ادعمنا بالإعجاب

غسان كنفاني: المقاومة بالأدب القصصي/بقلم: د/ ن. أ. محمد عبد القادر*



نشأ الأدب القصصي بمفهومه الحديث في الأدب العربي المعاصر في أواخر القرن التاسع عشر، وكان رائده الأول خليل بيدس ( 1875 – 1946م ) الذي ألف عددا من الأقاصيص والروايات، وترجم طائفة من الروايات لأعلام القصة الروسية أمثال بوشكين وتولستوي وغيرهما. ثم تطورت الأقصوصة والرواية  في فلسطين، واختطت نحو الرقي والازدهار في الشكل والمضمون على أيدي مجموعة من كتاب القصة الذين وقفوا على آثار خليل بيدس والذين تأثروا بفنه ونسجوا على منواله مقلدين أعلام القصة الغربيين في البناء الفني.
وفي الفترة ما بعد 1948م – وهي فترة المأساة – ظهرت في فلسطين مجموعات قصصية ممتازة استلهمت المأساة وما خلفته من الضياع والتشرد ومصارعة البؤس، وصورت ما لاقاه اللاجئون وهم يهيمون على وجوههم في البلدان لا يعرفون لهم هدفا ولا مصيرا. واستوحت القصة الفلسطينية في هذه الفترة جوانب البطولة والكفاح والتصميم على تحرير فلسطين على الرغم من الأهوال التي كابدها النازحون، والعواصف التي زلزلت حياتهم.  وكان أعلامها البارزون نجاتي صدقي (1905 -   )، ومحمود سيف الدين الإيراني (1914 –1974)، وسميرة غرام (1927 – 1967)، وغسان كنفاني (1936 – 1972)، ويوسف جاد الحق (1935-   ). وهذه القصة قد تميزت بجودة الأسلوب وبراعة التصوير واستلهام الواقع المر الذي عاناه أبناء فلسطين داخل الأرض المحتلة وأماكن نزوحهم. ولقد تبوأت القصة في الأدب الفلسطيني مكانتها في هذه الحقبة، وتألقت أسماء كتابها في سماء الفن القصصي، وجاوزت شهرتهم حدود فلسطين.[1]
أدب المقاومة
والمقاومة التي قام بها أبناء فلسطين داخل الأرض المحتلة قد اتخذت شكلها الرائد في العمل السياسي والعمل الثقافي في آن واحد، فإن شكل الثقافة المقاومة لم تكن أبدا أقل قيمة من المقاومة المسلحة ذاتها. ومن ثم قد قدم المثقفون العرب في فلسطين المحتلة في الفترة ما بعد 1948م نموذجا تاريخيا للثقافة المقاومة بكل ما فيها من وعي وصمود وصلابة، وبكل ما فيها من استمرار وتصاعد وعمق، على الرغم من أقسى ظروف القمع الثقافي التي تعرض لها الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة. فإن المقاومة الفلسطينية قدمت على الصعيدين الثقافي والمسلح نماذج مبكرة  ذات أهمية قصوى كعلامة أساسية من علامات المسيرة النضالية العربية المعاصرة. وإن أدب المقاومة الفلسطيني الراهن مثله مثل المقاومة المسلحة، يشكل حلقة جديدة في سلسلة تاريخية لم تنقطع عمليا خلال القرن الماضي من حياة الشعب الفلسطيني.
"ونرى أن أدب المقاومة في فلسطين المحتلة قد ربط ربطا محكما بين المسألة الاجتماعية والمسألة السياسية، واعتبرهما طرفين من صيغة لا بد من تلاحمهما، لتقوم بمهمة المقاومة. وقد مضى ذلك الأدب إلى أبعد من هذا حين أدرك في وقت مبكر الترابط العضوي بين قضية مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وبين قضايا التحرر في البلاد العربية وفي العالم. وعلى هذه الجهات جميعها خاض أدب المقاومة في فلسطين المحتلة معركة قاسية بكل التزاماتها، الالتزام بالقضية الوطنية، الالتزام الواعي، هو الإطار الذي استطاع أن يقود خطوات أدب المقاومة في فلسطين المحتلة نحو مسؤولياتهم دون أن يفقد أي بعد من أبعاده، وهذه الأبعاد على تعددها تدور في فلك واحد هو فلك المعركة ضد الاحتلال الإسرائيلي. وأدباء المقاومة في فلسطين المحتلة، أغلبهم قد مدوا التزامهم إلى ما هو أبعد من الحدود الفنية. إنهم كانوا منتسبين فعلا إلى الحركة الوطنية بصورة أو أخرى، ويناضلون من خلال تنظيماتها، ويذوقون في سبيلها أسباب سياسة القمع الإسرائيلية. فإن الأديب غسان كنفاني قد أودع في السجن مرارا، والشاعر سميح القاسم قد ذاق بدوره مرارة الأحكام العسكرية. وقد مارست الحكومة الإسرائيلية ضغطا متواصلا على شركة أهلية لتطرد من موظفيها الشاعر فوزي الأسمر بسبب شعره ونضاله السياسي معا، وتعرض الشاعر توفيق زياد للطرد من وظيفته، وكذلك توفيق  فياض وغيرهم."[2]
ولم تكتف الصهيونية بهذا النوع من القمع والاضطهاد، بل أبادوا فعلا عددا من أعلام الفن والأدب من أبناء فلسطين، حيث إنها كانت تضع أصحاب الفكر والقلم في مقدمة خصومها منذ بداية صراع الشعب الفلسطيني ضد قوات الاحتلال. وذلك لقيامهم بتوعية الجماهير وحثهم على المقاومة والدفاع عن الحقوق والتصدي للأفكار والنظريات الصهيونية المعادية للشعب الفلسطيني. فنرى سلسلة مستمرة من الاغتيالات التي تعرض لها الأدباء والفنانون والمفكرون في فلسطين[3]. ومن الأدباء الفلسطينيين الشهداء الذين ضحوا أنفسهم في سبيل الحق والعدالة والحرية، عبد الرحيم محمود، وكمال ناصر، وغسان كنفاني، وعبد الوهاب الكيالي، وراشد حسين، وناجي العلي، والكبيسي، وواغل زعيتر، وكمال عدوان. وتتصل بها محاولات اغتيال بسام أبو شريف، وشفيق الحوت، وأنيس صائغ وغيرهم.[4]
غسان كنفاني وحياته
أما الأديب غسان كنفاني، فهو الذي قد سقط شهيدا في الثامن من يوليو عام 1972م، على إثر انفجار قنبلة وضعتها الأيدي الأثيمة لعملاء الموساد الصهيوني داخل سيارته. ورغم أن من الصعب أن يقدم كنفاني في صفحات محدودة، هذه محاولة يسيرة لإشعاع أضواء طفيفة على بعض جوانب هذه الشخصية الواسعة الحجم، ذات الأبعاد المتعددة كاتبا وفنانا ومحاربا.
ولد غسان كنفاني في مدينة عكا في فلسطين في التاسع من أبريل عام 1936م، حينما كانت ثورة فلسطينية رئيسية ضد الانتداب البريطاني والاستعمارية الاستيطانية الصهيونية على ذروتها، تلقى دراسته في مدارس الفرير وفي مدينة يافا. ولما ألمت بفلسطين نكبة عام 1948م، استولت الصهيونية على مدينته ظلما وقهرا، مع أنها كانت من المناطق المخصصة لدولة فلسطين العربية حسب قرار التقسيم، وطرد منها أهلها بالقوة المادية أو الضغوط النفسانية. فنفي غسان وأسرته من فلسطين في يوم عيد  ميلاده الثاني عشر، والذي كان أيضا يوم مجزرة دير ياسين.
ومنذ ذلك التاريخ بدأ غسان عيشة لاجئ في المنفى، ولحق بأفراد أسرته في دمشق وعاش في شظف من العيش وقوة من الحياة، ولكن عزيمته لم تهن ولم تضعف على وجه هذه الظروف القاسية ولم تنقطع بها متابعة دراسته. واصل دراسته حتى المرحلة الثانوية، فأخذ يعمل للمعيشة ويتعلم في مدرسة ليلية وحصل على شهادة الدراسة الثانوية سنة 1955م.[5]
يقول غسان كنفاني نفسه عن هذه المرحلة من حياته: غادرت فلسطين حينما كنت في الحادية عشرة من العمر، وكنت أنتمي إلى عائلة من الطبقة الوسطى، وكان والدي محاميا، وكنت أدرس في مدرسة فرنسية تبشيرية، وفجأة انهارت هذه العائلة المتوسطة وأصبحنا لاجئين، فتوقف والدي فورا عن العمل بسبب جذوره الطبقية المتأصلة. أما نحن فقد باشرنا العمل كصبية ومراهقين كي نعول العائلة، وقد استطعت أن أتابع تحصيلي العلمي بنفسي من خلال عملي معلما في إحدى المدارس الابتدائية في القرية. وكانت تلك بداية منطقية ساعدتني على متابعة المرحلة الثانوية التي أنهيتها في تلك الأثناء. وبعد ذلك انتميت إلى جامعة دمشق قسم الأدب العربي لمدة ثلاث سنوات فصلت بعدها لأسباب سياسية، عندها سافرت إلى الكويت حيث مكثت طوال ست سنوات باشرت القراءة والتأليف هناك."[6]
سافر كنفاني إلى الكويت في عام 1955م، وعمل مدرسا في مدارسها لمدة ست سنوات التحق في غضونها بكلية الآداب بجامعة دمشق. وكان يجمع بين صعوبة العمل ومتطلبات الدراسة. وفي أثناء دراسته أخذ يعد بحثا لشهادته الجامعية موضوعه: "العرق والدين في الأدب الصهيوني"[7]. وفي نفس الوقت شارك في الأعمال السياسية وقضى أوقات الفراغ في القراءة العامة، لاسيما السياسة منها، وفي الكتابة والتصوير. وفي نفس العام الذي وصل فيه إلى الكويت أصبح عضوا في الحركة العربية الوطنية (  ANM ) وعمل لمجلة "الرأي" حيث نشرت واحدة من قصصه للمرة الأولى في سنة 1957.[8]
أما وظيفته التدريسية التي تطولت لثماني سنوات، فقد تركت انطباعا ثابتا على أخلاقه وشخصيته وأسلوبه وأطماعه السياسية، كما أن تجرباته الفردية والجماعية والتصورات التي التقطها والتأثيرات التي خضعت لها نفسه في خلال هذه الفترة قد زودته بمادة خاصة لقصصه في المرحلة الأولى. الآلام والمرارة، والأسى والحسرة، والشعور بالبؤس والحرمان، والحنين إلى الوطن، واشتياق للفداء والشهادة، وتمجيد الأبطال – كل هذه هي المظاهر التي اتسم بها هذه القصص وظلت موضوعاته الجوهرية.
وفي عام 1960 دعاه الحركة العربية الوطنية إلى بيروت ليعمل محررا أدبيا في صحيفة "الحرية" الأسبوعية التي كانت أرغنتها الرسمية، فقبلها وسافر إلى بيروت. ثم انتقل إلى صحيفة "الهدف" البيروتية وأصبح رئيسها التحريري. وفي سنة 1967 أخذ يحرر في صحيفة "الأنوار" ويكتب عمودا يوميا في صفحتها الأولى تحت عنوان "أنوار على الأحداث"، وقد خصصه لمعالجة القضايا العربية، وفي طليعتها قضية بلاده فلسطين. تزوج من سيدة دانماركية ( آن ) ورزق منها ولدين، هما فايز وليلى[9]. وكان مصرعه مساء الخامس عشر من يوليو سنة 1972 حيث اغتاله اليهود في بيروت وراح ضحية الغدر الآثم مأسوفا على شبابه ولم يتجاوز السادسة والثلاثين من عمره[10].
نشاطاته
وكان غسان عضوا بارزا في حركة الثورة الفلسطينية وكاتبا موهوبا ضحى نفسه من أجل تلك الثورة. وفي خلال الخمسينيات كانت مهماته الرئيسية أدبيا أكثر منها سياسيا. ثم صارتا عنصرين متكاملين متلازمين في خلال الستينات. يقول كنفاني: "أما موقفي السياسي فهو منبثق عن كياني روائيا. وبالنسبة لي ليست السياسة والرواية إلا جزءين مترابطين. وأود أن أصرح بأني قد صرت ملتزما بالسياسة من حيث إني كنت روائيا، وليس بالعكس."[11]
بالإضافة إلى مشاركته في كفاح شعبه الوطني التقدمي، قد نال كنفاني شهرة واسعة كأديب مبدع وناقد فن. وألف عشر روايات وعدة مجموعات أقصوصية ومسرحيات عديدة، وذلك في خلال بضع سنوات، مع أنه لم يكن كاتبا كامل الأوقات في يوم من الأيام. إنما جرى عمله الأدبي جنبا لجنب مع نشاطاته السياسية.
آثاره
قد عالج غسان كنفاني البحث والرواية رغم أنه كان مشغوفا بالقصص القصيرة، وأصدر طائفة من القصص والروايات التي عالج فيها مأساة قومه وكارثة بلاده. أما رواياته فهي: رجال في الشمس (بيروت، 1963)، وأم سعد (بيروت، 1969)، وعائد إلى حيفا (بيروت، 1970)، الشيء الآخر (صدرت بعد استشهاده في بيروت، 1980)، والعاشق، والأعمى والأطرش، برقوق نيسان (روايات غير كاملة نشرت في مجلد أعماله الكاملة)، والقنديل الصغير (بيروت). ومن مجموعاته القصصية: موت سرير رقم 12 (بيروت، 1961)، وأرض البرتقال الحزين (بيروت، 1962)، وعن الرجال والبنادق (بيروت، 1968)، وعالم ليس لنا (بيروت، 1970)، والقبعة والبني (بيروت، 1973)، جسر إلى الأبد ( بيروت، 1978)، القميص المسروق (بيروت، 1982). وله كتابان في دراسة حركة أدب المقاومة في الأرض المحتلة، هما: أدب المقاومة في فلسطين المحتلة ( بيروت، 1966)، والأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال (بيروت، 1967)، وكتاب عن الأدب الصهيوني اسمه: في الأدب الصهيوني (بيروت، 1967). وقد نال جائزة أصدقاء الكتاب في لبنان عن روايته "ما تبقي لكم" عام 1966، كما نال جائزة منظمة الصحفيين العالمية في 1974، ومنحه مؤتمر الأدباء الآسيويين الإفريقيين جائزة اللوتس بعد وفاته في 1975، ومنح اسمه وسام القدس للثقافة والفنون في 1990.[12]
رجال في الشمس
ظهرت أول روايات غسان كنفاني وأشهرها "رجال في الشمس" في عام 1963، ارتسم فيها واقعيا مصير ثلاثة أجيال من الفلسطينيين وكل واحد يحاول أن يجد لنفسه مستقبلا خاصا بالتخلص من واقعه الراهن وبمحو شعوره اليقظ. وهذه الرواية هي التي قد استخرج منها المخرج السينمائي المصري المشهور توفيق سليم السيناريو للفيلم "المخدوعون". مع أن هذا الفيلم قد حظر عرضه في بعض البلدان العربية على أنه ينقد نظامها الحكومي، نال شهرة واسعة وإعجابا وقبولا خارج البلاد العربية، وهي سينماء المشاركة والالتزام.[13]
ويمكن تلخيص قصة هذه الرواية كما يلي: أربع من اللاجئين الذين تشردوا في أمكنة مختلفة من الوطن العربي اجتمعوا في البصرة رغبة في تغيير واقعهم المؤلم وبحثا عن حياة جديدة في الكويت. حيث إنهم كانوا لا يستطيعون دخول الكويت بطرق مشروعة تعاملوا مع مهرب. وكان في العراق بعض السواق الذين يهربون المسافرين إلى الكويت، والثمن لهذه العملية غالبا خمسة عشر دينارا. وهذه الكمية كانت فوق ما يسع لهذه الزمرة من اللاجئين. فعرض عليهم واحد من السواق تهريبهم إلى الكويت بخمسة دنانير. أما مسيرتهم المخططة فكانت بواسطة ناقلة مياه، فعليهم أن يبقوا بقلب خزانها الفارغ لست دقائق عند عبور الحدود العراقية الكويتية. ولكن السائق لم يستطع إنهاء عملية التصديق على أوراقه والرد على مداعبات موظفي الجمارك السمجة بالسرعة المطلوبة، والجماعة تنتظر السائق في قلب خزان ناقلة المياه الفارغ والمكتوي بشمس الصحراء، فتنقضي نصف ساعة على هذه الحالة، ثم يفتح السائق باب الخزان في ممر في الصحراء ليجد الجماعة جثثا في داخله.[14]
المجموعات القصصية
وفي خلال الفترة ما بين عامي 1961 و 1965 أصدر كنفاني ثلاث مجموعات قصصية ورواية واحدة، وذلك بالإضافة إلى عدد من المقالات والدراسات الأدبية والسياسية. والمجموعة القصصية الأولى "موت سرير رقم 12" تحتوي على 17 أقصوصة وتعالج ذكريات الماضي وأملا في المستقبل، والموت الذي لا خلاص منه في نهاية الأمر. وجميع هذه القصص مصبغة بشعور المرارة، ويبحث فيها كنفاني عن مجتمع ملائم لنفسه ولأناسه. والأشخاص كانوا يعيشون تحت ظروف خاصة حيث تتعرض لكافة أنواع المحن والبلايا التي تفتن بها أمة في التشرد، كل شخص يسعى ليكتشف له مكانا في عالم خلو عن الحساسية.
والمجموعة الثانية "أرض البرتقال الحزين" التي أصدرها عام 1963، تحتوي على عشر أقاصيص، يدافع بها كنفاني عن شعبه، فقد سلك فيها طريقة المعالجة الصريحة المباشرة حيث يعترف بموقفه السياسي، والمناضلون يحضرون بأنفسهم على المشهد. ولا يعيش الأبطال منذ الآن في الذكريات فحسب، كما كان الأمر من قبل، إنما أخذوا يشاركون فعلا في تكوين واقع جديد.[15]
وفي مجموعة "عالم ليس لنا" تبدو القضية تسيطر على فكر القاص وأدواته، كما تزود قصصه بالطابع الإنساني، فالقصص في هذه المجموعة تدور كلها في فلك العالم المرفوض، والإنسان الفلسطيني لا يزال يعيش مع شعور عميق بغربته ونزوحه وفي عالم ليس له في الحقيقة، وربما كان هذا الإحساس مصدر جل شقائه وآلامه وتبعثره في البلاد، ولكنه رغم كل هذه الظروف القاسية لا يفقد الأمل عن المستقبل.
"غسان كنفاني تناول في أعماله القصصية كلها كثيرا من القضايا، لكنها في مجملها تدور في فلك القضية الأم، وقد بلورت معظم أقاصيصه واقع شعب فلسطين، ووقف على توقعات المستقبل، وبدا أنه يتخذ من الرمز على وجه التحديد وسيلة دقيقة من وسائل التعبير والتصوير، ولعل الرمز عند غسان كنفاني هو يمكننا تسميته بالرمز الواقعي، ولا يخفى في الوسط الأدبي والنقدي أن هذا المسار قد شكل اتجاها أدبيا فنيا، وكذلك اتجاها نقديا، يمكن أن نطلق عليه الاتجاه الواقعي الرمزي ، إذ إن عنصر الرمز في هذا الاتجاه لا يتحرك في دوائر سيريالية مبهمة، بل هو مستمد من واقع الإنسان بكل تناقضاته وتباين ظروفه."[16]
الواقعة الاشتراكية
أما مؤلفات كنفاني في الفترة ما قبل حرب حزيران، فكانت تميل إلى الواقعة الاشتراكية، وأحيانا تظفر بها كما يرى في روايته "أم سعد". وهذه الأم في الحقيقة رمز للمرءة الفلسطينية التي تقضي أيامها ولياليها في المخيمة المهلهلة لا تقي حرا ولا قرا، وتعيش عيشة الشقاء والبؤس والحرمان، وكذلك تتمثل سواد الشعب البسطاء الذين يتحركون ويحركون العالم. وفي روايته "ما تبقى لكم" التي أصدرت عام 1966 يصرح كنفاني لشعب فلسطين: "لن تضيعوا إلا أغلالكم، فعليكم أن تصوغوا أقداركم بأيدي أنفسكم، أو تبقوا عبادا حتى الأبد". نعم! الفلسطيني الذي ضاعت له أرضه، وضاعت داره، وضاعت أسرته، وضاعت كرامته، وحتى هويته! ما ذا يبقى له فيما بعد أن يخسره في الدنيا إلا عيشته الدنية البائسة الممزقة.
دخل كنفاني في مرحلة جديدة من التطور باستهلال الكفاح المسلح الذي قام به شعب فلسطين. منذ هذه الفترة لا يستهدف أبطاله الاستشهاد الفردي، وأناسه لا يرهقون أنفسهم سعيا وراء الخبز والهوية. أما الأبطال فيتلمسون الآن استراتيجية ثورية والشعب الفلسطيني يتطلعون إلى عملية ثورية جماعية. ويعلن كنفاني عن عالم مثالي لا يستطيع الإنسان أن يناله إلا بالتضحيات السخية. والإنسان الفلسطيني الذي قد استرجع حقوقه الوطنية سيكون له في هذا العالم دور مرموق ليلعب به. وقد استرسل كنفاني في إيقاظ شعور شعبه تجاه المشاريع الثورية التي أمامهم، ولم يزل خلال هذه السنوات كلها جسرا يربط عالم التشتت والتشرد مع عالم الثورة والتمرد.[17]
يقول الناقد الكبير الدكتور إحسان عباس: "من يقرأ قصص غسان كنفاني يدرك بدون عناء أن أشخاصه من أبناء الشعب البسطاء، وكثير منهم أطفال أو شبان يعملون بدافع من صدق الفطرة دون أن يبلغوا سن الحكمة، وليس فيهم من يحاول أن يفلسف الدور الذي يؤديه أو الغاية التي يسعى إليها، منهم من يضحي بحياته دون أن يمر بخاطره "لم؟"، ومنهم من يتحمل عبئ العائلة الكبيرة التي خلفها له أبوه، والتشرد معا دون أن يتذمر، ومع ذلك فإنهم في مثل هذه المواقف ليسوا سلبيين كما أنهم ليسوا أطهارا كالملائكة.[18]
أعماله النقدية
وفي المرحلة الأخيرة من حياته لم يكتف كنفاني بتأليف القصص والروايات، بل قام بمهمة جديدة، وهي اكتشاف الأدباء والشعراء الفلسطينيين في الأرض المحتلة وتعريفهم للعالم العربي، وتقديم نماذج من آثارهم الشعرية والقصصية والمسرحية. وعبر كتابيه في هذا المجال: "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة" و"الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948 – 1968" أصبح الشعراء أمثال محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد مثلا عليا لأدب المقاومة. إن هؤلاء الشعراء يمتلكون سلاحا حادا لا تستطيع الصهيونية أبدا أن تسلط عليه في محاولاتها الوحشية لمحو الكيان الفلسطيني. بل الهوية الفلسطينية بذاتها. ومن أجل إثبات هذه الحقيقة، أدرك كنفاني أنه لا بد من تقديم دراسة نقدية عن الأدب الصهيوني، فقام بها خطوة أخرى في إنكار الصهيونية.
ثم إن غساني قد قدم كمحلل سياسي عدة مقالات لنشرها في الصحف والمجلات حول الشؤون السياسية العربية على وجه الشمول، ولاسيما الأمور التي لها صلة بتطور حركة المقاومة الفلسطينية، يجدر منها بالذكر الخاص على سبيل المثال تأويله السياسي للثورة الفلسطينية ما بين عامي 1936 – 1939.
ولم يكتف كنفاني بإسهاماته في مجال الأدب فحسب، حيث طلع أعمال رائعة من ريشه بشكل الرسوم والتصاوير أيضا، ولا بد لها من اعتناء فائق ومعرض شامل ودراسة دقيقة.[19]
الخاتمة
الموت فاجأ غسان كنفاني في آونة مبكرة جدا، حيث إن عددا من أعماله لم تكتمل. حينما قضت القنبلة على حياته نهائيا كان يعمل على رواية جديدة. وكان فلسطين بالنسبة له مسألة الحياة والموت، وما استطاعت الصهيونية أن يملكه بأي وسيلة من الوسائل. ولما رأته قويا متينا راسخا كالجبل، فكروا في تدميره بديناميت. على كل حال، لا يمكن لأحد أن يهدم رجلا على قامته، الرجل الذي تجذر في وطنه المسلوب وقومه المتمرد بواسطة النضال الثوري والكفاح المسلح.
غسان كنفاني، العضو البارز في الثورة الفلسطينية والفدائي الذي كان سلاحه قلم حبر جاف، والذي كان معتركه صفحات الصحف والمجلات، آذى العدو وأجرحه كأنما هو نفسه كتيبة عسكرية. ولا شك أفكار الأدباء والمفكرين الفلسطينيين الشهداء أمثال غسان كنفاني وكمال ناصر وعبد الوهاب الكيالي ما زالت ولا تزال مدارس تنهل منها أجيال الشعب الفلسطيني حب الوطن والتمسك بالقضية والحقوق. ولا شك أن غسان كنفاني سيحيى فيما بين أمته رمزا ثابتا للبطولة والفداء والشهادة، وجمرة مشتعلة للتحرير والانقلاب، ولا تزال مبادؤه وآثاره شعارا ومنارا ومنهلا للأجيال القادمة من الشعب الفلسطيني الباسل في جميع مراحله النضالية حتي يتحقق النصر النهائي.
المراجع والمصادر
1)   فلسطين: تاريخها وقضيتها، مؤسسة الدراسات الفلسطينية
2)   الجانب الاجتماعي في الشعر الفلسطيني الحديث، د/ شحاده محمد عليان
3)   غسان كنفاني أديبا ومناضلا، د/ إحسان عباس
4)   الأدب العربي المعاصر في فلسطين، د/كامل السوافيري
5)   دراسات في النقد التطبيقي، د/ نضر إبراهيم عباس
6)   ويكيبيديا، الموسوعة الحرة ( إنترنت )
7)   The New Arab ( Journal), Feb – March, 1976





* أستاذ ورئيس القسم العربية، جامعة كاليكوت، كيرالا
 [1] الدكتور كامل السوافيري، الأدب العربي المعاصر في فلسطين، ص: 359 - 379
[2] الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال، غسان كنفاني، ص: 46
[3] فلسطين: تاريخها وقضيتها، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص: 142
[4] الجانب الاجتماعي في الشعر الفلسطيني الحديث، د\ شحاده محمد عليان، ص: 38
The New Arab ( Journal ), Feb – March 1976, P: 45, 46 [5]
[6]  غسان كنفاني: أديبا ومناضلا، د\ إحسان عباس، ص: 121 - 122
 [7] الأدب العربي المعاصر في فلسطين، د\ كامل السوافيري، ص: 38
The New Arab ( Journal ), Feb – March 1976, P: 46 [8]
[9]  غسان كنفاني، www.amazon.com
[10]  الأدب العربي المعاصر في فلسطين، د\ كامل السوافيري، ص: 38
[11] The New Arab ( Journal ), Feb – March 1976, P: 47
[12] غسان كنفاني، ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
The New Arab ( Journal ), Feb – March 1976, P: 47 [13]
[14] الأدب العربي المعاصر في فلسطين، د\ كامل السوافيري، ص: 381 - 382
The New Arab ( Journal ), Feb – March 1976, P: 47 [15]
[16] دراسات في النقد التطبيقي، د\ نضر إبراهيم عباس
The New Arab ( Journal ), Feb – March 1976, P: 48 [17]
[18] غسان كنفاني: أديبا ومناضلا، د\ إحسان عباس، ص: 14 - 15
The New Arab ( Journal ), Feb – March 1976, P: 46  [19]

مواضيع ذات صلة
الأدب العربي العالمي,

إرسال تعليق

0 تعليقات