اللغة هي أداة التفاهم بين الناس
في منطقة من المناطق يكونون ما يسميه علماء اللغة جماعة لغوية. وعلاقة اللغة
بنفسية الأمة وشخصيتها علاقة وثيقة، حسبنا منها أن اللغة هي أداة التفكير، وسجل
التراث العلمي والأدبي للأمة، ووسيلة الإفصاح عن الأفكار والعواطف، والرابطة التي
تجمع المتكلمين بها في مظهر واحد من الفكر والوجدان والمعرفة، فيصيرون من هذه
النواحي العامة مثل الشخص الواحد. ولذلك قال هردر[1]
Herder في القرن الثامن عشر: إن اللغة
القومية بمنزلة الوعاء الذي تتشكل به، وتحفظ فيه، وتنقل بواسطته أفكار الشعب، وهي
التي تخلق العقل، أو – على الأقل – تؤثر في التفكير تأثيرا عميقا، وتسدده وتوجهه
اتجاها خاصا.[2]
إن مدى
الارتباط بين اللغة وبين الأمة، وبين اللغة وبين القومية، هو أمر لم يلحظه
المفكرون والفلاسفة الغربيون فقط، بل إن نظراءهم من العرب لاحظوا أيضا مثل هذه
العلاقة، بل وأكدوا جديتها وضرورة الاهتمام باللغة والحفاظ عليها. وصحيح أن القرآن
الكريم حافل بالآيات التي تبين هذا الارتباط بين اللغة وبين الأمة والقومية، كما
جاء فيه: "وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ[3]" و "[4]إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ
قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"، إلا أن اهتمام العرب بلغتهم كان واضحا منذ ما
قبل عهد الرسول عليه السلام. فقد كانت القبائل العربية – على اختلاف لهجاتها –
بحاجة إلى لغة واحدة توحد ألسنتها، فكانت اللغة العربية الفصحى الواحدة التي نظموا
شعرهم بواسطتها، وبها دبجوا خطبهم، وكتبوا نثرهم. وتجلى هذا الارتباط بشكل أكثر
وضوحا إبان عهد الخلافة الأموية حينما تم إرساء أسس الدولة العربية عبر تعريب
الدواوين، وصك العملة العربية لأول مرة. وحينما بدأت المحاولات العربية للانفصال
عن الدولة التركية بعد نضوج الفكر القومي عند العرب، ازداد التعلق باللغة العربية،
وأخذت المطالبة باعتمادها لغة رسمية في البلاد تقوى وتشتد.[5]
وحرص
كثير من الزعماء والمفكرين العرب في العصر الحديث على تأكيد أهمية اللغة وارتباطها
بالحركة القومية العربية. فقد أعلن جمال عبد الناصر[6]
أنه "كانت للأمة العربية دائما وحدة اللغة، ووحدة اللغة هي وحدة الفكر".
ويقول شكري فيصل[7]
مبينا أهمية العامل اللغوي في مجال حركة القومية: حين نتحدث عن الأخطار التي تتهدد
الحياة العربية من هذا الجانب أو ذاك من جوانب وجودها القومي أو وجودها الفكري، بل
إننا حين نتحدث عن الخصائص الرئيسية الكبرى التي يقوم عليها الوجود العربي في
جملته، تبدو قضية اللغة العربية وسلامة هذه اللغة والحفاظ عليها وتقديسها
والاعتداد بها من أولى القضايا التي لا يسع مفكر أن يسكت عليها أو يماري فيها.[8]
محاولات المستعمرين لنشر لغاتهم
ولأن
اللغة تلعب دورا ملحوظا في تكوين هوية الأمة وفي توحيد شعورها ووجدانها، كانت
القوات الاستعمارية تضع في مقدمة اهتماماتها أن تسلخ الأمم المغلوبة من لغتها.
يقول الأستاذ مصطفى صادق الرافعي[9]:
لا جرم كانت
لغة الأمة هي الهدف الأول للمستعمرين، فلن يتحول الشعب أول ما يتحول إلا عن لغته،
إذ يكون منشأ التحول في أفكاره وعواطفه وآماله. وهو إذا انقطع عن نسب لغته انقطع
عن نسب ماضيه، ورجعت قوميته صورة محفوظة في التاريخ، لا صورة محققة في وجوده. ومن
هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضا على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم
عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها.
والذين يتعلقون اللغات الأجنبية ينزعون إلى أهلها بطبيعة
هذا التعلق، إن لم تكن عصبيتهم للغتهم قوية مستحكمة من قبل الدين أو القومية،
فتراهم إذا وهنت فيهم هذه العصبية يخجلون من قوميتهم، ويتبرأون من سلفهم، وينسلخون
من تاريخهم، وتقوم بأنفسهم الكراهة للغتهم وآداب لغتهم ولقومهم وأشياء قومهم.
وأعجب من هذا في أمرهم أن أشياء الأجنبي لا تحمل معانيها الساحرة في نفوسهم إلا
إذا بقيت حاملة أسماءها الأجنبية، فإن سمى الأجنبي بلغتهم القومية نقص معناه
عندهم، وما ذاك إلا لصغر نفوسهم وذلتها."[10]
وفي العالم العربي قد بذل
المستعمرون جهودا كبيرة متنوعة ومتصلة لنشر لغاتهم، على أمل أن تحل محل لغة الشعوب
المغلوبة، فيندمج أهلوها بالمستعمرين، جاء في توجيه فرنسي صدر في أوائل أيام
احتلال فرنسا للجزائر "إن الجزائر لن تصبح فرنسية حقيقية إلا عند ما تصير
لغتنا هناك قومية، والعمل الجبار الذي يجب علينا إنجازه هو السعي لنشر لغتنا
الفرنسية إلى أن تقوم مقام اللغة العربية التي يتكلمون بها الآن" وجاء في
تقرير رسمي سنة 1849 م: لاننسى أن لغتنا هي اللغة الحاكمة... وأهم الأمور التي يجب
أن نعتني بها قبل كل شيء هو السعي لجعل اللغة الفرنسية عامة بين الجزائريين الذين
عقدنا العزم على استمالتهم إلينا، واقتدائهم بنا، وإدماجهم فينا، وجعلهم
فرنسيين"[11]
وقد انتهجت فرنسا كل الوسائل لفَرْنَسَة الشعب
في تونس وفي الجزائر وفي مراكش، فجعلت التعليم بالفرنسية في تونس، على أن تكون
اللغة العربية اختيارية يتعلمها من يشاء في غير أوقات الدراسة المقررة، ولم توافق
فرنسا على إدخال اللغة العربية في المواد الإجبارية إلا في أواخر العقد الرابع من
القرن العشرين. وجعلت الفرنسية لغة التعليم وحدها في الجزائر، ولم تكن اللغة
العربية تعلّم إلا في المدارس العربية، على حين أنها بذلت جهودها لتعليم اللغة
البربرية في كل المناطق وجعلها لغة أدبية. وطبقت في مراكش سياستها في تونس
والجزائر. وكذلك فعلت إنجلترا في مصر، فجعلت الإنجليزية لغة التعليم في المدارس
منذ المرحلة الأولى ما عدا دروس اللغة العربية، حتى بدأ التعريب سنة 1908، وكانت
سياستها قائمة على اضطهاد اللغة العربية وأساتذتها والقائمين على شؤونها.[12]
مؤامرات لتفكيك وحدة العرب اللغوية
حاول الاستعمار أن يفرق وحدة
العرب اللغوية، فدبر المكايد التي يخدعهم بها، ليستعيضوا عنها بلغات أجنبية، أو
بلهجات محلية عامية، بدعوى أن العربية الفصحى عاجزة عن مسايرة الحضارة ومواكبة
العلوم، وأنها السبب في تخلف أهلها، فيجب أن تندثر كما اندثرت السريانية
واللاتينية والإغريقية.
ففي سنة 1883 زعم (وليام ولكوكس[13])
في خطبة ألقاها بنادي الأزبكية أن المصريين عاجزون عن الاختراع، لأن اللغة العربية
الفصحى تعوقهم عنه، ونصحهم باتخاذ اللغة العامية أداة للتعبير الأدبي، واستشهد
بالأمة الإنجليزية قائلا إنها أفادت فائدة كبيرة منذ هجرت اللاتينية اللتي كانت
لغة الكتابة والعلم فترة من الزمن. وفي سنة 1901 ألف مستر (ويلمور) أحد القضاة في مصر كتابا، نصح
فيه المصريين بهجر اللغة العربية الفصحى والاعتماد على العامية في أدبهم. ثم أراد
المستعمرون أن يزيدوا الخناق ضيقا، وأن يلبسوا دعواهم كساء خداعا، فظهرت في مصر
دعوة إلى الفرعونية وراء ستار من تمجيد الماضي وإحياء آثاره وبعث أدبه، ودعا أصحاب
هذا الرأي إلى هجر اللغة العربية الفصحى، واصطناع العامية في الأدب والتأليف
والصحافة والتعليم والدواوين الحكومية. وفي الوقت نفسه روج الفرنسيون الفينيقية في
لبنان، زاعمين أن سكانه من أصل فينيقي لامن أرومة عربية.[14]
إشادة
الشعر الحديث باللغة العربية
إذا لاحظنا الشعر العربي الحديث
وجدنا أن هناك قصائد كثيرة يتغنى بعضها باللغة العربية رباطا وثيقا بين العرب،
ويشيد بعضها باللغة وسعتها ومرونتها، وبالثقافة التي عبرت عنها واستوعبتها، ويدفع
بعضها عن هذه اللغة ما صوب إليها من الاتهام، ويحذر الاستجابة لدعاوي الاستعمار
وأعوانه.
فأمير الشعراء أحمد شوقي[15]
قد تنبه إلى أن اللغة أقوى رابطة من روابط القومية، فأيأس الترك من محاولاتهم
تذويب العروبة في التركية، ونصح لهم أن يتعلموا العربية وأن يجعلوها لغة ثانية
لهم. قال في تحية للترك سنة 1901:
شمل اللغات لدى الأقوام ملتئم
والضاد فينا بشمل غير
ملتئم
فقرّبوا بيننا فيها وبينكم
فإنها
أوثق الأسباب والذمم[16]
وقال في قصيدته التي شكر بها
مكرميه بدمشق سنة 1935
ونحن في الشرق والفصحى بنو رحم
ونحن في الجرح والآلام إخوان[17]
ولما ضرب الأسطول الفرنسي دمشق
بمدافعه سنة 1926 واسى شوقي سورية، وبصّر السوريين بدسائس الاستعمار ومكره، ومهد
لها بالبواعث التي دفعته إلى نصحه الخالص، وكانت اللغة من هذه البواعث:
نصحت ونحن مختلفون دارا
ولكن كلنا في الهم شرق
ويجمعنا إذا اختلفت بلاد
بيان غير مختلف ونطق[18]
ويخاطب بدوي الجبل[19]
العرب في جميع أقطارهم، يدعوهم إلى الوحدة العربية، ويحاول تركيز الفكرة العربية
على أسس واضحة، ويتخذ من وحدة الأدب واللغة الدعامة الأولى لوحدة العرب، فيقول:
كل الربوع ربوع العرب لي وطن
ما بين مبتعد منها ومقترب
إن لم تكن وحدة الأنساب جامعة
فإننا جمعتنا وحدة الأدب
للضاد ترجع أنساب مفرقة
فالضاد أفضل أم برة وأب
تفنى العصور وتبقى الضاد خالدة
شجى بحلق غريب الدار مغتصب[20]
ووديع عقل[21]
وصف العربية بأنها معقل منيع، وطلب من العرب أن يبذلوا ما في وسعهم من جهد
لحفاظة لغة الضاد، فقال:
لا تقل عن لغتي أمّ اللغات
إنها تبرأ من تلك البنات
لغتي أكرم أمّ لم تلد
لذويها العرب
غير المكرمات
إن ربي خلق الضاد وقد
خصها بالحسنات
الخالدات
وعدا عاد من الغرب على
أرضنا بالغزوات الموبقات
ملك البيت وأمسى ربه
وطوى الرزق وأودى
بالحياة
هاجم الضاد فكانت معقلا
ثابتا في وجهه
كل الثبات
معقل رد دواهيه فما
باء إلا
بالأماني الخائبات
أيها العرب حمى معقلكم
ربكم من شر تلك
النائبات
إن يوما تجرح الضاد به
هو والله لكم يوم
الممات
أيها العرب إذا ضاقت بكم
مدن الشرق لهول العاديات
فاحذروا أن تخسروا الضاد ولو
دحرجوكم معها في الفلوات[22]
وعلي الجارم[23]
أشاد بالعربية، لأنها عنوان وحدة العرب، وأهاب بهم أن يكونوا جنودها، فقال:
وحبِّبوا لغة العرب الفصاح لهم
فإن خذلانها للشرق خذلان
قولوا لهم إنها عنوان وحدتهم
وإنهم حولها جند وأعوان[24]
ويقول من قصيدة أخرى عنوانها
(اللغة العربية ودار العلوم):
يا ابنة الضاد أنت سر من الحسـ
ن تجلّى على بني الإنسان
كنت في القفر جنة ظللتها
حاليات من الغصون دواني
لغة الفن أنت والسحر والشعـ
ر، ونور الحجا، ووحي الجنان[25]
وخليل مردم بك[26]
يرى اللغة العربية واسطة الوحدة وطريق التآخي، فنادى في العرب أن ينبذوا التقاطع
ويصلوا بين الأرحام، ونبه على أن الدين يوحد ولا يفرق، ويجمع ولا يشتت، على عكس ما
يرجف المستعمرون، فقال:
قالوا وفي الدين بون دون وحدتنا
إلى متى باسم هذا الدين
نقتسم
لئن أصروا على أهواء أنفسهم
لا الدين يبقى ولا الدنيا ولا
الشيم[27]
ويقول في قصيدة أخرى:
فيم التقاطع والأرحام واشجة
والدار جامعة والملتقى أمم
الله في قطع أرحام وفصم عرى
عهدي بها وهي وثقى ليس تنفصم
تأبى وشائج من قرباكم اشتبكت
أن ينقض العهد والميثاق
والذمم
أواصر عندنا من وصلها نعم
بقطع أسبابها تستنزل النقم
حصن من الشمل إن يفرع فليس لنا
والله من بعده يا قوم معتصم[28]
ويدعو فؤاد الخطيب[29]
العرب إلى التجرد من كل نزعة إقليمية والانصهار في الفكرة العربية الشاملة، يقول في
قصيدة نظمها في الفترة الثانية من الحرب العالمية الأولى:
الله أكبر تلك أمة يعرب
نفرت من الأغوار
والأنجاد
طوت المراحل والأسنة شرع
والبيض متلعة من الأغماد
ومشت على الأشلات مشية واثق
بالله والتاريخ والأمجاد
لبيك يا أرض الجزيرة واسمعي
ما شئت من شدوي ومن إنشادي
لك في دمي حق الوفاء وإنه
باق على الحدثان والآباد
أنا لا أفرق بين أهلك إنهم
أهلي وأنت بلادهم وبلادي
ولقد برئت إليك من وطنية
عرجاء، تؤثر موطن الميلاد[30]
وهذا الأمر هو الذي يؤكده عبد
الله يوركي حلاق[31]
إذ يقول:
كل قطر عربي وطني
رغم ما يفصلنا من تخم
لا تسل عن أرضه فهو أخ
عربي دمه مثل دمي[32]
ودعا بدوي الجبل[33]
إلى وحدة الوطن العربي، وجعل العربية أقوى دعائم هذه الوحدة:
كل الربوع ربوع العرب لي وطن
ما بين مبتعد منها ومقترب
إن لم تكن وحدة الأنساب جامعة
فإننا جمعتنا وحدة الأدب
للضاد ترجع أنساب مفرقة
فالضاد أفضل أم برة وأب
تفنى العصور وتبقى الضاد خالدة
شجى بحلقِ غريب العرب مغتصب[34]
ويقول الأستاذ عبد الغني سلامة[35]
من قصيدة "مصر والشعوب العربية" التي نشرت في مجلة الإذاعة في ديسمبر
سنة 1952:
إنما الشام والعراق ومصر
وبنو الضاد شعلة من طماح
فاض تاريخهم بمجد الأوالي
واستطاروا
الحروب ملء البطاح
ثم أهاب بالشعوب العربية أن تنهض
بتراثها وتجعل الوحدة شعارها، فقال:
فانهضي بالتراث يا أمم الضا
د تفوزي بأغنم الأرباح
واجعلي الوحدة الشديدة نبرا
سا يجلي لنا فسيح البراح
هيكل في بنائه عربي
صار صرحا في
ليلة أو صباح
إن شكا بالشآم قوم جراحا
شعرت مصر قبلهم بالجراح[36]
ولخير الدين الزركلي[37]
قصيدة نجد فيها دعوة صريحة إلى إقامة الوجود العربي السياسي على أسس قومية لا يجد
فيها الشقاق المذهبي سبيلا إلى التهديم، فالشاعر يصرح بأن العرب يعيشون اليوم في
عصر بنى فيه وجود الدول على أسس قومية، وبأن الأمم كلها أصبحت تبني كيانها على أسس
من أهمها اللغة.
وا شقوة العرب اللباب بما لهم
ورجالهم وفواضل الألباب
نزلو بكل تنوفة وتفرقوا
شيعا وأحزابا على
أحزاب
أيام حام الناس في وحداتهم
حول الدم الموروث والأصلاب
أيام قدّست اللغات وأصبحت
هي مرجع الأنسال والأنساب
أيام ألف كل شعب وحدة
موصولة
الأسباب بالأسباب
تشقى الجزيرة في تنابذ أهلها
وتبيت طعم بلى ورهن تباب
المذهب يتقاتلون وحولهم
ألب العداة تهم بالأسلاب[38]
ومحمد معمري الزواوي[39]
عدد من مفاخر العرب اللغة العربية، فقال:
تزينهم لغة تربو محاسنها
عن الجمال الذي تبعث الشهب
حسن انسجام إلى وجازة جمعت
في رقة كلَّ ما يزهى به
الأدب
كفى بها لغة القرآن مفخرة
لها الضمان بحفظ الله
مكتسب
كما توحد بالإسلام شملهم
زيدوا بها قوة يقوى به
الطلب[40]
لا غرو أن يدعي الليبي أن له
ماللعروبة من مجد ومن حسب
لديه من لغة القرآن مفخرة
تلوح كالدر والياقوت كالذهب[42]
والشعراء المسيحيون أيضا اتجهوا
إلى الإشادة بروح التضامن القومي وتناسي الخلافات المذهبية والتعالي عليها، كي يسد
على الأجنبي المتربص باب الإفساد والتفريق، كما نرى في الأبيات التالية لوديع
البستاني[43]،
وكأن الشاعر يخص بخطابه أبناء الأقليات أنفسهم ليحذرهم من أن ينخدعوا بأحابيل
الغرب قائلا لهم إن الغرب لا يعرف إلا مصلحته وإن كل العرب هم مسلمون في نظرهم.
أيها الناطقون بالضاد، صحوا
أيكم نائم وغير مفاق
صيحة الحق قد علت فاسمعوها
وصداها يرن في الآفاق
لا نصارى ولا دروز ولكن
أرض (سورية) وأرض (العراق)
كلنا مسلمون في مذهب الغر
ب، عداة منقوضة الميثاق[44]
إنا بنو لبنان ألوية العلا
والسابقون
السيف صدق مضاء
المنزلين الضاد أكرم منزل
والرافعين لها أعز لواء
ذبلت بأكناف المغول ونورت
بصوامع الرهبان والحبساء
وبظل مئذنة وباحة مسجد
فالعلم في لبنان شد ولاء
نهج البلاغة نهجنا وعليّه
ملك
البيان وسدرة الأدباء
صهر النبي وسيفه وربيبه
والمصطفى للوردة الزهراء
لغة بكوثرنا العباب عروقها
رويت فيا للزهر والأشذاء
لما استوت أرواحها وتشعبت
حمل النسيم الطيب للأرجاء
بعث أعاد إلى الرؤى غرناطة
في العز والمأمونَ في الزوراء[46]
دفاع عن الفصحى
تآمر المستعمرون على قطع الوشيجة
الوثقى التي تربط العرب على تباعد ديارهم وهي اللغة الفصحى، فدعوا إلى إيثار
اللهجات المحلية عليها، وروجوا لدعواهم بوسائل شتى، واتهموا الفصحى بأنها جامدة
عاجزة عن مسايرة الحضارة الحديثة، فهب الأدباء يذودون عن لغتهم ما يراد بها من
كيد، ويبصرون العرب بما يبيت لهم من شر، وحضوا قومهم على الاستمساك بلغتهم
الموحدة، وفندوا دعاوي الأعداء وأبطلوها.
فأحمد شوقي دافع عن الفصحى بأنها
وحدها هي القديرة على الافتنان الأدبي وعلى التعبير العلمي، وأنها لغة القرآن
الكريم والحديث النبوي الشريف، وأنها لغة صالحة للتعبير عن حاجات كل عصر إذا لقيت من
أبنائها رعاية تستحقها. فقال شوقي:
إن للفصحى زماما ويدا
تجنب السهل وتقتاد الصعابا
لغة الذكر لسان المجتبى
كيف تعيا بالمنادين جوابا
كل عصر دارها إن صادفت
منزلا رحبا وأهلا وجنابا
ائت بالعمران روضا يانعا
وادعها تجرِ ينابيع عذابا
لا تجئها بالمتاع المقتنى
سرقا من كل قوم ونهابا
سل بها أندلسا هل قصرت
دون مضمار العلا حين أهابا
غرست في كل ترب أعجم
فزكت أصلا كما طابت نصابا
ومشت مشيتها لم ترتكب
غير رجليها ولم تحجل غرابا[47]
ودافع حافظ إبراهيم[48]
عن اللغة العربية الفصيحة بقصيدته المشهورة التي نشرها سنة 1903، تحدث فيها على
لسانها بأنها مشدوهة مما تسمع من تهم ودعاوي، ثم صورت آلامها من بعض بنيها الذين
انخدعوا بدعاوي الاستعمار الباطلة، وردت على هذا الاتهام بسعتها للتعبير عن
موضوعات القرآن الكريم، وبعجبها من اتهامها بالعجز عن مسايرة الحضارة الحديثة مع
سعتها وكثرة وسائل تنميتها، فقال في مطلعها:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي
وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني
عقمت فلم أجزع لقول عداتي
ولدت ولما لم أجد لعرائسي
رجالا وأكفاء وأدت بناتي
وسعت كتاب الله لفظا وغاية
وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
ثم حذرهم تصديق دعاوي الاستعمار
والانخداع بدعايتهم المكثفة، فقال:
أيطربكم من جانب الغرب ناعب
ينادي
بوأدي في ربيع حياتي
ولو تزجرون الطير يوما علمتم
بما تحته من عثرة وشتات
ثم تعجب من الدعوة إلى إيثار
العامية عليها، وهي أخلاط وأمشاج، تشبه ثوبا كثير الرقع، وأخيرا ختمها بأنها إما
أن تحيا ويحيا معها قومها حياة كريمة عزيزة، وإما أن تموت، فيموتوا بموتها موتة لا
بعث بعدها:
أرى كل يوم بالجرائد مزلقا
من القبر يدنيني بغير أناة
وأسمع للكتاب في مصر ضجة
فأعلم أن الصائحين نعاتي
أيهجرني قومي – عفا الله عنهم -
إلى
لغة لم تتصل برواة
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى
لعاب الأفاعي في مسيل فرات
فجائت كثوب ضم سبعين رقعة
مشكلة الألوان مختلفات
إلى معشر الكتاب والجمع حافل
بسطت رجائي بعد بسط شكاتي
فإما حياة تبعث الميت في البلا
وتنبت في تلك الرموس رفاتي
وإما ممات لا قيامة بعده
ممات
– لعمري – لم يقس بممات[49]
ودافع عبد الله عبد الرحمن[50]
عن الفصحى، وسخر بالذين اتهموها بالعجز والقصور، وأرجه هذا إلى أنهم جهال بحقيقة
هذه اللغة، مبهورون بما عرفوا أو بما ادعوا معرفته من لغات الغرب، فقال:
لقد منيت أم اللغات بفتية
طَغام على
أعلامها تتمرد
وقد أشربوا حب الأعاجم فانبروا
إلى هذه الفصحى سهاما
تسدّد
تواصوا بشر وهو كتمان فضلها
وقالوا بأنا معشر لا نقلد
وقالوا: لقد ضاقت عن العصر حاجها وفي وجهها باب الثقافة يوصد
وقالوا بأنا أنجبتنا معاهد
وأوحت إلينا يا بني
العصر جدِّدوا
و ما هو تجديد فنكبرَ أمرَه
ولكن دعاوي منهم وتزيُّد
وهل ينبغي التجديد إلا لعالم
له في فنون الضاد رأي مسدّد[51]
ووجه العوضي الوكيل[52]
لوما أليما إلى الأستاذ جورج صيدح[53]
، لأنه جنح إلى التسهل في الاعتصام بالفصحى:
أحببت فيك الشعر صافي الجوهر
وكرهت فيك تعصبا للمهجر
دافعت عمن شعرهم ذو لكنة
والسالكين سوى الطريق الأيسر
والناطقين بغير منطق يعرب
وبغير ذوق يعربي أطهر
تأبى العروبة أن يكون لسانها
مستعمَرا بوساطة المستعمر[54]
واستنكر مصطفى صادق الرافعي[55]
من العرب أن يؤثروا على لغتهم لغة أجنبية، على حين أن لغتهم ينبوع ثرّ، ولها تاريخ
عريق في الثقافة والأدب، وهي كالذهب لا يعتريه صدأ:
أمّ يكيد لها من نسلها العقبُ
ولا نقيصة إلا ما جنى النسب
كانت لهم سببا في كل مكرمة
وهم لنكبتها من دهرها سبب
أنترك الغرب يلهينا بزخرفه
ومشرق الشمس يبكينا وينتحب
وعندنا نهر عذب لشاربه
فكيف
نتركه في البحر ينسرب
إذا اللغات ازدهت يوما فقد
ضمنت للعرب أي فخار بينها الكتب
وفي المعادن ما تمضي برونقه
يد الصدا غير أن لا يصدأ الذهب[56]
المراجع
1 د/ أحمد محمد الحوفي، القومية العربية في الشعر الحديث،
القاهرة، دار نهضة مصر
2 د/ أمجد الطرابلسي، شعر الحماسة والعروبة في بلاد الشام،
معهد الدراسات العربية العالية، جامعة الدول العربية، 1956
3 هيثم علي حجازي، الاتجاه القومي في الشعر السوري الحديث
1946 – 1980، عمان، دار القدس للنشر والتوزيع، 2004
4 يوسف عز الدين، الشعر العراقي الحديث وأثر التيارات
السياسية والاجتماعية فيه، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1965
5
موسوعة البابطين للشعر العربي الحديث، الكويت، مكتبة
البابطين
6
أحمد قبش، تاريخ الشعر العربي الحديث، بيروت، دار الجيل
7
أنيس المقدسي، الاتجاهات الأدبية في العالم العربي
الحديث
8
د/ أحمد أحمد بدوي، شعر الثورة في الميزان، مكتبة نهضة
مصر، 1958
9
سامي الدهان، الشعر الحديث في الإقليم السوري، معهد
الدراسات العربية العالية، جامعة الدول العربية، 1960
10
د/ إيمان بقاعي، في الأدب العربي المعاصر، بيروت، دار
الراتب الجامعية، 2007
11
www.almoajam.org
[5]
هيثم علي حجازي، الاتجاه القومي في الشعر السوري الحديث 1946 –
1980، عمان، دار القدس للنشر والتوزيع، 2004، ص: 28
[12]الحوفي،
ص: 20، 21
[13]
السير وليم ولكوكس (1852 – 1932): مهندس مدني بريطاني قام بالتخطيط
والإشراف على بناء سد أسوان بمصر
[20]
د/ أمجد الطرابلسي، شعر الحماسة والعروبة في
بلاد الشام، معهد الدراسات العربية العالية، جامعة الدول العربية، 1956، ص: 101
[27]
سامي الدهان، الشعر الحديث في الإقليم السوري، معهد الدراسات
العربية العالية، جامعة الدول العربية، 1960، ص: 103
[36]د/
أحمد أحمد بدوي، شعر الثورة في الميزان، مكتبة نهضة مصر، 1958، ص: 124، 125
[42]نفس
المرجع، ص: 30
0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا