ادعمنا بالإعجاب

الفكاهة في الشعر المصري قديما وحديثا ,د/ أن. أ. محمد عبد القادر

تعريف الإنسان بأنه حيوان ضاحك معروف من قديم الزمان وشائع في كافة البلدان حيث أنه يتميز بضحكه عن بقية الحيوانات  كما يتميز عنهم  بالنطق. والضحك من الطبائع البشرية تنزع إليه النفس الإنسانية فترفع عنه هموم حياته وتدفعه  للتفاؤل وللنظر ببهجة إلى المستقبل، وبه ينال الناس طمأنينة  وراحة وانشراحا للصدور. والإبتسامة  أداة للتحقيق التعاطف والتفاهم بين الناس مع ما فيها من أنواع كابتسامة  الملاطفة وإبتسامة السخرية وابتسامة الإغراء وابتسامة التشجيع.

أما الفكاهة، رغم أن هدفها الرئيسي إثارة الضحك، لا تهدف دائما للإضحاك فقط، بل انها يقوم بوظيفة النقد والدعوة الى الإصلاح. ومن خصائص أدب الفكاهة الخفة والظرافة ويشترط في الفكاهي  أن يكون صاحب ذكاء يجعله  يبحث عن الحيلة ويتدبر الخطط وينسج خطوطها. ويمتاز بنظره الثاقب وبموهبته الأصلية التي  تضفي عليه خفة ولطفا فتأتي فكاهته لبقة غير مصطنعة تقيض بالعذوبة.[2]
الفكاهة في الشعر
الفكاهة مازالت ولا تزال  من أغراض الشعر الملحوظة والمتميزة منذ عصر الجاهلي وتدل على معان مختلفة ومنها: المزاح ، والرجل الفكه هو الطيب النفس المُزّاح، يقال أفكههم     بملح الكلام،  أي أطرفهم، والإسم الفكيهة  والفكاهة. ومن معانيها " الدّعابة" وهي المزاح واللعب  والمضاحكة.. ونقيض الجد. وكذلك الهزل والهزالة من المترادفات للفكاهة، و"التهكّم" هو الاستخفاف والاستهزاء والعبث. و" السخرية" هي الاستهزاء" والسخرة والضحكة.
والشعر الفكاهي  تتراوح نماذجه بين  هذه الألوان اللطيفة الضاحكة ، فحين يتفيأ المزاح الدعابة والمضاحكة يمكن تعبيره عن لون آخر يتفيّأ التهكم والسخرية. وهو اللون الذي يطلق عليه  " شعر الهجاء" كما يمكن تمييزه أيضا عن شعر " المجون" ذلك أن الشعر يصدر عن الفكاهة "البريئة" (harmless) إن صح هذا التعبير من حيث تعبيره عن الخيال الخصب والقدرة المطلقة. وهو في ذلك يختلف عن الشعر الساخر في الهجاء من حيث المصدر والغرض، ذلك أن الهجاء يصدر عن السخرية المغرضة (tendentious) اذ هو يشبع في النفوس بعض الميول العدوانية أو الأغراض الشخصية، اذا استعرنا هذا التعبير عن " فرويد".
ولذلك يرى بعض الباحثين أن الشعر الضاحك حين يعتمد على الفكاهة البريئة، يعدّ ضربا  من الارتداء نحو مرحلة الطفولة بما فيها من حب لللعب ويتعلق باللهو وميل الى التسلية، على نحو ما يحدث بين الأصدقاء والاوداء من دعابة بريئة، تجعل من هذ الشعر مفاكهة يسر بها الشخص نفسه ويسر غيره من غير تعال أو خيلاء.2
في الشعر المصري
من الخصال الهامة التي تميز بها الشعر العربي في مصر أثناء العصور الوسطى  خصلة الفكاهة، إذ نجدها ظاهرة في نصوصه بل وفي أسماء شعرائه، فقد كانوا يلقبون بألقاب تدل على هذا الجانب في حياتهم. ومن المعروف أن مصر لم تتبين نفسها في تاريخ الشعر العربي إلا منذ عصر ابن طولون، وفي  هذا العصر نرى شعرائه البارزين منبوزين بألقاب ظريفة  غربية ومنها ‘الجمل الأكبر’ وهذا اللقب نفسه يدل على روح الفكاهة عند هذا الشاعار الكبير.  وجاء من بعده بقليل شاعر يسمى ‘الجمل الأصغر’ كما  كان شاعر الإخشيد سعيد الملقب بقاضي البقر، فقد كان يؤثره الاخشيد  لما فيه من الحلاوة والتندير والهزل. وهذه الخصلة تتضح  بأوسع مما اتضحت في العصور السابقة، فهناك شاعر لقب بالجهجهان وآخر بشلعلع وثالث بالكاسات ورابع بالوضيع، وخامس بالنّسناس، وسادس بابن مكنسة.3
 وهذه  الظاهرة لا تتوقف عند الألقاب فقط، بل آثار العصر الفاطمي نجدها تتسم بسمات الفكاهة في كثيرمن جوانبها، وعلى سبيل المثال إبن وكيع التّينسي أشهر شعراء مصر في أوائل هذا العصر نجده غارقا في تيار هذه الفكاهة، فقد روي له صاحب اليتيمة قصيدة مربعة تغزل فيها بغلام مسيحي كان مولعا به، وكان هو يهجره  ويتجنبه عنه، وقد وصف في بدء قصيدته تعلقه به وشدة غرامه، ثم تسرب إلى دعابته فاذا هو يحتج عليه بالمسيح وتعاليمه وما جاء في الأثر عن متى ولوقا ومرقس ويوحنا، ثم تهدّده إن هو استمر في هجره أن يرفع أمره الى الشماسمة، فإن هم لم  يردوه  اليه عرض مظلمته على الرهبان، فان ظل مقيما على جفائه عرض أمره إلى الأسقف، فإن لم يذعن شكاه الى المطران فأن لم يخضع بعد أنهى ظلامته الى البطريك.4
والروح الفكاهية تمتد إلى غيره من الشعراء  في العصر الفاطمي وقد كان لها آثارها في الحياة السياسة والاجتماعية فنجد في اشعار هذا العصر سخرية لاذعة بالحكام الجدد من الفاطميين وعلى سلوكهم ونسبهم،  كما نراها تتصل بإدارتهم وأعمالهم. ولما احتج المصريون على توظيف  هؤلاء الحكام لليهود في المناصب الكبرى قد اصطف معهم الشعراء ولعل أطرف ما وصلنا من هذا الاحتجاج ابيات نظمها أحد الشعراء وفيها يقول:
يهود هذا الزمان قد بلغوا               غاية آمالهم وقد ملكوا
العز فيه والمال عندهم                   ومنهم المستشار والملك
يا أهل  مصر اليّ قد نصحت لكم تهودوا قد تهوّد الفلك5
ولحسن الحظ لم يتهود عليه المصريون، بل عنفوا عل الفاطميين حتى أبعدوا اليهود عن    اعمال  الدولة  ودواوينها.
وفي أواخر القرن الخامس نجد شاعرا كبيرا من شعراء الفكاهة لقبه معاصروه بابن مكنسة، وقد رويت له قطع طريفة، فمن ذلك قطعة يشكو فيها  من بيته الضيق الوضيع الذي لن تدخله الشمس أبدا، وفيها يقول:
           لي بيت كأنه بيت شعـــــر                  لابن حجاج من قصيد سخيف
أين للعنكبوت بيت ضــعيف          مثله وهو مثل عقلي الضعيف
بقعة صد مطلع الشمس عنها       فأنا مذ سكنتها في الكســـوف
وشاعر فكه آخر من طراز ابن مكنسه قمر الدولة  ينتقد في شعره ابن أفلح الكاتب الذي كان لونه أسود:
هذا ابن أفلح كاتب                          متــــفرد بصفاته
أقلامه من غـــيره                                 ودواته  من ذاته
وكان ابن قادوس أهم الشعراء الفكهين في أواخر هذا العصر، وقد تشبث  بشاعر أسواني أسد هو الرشيد بن  الزبير صاحب كتاب " جنان الجنان ورياض الأذهان" فداعبه  كثيرا فيقول في شعره:
إن قلت من نار خلقت                    وفقت كل الناس فهــــما
قلنا صدقت فما الذي                    أطفاك حتى صرت فهما    
وقال في  آخر
ذوعارض كالغراب  لونا                  وشارب مثل  ريش ببغا
ويقول في رجل كان  يوسوس ويكبر كثيرا  في الصلاة ولا يزال كلما كبر شك في تكبيره فأعاده وكلما نوى شك في نيته فكررها:
مكبر سعين في مرة                               كأنه صلى على حمزة
كما يقول في بعض المنافقين في عصره:
                     حوله اليوم أناس                             كلهم  يزهى برائه
                    وهو مثل الماء فيهم                            لونه لون إنـــــائه
 اما العصر الأيوبي، على الرغم  مما شاع فيه من جد وحروب صليبية لا يخلو من عنصر الفكاهة وإن البهاء زهير كأن أحلى روحا وأخف دما من غيره حيث كان ينحو في شعره  منحى التفكه والتظرف، ومن هذ المنطلق هذه المقطوعة الفكهة التي يخاطب فيها  صديقا له بالمزاح:
           لك  يا صديقي بغلة                        ليسـت تساوي خـــردلة
تمشي فتحسبها العيو                      ن على  الطريق مشكلة
            وتخال مــــدبرة إذا                             ما أقبلت مستعــــــــجلة
مقدار خطوتها الطوي                 لة - حين تسرع-  أنملة
تهتز وهي مكانها                                   فكأنما هي زلـــــــزلة
ومن يتصفح أشعار هذا العصر يغرق في الضحك لكثرة المداعبات والفكاهات فيها، ولم يكن للشعراء  في أي مكان كانوا الا أن  يتحفوا  معاصريهم بنكتهم ونوادرهم  لم يقفو بها عند رفقائهم وأصدقائهم، بل تعدوهم إلى ساستهم وحكمائهم. ولما قتل  السلطان حسن الذي كان معروفا لمجونه و وخلاعه  وإدمانه على الكحول وحب الملاح تحكّم به بعض الشعراء  قائلا:
لما أتى للعاديات وزلزلت                 حقظ (النساء) وما قرا للواقعة
إن الشاعر استعان بهذه السور من القرآن الكريم ليعبر بها عما يريد من سخرية بالسلطان وسيرته. وقد كان الشعراء ماهرين في استخدام مثل هذه التورية البعيدة  فكثر سخريتهم بحكامهم كما قال شاعر في وزير يسمى  البباوي:
  قالوا البباوي قد وزر                       فقلت كلا لا وزر
           الدهر كالدولاب لا                            يدور الا بالبقر
ونلمح أشعة هذه التورية بادهة في صحف الشعراء جميعا لهذ العصر. وانظر الى برهان الدين القيراطي يقول:
وقد بلغ النيل ستتة عشر ذراعا فعم وادي الجيزة حتى صافح الهرم:
قالوعلا نيل مصر في زيادته            حتى لقد بلغ الأهرام حين طما
فقلت هذا عجيب في بلادكم         الى ابن ستة عشر يبلغ ( الهرما)  
وهاك نكتة طريفة لإبراهيم  المعمار يتهكم على شخص طلب إليه أن يصوم الأيام الستة البيض بعد شهر رمضان فقال ساخرا منه:
شهر الصيام تولى                              فراقه يوم عيدي
فقيل شيع بست                               فقلت أيضا (وسيدي)
ويتصل بها تورية أخرى لإبن نباتة، وهي لا تتصل بالصوم إنما تتصل بزوجه وأولاده إذ يقول:
لقد أصبحت ذا عمر عجيب        أقضّي فيه بالأنكاد وقتي
من الأولاد خمس حول أم             فوا حرباه من خمس ( وست)
ومن تورياته  الطريفة قوله في شخص  طلق زوجته  وكانت تسمى دنيا، فاستغل ابن نباتة اسمها في نظمه:
ظلمت دنياك وفارفتها                      ورحت لا (دنيا) ولا آخره
         وأهدى إليه  صديق آخر تمرا رديئا فكتب إليه بهذين البيتين:
   أرسلت تمرا بل نوًى فقبلته          بيد الوداد فما عليك عـــــــتاب
واذا تباعدت الجسوم فودّنا         باق ونحن على (النّوى) أحبابٌ
ومن أهم الشعراء الذين اشتهرو في العصر المماليك بالفكاهات  الشاعر الجزّار وكان يحترف  بالجزارة. وكان فكاهته من طراز آخر غير التورية إذ يستخرج منا الضحك على منزله وملابسه ومطاعمه وكل ما يتصل به، فهو يقول في وصف داره:
ودار خرا ب بها قد نزلت                ولكن نزلت الى السابعة
فلا فرق ما بين أنّي أكون                بها أو أكون على القارعة
تساورها هفوات النسيم                فتصغى بلا أذن سامــعه
وأخشى بها أن أقيم الصلاة           فتسجد حيطانها الراكعة
إذا ما قرأت إذا زُلزلت                    خشيتُ بأن تقرأ الواقعة
على هذا النمط كان يصف الجزّار ثيابه ومطاعمه وصفا تبدوا فيه روح التندر والفكاهة، وخاصة حين  يعرض لصنوف  الحلوى التي كان يسيل لها لعابه  ولعاب زوجته، ومنها قوله:
سقى الله اكناف الكنافة بالقطر وجـــــاد عليها  سكر دائم الدُّرِّ
وتـُباّ لأوقات المخلل إنها                    تمر بلا نفع وتحسب من عمري
ولي زوجة إن تشتهي قاهرية          أقول لها  ما القاهرية في مصر
وربما كان هذا النحوُ من الإعجاب  بالطعام هو الذي دفعه الى تسخر شخص بخيل طويلا في شعره يقول فيها:
لا يستطيع يرى رغيفا                     عنده في البيت يكسر        
فلو أنه صلى – وحا                         شاه- لقال الخبز أكبر
وقيل إنه بات ليلة في رمضان عند الوزير بهاء الدين بن حناّ فصلى عنده التراويح وقرأ الإمام في تلك الليلة سورة الأنعام- ومن المعروف أنها سورة طويلة- في ركعة واحدة، فقال يداعب بهاء الدين:
ما لي على الأنعام من قدرة             لا سيما في ركعة واحدة
فلا تسوموني حضورا سوى           في ليلة الأنفال و(المائدة)
ومن أظرف ما قدم الجزّار في هذا الباب  دعابته بأبيه إذ تزوج في شيخوخته زوجا غير أمه، فقال ممازحا:
تزوج الشيخ أبي شيخة                  ليس لها عقلٌ ولا ذهنٌ
لو برزت صوتها في الدجى               ما جسر تبصرها الجن
كأنها في فرشها رمة                           وشعر من حولها قطن
وقائل قال فما سنها                         فقلت ما في فمها سنّ
وهكذا  كان الجزّار يُضحك الناس من حوله على نفسه وعلى أهله فبالغ فيه إلى حد أن يخرج زوج أبيه في هذه الصورة المضحكة، مع أنه كان يميل في فكاهته إلى التهريج.
ثم نتقل من عصر المماليك إلى القرن التاسع الهجري حتى نلتقي بأكبر شخصية  فكهة وهو ابن سودون، ومما ترجم له  السخاوي أنه بدأ حياته جادا في تحصيل العلوم والفنون المعروفة لعصره وقد وظف إماما ببعض المساجد، ولكنه سرعان ما تعلق  بالهزل والخلاعة فذاع صيته في الآفاق وتنافس الظرفاء في تحصيل شعره. وقد استقر مكانه في الأدب بديوان طريف رائع سماه "نزهة النفوس ومضحك العبوس" واضح من هذا الإسم أنه ملأه بالدعابة  والفكاهة، و"يشتمل على أنواع من الأقاويل الهزليات" كما يقول هو نفسه في مقدمته، ويتضمّن خمسة أبواب: الباب الأول في القصائد والتصاديق، والباب الثاني في الحكايات الملافيق، والباب الثالث في الموشحات الهبالية، والباب الرابع في الدوبـيـت والزجل وأنواع من المواليا، والباب الخامس  في الطرف العجيبة والتحف الغريبة.
ومن طالع  ديوان ابن سودون  يجده يتبع في هزله  طريقة خاصة تقوم على عرض الحقائق مع ضروب من المفارقات  المنطقية،  وفي كثير من شعره  يراه مأخذ الجد  فاذا هو ينتقل فجأة  وبدون مقدمات إلى هزل خالص، وفي بعضه  يكتفي بذكر الحقائق ولكنها لا تسجل في شعره حتى نحس أنها  أخذت شكلا مضحكا على نحو ما نجد في قوله:
عجب عجب هذا عجبٌ                  بقرا تمشي ولها ذنــــبٌ
ولها في بزيِّرِها لـــــبنٌ                            يبدو للناس إذا حلـــــبوا
من أعجب ما في مصر يُرى             الكرم  يُرى فيه العنب
والنخل يرى فيه بلــــــــــح                      وأيضا ويرى فيه رطب
     والمركب مع ما قد وسقت              في البحر بحبل يسحب
        والناقة لا منــــــــــقار لها                        والوزة ليس لها قـــتب
لا بد لهذا من ســــــــبب                      حزّر بزِّر ماذا السبب؟
ولا يوجد في هذه القطعة شيء يضحك سوى ما استعان به من المفارقة، فإنه يبدأ بقوله  "عجبٌ عجب" وننتبه ظانين أننا  نستمع إلى عجائب فإذا هو لا يأتي  بشيء لا نعرفه، فهو يدعو الى العجب من أشياء معروفة لنا غير مجهولة، ولكنه يسوقها في صورة من التباله تجعلنا نحس عدوانا على منطقنا، وخاصة حينما نصل الى تعجبه من تلك الحقيقة المعروفة، وهي أن الناقة لا منقار لها، والوزة ليس لها قتبٌ، فقد قرن الناقة تلك الدابة الكبيرة  الى الوزة تلك الطائرة الصغيرة، ثم ذهب يقول في غفلة وتباله. إن الناقة لا منقار لها كأنه يظنها  من الطير، فهو يرى أجنحتها  ولكنه لا يرى منقارها! والشاعر هنا لا يضع أكثر من وضع الحقائق في غير نظام، فاذا هي تستوي في هذه الصور المضحكة التي تجعلنا نشعر كأن توازنها قد اختل، فنضطرب معها ونضحك في غير نظام. وهاك أبيات من قصيدة أخرى على هذا النمط:
إذا ما الفتى في الناس بالعقل قد سما    تيقن أن الأرض من فوقها السما
وأن السّما من تحتها الأرض لم تزل          وبينهما أشيا متى ظـــهرت ثرى
وإني سأبدي بعض ما قد علــــمته لنعلم أني من ذوي العلم والحـجا
فمن ذاك أن الناس من نسل آدم            ومنهم أبو سودون أيضا وإن قضى
       وأن أبي زوج لأمي وأننــــــــي                   أنا ابنهما والناس هم يعـــــرفون ذا
وكم عجب عندي بمصر وغيرها   فمصر بها نيل على الطين قد جرى
       وفي نيلها  من نــــام بالليل بـلـّه          وليست تبل الشمسُ من نام في الضحى
بها الفجر قبل الشمس يظهر دائما           بها الظهر قبل العصر قيل بلا مرا
 وفي الشام أقوام  إذا ما رأيتهم    ترى ظهر كل منهم وهو من ورا
  بها البدر حال الغيم يخفي ضياؤه          بها الشمس حال الصحو يبدو لها ضيا
وتسخن فيها  النار في الصيف دائما         ويبرد فيها الماء  في زمن الشــــــــتا
    وفي الصين صيني إذا ما طرقته              يطن كصيني طرقت سوا ســــــــــوا
  بها يضحك الإنسان أوقات فرحه           ويبكي زمان الحزن فيها إذا ابتلى
     ومن قد رأى في الهند شيئا بعينه             فذاك له في الهند بالعين قد رأى
  وفيها رجال هم خـــــلاف نسائهم              لأنهم تبدو بأوجـــــــههم لحى
  ومن قد مشى وسط النهار بطرقها         تراه بها وسط النهار وقد مشى
  وعشاق إقليم الصــــعيد بها رأوا         ثمارا كأثمار العراق لها نوى
  به باسقات النخل  وهـــي حوامل          بأثمارها قالوا يحركها الهوى
     وعنــــدي علوم بعد هذي كثيرة           تدل على أني  من الناس يا فتى
وما علّـــمتني ذاك أمي ولا أبي         ولا امرأة قد زوّجاني ولا حما
ولكنّني جرّبتها فعرفتـــــــــــها                  وحققتها بالفهم والحذق  والذكا
     فيا بخت أمي بي ألا يا سرورها         إذا سمعت أني  أفوق على جُحا
الفكاهة عند ابن سودون تستوي له على هذه الصورة المتناقضة فهو يبدأ حديثه  بأن الإنسان إذا سما  عقله أخذت تدخل عليه هذه اليقينيات من مثل أن الأرض من فوقها السماء وأن السماء من تحتها الأرض، وأن بين السماء والأرض أشاء متى انكشفت لنا  رأيناها. وليس هذا كل ما يقف عليه الإنسان حين سمو عقله، فإنه يقف أيضا على أن الناس من نسل آدم وأن أبا صاحبنا  زوج لأمه. ماذا من الجدة في هذه اليقينيات؟ إنها في الحقيقة لا تحتاج الى سموِّ في العقل وما يُشبه السمو، غير أن إن سودون يستغل ذلك نفسه  ليحدث لنا المفارقة حين نسمع  وصف هذه الأشياء وأنها تحتاج الى عقل راق، ثم نقرأ فاذا نحن أمام حقائق أولية.
وهذا هو التباين أو المفارقة التي تنبع منها فكاهة إبن سودون وأنها المفارقة تميزه من نظرائه الفكهين في الشعر العربي، بل في الشعر المصري نفسه. وقد كان إبن سودون يدمج في هذه المفارقة ضروبا من التباله وإظهار الغفلة كما مر في الأمثلة السابقة وعلى ما نجد في قوله:
البحر بحرٌ والنخيل نخـــــــــيلٌ            والفيل فيـلٌ والزراف طويلُ
والأرضُ أرضٌ والسماء حلافها      والطـــير فيما بيـنهن يـــجول
فاذا تعواصفت الرياح بروضة     فالأرض تثبت والغصون تميل
والماء يمشي فوق رمل قاعـــد           ويرى له  مهما مشى سيـــلول
وهو في مثل هذه الأبيات لا يأتي بشيء غريب ومع ذلك فإن شيأ من الضحك يلم بنا، لأن ابن سودون يجمع لنا فيها أقرب الأشياء في حسنا ويرويه في هذا النوع من البله والسذاجة.
في العصر الحديث                         
إن الشعر الضاحك حين يعتمد على الفكاهات البريئة يُعد ضربا من الإرتداد نحو مرحلة الطفولة بما فيها من حب للعب وتعلق باللهو وميل إلى التسلية على نحو ما يحدث بين الأصدقاء والأوداء من دعابة بريئة تجعل من هذا الشعر مفاكهة يسر به الشخص نفسه ويسر غيره في غير تعال أو خيلاء. ونرى عدة نماذج لهذا النوع في الشعر المصري الحديث ومن ذلك مداعبات أمير الشعراء أحمد الشوقي لصديقه الدكتور محجوب ثابت التي اشتهرت وذاعت لما فيها من خفة الروح وحلاوة التندر وبارع الفكاهة وتعدد الألوان.
ومنها ما قاله حافظ إبراهيم في صديقه الدكتور محجوب ثابت نفسه حينما كان في ضيافة سعد زغلول بمسجد وصيف سنة 1927 وكان الدكتور مشغولا بأمرين إذ ذاك: وزارة يتولاها وفتاة غيية من بيت عريق يتزوجها:
يرغي ويزبد بالقافات تحسبها         قصف المدافع في أفق البساتين
من كل قاف كأن الله صوّرها        من مارج النار تصويرالشياطين
يغيبُ عنه الحجا حينا ويحضره  حينا فيــخلط مخـــتلا بموزون
 لا يأمن السامع المسكين وثبته     من كردفان إلى أعلى فلسطين
بينا تراه يُنادي الناس في حلب     إذا به يتحدّى القوم في الصين
ولم يكُ ذاك عن طيش ولا خبل  لكنها عبقـــريات الأساطــــين
يبيت ينسج أحلاما مذهّـــــــــبة           تغني تفاسيرها عـن ابن سرين
طورا وزيرا مشاعا في وزراته          يصرِّف الأمر في كل الدواوين
وتارة زوج عـــــطبول خدلّجة            حســــــناء تملك آلاف الفدادين
يعفى من المهر إكراما للحيـته         وما أظــــلته من دنيا ومن دين
كان الدكتور محجور ثابت حريصا على النطق بالقاف، وكان طموحا إلى أن يتولى وزارة الصحة، وكان في حديثه يتنقل من موضوع إلى موضوع، كما يقول معاصروه وجلساؤه. لكن حافظا ضخم وبالغ وحول فجعل الوصف دعابة مضحكة.
ومن المناسبات التي خلقها الشعراء المرحون بمناسبة  ضيق النفوس وغلاء الأسعار في الحرب العالمية الثانية مناسبة "خروف العيد". وفي يوم من أيام الأضحى أرسل الشاعر محمد  الاسمر الى الشاعر الضابط عبد الحميد فهمي مرسي يستهديه أو يستعيره خروفا، وكان الرسول أو الرسالة قصيدة فكاهية يقول الأسمر في بعض أبياتها:
إن كان"ذو القرنين" عندك حاضرا           فابعث به لنرى ضـياء جبينه!
ولكي نشاهد حسنه وجماله           ونرى اقتدار الله في تكــوينه!
ولكي يجاوب- لو يمأمئ مثله           في بيت جاري- مأمآت قرينه!
وليعلم الجيرانُ أجمعُ أنني              إن جاء عيدٌ لم أضق بشؤونـه
وجاءت الخراف من الشاعر الكريم عبد الحميد فهمي مرسي على سبيل الهدية إلى الشعراء الأسمر، وعلى الجندي، ومحمد عبد الغني حسن. ويظهر أن رحلتها من المنيا إلى القاهرة قد أنهكتها، وأضوت أجسمها، فاتخذ الشعراء المهدى إليهم من هذا الموقف موضعا للشعر الفكاهي الذي اشتغلت جريدة الأهرام بنشره على أيام. وكان مما قاله الأسمر:
أربعٌ أقـــبلتْ، فقلتُ خرافٌ             ما تراه العــيونُ أم أطــــيافُ؟
كان منها لنا خروف عجيب            هو من فرط ضـــــعفه شفّـافُ
لاح كالوهم بل هو الوهم يمشي    لا خروف جاءتْ به  الأريافُ
وكان مما قاله محمد عبد الغني حسن:
وصل الخروف وقد حسبتك مازحا          فلذاك قد بالغت في تسمينه
الله زيّـنه بكل جميلة                        وجميلُ صنعكَ زاد في تزيينه
أما الشاعر على الجندي فقد استقبل الخروف المهدى إليه بقوله:
أ خرافٌ هاتيك أم أنقافُ              نبئونا عسى يزول الخلافُ
مسها الضر والهزال فراحت          تتـــهادى كأنهـــــا أطياف
قد رآها الجزّارُ فانتابه الغشــ         ـيُ وخفّتْ لحمله الإسعافُ
هل سمعتم أو هل رأيتم خرافا     لا لحوم بها، ولا أصوافُ؟
وفي يوم من الأيام تلقى خليل مطران دعوة إلى الغداء من أحد أصدقائه وقد كتب على البطاقة "حمل وادع ينتظركم على ضفاف البردوني"، لكن خليل مطران من أجل مرضه كان ممنوعا عن الطعام فكتب إلى صاحب الدعوة:
أوشكت من جوع أهلل عندما      حمل الرسول إليّ أنــــــباء الحمل
فبحق وُدِّكم لو أني قادرٌ                 لدرجــتُ أنحو نحوكم درج الحجل
لكنني لا أستطيع وإن لي                 عذرا ولي من رفض دعوتكم خجلٌ
دمتم ودام الأفضلون ضيوفكم    في غبطة أبد الأبيد وفي جــــــــذل
ومرة قال حافظ إبراهيم مداعبا أحمد شوقي:
يقولون إن الشوق نارٌ ولوعة ٌ        فما بالُ شوقي أصبح اليوم باردا
فأجابه شوقي:
وأودعتُ إنسانا وكلبا وديعة          فضيعها الإنسان والكلبُ حافظ
وقد يأتي الشعر الفكاهي  على سبيل الأصالة في النظم أو على سبيل المعارضة المناقضة لشعر قديم مشهور. وقد برع في هذا الشاعر محمد الههياوي، والشاعر حسين شفيق المصري وهل تفوتنا هنا معارضة حسين شفيق المصري لقصيدة النابغة الذبياني التي مطلعها:
يا دار ميّة بالعلياء فالسند             أقوت، وطال عليها سالف الأمد
فجعل الشاعر حسين شفيق المصري موضوع معارضته مغالاة الآباء في جهاز العروس حبا في الظهور، فقال:
راحوا لبيع نحاس البيت تكملة    لأجرة التخت غنّــــي ليلة الأحد
أبوك يا بنت مسكين يموت غدا  من غيظه، أو يبيع البيت بعد غد
هذا الجهاز رهنا كي نجيئ به           أطياننا، وصبـــحنا أفقر  البلد
لكنها أمها قالت: أتفضحنا؟            لا بد من دعوة الأعيان والعمد

قال البارودي في جارة وعيالها الذين يقلقون راحته:
إلى الله أشكوا طول ليلي  وجارة    تبيت الى وقت الصباح بأعــوال
لها صبية لا بارك الله فيهم             قباح النواصي لا ينمن على حال
فيا رب هب لي من لدنك تبصرا   على ما أقاســــيه وخذهم بزلزال
والشاعر الخفيف الروح حفني ناصف يصف مداعبا  تلميذه المحامي عبد السلام فهمي وكان شديد السمرة، فيقول:
سلامٌ على عبد السلام ولعنة        من الله تترى كل يوم وليلة
أرى وجهك الكبسي ينضح سيرجا ومبسمك الألمعي يجاري الطحينة
والشاعر الخفيف الظل محمود غنيم يصوّر صاحبا له  ضخم الأنف قائلا:
لي ضاحبٌ ظـــــله خفيفٌ                  لأنـفه  دانت الأنــــوف
أنــــف له قمة وسفــــــــحٌ                       فيه المغارات والكهوف
إن قامت الحربُ غاب فيه             من خوف غاراتها ألوف
سألته: أهو صــــــنع ربي                       فقال: لا ، بل بناه خوفو
وقال حافظ إبراهيم في بائع  كتب صفيق:
أديم وجهك يا زنديق لو جعلت    منه الوقاية والتــــجليد للكتب
لم يعلها عنكبوت أينما تركت       ولا تُخاف عليها سطوة اللهب
الشاعر عباس محمود العقاد يقول في قصيدة عنوانها ‘في ثقيل’:
رسخت على الثرى عرضا وطولا    تزول الراسيات ولن تزولا
ملكت مذاهب الدنيا علينا            فهل أبقيت لـــلأخرى سبيلا
عد منك من فتى لو كان يضني      بثـــقلــــته فتى لقضى قتيلا
يموت الناس من داء وهذا             يميت الداء والموت الوبيلا
ولو ألقى الضياء على جدار            له ظلالا لأوشك أن يميلا
ويقول ساخرا من أحدهم:
لا تغرنّك منه إطراقة الرأ               س فلـــيس لراسه أفــــكارٌ
أشبه الخلق بالمفكر إطرا                قا لدي يأكل  الشعير حمار
رأسه مطرق وفيه خشوعٌ                وهو للجهل رمزه المستعار
وقال على الجارم في ثقيل:
تـُبـــاله من ثـــقـــيل                                 دما وروحا وطينه
          لو كان من قوم نوح                         لما ركبت السفينه
سأل حافظ إبراهيم محمد إمام العبد وكان أسود اللون: لماذا لا تتزوج؟ فقال العبدُ:
يا خليلي وأنت خير خليل                لا تــنم راهبا بغير دلــــــيل
أنا ليلٌ وكل حسناء شمسُ             فاجتماعي بها من المستحيل
اتهم الشاعر محمود غنيم صديقه محمد الأسمر بأنه بخيل بأسلوب فكاهي قائلا:
صم إذا ما الضيف جاءك             وامنح الضيف عشاءك
واجعل الصوف غطاء الضيـ          ـــف والسقف غطـاءك
يا صديقي قد فحصنا                     ك فكـان البـــخل داءك
خذ نقيع الجود واشر                     به تــــجد فــيـه دواءك
       أنت بالبخل مريضٌ                         نســـأل الله شــــفــاءك 
فرد عليه محمد الأسمر قائلا:
يا صديقي أنت في شعـ                    ـرك لم تــلبسْ رداءك
يا كريم العصر ما أجـ                      ـمل في الجود ادّعاءك
قد عرفــــناك صغيرا                          وتـبــيـــنـّا ســـخــاءك
فاحمدِ الله على الست                    ــرولا تكشف غطاءك
     صرت محمودا جديدا                    بعـد ما داويــتَ داءك
        فأطــــــال الله للــجو                         د الكلامي بـــقــــاءك
               




[1] بروفيسور، قسم العربية، جامعة كاليكوت

مواضيع ذات صلة
الأدب العربي العالمي,

إرسال تعليق

0 تعليقات