ادعمنا بالإعجاب

الرجاء واليأس في الشعر العربي والفكر الإسلامي


د. عبد المجيد المدني*

حمدا وشكرا لمن بذكره تطمئنُّ القلوب، ولمن قال لعباده الذين أسرفوا على أنفسهم "لا تقنطوا من رحمة الله"، وصلاة وسلاما على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه الفائزين الذين رضيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ، وبعد :
فالعالَم ممزوج بالخير والشر، والحلو والمر، والرطب واليابس.  الأعمارُ تَفني، والأوقات تنقضي، وتقل المسافة بين الإنسان وبين الموت. أمّا الإنسان فمطالبه تتجاوز كلَّ حدٍ، لا يصبِر على ما يعاني من أزمة الحياة، وما فيها من خيرٍ وشرٍ، وأملٍ ويأسٍ، بل ألهاه التكاثر، والتنافس...  

فمن حق الشاعر أن يصوّر في شعره جميع هذه  الخوالج النفسية من رجاء ويأس، وفوز وفشل، وإيمان وشك، ولذة وألم، وغير ذلك من انفعالات وتأثيرات، كما من حقه إظهار الآراء نحو الحياة .
وهذا.. يزعم المتشائمون من الشعراء، أنّ الموت هو الخلاص السعيد من الحياة البغيضة، وما عالجوا في تأليفاتهم إلا البلاء والمحن، واليأس والقنوط، وحيرات مختلفة مخيفة، بل ما وجدوا في هذا العالم ما يُعزي ويُسلي، وما يسرُّ وما يُفرحُ... 
وليست هذه نزعة جديدة في الشعر العربي، كان بعض الجاهليّين مثل عدي بن زيد، والأعشى، من بعدهم أمثالُ ابن الرومي، وأبي العلاء المعري، يغنّون بما يتجرّع الناس من التعاسة والشقاء والإحساس العميق بالهمّ والغمّ.
وفي الشعر العربي المعاصر نرى جماعة من المثقّفين المتفاخرين الذين يقلّدون الغرب في شكل الأدب ومضمونه شبرا بشبرٍ، تعمّقوا في التشاؤم، فكان إمامهم عبد الرحمان شكري، وقد نشر سبعة دواوين، كلها مملوء بتشاؤم ممض يقود بني آدم إلى قلق ووتر .
أما المهجريّون  فاعتدوا كل حد في التشاؤم، تمثّل هذه النزعة سطور نسيب عريضة  :
لو كنتُ ربا في السماء عظيمــــــــا

بجميع أمر الكائنات عليمــا


لهبطتُ من عرشي إلى أرض الشقا

نحو ابن ادم من خلقت قديما


وطرحت نفسي عند موطىء رجله

وسجدت ثم لوجهه تكـــريما


ولبثت أغسل بالدموع كلـــــــــومه

وأزيده بتذللي تعظـــــــــيمــا


مستغفرا عن عيشة قسمت لـــــــه

منذ الخليقة لا تزال جحيمـــا


نترك هؤلاء المتشائمين، ونفتّش في المهجر، ممن ترك الوطن والأقرباء بسبب الاضطهاد من قِبل الحكام، ونزح وراء اللقمة إلى  أمريكا، وتجوّل في أطرافها المترامية ليل نهار، هل كان من بينهم  أحدٌ رضيَ وقنع بما قسّم الله له من خير وشرٍ، وآمن بأن الحياة في يد القضاء... .
حقا، نجد كثيرا من المهجريّين جعلوا التفاؤل محور كلامهم، فكانت أعمالهم الأدبية تقود الناس إلى الفرح والمرح، وإلى فلسفة حياتية مركزة على نبذ  العقل.
فنرى الشاعر المهجري أبا ماضي، يزخر شعره بالتفاؤل والإقبال على الحياة بإسباغ الجمال على البشر والطبيعة. قالت عنه فدوى طُوقان: إنني أرفع أبا ماضي إلى القمة ولا أفضّل عليه شاعراً عربياً آخر لا في القديم ولا في الحديث. فالشعر العربي لم يعرف له من نظير[1]، له ثلاث نواحي تجذب القارئ لقراءة قصائده، الناحية الأولى : ناحيته الإنسانية ، والثانية : دعوته إلى محبة الحياة ، والثالثة : وصف الطبيعة. وهذه بعض السطور من قصيدة  (لمَ تشتكي)
كم تشـــــتكي وتقول إنك معدم

والأرض ملكك والسما والأنجم


ولك الحقول وزهرها وأريجها

ونـــســـيمها والبلبل المترنـــــــم


والماء حولك فضــة رقراقـــة

والشمــس فوقك عسـجد يتضــرم


هشت لك الدنيا فمالك واجمــا

وتبسمت فعلام لا تتبســــــــــــم؟


إن كنـت مكتئباً لعز قد مضـى

هيهات يرجعه إليـك تنــــــــــــدم

أحبابنا ما أجمل الدنيا بكــــــم

لا تقبحوا الدنيا وفيها أنتـــــــــــم




وهذا مطلع قصيدة أخرى لإيليا ماضي :
                                                         أيهذا الشاكي وما بك داء     
                                                                             كيف تغدو إذا غدوت عليلا[2] 
وهذا سؤال نقدي من عودة الله منيع القبسي: أهذه القصيدة فلسفة للحياة أم دعوة إلى الدمار والفناء؟  "في رأيي، أنها دعوة إلى الدمار والفناء..." وقد ألح  أبو ماضي هذه الفكرة بأكثر من عشرة أبيات من القصيدة حتى لم يعد مجال للتأويل أو ادعاء المجاز في التعبير : من ذلك قوله:
وإذا ما أظلّ رأسك همّ

قصِّر البحث فيه كيلا يطولا


وقوله : ما أتينا إلى الحياة لنشقى

فأريحوا -  أهل العقول – العقولا[3]


هذه دعوة صريحة لنبذ التفكير وللعيش كما تعيش الطيور... وهذه النزعة وما ماثلها ليست بجديدة في الأدب العربي، بل نقرأ في المعلقات والدواوين القديمة والجديدة ما هو أفضح من هذا وذاك باسم الأدب والإبداع...  بل منهجنا الدراسي مليء بمثل هذا نثرا ونظما.
بعد هذه الجولة والمناقشات عن الرجاء واليأس في أبيات المتشائمين والمتفائلين نطلع على موقف الإسلام من الشعر وموقف الشعراء الإسلاميين من تصوير اليأس والرجاء ...  
إن الإسلام وقف من الشعر موقفا وسطا، وعده كلاما كأي كلام، فحسنه حسن وهو مقبول، وسيئه سيئ وهو مرفوض،  لا ولن يحارب الإسلام فنا من فنون الأدب. وكان النبي يشجع الشعر الجيد المنطوي على مثل عليا، وكان يستمع إليه، ويعجب بما اشتمل عليه من حكمة، حتى قال: "إن من البيان لسحرا،  وإن من الشعر لحكمه[4] " .
حقا  أدرك الإسلام قيمة الكلمة الشعرية وشدة تأثيرها، فاتخذها سلاحا من أسلحة الدعوة، وعدها نوعا من أنواع الجهاد، وأدرك ما فيها من تأثير سلبي،  فهذه  الآية القرآنية  صنفت الشعراء إلى فئتين، فئة ضالة،  وأخرى مهتدية، ( والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون[5])
فكانت الأعمال الأدبية  لهذه الفئة المهتدية الناجية  تقود الناس إلى السلامة والأمن، وإلى حقيقة الحياة، تداولوا النعمة والنقمة كجانبي نقدٍ واحدٍ للحياة الدنيوية؛ أوضح دليل لهذا قول الإمام الشافعي :
فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي

جعلت رجائي نحو عفوك سلما


تعاظمني ذنبي فلما قرنته

بعفوك ربّي كان عفوك أعظما


وما زلت ذا عفو عن الذنب سيدي

تجود وتعفو منّة، وتكرما


وهذا قول الشاعر:
يا ربّ إن عظمت  ذنوبي  كثرة

فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم


إن كان لا يرجوك إلا محسن


فمن الذي يدعو ويرجو مجرم؟


ما لي إليك وسيلة إلا الرجا

وجميل عفوك ثم إني مسلـــــم[6]


أكيدا؛ القلق وسوء الظن بالله علامة النفاق، الاطمئنان علامة الإيمان، وقد ميز الله بين المؤمنين والمنافقين في غزوة أُحد بقوله  تعالى: ( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ[7] ...). فلطم الوجوه، وشق الجيوب، وضرب الفخذ، وإهمال العبد لنظافة الجسد، وانصرافه عن الطعام حتى يبلغ حد التلف، كل هذا منهي عنه ومناف لعقيدة الإيمان بالقضاء والقدر.
والعبادات المشروعة في الإسلام كلها تمارين متكررة لتعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة، وأن يظل مستمسكا بهذه الأخلاق، متفائلا، مهما تغيرت أمامه الظروف. ويركز  الإسلام اهتمامه على تهذيب النفس الإنسانية قبل كل شيء؛ فنعلم أنّ لنا ربا له العظمة والكبرياء، وله العزّة والقدرة، ومنه الخير والشر، وأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرا، وأن دوام الحال من المحال، وأن المصائب لا تعد إلا أن تكون سحابة صيف لابد أن تنقشع وأن ليل الظالم لابد أن  يولي، وأن الحق لابد أن يظهر، لذا جاء النهي عن اليأس والقنوط ( وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ[8] ) أحبابنا نبذل جل جهدنا لتزيين الحياة الدنيوية خوفا وطمعا رافعين أيدينا إلى أرحم الراحمين؛ ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
المراجع
1.     إرشاد العباد إلى طريق الرشاد، للشيخ عبد الحميد كشك.
2.     أصول التربية الإسلامية، لعبد الرحمن النحلاوي.
3.     تجارب في النقد الأدبي التطبيقي من منظور إسلامي، لعودة الله منيع القبسي.
4.     تربية الأولاد في الإسلام، لعبد الله ناضح علوان.
5.     خلق المسلمين، لمحمد الغزالي.
6.     دليل السائلين، لأنيس إسماعيل أبو داود.
7.     الشعر العربي المعاصر، لشوقي ضيف.
8.     صحيح خطب الرسول، لإبراهيم أبو شادي.
9.     اللغة العربية وآدابها،        لدكتور رضوان .
10.                       منهج التربية الإسلامية،لمحمد قطب.




     *  أستاذ مساعد، قسم العربية، جامعة كاليكوت، كيرالا.
[1] . الشعر العربي المعاصر، شوقي ضيف، ص: 123
[2] . تجارب في النقد الأدبي التطبيقي من منظور إسلامي، عودة الله منيع القبسي، ص، 82
[3] .نفس المصدر، ص، 82 - 84
[4] . صحيح خطب الرسول، جمع وتحقيق، إبراهيم أبو شادي، ص، 53
[5] . سورة الشعراء، الآية، 224
[6] . دليل السائلين، جمعه أنيس إسماعيل أبو داود،ص؛ 285
[7] . سورة آل عمران: الآية 154
[8] . سورة يوسف: الآية : 87

مواضيع ذات صلة
الأدب العربي العالمي,

إرسال تعليق

2 تعليقات

أكتُبْ تعليقا