد واسمه عند سعيد ‘خلدون’. ومن الشخصيات الأخرى فارس اللبدة فلسطيني الذي هاجر وعاد إلى موطنه إثر حرب 1967، وهذان الفلسطينيان لم يقاوما ولم يفعلا شيئا للوطن، بل رفض الأول انضمام ولده ‘خالد’ في الفدائيين، وشخصية صفية زوجة سيعد، وشريكه في العودة إلى الوطن، وفيها إشارات إلى شخصية بدر اللبد أخو فارس اللبد، وإلى شخصية خالد بن سعيد. ومقابل الشخصيات الفلسطينية يستخدم غسان كنفاني شخصيات يهودية في روايته هذه. (لقد اختار غسان رجلاً وامرأة من المهاجرين الأوروبيين الهاربين من مذابح النازية هما ‘ايفرات كوشن’ وزوجته ‘ميريام’. إنهما يهوديان عاديان وإن كانا يحملان مسؤولية الاستيطان في أرض على حساب أهلها فهما في نفس الوقت ليسا من عصابات الصهيونية، بل إن الحكم الصهيوني كان خدعة لهما بدرجة من الدرجات. إن ميريام البولندية الأصل ترى في الطفل العربي المقتول صورة أخرى من أخيها الذي قتله النازيون في اوشفيتز، وهي ترغب في العودة مرة أخرى إلى أوروبا)[10].
يلاحظ محمد محمود البشتاوي في هذه الرواية أن غسان كنفاني أتى فيها بنبوءة (لتعبرَ عن شعورٍ سادَ بعض الأدباء الفلسطينيين حينما عادوا بعد اتفاق أوسلو عام 1993م إلى مناطق الضفة الغربية!، وفوق هذا، فغسان الشهيد لم يعد، وإنما رسم في مخيلته شكلاً "للعودة الناقصة"!، التي كانت ضمن شروط الاحتلال)[11]
رواية عائد إلى حيفا في الصور الفنية الأخرى
صارت هذه الرواية مادة للإنتاجات الفنية المتنوعة من السينيما، والمسرحية، والمسلسل التلفزيوني. فقام المخرج العراقي ‘قاسم حول’ بإخراج فيلم باسم ‘عائد إلى حيفا’، يدور حول هذه الرواية، في إنتاج مؤسسة الأرض للإنتاج السينمائي عام 1981م. وحصد الفيلم أربع جوائز عالمية. وتم إنتاج فيلم سينمائي آخر مأخوذ عن نفس الراوية تحت اسم ‘المتبقى’  من إخراج إيراني وإنتاج إيراني سوري عام 1994م[12] .
والعمل الفني الثالث لهذه الرواية هو مسلسل تلفزيوني سوري عرض القضية الفلسطينية في بُعدها الإنساني، قام بإخراجه المخرج السوري باسل الخطيب. فالمسلسل يؤرخ ليوميات سقوط حيفا عام 1948 من خلال رصده لمصير عائلة فلسطينية (مأساة المدرس الفلسطيني سعيد وزوجته صفية) حيث تشتت وعانت من التهجير والنزوح والتشريد في المخيمات، وهذا حال كل الشعب الفلسطيني[13].
وقد تحولت هذه الرواية إلى مسرحية ميلودرامية لفرقة ‘طقوس المسرحية الأردنية’. والمسرحية من إخراج د. يحيى البشتاوي، وسينوغرافيا د. فراس الريموني، وإعداد وتمثيل غنام غنام، إدارة الإنتاج نبيل الكوني، وألحان مراد دمرجيان، وغناء سليمان عبود. أبدع الفنان غنام غنام من خلال تقديمه لكل شخوص العمل حيث ترك تأثيره الواضح على الحضور الكبير والذي بمجرد إشعال الأضواء في نهاية المسرحية كانت علامات الحزن والبكاء بادية على معظم الحضور[14].
مغزى الرواية
سعيد س وزوجته يصلان إلى حيفا، وهما صامتان لم يلفظا كلمة، وكانا قد يتكلمان عن كثير حتى وصلوا إلى حيفا، وهو يستذكر ماضيه، فجاءه الماضي فجأة حادا مثل السكين، كل شيئ في حيفا يذكره التجارب المرة، وعندما رأى صبيا يعبر الطريق أمامه جاء الماضي الراعب بكل ضجيجه، ولأول مرة منذ عشرين سنة تذكر ما حدث بالتفاصيل، وكأنه يعيش مرة أخرى، فاستذكر الفوضى إثر النكبة 1948، والحالات الرهيبة التي أدت إلى ضياع ابنه الصغير في شهره الخامس. ولما وصلت السيارة مكان بيته القديم أوقف السيارة في موقفها كعادته قبل عشرين سنة. تسلقا إلى بيتهما القديم، تسكنه اليوم ‘ايفرات كوشن’ و ‘ميريام’ اليهوديان، وخلال تحاورهما معها عَلِما أن ابنهما ‘خلدون’ الضائع يسكن عندهما، وقد تربى عند هذه العائلة اليهودية وصار جنديا في دفاع الجيش الإسرائيلي، وحمل من يوم ضياع حيفا اسم ‘دوف’.
ثم يشارك سعيد مع زوجته تجارب فارس اللبدة حين رجع إلى بيته في يافا بعد أن قضى عشرين سنة في المنفى في الكويت. وقد استأجر بيته عربي يافي فليسطيني الذي رفض أن يهرب من موطنه، فناضل واعتقل، وبعد أن سرح إطلاقه استأجر هذا البيت من الحكومة، لأن في هذا البيت صورة ‘بدر’ أخو فارس اللبد، الذي استشهد في سبيل الوطن. وهذه الصورة التي ظلت جزءا من حياة العربي المناضل لعشرين سنة مع زوجته لمياء وابنه بدر وسعد. أخذ فارس اللبدة الصورة ووضعها في السيارة ليرجعها إلى رام الله، وأثناء رجوعه إلى رام الله شعر بشعور غريب بأنه لا يستحق حفظ هذه الصورة عنده، فأمر السائق بالرجوع إلى حيفا، ودخل بيت العربي وأعطى هذه الصورة ورجع فارس وحيدا، إذ أنه يشعر أنه لا فائدة بمجرد حفظ هذه الصورة لتحل مشكلاتهم، أي لتحرير وطنهم ولبناء مستقبل حر. ثم همس سعيد بصوت لا يكاد يسمع (إنه يمحل السلاح الآن).
ولما رجع دوف إلى بيته، وقالت مريام (أريد أن أقدم لك والديك، والديك الأصليين) فاحمر وجهه وتغير لونه وقال: (أنا لا أعرف أماً غيرك ، أما أبي فقـد قتل في سـيناء قبل 11سنه ، ولا اعرف غيركما)، وقد وقع القول في سمع سعيد صدمة، ثم وقع بينه وبين سعيد محاورات قدم دوف خلالها عديد من الأسئلة تعجز أبويه من الجواب، وألقى كلمات شنيعة يدين أبواه لفرارهما تاركين طفلهما الرضيع، ولعدم محاولاتهما للعودة إلى موطنهما لنيل ولدهما منذ عشرين سنة. وقد رفض دوف للرجوع مع أبويهما الأصليين. وخلال كلماته عرف سعيد أن الإنسان نهاية أمره قضية. ولما علم سعيد أنه لا يرجع معه، وأنه يعمل الآن في قوات الاحتياط الإسرائلي قال سعيد له: (فقد تكون معركتك مع فدائي اسمه خالد سعيد، وهو ابني، قد التحق في الأسبوع الماضي بالفدائيين).  وأخيرا عاد سعيد إلى أهمية الجهاد في سبيل الوطن إذ أنه كان يمنع ابنه خالد من الالتحاق بالفدائيين، وها هو الآن يرجو التحاق ابه بالفدائيين من أجل الوطن.
عقدة الذنب وفكرة الإدانة في رواية ‘عائد إلى حيفا’
عقدة الذنب هي النواة المركزية في البناء النفساني لأبطال غسان كنفاني[15] خصوصا في رواياته الثلاثة الأولى (رجال في الشمس، ما تبقى لكم، عائد إلى حيفا). وتظل فكرة الإدانة مسيطرة على عقل غسان، وهي فكرة ذات علاقة وثيقة بعقدة الذب[16] . وعقدة الذنب كما أشرنا إليها في المقدمة شعور الفلسطيني بقصوره إزاء واقعه التاريخي. فإن ماضي الإنسان الفلسطيني هو عقدته.
(ولا يمكن لفلسطيني أن يتخطى عقدة ذنبه (ماضيه) إلا بالمرور عبر فلسطين، التي هي المطهر في نظر غسان)[17]. فلا عجب أن يستمد غسان مادة روايته من الواقع التاريخي الفلسطيني، فيصور عقدة ذنبه بسبب الهرب وعدم المحاولات للعودة إلى الموطن الحقيقي، في حين يحاول اليهودي دائما إلى الأرض الموعود المزعوم. ولا معنى ذلك أنه ينكر كل محاولات المقاومة وقيادة الفلسطييين الذين ضحو نفوسهم في سبيل الوطن. (فإذًا كانت روايته الأولى ‘رجال في الشمس’ هي الجحيم، والثاني ‘ما تبقى لكم’ هي المطهر، والثالث ‘أم سعد’ هي الفردوس)[18]
فرواية ‘عائد إلى حيفا’ طبعت أولا في عام 1969، أي في نفس سنة لطبع رواية ‘أم سعد’، لكن الأولى تتناول عقدة ذنب الفلسطيني في حين تتناول الأخرى الانقلاب الكبرى الذي طرأ على الحياة الفلسطينية إثر نشوب المقاومة، أي محاولة الفلسطيني للخلاص من عقدته طاهرا ومطهرا خلال المقاومات. (فعقدة الذنب هي ما يؤسس العلاقة التحتانية لرواية "عائد إلى حيفا"، وإنه لا يمكن أن توجد هذه العقدة إلا وهي في حالة تضايف مع فكرة الإدانة ومع الشعور بالتقصير)[19].
هذا الوعي بالقصور للفلسطيني الذي نجد ملامحه من بداية الرواية إلى نهايتها حيث لا تفرغ صفحة واحدة منه. فحينما وصل سعيد وزوجته صفية إلى مشارف حيفا، لم يستطيعا للتكلم وقد كانا يتكلمان كثيرا في الطريق قبل وصولهما إليه، ولكن لما وصلوا حيفا (...أحس أن شيئا ما ربط لسانه، فالتزم الصمت، وشعر بالأسى يتسلقه من الداخل. وللحظة واحدة راودته فكرة أن يرجع، ودون أن ينظر إليها كان يعرف أنها آخذة بالبكاء الصامت ...).( حين وصلا إلى مدخل حيفا ، صمتا معا ، واكتشفا في تلك اللحظة أنهما لم يتحدثا حرفا واحدا عن الأمر الذي جاءا من أجله!) فهذه هي اللحظة الأولى يشعر بعجزه.
عقدة ذنبه (ماضيه) تظهر الفينة وأخرى حادة مثل السكين، فيستذكر الفوضى إثر النكبة وهربه مع زوجته عاجزا لأخذ صبيهما ‘خلدون’ الصغير رغم محاولاته له (إنه ما يزال يذكر كيف أنه كان يتجه نحو البحر وكأنه محمول وسط الزحام الباكي، المذهول ، غير قادر على التفكير في أي شيء، وفي رأسه كان ثمة صورة واحده معلقة كأنما على جدار: زوجته صفية وابنه خلدون )، فيصور غسان هذا الفوضي الحقيقي والفوضى النفساني لسعيد تصويرا رائعا. ثم يصور الحالة الفوضى لصفية التي نزحت من بيتها ونسيت طفلها: (ليست تتذكر تماما، ولكنها تعرف أن قوة لا تصدق سمرتها في الأرض، فيما أخذالسيل الذي لا ينتهي من الناس يمر حولها ويتدافع على جانبي كتفيها وكأنها شجرة انبثقت فجأة في مجرى سيل هائل من الماء ، وارتدت هي الأخرى تدافع ذلك السيل بكل قوتها. وأمام عجزها وتعبها أخذت تصرخ بكل ما في حنجرتها من قوة. ولم تكن كلماتها الطائرة في ذلك الزحام الذي لا ينتهي لتصل إلى أي أذن. لقد رددت كلمة ‘خلدون’ ألف مرة، مليون مرة، وظلت شهورا بعد ذلك تحمل في فمها صوتا مبحوحا مجروحا لا يكاد يسمع. وظلت كلمة ‘خلدون’ نقطة واحدة لا غير، تعوم ضائعة وسط ذلك التدفق اللانهائي من الاصوات والأسماء).
وبعد عشرين سنة، وقبل أسبوع لرجوعهما إلى حيفا، تطلب صفية من سعيد للذهاب إلى حيفا:
("إنهم يذهبون إلى كل مكان، ألا نذهب الى حيفا" ؟.
وكان، عندها ، يتناول عشاءه، ورأى يده تقف تلقائيا بين الصحن وبين فمه . ونظر نحوها بعد برهة فرآها تستدير، كي لا يقرأ شيئا في عينيها، ثم قال لها:
"نذهب الى حيفا ... لماذا؟
وجاءه صوتها خافتا:
"نرى بيتنا هناك . فقط نراه".)
..... ("لا، لا أريد الذهاب الى حيفا، إن ذلك ذل، وهو إن كان ذلا واحدا لأهل حيفا فبالنسبة لي ولك هو ذلان، لماذا نعذب أنفسنا؟".)
وخلال هذه المحاورة يشير غسان إلى أن سعيد وزوجته لم يفكرا حتى الآن في العودة إلى حيفا، ولم يحاولا للقاء ابنهم الضائع. فعقدة أخرى تصورها غسان في هذه الكلمات. ونجد كثيرا من الأمثلة من الرواية تشير إلى عقد الذنب الفلسطيني، ولا تسع هذه الورقة القصيرة للإتيان بها كلها. 
ويدين سعيد (غسان) نفسه حينما ترجو صفية أن خلدون سيختار والديهما الأصليين، (..."ذلك خيار عادل ... وانا واثقة ان خلدون سيختار والديه الحقيقيين . لا يمكن ان يتنكر لنداء الدم واللحم") فيقول : ("أي خلدون يا صفية ؟ أي خلدون ؟ اي لحم ودم تتحدثين عنهما ؟ وأنت تقولين أنه خيار عادل ! لقد علّموه عشرين سنه كيف يكون. يوماً يوماً، ساعة ساعة، مع الاكل والشرب والفراش .. ثم تقولين : خيار عادل ! ان خلدون، أو دوف، أو الشيطان ان شئت، لا يعرفنا! أتريدين رأيي؟ لنخرج من هنا ولنعد الى الماضي . انتهى الامر . سرقوه.")
وصورة أخرى للإدانة على الفلسطيني الهارب في لسان العربي الذي استأجر بيت فارس اللبد الذي ترك بيته هاربا وانتظر للعودة إليه عشرين سنة، ("أنا من يافا. من سكان المنشية. وفي حرب 1948 هدمت قنابل المورتر بيتي. لست أريد أن أروي لك الآن كيف سقطت يافا. وكيف انسحبوا، أولئك الذين جاؤوا لينجدونا، لحظة المأزق. ذلك شيء راح الآن.. المهم أنني حين عدت مع المقاتلين إلى المدينة المهجورة اعتقلونا. وأمضيت فترة طويلة في المعتقل. ثم حين أطلقوني رفضت أن أغادر يافا، وقد عثرت على هذا البيت، واستأجرته من الحكومة". )
وتسيطر فكرة الإدانة على هذه الرواية في كلمات دوف نحو أبويهما البيولوجيين ("
بعد أن عرفت أنكما عربيان كنت
دائماً أتساءل بيني وبين نفسي: كيف يستطيع الأب والأم أن يتركا ابنهما وهو في شهره الخامس ويهربان؟ وكيف يستطيع من هو ليس أمه وليس أباه أن يحتضناه ويربياه عشـرين سـنه؟ عشـرين سنه؟ أتريد أن تقول شيئاً يا سيدي؟").
وهنا صورة يدين فيها سعيد نفسه بسؤال عن تعريف الوطن، فيوجه غسان هذا السؤال نحو الفلسطيني الحاضر ويدينه ("سألت : ما هو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة. أجل ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة ؟ الطاولة ؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة ؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ البنوة؟ ما هو الوطن؟ بالنسبة لبدر اللبدة، ما هو الوطن؟ أهو صورة أية معلقة على الجدار؟ أنني أسأل فقط".) نعم ليس الوطن تلك الأوهام وصور الشهداء، بل هي التي يبنيها أبناءها على مجدهم وجهدهم. فعلى الفلسطيني أن يعبر هذه العقدة خلال فلسطين لا خلال أي دولة خارجية.  
فعقدة الذنب وفكرة الإدانة تصل إلى قمتها في الرواية في المقطع الطويل الذي يقوله دوف في حواره مع سعيد:
("كان عليكم ألا تخرجوا من حيفا. وإذا لم يكن ذلك ممكنا فقد كان عليكم بأي ثمن ألا تتركوا طفلا رضيعا في السرير. وإذا كان هذا أيضا مستحيلا فقد كان عليكم ألا تكفوا عن محاولة العودة ... أتقولون أن ذلك أيضا مستحيل؟ لقد مضت عشرون سنة يا سيدي! عشرون سنة! ماذا فعلت خلالها كي تسترد ابنك ؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح من أجل هذا. أيوجد سبب أكثر قوة؟ عاجزون! عاجزون! مقيدون بتلك السلاسل الثقيلة من التخلف والشلل! لا تقل لي أنكم أمضيتم عشرين سنة تبكون!...الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين ولا تجترح المعجزات! كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقا صغيرا يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود ... ولقد أمضيت عشرين سنة تبكي... أهذا ما تقوله لي الآن؟ أهذا هو سلاحك التافه المفلول"). الحقيقة أن هذا صوت ضمير غسان نفسه. إن غسان يخاطب نفسه ويدينها، ويخاطب الفلسطيني ويدينه[20].
(فـ ‘دوف’ عقدة ذنب سعيد ورمزا للفلسطيني المهزوم، فإن خالد هو رمز المستقبل وخطة تجاوز العقدة). يقول سعيد ("أن دوف عارنا، ولكن خالد هو شرفنا الباقي"). فالحل الوحيد لتجاوز هذه العقدة حمل السلاح والمقاومة والدفاع عن الوطن، ومستقبل الفلسطيني في العودة إلى الوطن لا في المنفى، والعودة إلى السلاح لا إلى الدموع. فيرجوا سعيد أن يلتحق ابنه خالد مع الفدائيين، لأنه هو حبل المستقبل وشرف فلسطين.
خاتمة:
ونتيجة القول أن الرواية ‘عائد إلى حيفا’ من أبرز الروايات التي شهدت العالم الأدبي الحديث والمعاصر. فالروائي غسان كنفاني يدعو في هذه الرواية للعودة إلى السلاح لبناء فلسطين جديد حر، هذه هي الطريق الوحيد لتطهير عقدة ذنب الفلسطيني. والحقيقة أن عقدة الذنب وفكرة الإدانة لا تقتصر على لحظة واحدة في الرواية. وغسان كنفاني بارع في تصوراته لهذه الإدانة، فاستخدم الكلمات والتراكيب النفاضة إلى الداخل، والدافعة إلى العمل للمستقبل. ويذكر غسان بهذا الإنتاج الأدبي الرائع الشعب الفلسطيني أن الدموع وصور الشهداء مجرد أشياء لا تنتفع في شأن الفلسطين. وفي جهة مقالبة للإدانة وعقدة الذنب، يقدم غسان صورة إيجابية للشخصيات  الفلسطينية مثل بدر اللبد الشهيد في أجل الوطن، والعربي الفلسطيني المناضل والمقاوم، وخالد الفدائي الفلسطيني.
المصادر والمراجع
1.     إبراهيم، داود، غسان كنفاني- حياته وفكره، وكالة أبو عرفة للصحافة والنشر، القدس.
2.   غنام، محمد غنام، تطور المضامين الزمنية في أدب غسان كنفاني، جامعة القدس المفتوحة، رام الله، فلسطين، 2005.
3.     اليوسف، يوسف سامي، غسان كنفاني: رعشة المأساة، دار منارات للنشر، عمان – الأردن، ط:1، 1985،
4.     غسان كنفاني، en.wikipedia.org، 28/10/2009
5.     عاشور،رضوى، الطريق إلى الخيمة الأخرى: دراسة في أعمال غسان كنفاني، ط 1977
6.     عائد إلى حيفا، ar.wikipedia.org، 14/11/2011
7.     البشتاوي، محمد محمود، نبوءة غسان الأدبية واستشراف المستقبل في ‘عائد إلى حيفا’، www.adabfan.com، 16/09/2008، (14/11/2011)
8.              Abdul Malek, Kamal, The Rhetoric of Violence – Arab-Jewish Encounters in Contemporary Palestinian Literature and film, Ed 1, Palgrave Macmillan, England, 2005, P:36





 *   أ   ستاذ مساعد في العربية، كلية السيد بوكويا التذكارية الحكومية، بيرنتلمنا، ملابرم.
[1] غنام، محمد غنام، تطور المضامين الزمنية في أدب غسان كنفاني، جامعة القدس المفتوحة، رام الله، فلسطين-2005، ص 18)
[2] اليوسف، يوسف سامي، غسان كنفاني: رعشة المأساة، دار منارات للنشر، عمان – الأردن، ط:1، 1985، ص: 44.
[3] إبراهيم، داود، غسان كنفاني (حياته وفكره)، وكالة أبو عرفة للصحافة والنشر، القدس، ص:46
[4] غنام، 2005، ص:5
[5] . غسان كنفاني، en.wikipedia.org، 28/10/2009
[6] . المرجع السابق
[7] . Abdul Malek, Kamal, The Rhetoric of Violence – Arab-Jewish Encounters in Contemporary Palestinian Literature and film, Ed 1, Palgrave Macmillan, England, 2005, P:36.
[8] عائد إلى حيفا، ar.wikipedia.org، 14/11/2011
    9] البشتاوي، محمد محمود، نبوءة غسان الأدبية واستشراف المستقبل في ‘عائد إلى حيفا’، www.adabfan.com، 16/09/2008، (14/11/2011)
[10] عاشور،رضوى، الطريق إلى الخيمة الأخرى: دراسة في أعمال غسان كنفاني، ط 1977
[11] البشتاوي 2007
[12] عائد إلى حيفا، ar.wikipedia.org، 14/11/2011
[13] المرجع السابق
[14] المرجع السابق
[15] اليوسف، ص:06
[16] المرجع السابق، ص:43
[17] المرجع السابق
[18] المرجع السابق
[19] المرجع السابق
[20] المرجع السابق ص:44

مواضيع ذات صلة
الأدب العربي العالمي, دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات