ادعمنا بالإعجاب

حضور المرأة في مجال العلم؛ رواية الحديث النبوي نموذجا

محمد ضـياء الدين الوافي، كنّيالا
لقد اهتم الإسـلام بتعليم المرأة اهتماما فائقا بالغا إلى الذروة والسـنام، واعتنى بتأديبها وتربيتها عناية موافقة مناسـبة في شـتى الدهور والأزمنة. فالتعليم المضـمون في أول كلمات الوحي هو أول مشـروع إسـلامي للمجتمع دون فرق بين الرجل والمرأة. ويبقى في مسـمع العالم صـدى دوي نداء المولى القدير المتضـمن أداة التعليم وهو القراءة في قوله تعالى : "اقرأ باسـم ربك الذي خلق[1]". وخلال هذا النداء لا يوجد أي فرق بين الذكور والإناث حيث يواجه جميع الأفراد في المجتمع، وحال كون المرأة جزء لا يتجزأ منه مع تأثيرها القوي الفعال فيه.

أعطى الإسـلام للنسـاء حقوقها باعتبارها شـقائق الرجال، ومكانة مرموقة تليق بها من أجل لعبها دورها الهام في بناء المجتمع الإسـلامي وتثقيفه. والمرأة تشـارك في الحياة الزوجية وعمارة البيت وتدبير الأسـرة وتنشـئة الجيل العصـري في قالب إسـلامي. وبحسـب هذه الأمور فرض عليها الإسـلام العلم تعلما وتعليما، أولا تَعلّمه ما تحتاج إليه لإصـلاح أركان دينها وأمور زوجها وبيتها وأسـرتها ومجتمعها، وثانيا تعليمه حيث إن  حجرها أول مدرسـة للبنين والبنات، كما أشـار إليه الشـاعر حافظ إبراهيم بقوله : "الأم مدرسـة إذا أعددتها : أعددت شـعبا طيب الأعراق[2]".
حضور المرأة في مجال العلم في عصـر النبوة:
شـاركت المرأة في حضـور مجالس الرسـول صـلى الله عليه وسـلم والسـؤال عن أمور دينها، ولم يمنعها الحياء أن تتفقه في الدين. وعند ما  شـعرت المرأة بحاجة للعلم جئن إلى خاتم النبيين محمد صـلى الله عليه وسـلم وطلبن منه مجلسـا خاصـا بهن فاسـتجاب، كما جاء في الصـحيحين عن أبي سـعيد الخدري رضـي الله عنه قال : جاءت امرأة إلى رسـول الله صـلى الله عليه وسـلم فقالت : يا رسـول الله ! ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسـك يوما نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال : اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا، فاجتمعن فأتاهن فعلمهن مما علمه الله[3].
وكانت أمهات المؤمنين أزواج النبي محمد صـلى الله عليه وسـلم أسـوة حسـنة وقدوة لغيرهن في مجال العلم والأدب. ولهن أهمية كبيرة وفضـل عظيم في تبليغ الدين ونشـر السـنة النبوية خاصـة بين النسـاء. فالسـيدة خديجة بنت خويلد رضـي الله عنها هي أول من حظيت بفرصـة سـانحة لسـماع أحاديث زوجها النبي الأمين محمد صـلى الله عليه وسـلم ولمشـاهدة أفعاله وأعماله ولمعايشـة جميع تفاصـيل حياته. قابلت ما حدث بعد نزول أول كلام الله عز وجل، كما شـهدت في بيتها لنزول الوحي الثاني. ومثل ذلك كانت بيوت أزواج النبي المختار محمد صـلى الله عليه وسـلم مهودا لنزول القرآن عدة مرات في مختلف الحقبات والأسـباب، كما كانت حجرات عدد منهن منارات للإشـعاع العلمي والثقافي والأدبي، ومدارس لطلاب العلم يجد السـائل عندهن الجواب والمسـتفتي فتواه.
تأتي أم المؤمنين عائشـة رضـي الله عنها في ذروة النسـوة العالمات المتفوقات في عصـر الصـحابة وفي مقدمتهن حيث هي أشـهر النسـاء في هذا الميدان فصـيحة بليغة فقيهة مفسـرة محدثة نابغة في الذكاء، لكونها أبرع الناس في جميع شـعب العلوم حتى في الشـعر وأخبار العرب وأنسـابهم. وهي تعد من ضـمن سـبعة من المكثرين في الرواية، وقيل فيهم شـعر : أبو هريرة سـعد جابر أنس ـ صـديقة وابن عباس كذا ابن عمر[4]. وتأتي في المرتبة الرابعة من حيث كثرة رواية الحديث النبوي، إذ روت حوالي 2210 أحاديث، حتى جاء في بعض الآثار أن عائشـة رضـي الله عنها عندها نصـف العلم. وقيل : إن ربع الأحكام الشـرعية منقول عنها حيث هي واحدة من أشـهر الفقهاء السـبع في المدينة.
وبالنسـبة إلى هذه الأمور كانت مقصـد فقهاء الصـحابة ومرجعهم عند ما تعسـر عليهم بعض المسـائل العلمية والفقهية، خاصـة فيما يتعلق بجوانب حياة النبي محمد صـلى الله عليه وسـلم. وشـهد لها أبو موسـى الأشـعري رضـي الله عنه فقال : ما أشـكل علينا ـ أصـحاب محمد صـلى الله عليه وسـلم ـ أمر فسـألنا عائشـة رضـي الله عنها إلا وجدنا عندها فيه علم[5].
وكانت عائشـة رضـي الله عنها تحث سـائلها لئلا يسـتحيي من عرض مسـألته قائلة : "سـل فأنا أمّك". وقد أخذ عنها العلم حوالي 299 شـخصـا من الصـحابة والتابعين، منهم 67 امرأة[6].
أما أم سـلمة رضـي الله عنها فكانت كما وصـفها الإمام الذهبي (ر) ‘من فقهاء الصـحابيات’، وممن روى كثيرا من الأحاديث عن النبي صـلى الله عليه وسـلم، وروى عنها كثير من الصـحابة والتابعين بلغ عددهم إلى حوالي 101 منهم 23 امرأة. هكذا تعدد أشـخاص الصـحابيات والتابعيات اللاتي اشـتهرن بالعلم وكثرة الرواية. وتحفل كتب الأحاديث والروايات والطبقات بالنسـاء اللاتي روين وروي عنهن الحديث الشـريف، مثل : أسـماء بنت أبي بكر (ر) وأسـماء بنت عميس (ر) وجويرية بنت الحارث (ر) وحفصـة بنت عمر (ر) وزينب بنت جحش (ر) وميمونة بنت الحارث (ر) وأم حبيبة بنت أبي سـفيان (ر) وصـفية بنت حيي (ر) وسـودة بنت زمعة (ر) ... ومن إليهن[7].
وهناك كثير من الصـحابيات المشـهورات في مجال رواية الحديث الشـريف. واختلف المحققون في العدد الإجمالي للرواة من الصـحابة والصـحابيات، وقد ذكر الإمام الحاكم : "أن الرواة من الصـحابة أربعة آلاف"، وتعقبه الإمام الذهبي : "بأنهم نحو ألف وخمس مائة، لا يبلغون  ألفين أبدا[8]". وفي هذا البحث لا يمكننا ذكر أسـماء جميع الراويات وتفاصـيل تراجمهن مبثوثة كما في كتب التراجم والسـير والرجال. وفي هذا الصـدد نشـير إلى بعض النسـوة اللاتي عشـن في أوائل القرون الثلاثة الهجرية نماذجا.
   التابعيات الراويات في القرن الأول الهجري :
وفي القرن الأول الهجري تعايشـت كثير من الصـحابيات والتابعيات ممن يروين عن الصـحابة. فجميع الصـحابة انتقلوا إلى جوار ربهم خلال هذا القرن. وكان آخر الصـحابيات وفاة هي أم خالد ابن سـعيد بن العاص (ر) كما أشـار إليه الإمام الذهبي في كتابه السـير قائلا : "عمّرت إلى قريب عام تسـعين". وتقول آمال قرداش بنت الحسـين : اشـتهرت بعض التابعيات في الرواية في القرن الأول-  ويمثلن كبار التابعيات-  ولكن نظرا لوجود الصـحابة في هذا القرن وتكفلهم بالتبليغ فقد غطى على رواية التابعين ممن تقدمت وفاتهم، وكان حرص التابعين على ترك المجال للصـحابة جليًا لأنهم خير القرون، ثم أنه من كان حريصـا على الحديث لا يرضـيه إلا السـند العالي، فبدل أن يسـمع من تابعي أهل بلده يرتحل إلى الصـحابي، وعليه فقد كانت الراويات التابعيات المشـهورات قليلات بالمقارنة بعدد الصـحابيات. وممن اشـتهرن في القرن الأول من كبريات التابعيات : خيرة أم الحسـن البصـري (ر) ـ مولاة أم سـلمة (ر) وزينب بنت كعب بن عجرة (ر) ـ زوج أبي سـعيد الخدري (ر) وصـفية بنت أبي عبيد بن مسـعود (ر) ـ زوج عبد الله بن عمر (ر) وزينب بنت نبيط (ر) ـ زوج أنس بن مالك (ر) وأم كلثوم بنت أبي بكر الصـديق (ر)[9].
الراويات في القرن الثاني الهجري:
يعد هذا القرن العصـر الذهبي لرواية النسـاء، ففيه أكبر عدد من الروايات، وقد تركزت فيه معظم روايات النسـاء. وجل الراويات التابعيات في هذا القرن من تلميذات عائشـة وأم سـلمة رضـي الله عنهن أو من أحد أقاربها من الصـحابة. ومن راويات هذه الفترة حفصـة بنت سـيرين (ر) وعمرة بنت عبد الرحمن  (ر) وأم الدرداء الصـغرى هجينة العالمة الفقهية زوج أبي الدرداء (ر). وعائشـة بنت طلحة (ر) ومعاذة بنت عبد الله العدوية (ر) وحفصـة بنت عبد الرحمن ابن أبي بكر (ر)، هن تلميذات عائشـة رضـي الله عنها. وفاطمة بنت المنذر  (ر) حيث روت عن جدتها أسـماء بنت أبي بكر (ر). هؤلاء هن أعمدة الرواية النسـائية الثقات من أواسـط التابعيات، وأحاديثهن كثيرة في دواوين العلم.
وهناك راويات أخر من تلميذات أمهات المؤمنين تقل رواياتهن عمن سـبق ذكرهن وأقل شـهرة كذلك، منهن:  جسـرة بنت دجاجة العامرية (ر) وهند بنت الحارث الفزارية (ر) وكريمة بنت همام (ر) وعائشـة بنت عجرد(ر) ومن إليهن.
أما صـغار التابعيات فهن من روى عن صـغار الصـحابة ممن تأخرت وفاته. نذكر منهن نبذة مثل : شـعثاء بنت عبد الله الأسـدية (ر) وعقيلة الخزارية (ر) ومغيرة بنت حسـان (ر) وأم عمرو بنت عبد الله بن الزبير (ر) وحبيبة بنت ميسـرة (ر) ورقية بنت عمرو(ر) وغيرهن. ويوجد في أواخر القرن الثاني الهجري راويات تابعيات التابعيين، ولكن لم يوجد فيهن أسـماء لامعة في علم الرواية، لأن حركة الرواية النسـائية بدأت تتراجع. ومن تلك الراويات : أمة الواحد بنت يامين (ر) وحبابة بنت عجلان (ر) وغبطة بنت عمرو المجاشـعية (ر) وعمتها أم الحسـن (ر)[10].
الراويات في القرن الثالث الهجري :
هذا القرن هو من أزهى عصـور السـنة وأكثرها خدمة للحديث، فقد ظهر فيه أفذاذ الرجال من حفاظ الحديث وأئمة الرواية كالبخاري ومسـلم وبقية أصـحاب الكتب السـتة، والإمام أحمد وغيرهم من أصـحاب المصـنفات، كما دونت فيه الكتب السـتة وظهر الاعتناء بالكلام على الأسـانيد وتواريخ الرجال والجرح والتعديل، ولم يكن العلماء في هذا القرن يدونون الأحاديث بالنقل من كتب أخرى بل كان اعتمادهم على ما حفظوه عن مشـايخ الحديث وعرفوا جيده من رديئه وصـحيحه من ضـعيفه.
وفي هذا القرن لا يأخذ المحدث الرواية إلا ممن عرف وخضـع للرواية المقبولة، ولذلك لم يسـجل وجود راويات ذوات أسـماء لامعة، لأن أصـحاب المصـنفات قد انتقوا الروايات انتقاء، والمرأة غالبا ما تكون أحوالها مسـتورة فلا يعلم ضـبطها وعدالتها كما هو حال الراوي الرجل الذي يمكن أن يطلع على حاله، لهذا يصـعب رصـد أعداد كبيرة من راويات هذا القرن.
وعند ما نفحص كتب التراجم ومشـيخات بعض الأئمة نجد حضـور بعض الأسـماء للنسـاء وإن كانت قليلة، ولكن الراويات اللاتي أخذ عنهن العلم لم يروين إلا قليلا من الأحاديث، وغالبا ما تكون سـنة وفاتهن مجهولة.  ولم يتيسـر تحديد القرن الذي وجدن فيه إلا من خلال من روت عنه، ومن أمثلة هؤلاء الراويات:  فاطمة بنت الإمام مالك بن أنس (ر) ونفيسـة بنت الحسـن بن زيد (ر) وخديجة أم محمد (ر) وزينب بنت سـليمان الهاشـمية (ر) وزينب بنت سـليمان بنت أبي جعفر المنصـور (ر) وأم عمر الثقفية (ر) وأسـماء بنت أسـد بن الفرات (ر) .... ومن إلى ذلك[11].
وحكى أشـهب أنه كان في المدينة، وأنه اشـترى خضـرة من جارية، وكانوا لا يبيعون الخضـرة إلا بالخبز، فقال لها : "إذا كان عشـية حين يأتينا الخبز فأتينا نعطيك الثمن"، فقالت : "ذلك لا يجوز"، فقال لها : "ولم؟" فقالت : "لأنه بيع طعام بطعام غير يد بيد"، فسـأل عن الجارية، فقيل له : "إنها جارية مالك بن أنس رحمهما الله"[12].
وكذلك في كتاب السـير قصـة نفيسـة بنت الحسـن بن زيد (ر) : كانت تحفظ القرآن الكريم، عالمة بالتفسـير والحديث، حجت ثلاثين حجة، توفيت وهي صـائمة، فألزموها الفطر، فقالت: "وا عجباه ! أنا منذ ثلاثين سـنة أسـأل الله أن ألقاه صـائمة، أأفطر الآن ؟! هذا لا يكون".
أعلام النسـاء بعد القرون الثلاثة الأولى في مجال الحديث :
كما أشـرنا من قبل كان القرن الثالث الهجري عصـرا ذهبيا زاهرا بالنسـبة إلى علم الحديث الشـريف. فقد ظهر فيه الكتب السـتة الشـهيرة في كتب الحديث. فعندئذ اطلعت المرأة عليها بعد القرن الثالث الهجري، بتدرسـها وتدريسـها وتبيينها وتشـريحها وتعليقها وتهميشـها وما إلى ذلك. فازداد عدد الراويات والمسـندات خاصـة في القرون الأخيرة. ومن أقدمهن المحدثة الشـهيرة أمة الواحد بنت الحسـين بن إسـماعيل المحاملي، حال كونها بارزة في علم الحديث كانت أحفظ الناس للفقه على المذهب الشـافعي في نفس الوقت. وقد نعتها الخطيب البغدادي بقوله : "وكانت فاضـلة في نفسـها، كثيرة الصـدقة مسـارعة في الخيرات، حدثت وكتب عنها الحديث[13]".
وهناك محدثة من نيسـابور اسـمها جمعة بنت أحمد بن محمد بن عبد الله المحمية. خلال حياتها في نيسـابور قدمت بغداد وحدثت بها عن أبي عمرو بن حمدان وأبي أحمد الحافظ وغيرهما. وكذلك حدث عنها أبو محمد الخلال. هكذا نجد في كتاب تاريخ بغداد[14].
والمحدثة المسـندة أم الكرام كريمة بنت أحمد بن محمد المروزية الكشـمهينية كانت ممن سـمع صـحيح البخاري. وصـلت في مكة المكرمة وجاورت بها. وكانت عالمة صـالحة قد حضـر دروسـها ومجالسـها العلماء الكرام الكبار كالخطيب البغدادي، وقرأ عليها أئمة أخرى كالإمام السـمعاني وغيره. واعترف العلماء بفضـلها وسـبقها في تدريس الجامع الصـحيح للبخاري. وقد نعتها أصـحاب التراجم بألفاظ التكريم مثل الشـيخة والعالمة والفاضـلة والمسـندة[15].
ونجد في كتب التراجم بيانا وافرا لعدة محدثات فاضـلات في علم الحديث رواية وتدريسـا، مثل : بيبي بنت عبد الصـمد بن علي الهرثمية أم الفضـل، وأم إبراهيم فاطمة بنت عبد الله الجوزدانية، والمعمرة الكاتبة مسـندة العراق شـهدة بنت أحمد بن عمر الإبري الدينورية، والمحدثة الفاضـلة المعمرة مسـندة أصـبهان عفيفة بنت أحمد بن عبد القادر الفارفانية، وسـت الكتبة نعمة بنت علي، وعين الشـمس بنت أحمد بن أبي الفرج، وأم عبد الله ياسـمين بنت سـالم، وفاطمة بنت سـليمان الأنصـارية الدمشـقية، وفاطمة بنت إبراهيم بن محمود البعلبكي، وهدية بنت علي بن عسـكر الهراس، وسـت الوزراء بنت عمر بن أسـعد بن المنجا، وسـلمى بنت محمد الجزري، وأم هانئ مريم بنت فخر الدين الهورينية، وباي خاتون بنت أبي الحسـن، ..... ومن إليهن.
وقد بدأ ميلان النسـوة إلى الحديث يضـعف بعد القرن التاسـع وفي القرون التي تليه حتى القرن الثالث عشـر الهجري.
عناية النسـاء بالكتب السـتة :
لعل أهم ما يميز جهود المرأة بعد عصـر التدوين هو عنايتها بكتب الحديث السـتة خاصـة صـحيح البخاري، فلم يحظ كتاب بعد كتاب الله عز وجل بالعناية ما حظيه صـحيح البخاري. ويمكن معرفة جهود المرأة في خدمة صـحيح البخاري باسـتقراء كتب التراجم والمشـيخات. وقد قام الدكتور محمد بن عزور بجمع من لعب دوره من النسـاء في مجال الاشـتغال بصـحيح البخاري، في كتابه ‘صـفحات مشـرقة من عناية المرأة بصـحيح البخاري’.
ولقد سـمعت المرأة صـحيح البخاري في دار الحديث الأشـرفية عن المسـندين ابن الزبيدي والحجار. ومن أبرزهن فاطمة بنت عبد الهادي المقدسـية المتوفاة سـنة 803 هجرية، وهي شـيخة الحافظ ابن حجر رحمه الله حيث قرأ عليها عدة كتب. والمحدثة كريمة المروزية هي أول امرأة درسـت صـحيح البخاري في القرن الخامس الهجري. وكذلك فخر النسـاء شـهدة بنت أحمد البغدادي، وسـت الوزراء التي هي أول امرأة اسـتقدمت إلى مصـر للتحديث بصـحيح البخاري[16].
وهناك سـنن وأحاديث لم يروها إلا النسـاء، وكانت مرجعا للاسـتدلال الفقهي تبنى عليه الأحكام وتتبع السـنن. ومنها حديث أم عطية (ر) في غسـل الميت، فهو أصـل في كتابه[17]. قال الشـيخ عطية محمد سـالم : " قد رأيت بنفسـي وأنا مدرس بالأحسـاء نسـخة لسـنن أبي دواد عند آل مبارك، وعليها تعليق لأخت صـلاح الدين الأيوبي". وقال :  وذكر صـاحب التراتيب الإدارية قوله : "وقد ثبت عن كثير من نسـاء أهل الصـحراء الأفريقية خصـوصـا شـنقيط العجب، حتى جاء أن الشـيخ المختار الكنتي الشـهير، ختم مختصـر خليل للرجال، وختمته زوجته في جهة أخرى للنسـاء"، ومما يؤيد ما ذكره أننا ونحن في بعثة الجامعة الإسـلامية لأفريقيا سـمعنا ونحن في مدينة أطار وهي على مقربة من مدينة شـنقيط، سـمعنا من كبار أهلها أنه كان يوجد بها سـابقا مائتا فتاة يحفظن المدونة كاملة، وقد سـمعت في الآونة الأخيرة أنه توجد امرأة تدرس في المسـجد النبوي : الحديث، والسـيرة، واللغة العربية، وهي شـنقيطية [18]".
وقال الأسـتاذ عبدالله عفيفي : "وأكثر ما عرف به الممتازات من نسـاء المغرب الأقصـى حفظ القرآن الكريم بقراءاته جميعا، ورواية الحديث، ودرس الفقه، والأصـول، وما إلى هذه من علوم الدين، ويذكر أهل ذلك الإقليم ثمانين امرأة من نسـاء المغرب، جمعن إلى النفاذ في ذلك كله حفظ مدونة الإمام مالك بن أنس، وهي أكبر المطولات الجامعة في الحديث والفقه". وذكر من النسـوة اللاتي تخرجن في العلوم الدينية السـيدة الشـريفة فاطمة ابنة السـيد محمد بن أحمد الإدريسـي، تحفظ القرآن الكريم بقراءاته، وتحفظ كثيرا من كتب الفقه والحديث، ولها فوق ذلك صـلة وثيقة بالعلوم العصـرية، ولم تبارح دار أبيها قط، وتخرجت على أبيها وجدها[19]".
وفي كتاب ترتيب المدارك نبذة يسـيرة عن فاطمة بنت الإمام مالك بن أنس رحمهما الله : كان للإمام مالك ابنة تحفظ علمه "الموطأ"، وكانت تقف خلف الباب، فإذا غلط القارئ نقرت الباب، فيفطن مالك فيرد عليه، ويقول : "أرجع فالغلط معك"، فيرجع القارئ فيجد الغلط.
وكان له ابن يدخل ويخرج ولا يجلس، فيقول الإمام مالك : "هذا ابني وهذه ابنتي".
فالكتب السـتة شـاهدة على مسـاهمة المرأة في الرواية وإن كانت ضـئيلة جدا بالنسـبة للرواة الرجال إلا أن لهذه الروايات قيمة من ناحية مادتها ومضـامينها.
رحلة النسـاء في طلب الحديث :
ومن الطبيعي أن تندر النسـوة في سـاحة هذا الجانب لطلب الحديث بالنسـبة إلى مضـرات الرحلة ووعثاء السـفر، مع كونها مرتبطة بالبيت والأسـرة. ومع ذلك لا يجوز لها السـفر الطويل إلا مع محرمها أو مع نسـوة ثقات. ولكن من خلال بحثنا ومطالعتنا وفحصـنا كتب التراجم والسـير نحصـل على عدة نسوة مشـاركة في هذا المجال.
ففي زمن الرسـول صـلى الله عليه وسـلم كانت الرحلة عامة فردا أو جماعة في وفود من مختلف القبائل. وبينهم نسـاء رحلن إلى المدينة المنورة، وأخذن من النبي الكريم صـلى الله عليه وسـلم تعاليم الإسـلام ومبادئه والأحاديث منه ثم رجعن إلى قومهن وبلّغن ما سـمعن وشـهدن للغائبين.
وبعد عصـر النبوة تفرق علماء الصـحابة والصـحابيات في البلدان مؤسـسـين مجالس علمية ومراكز دينية في شـتى أنحاء العالم، فكانت عدة منارات للعلم ومدارس إسـلامية تقصـد لطلب الحديث. فكان للصـحابيات الجليات والتابعيات العظيمات نصـيب ومسـاهمات لا يسـتهان بها في نشـر الحديث وعلومه في مختلف الأمصـار. ومن أمثالهن من الصـحابيات : أم عطية الأنصـارية (ر) وأسـماء بنت يزيد بن السـكن (ر) وأم المؤمنين عائشـة (ر) ..... ومن إليهن. وكذلك من أمثالهن من التابعيات : أم سـالم بنت مالك الراسـبية البصـرية (ر) وجسـرة بنت دجاجة (ر) وأم الدرداء الصـغرى هجينة العالمة الفقهية زوج أبي الدرداء (ر) ..... ومن إليهن[20].
وفي بادئ الأمر أن الرحلة قد اقتصـرت على المدينة لفضـلها، ومدار العلم فيها على أمهات المؤمنين وأصـحاب رسـول الله صـلى الله عليه وسـلم من النسـاء والرجال، ثم كان أن انتشـر كثير من الصـحابة عبر الأمصـار خاصـة المشـتغلين بالرواية والتعليم، ثم بعد وفاة أمهات المؤمنين أي ما بعد سـنة 62 هـجرية أن الرواية بدأت في التخصـص، يعني أنه أصـبح هناك مراكز علمية غير المدينة، كالكوفة لأن فيها أصـحاب عبد الله بن مسـعود (ر)، والبصـرة لأن فيها أصـحاب أنس بن مالك (ر)، والشـام لأن فيها أصـحاب معاذ بن جبل (ر) وأبي الدرداء (ر)، ومصـر لأن فيها أصـحاب عبد الله بن عمرو بن العاص (ر). فبدأ يحدث نوع من التوازن في الرواية، وخف التركيز في الطلب على المدينة إلا لمن علت همته وطمحت نفسـه إلى الإسـناد العالي أو بيان علة أو التحقق من رواية. وعلى هذا، طبعا قد خفت الرحلة وخاصـة لدى النسـاء، لوجود ما يغني من حديث رسـول الله صـلى الله عليه وسـلم في مصـرهن[21].
     تدريس النسـاء العالمات كتب الحديث وإجازتهن للعلماء الكرام :
ومن أهم ما يشـار إليه هنا أن كثيرا من العلماء الكرام قد أجاز لهم محدثات جليات نائلات غاية الشـهرة والرفعة في العلم. وإجازة النسـوة بدأت منذ القرن السـادس الهجري. ومن المحدثات اللاتي أجزن لمختلف العلماء خديجة بنت أبي سـعيد التي أجازت للإمام السـمعاني. وكذلك أم إبراهيم فاطمة بنت عبد الله الجوزدانية، وكان لها جهود كبيرة في سـماع الحديث وإسـماعه، أخذ عنها جماعة من الحفاظ والمسـندين، وأجازت للإمام السـمعاني بجميع مسـموعاتها. وقد أثنى عليها الإمام الذهبي ووصـفها بمسـندة الوقت[22].
ومن أشـهرهن في القرن الثامن الهجري سـت الوزراء بنت عمر بن أسـعد بن المنجا، وقد أخذ عنها الحافظ الذهبي، وبلغ الآخذون عنها 92 نفرا، وسـتة منهم بطريق الإجازة، والباقي بطريق السـماع[23].
ويحكي الرحالة العظيم ‘ابن بطوطة’ أنه في رحلته زار المسـجد الأموي بدمشـق، وسـمع فيه عددا من محدثات ذلك العصـر، مثل زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم، كانت امرأة ذات قدم راسـخ في العلم والحديث، وعائشـة بنت محمد بن المسـلم الحرانية التي كان لها مجلس علم بالمسـجد، وكانت تتكسـب بالخياطة، وقرأ عليها ‘ابن بطوطة’ عددًا من الكتب[24].
    وقد تفردت بعض المحدثات ببعض الروايات، مثل زينب بنت سـليمان بن إبراهيم التي أخذ العلم عنها ‘الإمام تقي الدين السـبكي’، كما أجازت بعض العالمات المحدثات لعدد من كبار العلماء. فزينب بنت عبد الله بن عبد الحليم أجازت ‘للإمام ابن حجر العسـقلاني’ الذي روى أيضـا عن عائشـة بنت محمد بن عبد الهادي التي كانت ذات سـند قويم في الحديث. وحدّث عنها خلق كثير، وكانت توصـف بأنها سـهلة الإسـماع لينة الجانب، وروت عن محدثتين هما سـت الفقهاء بنت الواسـطي وزينب بنت الكمال.
وقد أورد الإمام ابن حجر (ر) في كتابه ‘المعجم المؤسـس للمعجم المفهرسـ’ كثيرًا من شـيخاته اللاتي أخذ عنهن العلم، وعن اشـتراكه في السـماع عن الشـيوخ مع بعضـهن، ووصـف بعضـهن بأنها مصـنفة وهي عائشـة بنت عبد الله الحلبية. وأورد الإمام الذهبي (ر) قبله في كتابه ‘معجم شـيوخ الذهبي’ كثيرًا من شـيخاته، وكان يقول عن بعضـهن "توفيت شـيختنا".
وكان للنسـاء دور بارز في تثقيف الفقيه العالم الجليل ‘ابن حزم الأندلسـي’ وتربيته، حيث علمنه القرآن الكريم والقراءة والكتابة والشـعر وظل في رعايتهن حتى مرحلة البلوغ، ويحكي تجربته فيقول : "ربيت في حجر النسـاء، ونشـأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن وما جالسـت الرجال إلا وأنا في حد الشـباب، وهن علمنني القرآن، وروينني كثيرًا من الأشـعار، ودربنني في الخط". وكان لهذه التربية والتثقيف أثرها الكبير في ذوقه وشـخصـيته.
أورد ‘السـخاوي’ في موسـوعته الضـخمة ‘الضـوء اللامع لأهل القرن التاسـع’ أكثر من 1070 ترجمة لنسـاء برزن في ذلك القرن، معظمهن من المحدثات الفقيهات. أما العالم الموسـوعي ‘جلال الدين السـيوطي’ فكان لشـيخاته دور بارز في تكوينه العلمي، فأخذ عن ‘أم هانئ بنت الهوريني’ التي لقبها بالمسـند. وكانت عالمة بالنحو، وأورد لها ترجمة في كتابه ‘بغية الوعاة في أخبار النحاة’. وأخذ أيضـا عن ‘أم الفضـل بنت محمد المقدسـي’ و ‘خديجة بنت أبي الحسـن المقن’ و ‘نشـوان بنت عبد الله الكناني’ و ‘هاجر بنت محمد المصـرية’ و ‘أمة الخالق بنت عبد اللطيف العقبي’، وغيرهن كثير.
ولم تكتف العالمة المسـلمة بالعطاء العلمي في أوقات السـلم والرخاء، ولكن كان لها عطاء علمي بارز في أشـد أوقات المحن والأزمات، فعندما سـقطت قلاع الإسـلام في الأندلس اضـطر بعض الناس إلى إظهار التنصـر وإخفاء الإسـلام، ورغم هذه السـياسـات الأسـبانية القصـرية، فإن المسـلمين هناك كانوا يمارسـون نشـاطهم العلمي، وكانت هناك امرأتان يمثلان المرجعية العليا للمسـلمين في علوم الشـريعة حيث تخرج على أيديهن كثيرا من الدعاة المسـلمين الذين حفظوا وحملوا الإسـلام سـنوات، وهما ‘مسـلمة أبده’ و ‘مسـلمة آبلة’[25].
فالمرأة المسـلمة كان لها حضـور بارز في المجتمع العلمي الإسـلامي، فكانت تتعلم وترحل لطلب العلم، وتعلم وتفتي ويقصـدها الطلاب لأخذ العلم عنها، وتصـنف الكتب، وتسـتشـار في الأمور العامة، ولم تكن حبيسـة منزل أو حجرة، أو أسـيرة في مهنة معينة، بل كان المجال مفتوحًا أمامها تظله الشـريعة الغراء، ويرعاه العفاف والطهر.
المصـادر والمراجع :
1.     القرآن الكريم.
2.     البخاري، محمد بن إسـماعيل، الإمام الحافظ أبو عبد الله، صـحيح البخاري.
3.     ابن حزم، جوامع السـيرة، تحقيق نايف العاملي.
4.     الدكتورة عفاف بنت عبد الغفور حميد، جهود المرأة في نشـر الحديث وعلومه .
5.     آمال قرداش بنت الحسـين، دور المرأة في خدمة الحديث في القرون الثلاثة الأولى.
6.     الدكتور سـعيد عبد الرحمن موسـى القزقي، جهود المرأة في خدمة السـنة النبوية في القرن السـادس الهجري.
7.     صـالح يوسـف معتوق، جهود المرأة في رواية الحديث في القرن الثامن الهجري.
8.     القاضـي عياض بن موسـى اليحصـبي، ترتيب المدارك وتقريب المسـالك لمعرفة أعلام مذهب مالك.
9.     الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد.
10.كحالة، عمر رضـا، أعلام النسـاء في عالمي العرب والإسـلام.
11.الدكتور محمد بن عزور، صـفحات مشـرقة من عناية المرأة بصـحيح البخاري.
12.الإمام السـمعاني، التحبير في المعجم الكبير، تحقيق منيرة سـالم.
13.مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشـريعة واللغة العربية وآدابها، ج : 19 ، ع : 42 ، رمضـان 1428 هـ .
14.موقع الموسـوعة العربية للمعلومات :  http://ar-encyclopedia.blogspot.com
15.موقع أون إسـلام :  http://www.onislam.net/arabic/adam-eve/women-voice/
16.موقع المكتبة الإسـلامية :  http://library.islamweb.net/newlibrary/
17.شـبكة السـنة النبوية وعلومها : http://www.alssunnah.com/main/articles.aspx?





[1]  : سـورة العلق ـ 1
[2]  : هذا بيت في إحدى قصـائد الشـاعر الكبير الملقب بشـاعر النيل حافظ إبراهيم، وهي قصـيدة تسـمى ‘العلم والأخلاق’
     ( الموسـوعة العربية للمعلومات )  http://ar-encyclopedia.blogspot.com
[3]  : صـحيح البخاري، كتاب العلم، باب هل يجعل للنسـاء يوما على حدة في العلم؟ ـ 1 / 72
[4]  : جوامع السـيرة لابن حزم، تحقيق نايف العاملي، ص : 275
     5]  : أخرجه الترمذي في كتاب المناقب في باب فضـل عائشـة رضـي الله عنها
[6]  : من مقالة ‘الحركة العلمية النسـائية تراث غابت شـمسـه’ لمصـطفى عاشـور ـ
     http://www.onislam.net/arabic/adam-eve/women-voice/88734-2001-09-13%2017-46-10.html   
[7]  : المرجع السـابق
[8]     : جهود المرأة في نشـر الحديث وعلومه للدكتورة عفاف بنت عبد الغفور حميد
     9]     : دور المرأة في خدمة الحديث في القرون الثلاثة الأولى لآمال قرداش بنت الحسـين
[10]  : مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشـريعة واللغة العربية وآدابها، ج : 19 ، ع : 42 ، رمضـان 1428 هـ
   1 1]    : جهود المرأة في نشـر الحديث وعلومه للدكتورة عفاف بنت عبد الغفور حميد
[12]  : ترتيب المدارك وتقريب المسـالك لمعرفة أعلام مذهب مالك للإمام العلامة الحافظ القاضـي عياض بن موسـى اليحصـبي : 1/ 109
[13]  : تاريخ بغداد للخطيب البغدادي : 14 / 442
[14]  : نفس المرجع : 14 / 444
[15]  : أعلام النسـاء في عالمي العرب والإسـلام لعمر رضـا كحالة
[16]  : صـفحات مشـرقة من عناية المرأة بصـحيح البخاري للدكتور محمد بن عزور ، ص : 149، 160، 205
[17]  : صـحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب غسـل الميت ووضـوئه بالماء والسـدر ـ 2 / 152
[18]      : مقالة : دور المرأة في خدمة الحديث ( نماذج من النسـاء العالمات ) 
      =http://www.alssunnah.com/main/articles.aspx?selected_article_no=3570&menu_id
[19]  : المرجع السـابق
[20]  : مقالة ‘رحلة النسـاء في طلب الحديث وأدائه’
      http://library.islamweb.net/newlibrary/display_umma.php?lang=&BabId=7&ChapterId=7&BookId=270&CatId=201&startno=0
[21]  : نفس المرجع السـابق
[22]  : التحبير في المعجم الكبير للإمام السـمعاني، تحقيق منيرة سـالم
[23]     : جهود المرأة في رواية الحديث في القرن الثامن الهجري لصـالح يوسـف معتوق
   24]          : من مقالة ‘الحركة العلمية النسـائية تراث غابت شـمسـه’ ( سـبق موقعها )
[25]  : المرجع السـابق

مواضيع ذات صلة
دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات