فهذا الرجل الذي شاع صيته في الأقطار عالمٌ من العلماء الربانين
الذين وطَّدوا أقدامهم في العلم والمعرفة، والذين أنجبتهم الهند خلال
مسيرتها التاريخية الباهرة، ومن الكاتبين المتسليحين لدفع الخرافات والزلات عنالحق
، ومن حملة تراثه الغرّ ، هو الإمام الشيخ قطب الدين أحمد بن عبد الرحيم ،
الشهير ب «الشاه ولي الله الدهلوي» ، سار عقيدةً كسائر العلماء القدامي، على نهج
الحق، نهج السواد الأعظم "الأشعرية" [1] إذا لم تمسه ذرة من ذراة البدعة، التي
زرعتها أيادي زعيم البادية في أرض نجد، على حين أن كثيرا من الناس والعلماء غرّوا
وغفلو عن الحق بدعوته الباطلة شرقا وغربا ووغرا وسهلا، وكان مشي رحمه الله فقها مع
الأغلبية الساحقة على الفقه الحنفي.
أما هذا فبحث كامل في ضوء الحقيقة ، ومحاولة ذو أهمية أن تنجاب
الغاشية عن شخصية العلامة الشيخ الشاه ولي الله الدهلوي الهندي الحنفي الأشعري، لا
تعرف –أيها القارء الكريم- ولا أمثالك من بسطاء الناس الحقائق من وراء الستار
لاستحواذ الكذب والخرافات حيال شخصية العالم الجليل، بحيث افترت عليه شرذمة قليلة
ردفاءُ الوهم وحركت الأقلام على الكذب الجاثم ، وتذرع أهل البدع لهذا العمل الشنيع
( كما تجرءو على علماءنا الكثير)بالوسائل المعاصرة الكثيرة اطلاع الناس
عليها كالشبكة، والقناة الفضائية ، والجرائد اليومية، والمصدرات، فحدث انقلاب خطير
في شأن العلماء، وجُعل الحق كذبا والكذب حقا، وأصبح الصوابُ خطأً، والخطأ
صوابا، ولم يقم أحد –حسب حد علمي، - بالدفع هذه الخرافات عن الأئمة إلا
النوادر.
ولكن يجب ألاّ ننسى أن الحق والصواب لا يتناوم أهله ردحا كثيرا كيفما
كرَّس الضوال حياتهم لإنشاء المضلول ولم يرتاحوا بحال، نعم الحق نطق، وسواء
السبيل تشكل أمامنا، والقلم الصحيح كتب، إذا تبين الحق من الصنيعات الأكذوبة كخط
أبيض من أسود، بحيث إن كيودهم وافتراءاتهم جعلت به من هباء منثور. بجهود عالم من
أبناء مَوْلِدِ الإمام- الهند- الدكتور عبد النصير المليباري الشافعي الأشعري،
فاقتحم هذا الميدان على حداثة سنه حيث لم يبالِ ما يتابعه من رمي سهام التجهيل
والتجريح والتبديع والتفسيق والتكفير والترفيض، وهو يعرف شدة خطره،
وهذا البحث نقل من مقدِّمة تحقيق الكتاب «عقد الجيد في أحكام
الاجتهاد والتقليد» المحقَّق بأخينا الكريم، العالم الجليل «عبد النصير الأزهري
الشافعي المليباري »
دراسة نقدية موضوعية لشخصية الإمام الدهلوي، يحيث يثبت أنه سنّي حنفي
أشعري، ولم يكن وهابيا لامذهبيا، على خلاف ما أشاعه أهل الباطل،
__________________________
الراوابط المتعلقة
__________________________
الراوابط المتعلقة
الحمد لله بارئ النسم من العدم، واضع الشرع لهداية
الأمم، «والصلاة والسلام على الإمام الأعظم، مالكي وشافعي وأحمد الكرام»([1])،
«لم تُمْسِ بنا نعمةٌ ظهرت ولا بطنت، نِلْنا بها حظا في دين ودنيا، أو دُفع بها
عنا مكروه فيهما وفي واحد منهما، إلا ومحمد
صلى الله عليه سببها، القائد إلى خيرها، والهادي إلى رشدها»([2])،
وعلى آله هداة الأنام، وصحبه مصابيح الظلام، ومن والاه إلى قيام الساعة وساعة
القيام، وبعد،،،
فهذا كتاب صغير الحجم كبير الأهمية، للعلامة الشيخ
الشاه ولي الله الدهلوي الهندي الحنفي الأشعري: «عقد الجيد في أحكام الاجتهاد
والتقليد»، أقدم أمامه صفحات فيها دراسة عن الكتاب وصاحبه. انتدبت لهذا العمل
لأمرين هما من الأهمية بمكان لا يخفى، الأول: أهمية الموضوع الذي فيه ألف الكتاب،
والثاني أهمية مؤلفه.
أما الموضوع فلا تخفى أهميته البالغة على أهل
العلم، سيما في هذا الزمان الذي قد اتخذ الجهالُ فيه قادةَ الضلال أئمةً لأنفسهم،
وأخذوا يجاهرون بما كانوا يتناجون به بينهم في أمْسِهم، والفتنة داهمة، والظلم
متراكمة، وعاد الزمان كما أخبر الصادق المصدوق e: «يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع
دينه بعرض من الدنيا»([3])،
وبدأ السفهاء يلعنون سلف هذه الأمة، كما تنبأ به النبي e قبل أكثر من أربعة عشر قرنا.
وقد تكلم في هذا الموضوع علماءنا القدامى في
مؤلفاتهم الأصولية في كتاب الاجتهاد والتقليد، كما تحدثوا عنه في مؤلفاتهم الفقهية
في كتاب القضاء، إضافة إلى تطرق علماء الكلام إليه في مبحث تصويب المجتهدين من
الكتب الكلامية. كما جدَّدَه علماؤنا المتأخرون بتوضيح المسائل وحل الإشكالات التي
أثيرت في زمانهم فيما يتعلق بهذا الموضوع.
كان مولانا الشاه ولي الله الدهلوي رحمه الله ممن
أولى لهذا الموضوع قدرا كبيرا من الاهتمام، وكأنه عرف مسبقا أن بدعة اللامذهبية
آتية، وفتنة الوهابية لا محالة آتية عاتية، يجب على أهل العلم إخماد نارها، ثم صب
الماء في رمادها، فسابَقَ الأحداث بثابق بصره ونور بصيرته، حتى أفرد في الموضوع
رسالتين قيمتين([4])،
إحداهما هذه التي بين أيدينا الآن، والأخرى «الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف»،
بالإضافة إلى ما جاد به قلمه في مواضع من «حجة الله البالغة» وغيره من كتبه. فأقام
رحمه الله الطامة الكبرى على رؤوس أهل الضلال، وصارت أعماله العلمية تلك في هذا
المجال أفضل ذخيرة يستمد بها أهل السنة والجماعة في رد شبهات الوهابية القرنية
واللامذهبية الواهية.
وأما الأمر الثاني – وهو مؤلف الكتاب - فتزيد
أهميته عن الأول؛ حيث إن شخصيته لم تُدْرَس دراسة منصفة بالموضوعية والأمانة،
والذين لم يوفقهم الله للهدى والاستقامة ممن درسوا شخصية الدهلوي قاموا بتشويه
صورته، في كتيباتهم التي طبعت وانتشرت في العالم العربي والإسلامي، وكأنهم وجدوا
في ذلك ضالتهم، فاستعانوا به في نشر باطلهم وبدعتهم بين الناس، الذين يبجلون
مولانا الشاه ولي الله ويعظمونه، ويتخذونه مرجعا وقدوة في الإسلام. وهذا النوع من
الدراسات هي التي عرفت وانتشرت، بينما لم يوجد ما يصحح أخطاءها في المكتبات
العربية.
ومن البلية الصماء والفتنة العمياء أن تجد كاتبا،
كَسَبَ شهرة عالمية على أنه كاتب إسلامي، ذو حماسة إسلامية، تجده يؤلف كتابا
تاريخيا يترجم فيه لأشخاص ينتمون إلى اتجاهات فكرية متناقضة، أحدهم سني منزه، وآخر
بدعي مجسم، وثالث صوفي موحد، ورابع وهابي يتهم الصوفي بأنه خرافي مشرك، وهذا
الكاتب يجعلهم جميعا في سلة واحدة ! وهو يثني عليهم جميعا، ويجعل منهم جميعا بطلا
من نوع خاص، كما يريده هو، حتى يصير مذهب السني والصوفي في النهاية هو مذهب ذاك
الوهابي التيمي، فهكذا يحقق هدفه، ويروج باطله، بوضع السم في الدسم، وذلك لأنه
يعرف أن الثناء على إمامه مجردا لا يساعد على تحقيق غرضه؛ لأن الناس سوف يكشفون
سُمَّه بسهولة إن فعل ذلك، ولكن حين يضاف إليه رجال من أهل الصلاح والسنة يحصل له
نوع من القبول من قبل أناس لم يزودوا نفوسهم بالبصيرة العلمية كما ينبغي.
خط الشيخ ولي الله الدهلوينقلا عن الدكتور أبي البركات السندي الحنفي |
وإلا فقل لي بربك كيف يمدح لسانٌ مدح الإمام أبا
الحسن الأشعري t الذي هو قرة عين كل سني،
وروح حياته، شخصا آخر عاش حياته كلها لتنفير الناس عن طريقة هذا الإمام الأجل
الأكبر، بل وملأ صفحات كتبه بتبديع مذهب ذلك الإمام، وتضليل مدرسته، ووصف المنتمين
إليها بأنهم جهمية معطلة، وأذناب القدرية المعتزلة ! وقل لي كيف يثني رجل على
مولانا الشاه ولي الله الدهلوي، الداعي إلى المنهاج السوي، القائل بوجوب اتباع أحد
المذاهب الأربعة، دون سواه، كما سنراه، ثم يثني على زعيم البادية، منشئ فتنة
التكفير والتفريق، والدعوة إلى نبذ المذاهب الهادية !! وهذا كله هو «رجال الفكر
والدعوة»، دعوة الجاحظية العنبرية الندوية([5])،
لا دعوة الهداية السنية.
والحق المجرب أن الإنسان إذا انشق عن سلك الاتباع،
وانخرط في تيار الابتداع يبقى حائرا متذبذبا بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛
لأنه يعلم يقينا أن الذي ابتدعه خلاف منهج السلف الطيب، وأن مذهب أهل السنة هو
المتعين للأخذ دون غيره.ومن خلال دراساتي المتواضعة
في تراث وتاريخ المنحرفين عن أهل السنة توصلت إلى أن كل فرقة منحرفة عن منهج السلف
الصالح يقع في تناقضات عجيبة، حيث يجمع بين الشيئ ونقيضه في أقوالهم وأعمالهم.
فمثلا: كثير من الوهابية يَرُدون على الأشاعرة،
ويبغضونهم، ثم يتخذون رجال الأشاعرة أبطالا، يقول أحدهم مثلا: «لم يأت في تاريخ
الإسلام عباقرة كحجة الإسلام الغزالي وشيخ الإسلام ابن تيمية !»، شنوا حربا شعواء
على البناء على القبور، ونجد في الوقت نفسه في تاريخ ابن القيم بعد موته مقولة «وبني
على قبره» (!)، وشنعوا على المتبركين بآثار الصالحين، ثم نجد في تاريخ ابن تيمية
بعد موته «وتبركوا بماء غسله»([6])
(!)، ومؤلفات الأستاذ أبي الحسن الندوي مليئة بهذا النوع من التناقضات، ولا تخلو
كتب بعض الديوبندية الآخرين أيضا منها.﴿ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ
لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن
تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾.
وإني لأرى أن هذا مما أقامه الله تعالى حجة لنا على
قبح مذهبهم وفساد عقيدتهم. وأما أهل السنة والاستقامة فليس يوجد في كلمات البصراء
منهم مدحٌ لأهل البدعة والفرقة أبدا، وانظر في كل مؤلفات الإمام الكوثري رحمه الله:
هل تجده يثني على مبتدع وهو يدري أنه مبتدع ؟ حاشا وكلا، ونجد العلامة الشيخ أحمد
كوياالشالياتي والإمام الهمام أحمد رضا خان البريلوي، وغيرهما من أئمة الهند هكذا،
ومن قبلهم الفخر الرازي والتاج السبكي وابن حجر الهيتمي وغيرهم، وهكذا ينبغي أن
يكون أهل السنة، براء من التناقض، دليلا على الحق، وبيانا لبطلان مذهب من خالف
السواد الأعظم.
وبالجملة فقد صار لزاما علينا التصدي لهذه الفتنة،
وقد نُهِينا عن كتمان العلم عند شيوع الجهل وانتشار البدعة، وورد في الخبر الذي
رواه ابن ماجه والطبراني وغيرهما عن النبي e، أنه قال:«إذَا لَعَنَ آخِرُ
هَذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلَهَا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيُظْهِرْهُ؛
فَإِنَّ كَاتِمَ الْعِلْمِ يَوْمَئِذٍ كَكَاتِمِ مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، والتغاضي عن ذلك مفض إلى هلاك
الحرث والنسل؛ لأن المبتدع له عرة كعرة الجرب، كما في الحديث أيضا، وهو عند ظهوره
يتخشع، ويرائي ويتصنع، وتجده قد سرح لحيته ووسع جبته، وكبر عمامته، فأوهم إمامته،
وتزيا بزي العلماء، وتلا الآيات، وروى الروايات عند الجهلاء، وهو الداء العضال،
والمكر الذي تزول منه الجبال.
فأهم الأشياء إفساد أمره، وإجهاض تآمره، ورد كيده –
بإذن الله – في نحره، وتغيير منكره، وتشهير عُجَرِه وبُجَره، وقد أمرنا أن نذكر
الفاجر بما فيه، يَحْذَرُه الناسُ([7])،
فقمنا ببيان الحق والصواب في هذا الموضوع، ونشره بين أهل العلم؛ حتى يكون في ذلك
نصرة للدين والسنة، وإبراز لمنهج الجماعة، كما يكون فيه تهافت أهل البدعة والفرقة،
وإظهار فشل الخارجين على السواد الأعظم.
ثم إني أعتذر إلى القراء الأعزاء عما يبدو لهم من
قسوة في الرد، وشدة في اللهجة؛ فإنها ليست موجهة في الحقيقة إلى جماهير القراء،
ولا إلى البسطاء الذين وقعوا فريسة في أنياب أهل الضلال، وأنا أعرف أن من هؤلاء
الضحايا من لم يقصد إلا وجه الله ورضاه في هذه المسائل، وإن كانوا مخطئين وآثمين
عند الله، وأعرف أنهم على قدر كبير من التدين وتطبيق أحكام الدين في حياتهم، ولولا
سلامة عقيدة السني وصحةُ مذهبه لفضلت كثيرا من هؤلاء المبتدعين المتدينين على «السنيين»
الذين لا يستحون من الله فيما يرتكبونه من الفواحش، ولولا ذلك لفضلت هؤلاء على
هؤلاء تفضيلا، ولكن أنى يمكنني ذلك التفضيل مع سلامة عقيدة السني مهما فَجَر،
وفسادِ معتقد المبتدع مهما انصلح ظاهره. والأمر لله من قبل ومن بعد، يرجع إلى لطفه
وتفضله، ذلك التفضل الذي أفسح المذهب الأشعري له أوسع مجال ممكن، ولا يرجع الأمر
إلى «الاستحقاقات الاعتزالية» أبدا.
نعم، لم تتوجه القسوة والشدة إلى هؤلاء، وأقسم
بالله رب العالمين أني لم أقصد بها هؤلاء الجماهير، الذين نجدهم في البلاد العربية
والإسلامية، من ضحايا الغزو الفكري النجدي، وإن قلبي ينفطر حين أراهم قد ضلوا طريق
آبائهم ومشايخِ الإسلام القدامى ضلالا بعيدا، وأستمر في بذل قصارى جهدي لإرشادهم
إلى الحق، وتوعيتهم بعقيدة أهل السنة بكل لين ولطف. وإنما تلك الشدة والقسوة موجهة
إلى رؤوس الشياطين، الذين ليس لهم همٌّ إلا التضليل، والدعوة إلى النار، وسنراهم
في الكتاب كيف ارتكبوا الجرائم العلمية الخطيرة، في سبيل تحقيق أهدافهم الرذيلة،
وكيف تفننوا في المكر والخداع، فلم يكن لي بدٌّ من مواجهة الشياطين بالشهب
المحرقة، تقع على رؤوسهم واحدة تِلْوَ الأخرى متواترة مترادفة.
وختاما نسأل الله الكريم أن يجعلنا وأولادنا، وكل
من يخرج من أصلابنا بلا استثناء محل لطفه وفضله، ويدخلنا وإياهم الفردوس بجوده
وإحسانه، وأسأله أن يرزقني الإخلاص في هذا العمل خاصة، وأن يتقبله بمنه وكرمه،
ويجعله في ميزان حسناتي، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عبد النصير أحمد الشافعي المليباري
القاهرة/مصر
13/ذي الحجة/1433هـ=29/أكتوبر/2012م.
الفصل
الأول
طرف
من حياة المؤلف وآثاره
المبحث
الأول: اسمه ونسبه:
هو العلامة الهمام، الشيخ الإمام، حجة
الله بين الأنام، إمام الأئمة، قدوة الأمة، أوحد علماء الدين، زعيم المتضلعين بحمل
أعباء الشرع المتين، محيي سنة سيد المرسلين، قطب الدين، أبو عبد العزيز، أحمد ولي
الله بن الشيخ عبد الرحيم بن وجيه الدين، العمري الفاروقي، الحنفي عملا، الشافعي
تدريسا، الأشعري معتقدا، النقشبندي طريقة، الدهلوي الهندي([8]).
وكان آباؤه من أهل الوجاهة والفضل،
ومن مشاهير العلم والديانة في عصرهم، ولهم حسن صيت وطيب ذكر في التاريخ. وأبوه
الشيخ عبد الرحيم من مشايخ التصوف في زمانه، بُشِّر بولده في رؤيا صالحة، بشره
بذلك الشيخ قطب الدين بَخْتِيَارْ الأوشي الكاكي، وأمره أن يسميه باسمه «قطب الدين»،
والشيخ قطب الدين بختيار من كبار المشايخ الصوفية، معروف الصلاح والولاية.
هكذا ذكر اللكهنوي في «نزهة الخواطر» بشر بذلك في
رؤيا صالحة، بينما الذي حصل لم يكن مجرد رؤيا كما ذكره. ولا أقول إن اللكهنوي تعمد
التلبيس، أو تجاهل الحقيقة، وإن كان منتميا – كنجله أبي الحسن الندوي - إلى مدرسة «الإصلاح»
التي لها منهجها الخاص في فهم الإسلام، لا أقول ذلك؛ لأن في كلام الشاه ولي الله
نفسه ما يمكن اللكهنوي أن يبرر به صنيعَه بتكلف، إلا أن الدهلوي نفسه بين الموضوع
في مكان آخر، يفهم منه أنه لم يكن مجرد رؤيا منامية. وسأذكر هنا ما هي الحقيقة في
هذا الأمر.
يقول مولانا الشاه في «التفهيمات الإلهية»: «وقد
كنت بُشِّرتُ بها – يقصد الولاية – حين سماني أبي قدس سره بولي الله، على أنه كان
رأى قبل ذلك الشيخ قطب الدين، يبشره بولد، ويأمره بتسميته قطب الدين، مثل اسمه،
ولكني لما ولدت أنسي هذه الواقعة، فسماني ولي الله، ثم تذكر هو وآخرون ممن سمعوا
منه تلك الواقعة، فسماني بذلك»([9]).
وهذا الذي ذكره الشاه ولي الله بقوله «رأى» وضحه في
موضع آخر من «التفهيمات»؛ حيث قال: «كان أبي قدس سره جامعا للفضائل الظاهرية
والباطنبة، وكان وليا عارفا، فاتفق أنه ذهب يزور مرقد الشيخ قطب الدين بختيار
الكاكي، فكلمه الشيخ، وبشره بولد يولد له، وأمره أن يسميه قطب الدين كاسمه،
فلما ولدت أنساه الله سبحانه أن يسميني قطب الدين، وسماني ولي الله، وذلك لانعقاد
الأسباب على كوني متولى – على صيغة المفعول – ثم سماني بقطب الدين أيضا»([10]).
المبحث
الثاني: ولادته ونشأته:
ولد الإمام الشاه ولي الله يوم الأربعاء، لأربع
عشرة خلت([11])
من شهر شوال، سنة أربع عشرة ومائة وألف (1114هـ)، في أيام الملك العادل، الصالح
القانت أورنكزيبعالَمْكِير قدسنا الله بأسراره، وقبل وفاته بأربع سنين بالتحديد؛
حيث توفي عالمكير في عام 1118هـ.
كانت الهند - كسائر الأقطار الإسلامية - في هذه
الفترة معمورة بأهل العلم والصلاح والتقوى، اشتهر فيها في ذلك الوقت رجال من
الفقهاء الحنفية والشافعية، والمحدثين والمتكلمين على منهج أهل السنة: الأشاعرة
والماتريدية، والمتصوفين السالكين طرق كبار أئمة التصوف، كالشيخ عبد القادر
الجيلاني، والسيد أحمد الكبير الرفاعي، والخواجه معين الدين الجِشْتِيالأجميري
الهندي. ولم يدخل الهندَ ضلالاتُ وإسرائيليات ابن تيمية الحراني في هذه الفترة،
ولا خرافات زعيم البادية، وأما الشيعة الشنيعة فكانت موجودة في بعض مناطق الشمال،
إلا أن علماء السنة كانوا لها بالمرصاد.
فمن مشاهير أئمة الإسلام في الهند في هذه الفترة:
الإمام المحدث الشيخ عبد الحق الدهلوي (ت: 1052هـ)، والإمام الشيخ عبد الحكيم
السيالكوتي، إمام العلوم العقلية واللغوية في العالم الإسلامي (1067هـ)([12])،
والإمام العلامة الشيخ محب الله البهاري الحنفي الماتريدي (ت: 1119هـ)([13])،
والعلامة الشيخ نظام الدين السهالوي الحنفي الماتريدي (1088-1161هـ)، وابنه
العلامة بحر العلوم عبد العلي (1142-1225هـ)([14])،
هذا في شمال الهند، وإن جئت إلى الجنوب تجد أمثال السيد شيخ بن محمد الجفري
الشافعي الأشعري (ت: 1222هـ)([15])،
وغيرهم من أصحاب المتون المتينة والشروح القيمة والحواشي المفيدة والتعليقات
المنيرة، ولولا ضيق الوقت لذكرت طائفة
كبيرة منهم([16]).
لماذا نذهب بعيدا؛ فإنه وإن لم يوجد في الهند
كلِّها غيرُ حاكمِها الفاضل، الإمام العادل أورنكزيبعالمكير رضي الله عنه لكفى
الهندَ رفعة وعزة، وفخارا ونخوة، وهو كوكب الهند وسراجها، بل هو شمس الخلافة
الإسلامية وقمرها، إليه تنسب «الفتاوى العالمكيرية» العظيمة في ست مجلدات كبار،
وبأمره جمعت، وتحت رعايته دونت([17])،
وهي الشهيرة في العالم العربي بـ«الفتاوى الهندية» على المذهب الحنفي، لا على مذاق
اللامذهبية الوهابية. وعرفنا أن الشاه ولي الله ولد قبل وفاته بأربعة أعوام.
وهدفي من هذه الإشارة هو التنبيه على خطأ يرتكبه
أصحاب النوايا السيئة، وتلبيس يتعمده ذوو الأغراض الخبيثة المعروفة؛ حيث يقولون إن
الهند في هذه القرون كانت غارقة في الشركياتوالكفريات والسحريات والنارنجات، وإن
المسلمين في الهند لم يكن لهم إمام يقتدى به في تلك الفترة. اقرأ مثلا ما كتبه ذلك
المسكين السيالكوتي في كتاب يؤرخ للشاه ولي الله، استهدف به ترويج بضاعاته الكاسدة
باسم هذا الإمام، وعليه وعلى من عَوَّده هذا التجريَ أن يعلم جيدا أن مثل هذا
التهيج والتشنج لا يكسر الحق ولا ينصر الباطل، وانظره وهو يقول عند وصفه للهند في
الزمن الذي عاش فيه الشاه ولي الله ما نصه:
«ومن الناحية الدينية قل العلم والعلماء، وأقفرتالمساجد،
وفشا الجهل، ونفقت أسواق البدع والأوهام والاعتقادات الباطلة باسم التصوف، وتحت
ستار الروحانيات، يروجها الدراويش المشعوذون، والفقراء الفاسقون، والمتصوفون
الأدعياء، الذين كانوا يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدونهم عن سبيل الله. وكانوا
يتجولون في القرى والمدن، يحملون في أعناقهم السبحات والتمائم والتعاويذ، ويوهمون
الناس أنهم أولياء الله وخاصته، وهم أبعد خلق الله عن الإسلام والصلاح، فازداد الإقبال
على القبور والأضرحة، يتبرك بها الناس باللمس والتقبيل، وأحيانا بالسجود والحج
إليها([18])،
وشد الرحال إليها كل سنة، ويسألون أهلها حاجاتهم، وأصبحت هذه القبور والزوايا مأوى
أهل البطالة والعبث والمجون. أضف إلى ذلك أن المسلمين يعاشرون الهندوس والسيخ
المشركين، وعبدة الأوثان والأبقار، فكانوا يقتبسون من عاداتهم وعباداتهم،
ويستسلمون لخرافاتهم، طائعين أو مكرهين، إلا من شاء الله»([19]).
وأنت أيها القارئ الكريم حين تقرأ هذا الكلام تحسب
أن المسلمين في الهند في هذه الفترة كانوا في جهل مطبق، وأن العصر الجاهلي المعروف
في التاريخ كان أحسن حالا من هذه الحالة البائسة. ولِمَ كل هذا الكذب والتزوير
والتلبيس !!؟ ألا يستحيي هؤلاء من أهل الملل والأديان الأخر، حين يرون حال
المسلمين هكذا، وهم خير أمة بنص الكتاب، لم ينصلح أمرهم طوال هذه الفترة، بل كل
عصور الإسلام هكذا في نظرهم عصور مظلمة غارقة في الجهل، فتراهم يترجمون لابن تيمية
فيصفون العالم الإسلامي في القرن الثامن بالجهل والخرافة، وحين يترجمون لكل شاذ في
كل قرن يصفون القرن الذي عاش فيه ذلك الشاذ بأنه قرن الجهل والكفر والشرك، سواء في
ذلك الهند وغير الهند !!
وهنا يريد هذا المسكين أن يجعل من العلامة الشاه
ولي الله الدهلوي شاذا مثل ابن تيمية، وأراد أن يجعله بطلا أسطوريا وهابيا،
وأسطورة إصلاحية جهادية، فمن هنا كان كل هذا العبث بالتاريخ، ولكن الله متم نوره،
ولو كره الملبسون. وهل يترك مثلُه على جهله ولا يُعَلَّم، وتُخَلَّى أظفارُه على
طولها ولا تُقَلَّم ؟ كلا، بل مَن يطغيه الصفحُ يجب أن يُقرَع، ومن يناهض الحجة
بالإقذاع يلزم أن يصفع، فلا بد من القيام بواجب البيان؛ ردعا لقوم لا يجيدون إلا
البهتان، وسوف تعرف حين تطلع عما قريب على عقيدة مولانا الشاه ومذهبه ومشربه
الروحي كيف أن محاولات هذا المغرور وأمثاله باءت بالفشل الذريع، وذهبت أدراج
الرياح.
وأنا لا أنكر وجود أي انحراف عقدي أو عملي أو سلوكي
في جماعات المسلمين، ولا أقول إن المسلمين في طوال عصورهم كانوا جميعا على الهدى
والاستقامة، ولا داعي لإنكار الحقائق([20]).
وإنما الذي أُذكِّر القارئَ به هو أن هذا النوع من التصوير لحالة المسلمين صادر لا
محالة عن بغض وكراهية للوهابية تجاه هذه الأمة المرحومة، وأن وجود أشخاص بين الأمة
منحرفين عن الاستقامة لا يدعونا إلى مثل هذه المبالغات القبيحة السافرة، والتكلفات
الشنيعة الباردة، وأهل السنة بفضل الله يبلغ عددهم ملايين الناس، فوجود عشرة أو
مائة منحرفة لا يُذْكَر إلى جانب السواد الأعظم، بالإضافة إلى أن القيام برعاية
هذا الكم الهائل من النسمة، وتربية هذا العدد الكبير المتفرق بين أرجاء البلاد ليس
أمرا سهلا.
وهذا على خلاف المبتدعة كالوهابية؛ فإنهم في كل
قرية واحدٌ أو اثنان، أساس دعوتهم يقوم على تحسين المظهر، وإظهار التقشف، وإبراز
التدين؛ حيث لا يملكون شيئا سواه، ولا ينتمون إلى حجة أو برهان يثبتون به صحة
نحلتهم وسلامة مذهبهم. ولا ينخدع بالمظاهر إلا الرعاع الغوغاء، وهو الذي حدث
بالفعل في طول تاريخ الحشوية والكرامية، ولا يزال يحدث. وما أصدق قولك يا رسول
الله e؛ حيث قلتَ في كبيرهم الشقي
الذي قال لك «اعدل يا محمد»: «دعْه؛فإن له أصحابا
يحقر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامَه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز
تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية»([21]).
ومنهج علمائنا هو النصيحة، واللطف في الإرشاد، وهم
مستمرون على هذا، يصحح بعضهم أخطاء بعض، بالشروط التي يجب مراعاتها في الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر. وليس منهجنا قائما على اتهام سلف الأمة بالشرك والكفر
والبدعة، وتحقيرِ حملة الدين والعلم، والتقليلِ من شأنهم في أعين الناس، وأهل
السنة ليسوا محتاجين إلى هذا أصلا؛ لأنهم وسلف الأمة شيئ واحد، بينما الوهابية
قائمة على هذا؛ إذ إن منهجهم مخالف لمنهج السلف الصالح جملة وتفصيلا، ومن هنا مست
لهم الحاجة للطعن في سلف هذه الأمة: عوامهما وخواصها، في عقيدتهم وفقههم وتصوفهم.
وانظر كتابات كبيرهم، وأستاذ أساتذتهم أبي الحسن
الندوي، ذلك المهذار المتهافت، تجد النفَسَ نَفْسَه، وها هو نص عبارته في «رجال
الفكر»، وهو يصف القرن الثاني عشر الهجري: «يغلب على أصحاب العلم والمثقفين في هذا
العصر ذوق الأدب والشعر، وثقافة المجالس والنوادي، واللطائف والطرائف، والألغاز
والأحاجي، ولا يبدو أنهم حازوا فيها الفضل والسبق، أو ابتكروا نوعا جديدا، بل يطرد
فيه السجع، وتكثر القوافي، ويغلب التكلف والتعمل، ويتجلى تأثير الحكومة التركية
على الأوساط العلمية والأدبية، فلا يعثر على باحث محقق، ومفكر كبير إلا بعد بحث
كبير، وتزخر المجلدات الأربعة لـ«لسلك الدرر» للمرادي بالقصائد والغزليات والأبيات
والمقطوعات الشعرية، ويكثر فيها ذكر المكاشفات والكرامات، والأوهام والخرافات...
وتنتشر الرقى والتمائم، وقد نظم بعض العلماء متن «القدوري» والمتون الفقهية
الأخرى»([22]).
هكذا كان الندوي، وكل ميزته كونه سلس الكلام، لا
يستعصي عليه طريق في التمويه ! وسيأتي الرد على بعض هذه الترهات في ثنايا هذه
الدراسة إن شاء الله تعالى.
المبحث
الثالث: شيوخه وأساتذته:
بدأ الشيخ الشاه ولي الله دراسته على يد والده
الماجد الشيخ عبد الرحيم؛ حيث أخذ عنه الرسائل المختصرة بالعربية والفارسية، وقد
شرع في «شرح الكافية» للعلامة الجامي، وهو
ابن عشر سنين، وتزوج وهو ابن أربع عشرة سنة، وبايع والده، واشتغل عليه بأشغال
المشايخ النقشبندية، وقرأ «تفسير البيضاوي»، وأجيز بالدرس، وفرغ من التحصيل وهو في
الخامس عشر من سنه. وكان قرأ طرفا من «المشكاة» و«صحيح البخاري» و«شمائل الترمذي»
و«المدارك»، ومن علم الفقه «شرح الوقاية» و«الهداية» بتمامهما إلا طرفا يسيرا، ومن
أصول الفقه «الحسامي» وطرفا صالحا من «التوضيح» و«التلويح»، ومن المنطق «شرح
الشمسية» وقسطا من «شرح المطالع»، ومن الكلام «شرح العقائد» وجملة من «حاشية
الخيالي» و«شرح المواقف»، ومن التصوف قطعة من «العوارف»، ومن الطب «موجز القانون»،
ومن الفلسفة المشائية «شرح هداية الحكمة»، ومن علوم العربية «المختصر» و«المطول»،
وبعض الرسائل في الهيئة والحساب. كل هذه الكتب قرأها على أبيه رحمه الله([24]).
ولا يخفى أن هذه الكتب التي ذكرناها هي أمهات الكتب
العلمية التي كان – ولا يزال – طالب العلم يقرأها لتحصيل الملكة العلمية، في
الفنون المختلفة، وقد درسها على والده. ومن هنا فإن الشيخ عبد الرحيم يعتبر أهم
أساتذة الشاه ولي الله الدهلوي بلا شك.
(2)
الشيخ محمد أفضل السيالكوتي:
وممن أخذ
عنه الشاه ولي الله الدهلوي في الهند الشيخ محمد أفضل السيالكوتي، وكان من أئمة
الحديث في زمانه، فانتفع به الشاه ولي الله في علم الحديث([25]).
ثم بعد ذلك توجه إلى الحرمين الشريفين، وكان ذلك
سنة 1143هـ، فأقام هناك عامين كاملين، صحب من خلالهما علماء الحرمين صحبة شريفة،
ومن مشايخه الذين تلقى عنهم هناك:
صحبه في «المدينة المنورة»، فقرأ عليه «صحيح
البخاري» وشيئا من «صحيح مسلم» و«جامع الترمذي» و«سنن أبي داود» و«سنن ابن ماجه» و«موطأ
الإمام مالك» و«مسند الإمام أحمد» و«الرسالة» للإمام الشافعي و«الجامع الكبير»،
وسمع منه «مسند الحافظ الدارمي» من أوله إلى آخره في عشرة مجالس، كلها بالمسجد
النبوي، عند المحراب العثماني، تجاه القبر الشريف– على صاحبه أفضل الصلاة
والتسليم - وشيئا من «الأدب المفرد» وشيئا من «الشفاء» للقاضي عياض، وسمع عليه «الأمم
في إيقاظ الهمم» ثبت والده الشيخ إبراهيم الكردي مع التذييل.
فأجازه الكردي إجازة عامة بما تجوز له وعنه روايته
من مقروء ومسموع، وأصول وفروع، وحديث وقديم، ومحفوظ ورقيم، وذلك في عام 1144هـ([27]).
وبعد ذلك جاء إلى «مكة المكرمة»، وأخذ هناك عن:
(4)
وفد الله المالكي المكي:
تلقى
عنه «موطأ الإمام مالك».
(5)
الشيخ تاج الدين القلعي المكي:
أخذ عنه «موطأ الإمام مالك»، وأطراف الكتب الستة،
ومسند الدارمي، وكتاب الآثار، وأخذ الإجازة عنه لسائر الكتب، وأخذ عنه الحديث
المسلسل بالأولية عن الشيخ إبرهيم بن الحسن المدني. ثم بعد هذه الرحلة العلمية
المباركة عاد الشاه ولي الله الدهلوي إلى بلده الأم الهند في عام 1145هـ([28]).
المبحث
الرابع: مؤلفاته وآثاره العلمية:
(4)
تأويل الأحاديث، رسالة نفيسة له بالعربية، في توجيه قصص الأنبياء
عليهم السلام، وبيان مباديها التي نشأت من استعداد النبي وقابلية قومه، ومن
التدبير الذي دبرته الحكمة الإلهية في زمانه([32]).
(5)
فتح الخبير، وهو الجزء الخامس من «الفوز الكبير»، اقتصر فيه على
غريب القرآن وتفسيره مما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما([33]).
(7)
المصفى شرح الموطأ، برواية يحيى بن يحيى
الليثي، مع حذف أقوال الإمام، وبعض بلاغاته، تكلم فيه ككلام المجتهدين([35])، وهو باللغة الفارسية،
وقد طبع في الهند.
(8)
المسوى شرح الموطأ، اكتفى فيه بذكر اختلاف
المذاهب، وقدر من شرح الغريب([36]). ذكره في «التفهيمات»([37]).
(10)
التفهيمات الإلهية، باللغة العربية ويتخللها
عبارات بالفارسية في بعض المواضع، وقد طبع في الهند في مجلدين، وهو كتاب عظيم
القدر، تعرض فيه لمسائل علمية شتى، كلامية وفقهية وأصولية وصوفية. والظاهر أنه
ألفه بعد تأليف «حجة الله البالغة» و«الخير الكثير»؛ إذ فيه إحالة عليهما: على «الحجة»([39])، وعلى «الخير»([40]). وبعد كتب أخرى له أيضا،
كما أشرت إليه في هذا المبحث.
(12)
حجة الله البالغة، له طبعات هندية، وطبع
أيضا في القاهرة وبيروت، أكثر من مرة.
(13)
الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف، وله طبعات عدة.
(14)
عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد، له طبعة هندية قديمة، وضع
فيها بين سطورها ترجمة أردية للكتاب، وله أيضا طبعات في خارج الهند، من بيروت/
لبنان، والشارقة/الإمارات، إلا أنها تم إخراجها على غير الوجه الذي أراده له
مؤلفه؛ حيث البدعة اللامذهبية هي الدافعة لناشريه إلى نشره.
(15)
خزائن الحكمة، وهو المسمى أيضا بـ«الخير الكثير»، له طبعة هندية حجرية،
وأخرى بيروتية حديثة. وهو كتاب يجمع بين العلوم الفيضية والكسبية في العلوم
الكلامية والفلسفية والصوفية، وانتماؤه السني الأشعري بارز فيه، بحيث لا يحتاج إلى
طول تأمل للتعرف على مذهب مصنفه، ويوجد فيه عبارة خطيرة لا تصدر إلا عن قلب مبتدع
وهابي، وهي متعلقة بقضية الاستغاثة والاستمداد بمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء
بعد مفارقتهم لحياتهم الدنيوية، وهي عبارة تتناقض تناقضا صريحا سافرا مع عبارات
للدهلوي كثيرة في هذا الكتاب نفسه، وفي غيره من كتبه، فمن هنا فقد تصدى العلامة
الشيخ أحمد كويا الشالياتي– وهو سيف من سيوف أهل السنة في الهند في القرن الماضي –
لبيان أن هذه العبارة مدسوسة في كتاب مولانا الشاه، من قبل حفيده الخاسر، الحائد
عن مسلك آبائه الأكابر، إسماعيل الدهلوي، وأفرد في هذا الموضوع رسالته المسماة بـ«دفع
الشر الأثير عن الخير الكثير»، وهي مطبوعة.
(16)
فيوض الحرمين، وقط طبع في الهند قديما طبعة حجرية، مع ترجمة أردية
له. وهذا الكتاب عبارة عن تجاربه الشخصية التي مر بها أيام كان مقيما في الحرمين
الشريفين، وهي تجارب صوفية كشفية إلهامية أو منامية، كما يدل على ذلك اسم الكتاب
نفسه، وفيه أصرح دلالة على أنه رحمه الله لم يكن حائدا إلى الضلالات النجدية قيد
أنملة، على خلاف ما يروجه الندوي المسكين ومن اغتر به من المساكين.
وله رحمه الله مؤلفات أخر غير هذه التي ذكرتها،
ولسنا بصدد ذكر جميعها هنا، وإنما هذه دراسة موجزة، يكتفى فيها بمجرد الإشارة إلى
شخصية هذا الإمام، ومواهبه المتعددة، ومسلكه الفكري ومذهبه الفقهي ومشربه الروحي،
وهي تساعد من أراد التوسع في دراسة الدهلوي دراسة شاملة، ودراسة تاريخ الإسلام
ونهضة أهل السنة والجماعة في الديار الهندية بصفة عامة.
الفصل
الثاني
عقيدته
ومذهبه وتصوفه
هذا المبحث من المباحث المهمة في سيرة وترجمة
مولانا الشاه ولي الله الدهلوي؛ حيث قد شوهت صورته، كما مرت الإشارة إليه، بشكل
رهيب في كتابات ودراسات بعض من في قلوبهم مرض: مرض الوهابية أو اللامذهبية، أو
المودودية، أو الديوبندية، أو الإصلاحية والندوية. ومن أصرح الأدلة على إفلاس فكر
أو مذهب أيا كان أن يدعي أصحابُه أن أشخاصا مخالفين لهذا الفكر هم أصحابُ هذا
الفكر، بل وزعماؤه. هذا ما نجده واضحا كل الوضوح في فكر ابن تيمية ومدرسته،
وتوارَثَه عنه كل خارجي وحشوي بعده، ادعى أن كبار مخالفي نحلته رجعوا إلى مذهبه
الخبيث قُبيل الموت، وذكر منهم إمامَ أهل السنة أبا الحسن الأشعري نفسَه !! ثم
إمام الحرمين الشريفين، ثم فخر الملة والدين الرازي.
وهي فلسفة سخيفة فُطر عليها كل تيمي بعده، وهذا هو
أبو الحسن الندوي الإصلاحي الوهابي في غير ما كتاب له، سيما في «رجال الفكر
والدعوة»، وآخرُ في «الشاه ولي الله الدهلوي؛ حياته ودعوته» وغيرهما ممن على
شاكلتهما في غيرهما يطبقون هذه الفكرة نفسها، يظنون أن الناس بعدهم يتلقفون
ترهاتهم مغمضي الأعين فاقدي الشعور. ولا يشعر هؤلاء القوم بأدنى حياء حين يرتكبون
مثل هذه الفضائح المكشوفة، وهذه الخطة الخبيثة مما تجتمع فيه الوهابية التيمية مع
الشيعة الشنيعة، حيث تجعل الشيعة كثيرا من الشخصيات السنية الأشعرية شيعة مثلهم،
ويستدلون على ذلك لأن هذا الشخص له قصيدة في المدح والثناء على فاطمة البتول بضعة
الرسول e !! أو أنه ألف رسالة في
مناقب سيدنا الإمام على t وكرم وجهه ! فمن هنا هو شيعي، بل من زعماء الشيعة !!
وهكذا الوهابية تماما، يجعلون شخصيات سنية كبيرة من
زعماء الوهابية ! ويستدلون على ذلك بأن لهم ردودا على السجود عند القبر ! وعلى
عقيدة وحدة الوجود الفلسفي ! وكم كنا نستغرب حين جعلوا مثل الإمام الشيخ زين الدين
المليباري وشيخ بن محمد الجفري والقاضي عمر البلنكوتي من أئمة أهل السنة الأشاعرة
في «مليبار»، جعلوهم من «المصلحين المستنيرين»، بالمفهوم الوهابي للإصلاح
والاستنارة؛ نظرا لما قاموا به من خدمات جليلة في تجديد ما اندرس من معالم الدين
!! ولا يخفى على مليباري أن هؤلاء الأئمة ألد أعداء الفكر التيمي والوهابي، والشيخ
الجفري رحمه الله له رسالة مشهورة في الرد على ضلالات زعيم البادية، وهي مطبوعة
منتشرة. ولا أخفيكم سرا حين أقول: إنهم لو قالوا، بعد موتي، زورا وبهتانا، إن شخصا
اسمه عبد النصير المليباري كان من زعماء الإصلاح – بمفهومهم المعوج – في الهند؛
نظرا لكذا وكذا لم يكن ذلك بعيدا من هؤلاء، وأنا أعوذ بالله من أن يثني عليَّ
مبتدعٌ سقيمُ العقيدة، بعد موتي وأنا راقد في الجدث، أو في حال حياتي وأنا بعيد
عمن أُثْنِي لَه، أتعرض لضلال بسطاء الناس، ولا أعرف، أعوذ بالله من ذلك بجاه رسول
الله e.
نعود إلى الشاه ولي الله، والعود إليه أحسن، يقول
أحدهم، وهو يحاول جاهدا لجعل الشاه ولي الله وهابيا خرافيا، يقول ما نصه: «وتُعْرف
حركة الإصلاح والجهاد التي نظمها هؤلاء الأبطال المجاهدون؛ سعيا لتحرير البلاد
من الاستعمار الإنجليزي والسِّيخ، ولتحقيق المبادئ الإسلامية، التي نادى بها
إمامهم الشاه ولي الله الدهلوي رحمه الله، بالحركة الوهابية في تاريخ الهند»([42]).
أ رأيت كيف يكون تزوير التاريخ، وتخدير العقول، يتخذونه وهابيا، لا، بل إمام
الوهابية، سبحانك هذا بهتان مبين. وسيأتيك قريبا أدلة بهته وافترائه واحدا تلو
الآخر.
ثم انظر إلى كذبة أخرى له باردة، يريد بها تلبيس
الأبالسة، وترويج البضاعة الكاسدة، يقول بلا أدنى حياء ما نصه: «...وكان الله I أعطاه من الذكاء المفرط،
والاستقلال الفكري ما هداه إلى دراسة المذاهب الأربعة والنظر في أصولها ومناهجها، فلم
يقتنع بالتقيد بواحد منها...»([43]).
وقد سبقه حشوي آخر، وهو ابن الآلوسي من حشوية
العراق –«الذي تربطه بالقنوجي الوهابي الهندي صلة مادية متينة»، على ما لاحظه
العلامة الكوثري([44])
- في «جلاء العينين»؛ حيث جعل الشاه ولي الله ممن دافع عن ابن تيمية الحراني،
ولكنه لم يأت على ذلك بدليل من عشرات الكتب والرسائل التي تركها هذا الإمام،
وصلتنا مطبوعا أو مخطوطا، بقطع النظر عما إذا كان قد أصاب بعضها دس أو تحريف. وفي
النهاية نقل جملة من مكان لا نعرف عنه شيئا، وليس هو أمامنا؛ حيث قال: «وله – أي للدهلوي
– رسالة في التفهيمات الإلهية، فيها الذب عن شيخ الإسلام ابن تيمية، قال فيها:
والذي أعتقده أنا، وأحب أن يعتقده جميع المسلمين في علماء الإسلام، حملة الكتاب
والسنة والفقه الذابين عن عقيدة أهل السنة والحديث أنهم عدول بتعديل النبي e، وإن كان بعضهم قد تكلم فيهم
بما لا يرتضيه هذا المعتقد؛ إذ كان قولهم ذلك غير مردود عليهم بنص الكتاب والسنة
والإجماع، وكان قولهم ذلك محتملا، وكان مجال ومساغ للخوض فيه، سواء كان قولهم ذلك
في أصول الدين، أو في المباحث الفقهية، أو في الحقائق الوجدانية، وعلى هذا الأصل
اعتقدنا في شيخ الإسلام ابن تيمية إلخ»([45]).
ولم يذكر هذا المسكين رقم صفحة المنقول منه، ولا
أين طبع، ومما يقوي احتمال التزوير فيه أن الندوي – هو الآخر ممن يسير في ركب
الحشوية– ينقل هذا النص عن الدهلوي؛ لإثبات كونه تيميا، ولكن هذا الندوي الهندي لا
ينقله عن الدهلوي الهندي مباشرة، بل يطوف حول العراق لينقل كلام العالم الهندي في
كتاب ألفه في الهند – على صحة الفرض - عن ابن الآلوسي العراقي([46])
!! ولم يذكر كذلك رقمَ صفحةِ وتاريخَ ومكانَ طبعِ «التفهيمات الإلهية» الموجودة
بأيدينا اليوم، ولا أيَّ كتاب آخر للدهلوي يوجد لدينا حاليا. فهذه هي الحجة
والبرهان التي ثبت بها ثناء هذا الإمام على ذلك الحراني، والتي يتخيل المساكين
المفلسون ويحلمون أنهم يثبتون بها تيمية ووهابية مولانا الشاه رحمه الله، وليس لهم
حجة غيرها، فضلا عن شبهة على إثبات هذا المطلب، وأما هذه "الحجة" فقد
بينا عوارها وبطلانها، أ رأيت الآن كيف يبني الحشوية قصورهم على الرمال !!
وللوهابية محاولات مستميتة لجعل مولانا الشاه
وهابيا متمجهدالامذهبيا جهاديا مثلهم، وصفحات كتيباتهم مليئة بأكاذيب وأساطير
يظنون أنها تحقق مطالبهم، وأكتفي بهذا القدر من النقول، ولا خير في جلب المزيد من
أمثالها لنُدنِّس بها صفحات هذا الكتاب. وفيما يلي سوف أُطْلع القارئَ المتبصر على
حقيقة الأمر؛ حتى لا ينخدع بسلسلة التلبيسات مرة أخرى، أذكر دلائل وشواهد تقطع بأن
مولانا الشاه رحمه الله حنفي المذهب في الفروع، وأشعري المعتقد، وصوفي نقشبندي
المشرب.
المبحث الأول: الشاه ولي الله الدهلوي الأشعري
يعتبر الشاه ولي الله الدهلوي ممن أشاد بالمذهب
الأشعري، وقام بإرشاد الناس إليه، وأحال على كتب أئمة الأشاعرة الكلامية([47])،
من خلال مؤلفاته وكتاباته، وله سند معروف في الكتب الكلامية على المذهب الأشعري
إلى مصنفيها، وكذلك سنده في «الفتوحات المكية» للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي([48]).
وسبق أن رأينا حين تعرضنا للمنهج الدراسي الذي تربى عليه الإمام، وهو منهج سني
أشعري أو ماتريدي، ولم يكن هذا اعتباطا أو مجرد اتفاق، بل هو منهج اختاره له والده
الشيخ عبد الرحيم الدهلوي رحمه الله الذي لا نشك في أنه يختار لابنه ما هو أفضل ليكون
على الحق والصواب فيما يعتقده ويعمل.
ومن أصرح الأدلة على أنه أشعري العقيدة ما كتبه هو
نفسه في بعض إجازاته لمن ختم عنده قراءة «صحيح البخاري»؛ إذ ورد فيها ما نصه:
«..... وكَتَبَه بيده الفقيرُ إلى رحمة الله الكريم الودود ولي الله أحمد بن عبد
الرحيم بن وجيه الدين بن معظم بن منصور بن أحمد بن محمود – عفى الله عنه وعنهم،
وألحقه وإياهم بأسلافهم الصالحين – العمري نسبا، الدهلوي وطنا، الأشعري عقيدة،
الصوفي طريقة، الحنفي عملا، والحنفي والشافعي تدريسا...» ([49]).
كتب هذا في عام 1159هـ، كما في آخر تلك الإجازة، وهذا يعني أنه كان في الخامسة
والأربعين من عمره، وبعد أربعة عشر عاما من رجوعه من الحرمين الشريفين.
وبعد هذا فلا نحتاج إلى دليل آخر لنثبت به أشعريتَه؛
لأن أكبرَ وأفضلَ شهادةٍ على عقيدة المرء هو شهادة المرء نفسها، التي لا تساويها
أيةُ شهادة كائنة ما كانت. ومن هنا فإنا إن وجدنا له كلاما يخالف مقتضى هذه
الشهادة، أي يخالف المذهب الأشعري فلا بد أن نقف معه وقفة تأمل؛ إذ إن ذلك قد يكون
مدسوسا على الرجل، سيما وقد توفرت إمكانية الدس من قبل حفيده الذي انحرف إلى
الضلال الوهابي([50])،
أو أن له بعض اختيارات في جزئية من جزئيات المذهب، سواء كان هذا الاختيار معدودا
من المذهب، أو خارجا عنه، ثم احتمل أن يكون قد رجع عنها بعد ذلك، شأنه في ذلك شأن
غيره من أئمة الأشاعرة.
ولكن لزيادة توضيحِ أشعريتِه أذكر هنا بعض النصوص،
وأسوق فيما يلي بعض النقول من مؤلفات الشاه ولي الله نفسها، سيما النصوص والنقول
التي فيها مخالفة صريحة واضحة لبدعة التيميين وضلالات الوهابيين؛ قطعا لدابر
الشبهات والخيالات التي يصطادون بها ضعاف النفوس.
1-
قال الشاه ولي الله الدهلوي في كتابه «خزائن الحكمة»: «ما أحقَّ
ما يتفصى به الإمامُ أبو الحسن الأشعري في المضايق، من الاعتصام بالإرادة، لا يسأل
عما يفعل وهم يسألون، ويقول: إن الإرادة مخصصة بنفسها، وليست أفعال الله سبحانه
معللة بالأعراض»([51]).
وليس خافيا على من عنده أدنى مسكة بعلم الكلام معنى
هذه العبارة ومغزاها، وهي تدل على الاتجاه الأشعري في قضية «التعديل والتجوير»،
التي ينبثق عنها الكثير من المسائل، من أهمها مسألة التحسين والتقبيح، وتعليل
أفعال الله تعالى بالأغراض. ورأينا في هذا النص كيف أن الإمام الدهلوي حكم على
المذهب الأشعري بأنه على الحق في هذه المسائل، وبالتالي فإن كل من خالفه، كالمعتزلة
والشيعة والتيميين([52])،
وصنوف الْمُعَلِّلين والْمُحَسِّنين مجانب للحق والصواب. وهذا من أصرح الأدلة على
انتمائه لهذا المذهب، وعلى نصرته له في ثنايا كتبه ومؤلفاته.
وهناك نصوص أخرى له تثبت أنه سني أشعري في مسألة
التحسين والتقبيح، فمثلا يقول في «التفهيمات الإلهية»: «الحسن والقبح بمعنى كون
العمل سببا للثواب والعقاب شرعيان عند أهل السنة»([53]).
ويقول فيها أيضا: «ليس للعقل حكم في حسن الأشياء وقبحها، وكونِ الفعل سببا للثواب
والعقاب، وإنما حسن الأشياء وقبحها بقضاء الله وحكمه وتكليفه للناس»([54]).
وهو يقول فيها بعد ذكر جملة من المسائل العقدية التي منها ما نقلته ومنها ما لم
أنقله هنا، إلا أنها جميعا عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب الإمام الأشعري،
يقول بعد ذلك بكل صراحة: «... فهذا عقيدتي، أدين الله تعالى بها ظاهرا وباطنا،
والحمد لله أولا وآخرا»([55]).
2-
قال في«خزائن الحكمة» أيضا: «ولما أورِد على إمام أهل السنة –
يقصد الإمام أبا الحسن الأشعري بلا شك - أن صفات الله قديمة، فلِم حدث الكلام ؟
تفصى عنه بأن الصفة قديمة، وتعلقها حادث»([56]).
يشير الإمام الدهلوي في هذا النص إلى مسألة خطيرة،
تتعلق بالصفات الإلهية، وهي تعتبر من مضايق علم الكلام؛ حيث تقرر قدم الصفات
الإلهية – كالعلم والقدرة والإرادة والكلام – وتقرر أيضا حدوث الطرف الآخر الذي
ترتبط به هذه الصفات نوعا ما من الارتباط، كالمعلوم والمقدور والمراد والمخاطَب،
فاللقاء بين القديم والحادث مما أربك عقولَ كثيرٍ من الأذكياء، وتخبَّطَ كثير منهم
في حله، إلا أن أمثل حلٍّ له وأبعدَه عن الإيرادات والمُنُوع هو حل إمام أهل السنة
والجماعة أبي الحسن الأشعري، المتمثل في نظرية التعلقات التي تلعب دورَ الوسيط بين
القديم والحادث، إن صح التعبير. وفي كلام الشاه ولي الله هذا إشادة بالإمام
الأشعري حيث قال إنه إمام أهل السنة، وأنه استطاع التفصيَ عن المشكلة بابتكار الحل
المذكور.
ومعلومٌ دندنةُ ابن تيمية حول تعلقات الصفة، التي
تنسف الفكرَ التيمي - القائم على التجسيم والقول بحوادث لا أول لها – نسفا،
وتستأصلها من جذورها، ومن هنا فقد طالت ثرثرته الفارغة ضد القول الأشعري بتعلقات
الصفات. ومعلوم كذلك ما بذله ابن تيمية من جهود جبارة لإقامة الفكر الكرامي الحشوي
في صفة الكلام. وكلام الشاه ولي الله هذا يُسفِّه هذا المذهب الكرامي الذي تمنى
ابن تيمية إحيائه من جديد.
3-
قال الإمام الدهلوي في «خزائن الحكمة» أيضا: «ولمذهب أهل السنة
عندنا وقعٌ، ومذهبه من تماثيل مذهب الصحابة»([57]).وقال
في نص أكثر روعة وصراحة في الكتاب المذكور نفسه: «لو اعتبرت الحالة التي تحق
بالصحابة فلا تحقيق إلا في مذهب الأشاعرة، وهذه الحالة هي التي تجب على المقلدين،
فكل فرقة مقلدة أَبَتْ ذلك فهي خاطئة»([58]).
الله أكبر ثم الله أكبر، أحمد ربي حمدا كثيرا على
أن حفظ لنا هذا النص الغاليَ الواضحَ، وأبقى لأهل السنة تلك الكلماتِ العالياتِ
الصريحةَ، دون أن تمتد إليها أيدي العابثين المجرمين، ممن اتبعوا سنة اليهود في
تحريف الكتب وتبديل الصحف. وهل يقول عاقل بعد هذا إن الشاه ولي الله الدهلوي من
الوهابية أو الإصلاحية أو المودوديةوالديوبندية، فضلا عن كونه زعيم الوهابية كما
زعمه الزاعمون منهم !!؟؟ وإن قاله أحدهم، وهو شاعر ليس فاقدا للوعي والشعور، فليت
شعري ما الجنون !! وهكذا يختم الله على قلب كل متكبر جبار.
لا شك أن هذين النصين من مثل هذا الإمام الجليل
لهما أهمية كبيرة، حيث يقطعان كل الشبهات التي قد تعتري عقولَ التائهين في محيط
الأفكار المتعارضة، ونفوسَ الطائشين في فضاء الاتجاهات المتباعدة، فلا تهتدي إلى
طريق السلامة والنجاة، فينبري لها رجل يُمْتَثَل له في توجيهاته، ويُقتدَى به في
مثل هذه المدلهمات كالإمام الدهلوي، فيقول في صراحة تقطع دابر كل شبهة: إنه المذهب
الأشعري الذي يجب الأخذ به واعتقاده دينا، وكل من امتنع عن ذلك فهو لا محالة واقع
في الخطأ.
وأعتقد جازما أن مثل هذه التصريحات من مثل هؤلاء
الرجال يعد من أهم أسباب انتشار المذهب الأشعري في ربوع الهند، بل في العالم
الإسلامي أجمع، ويعتبر من أشد المؤثرات على عقول المجتمع المسلم في قبول هذا
المذهب واحتضانه والدفاع عنه، والرد على ما يخالفه، وهو الذي قد حدث بالفعل، وفي
الوقت نفسه صار الشاه ولي الله الدهلوي بمثل هذه المواقف الواضحة والجريئة محبوبا
في قلوب الملايين من أهل السنة في الهند وغير الهند، يعيش فيها معززا مكرما، ويحظى
باحترامها وتقديرها دائما وأبدا.
4-
يقول رحمه الله في «التفهيمات»: «... ولا يقوم بذاته حادث، فليس
في ذاته ولا في صفاته حدوث.... وهو بريئ عن الحدوث والتجدد من جميع الوجوه، ليس
بجوهر ولا عرض ولا جسم، ولا في حيز وجهة،
ولا يشار إليه هنا أو هناك، ولا يصح عليه الحركة والانتقال والتبدل في ذاته ولا في
صفاته، ولا الجهل ولا الكذب، وهو فوق العرش كما وصف نفسه، ولكن لا بمعنى التحيز والجهة، بل لا
يعلم كنه هذا التفوق والاستواء إلا هو والراسخون في العلم، ممن آتاه الله من لدنه
علما»([59])،
ويقول: «فليس في ذاته حدوث، وإنما الحدوث في تعلق الصفات بمتعلقاتها»([60]).
ويقول في «حجة الله البالغة»: «واعلم: أن الحق تعالى أجل من أن
يقاس بمعقول أو محسوس، أو يحل فيه صفاتٌ كحلول الأعراض في محالها، أو تعالجه
العقول العامية، أو تتناوله العرفية. ولا بد من تعريفه إلى الناس ليكملوا كمالهم
الممكن لهم، فوجب أن تستعمل الصفات بمعنى
وجود غاياتها، لا بمعنى وجود مباديها، فمعنى الرحمة إفاضة النعم، لا انعطاف القلب
والرقة، وأن تستعار ألفاظ تدل على تسخير المَلِك لمدينته لتسخيره لجميع الموجودات؛
إذ لا عبارة في هذا المعنى أفصح من هذه([61])،
وأن تستعمل تشبيهات بشرط ألا يقصد إلى أنفسها، بل إلى معان مناسبة لها في العرف، فيراد ببسط اليد الجود مثلا، وبشرط ألا
يوهم المخاطبين إيهاما صريحا أنه في ألواث البهيمية، وذلك يختلف باختلاف
المخاطبين، فيقال: يرى ويسمع، ولا يقال: يذوق ويلمس، وأن يسمى إفاضة كل معان متفقة
في أمر باسم، كالرزاق والمصور، وأن يسلب عنه كل ما لا يليق به، لا سيما ما لهج به
الظالمون في حقه، مثل "لم يلد ولم يولد"، وقد أجمعت الملل السماوية
قاطبة على بيان الصفات على هذا الوجه إلخ»([62]).
في هذا الذي قاله الإمام الدهلوي بيان لموقفه من
قضية مهمة، هي أهم القضايا الخلافية بين أهل السنة: أشاعرةً وماتريديةً وبين
المشبهة والمجسمة والتيميين الوهابيين، وهي المسائل التي يبحث عنها في باب
«التنزيهات» من التراث الكلامي. وواضح من كلامه هذا أن الإمام الدهلوي يرى ويعتقد
أن الحق في هذه القضية هو ما عليه أهل السنة، من أنه I ليس محلا للحوادث، ولا يجوز له أي سمة من سمات التجدد أو الحدوث
إطلاقا، كما أنه ليس له مكان ينتقل منه أو يعود إليه أو يستقر عليه، وكل هذه عقائد
وثنيةكفرية، باطلة صريح البطلان أمام قواطع العقل والنقل.
كما أنه واضح كل الوضوح أن الدهلوي من المنزهين، لا
من المشبهين، وهو وإن اختار في بعض المواضع منهج السلف في التفويض مكتفيا بالتأويل
الإجمالي وترك التأويل التفصيلي، إلا أننا رأيناه في هذا النص سلك مسلك أئمتنا
المتأخرين في التأويل التفصيلي أيضا؛ حيث قال: يراد ببسط اليد الجود مثلا، وأن
معنى الرحمة إفاضة النعم، لا رقة القلب.
5-
كان العلامة الدهلوي يرى مشروعية الاشتغال بعلم الكلام، كما كان
يعتقد الفائدة في اتخاذ الطرق الكلامية في توضيح الحقائق الدينية والعقائد
الإيمانية، وتثبيت القلوب عليها، وهذا نص رائع له في بعض كتبه يثبت ذلك، وهو يقول:
«ومن الناس من .. يظنون أن تدوين هذا الفن – وهو يقصد
علم الكلام وعلم أسرار التشريع وما شابه ذلك - وترتيب أصوله وفروعه ممتنع، إما
عقلا؛ لخفاء مسائله وغموضها، أو شرعا؛ لأن السلف لم يدونوه...أو يقولون: ليس في
تدوينه فائدة معتدة بها.
قوله: لخفاء مسائله وغموضها، إن أراد أنه لا يمكن
التدوين أصلا، فخفاء المسائل لا يفيد ذلك، كيف، ومسائل علم التوحيد والصفات أعمق
مدركا، وأبعد إحاطة، وقد يسره الله لمن شاء ؟... وبالعسر يظهر فضل بعض العلماء على
بعض، وأن بلوغ الآمال في ركوب المشاق والأهوال...
وقوله: لأن السلف لم يدونوه، قلنا: لا يضر عدم
تدوين السلف إياه، بعد ما مهَّد النبي e أصوله... ثم لم يزل علماء الدين وسلاك سبيل
اليقين يُظهرون ما يحتاجون إليه، مما جمع الله في صدورهم، كان الرجل منهم إذا
ابتلي بمناظرة من يثير فتنة التشكيك يُجَرِّد سيف البحث وينهض، ويصمم العزم
ويُمحض، ويشمر عن ساق الجد ويَحْسر، ويهزم جيوش المبتدعين ويكشِّر...
وكان الأوائل لصفاء عقائدهم ببركة صحبة النبي e وقرب عهده، وقلة وقوع الاختلاف فيهم،
واطمئنان قلوبهم بترك التفتيش عما ثبت عنه e، وعدم التفاتهم إلى تطبيق المنقول بالمعقول،
وتمكنهم من مراجعة الثقات في كثير من العلوم الغامضة مستغنين عن تدوين هذا الفن...
ثم ظهرت تشكيكات في الأصول الاعتقادية والعملية، فآل الأمر إلى أن صار الانتهاض
لإقامة الدلائل العقلية حسب النصوص النقلية، وتطبيق المنقول بالمعقول والمسموع
بالمفهوم نصرا مؤزرا للدين، وسعيا جميلا في جمع شمل المسلمين، ومعدودا من أعظم
القربات، ورأسا لرؤوس الطاعات([63]).
وقوله: ليس في تدوينه فائدة، قلنا ليس الأمر كما
زعم، بل في ذلك فوائد جلية، منها: إيضاح معجزة من معجزات نبينا صلى الله عليه وآله
وسلم...ومنها: أنه يحصل به الاطمئنان الزائد على الإيمان، كما قال إبراهيم عليه
الصلاة والسلام: 4n?t/`Å3»s9ur£`ͳyJôÜuÏj9ÓÉ<ù=s% [البقرة/ 260]. وذلك أن تظاهر الدلائل،
وكثرة طرق العلم يُثلجان الصدر»([64]).
رحمك الله يا شيخ الإسلام والمسلمين،
فقد شَفَيتَ وكَفَيتَ، وسُجِّلتْ كلماتُك العالياتُ في سجل خالد، تبقى حجةً دامغة،
وبرهانا واضحا، يحملها أهلُ السنة في الشرق والغرب على أكتافهم؛ ليقطعوا بها
أعناقَ العناد الوهابي شرَّ تقطيع، ويبطلون بها شبهات فلاسفة الحشو، الذين بنوا
خزعبلات التجسيم على تحريم النظر وإدانة الكلام، ثم ذهبوا إلى الظلام بعيدا عن
أعين الناس ليتفلسفوا من أجل بيان الحشو والتسويق له، وإقامةِ الشبهات على إثبات
الحوادث القديمة التيمية (!!)، حتى صار لُقِّب رئسُهم– ابن تيمية – على ألسنة
مقلديه بـ«متكلم أهل الآثار»([65])، و«فيلسوف السلفية وحكيمها»([66]).
6-
وأما موقفه من تعريف البدعة وتقسيمها فهو موقف
سائر أهل السنة، خلافا لابن تيمية والوهابية الذين يجعلون كل بدعة مذمومة مردودة،
يقول الشاه ولي الله رحمه الله: «والبدعة على ثلاثة أقسام: قسم هو الأخذ بالنواجذ
لما حث عليه رسول الله e
من غير عزم، ومثاله التراويح، وهي الحسنة، وقسم هو الأخذ بعادات مباحة لم تعهد في
السلف، وهو بَيْنَ، وقسم فيه ترك المسنون أو تحريف المشروع، وهي الضلالة»([67]).
ولا يخفى أن هذه القاعدة لها أهمية
كبيرة في المسائل الخلافية بين أهل السنة والتيميين والوهابيين؛ حيث ينطلق منها
كلا الفرقين، فأهل السنة كما بينه الشاه ولي الله يرون أن ليس كل ما حدث بدعة
منكرة، بل منه ما هو منكر ومنه ما هو ليس بمنكر، بل قد يكون مباحا وقد يكون مندوبا
وحينا يكون واجبا، وأما الوهابية فهم لا يعرفون هذا الفرق، بل يجعلون كل محدثة
بدعة ضلالة، وذلك لكي يتمكنوا من إلصاق تهمة البدعة والضلالة بصفوة الصفوة من
الأمة. ولكنهم حين تورد عليهم الإيرادات يتهافتون، ولا بد أن يتهافتوا؛ لأن مذهبهم
هذا شر المذاهب، وأكثرها تناقضا.
7-
قال في «التفهيمات»: «إن قولنا العالم حادث له
معنيان: عامي وخاصي، وهو بكلا المعنيين صادق، أما العامي فهو أن ما يرى من الأجسام
والأعراض مسبوق بزمان لم يكن موجودا فيه، وأما الخاصي فهو أن كل ذي وضع، جسما كان
أو عرضا، أو واحدا من العرش والماء مسبوق إما بزمان لم يكن فيه موجودا، أو بامتداد
موهوم ليس هو فيه موجودا»([68]).
وهذا النص يصرح بأن الدهلوي يرى كغيره من أهل السنة
حدوث العالم، بما فيه العرش وغير العرش، والمسألة مما خبط فيها ابن تيمية القائل
بقدم العرش النوعي، والفلاسفة الملحدون الذين قالوا بقدم العالم، وهي طويلة الذيل،
يعرف مدى خطورتها كل مطلع على التراث الكلامي.
8-
وللعلامة الدهلوي جهود مشكورة في توضيح مذهب أهل السنة، والدفاع
عنه، وإزالة الغبار عن وجهه. ويطيب لي أن أسوق نصا رائعا من كلامه في «التفهيمات
الإلهية»، فيه خير دلالة على صحة ما ذكرته، فها هو يقول:
«سألني سائل عن قول إمام الطريقة وقطب الحقيقة
الشيخ عبد القادر الجيلي([69])
رضي الله تعالى عنه وأرضاه، عند ذكر الفرق الغير الناجية في «الغُنْيَة»، حيث قسم
المرجئة إلى اثني عشر فرقة، منهم الحنفية، ثم قال بعد التفصيل: وأما الحنفية فهم
أصحاب أبي حنيفة النعمان، زعم أن الإيمان هو الإقرار والمعرفة.... فقال: قوله هذا
يرد عليه وجهان من الاعتراض، أحدهما أن الحنفية من أهل السنة باتفاق من يُعْتَدُّ
به، فلا يصح عدها من الفرق المرجئة وتضليلها، والحكم بأنها غير ناجية، وثانيهما
أنه بين العقائد التي سميت لأجلها المرجئةُ مرجئةً، وجعل الحنفية منهم، فكان مقتضى
كلامه أن الحنفية قائلون بها معتقدون إياها، وليس الأمر كذلك، قال: وإنما سموا
المرجئة لأنها زعمت أن الواحد من المكلفين إذا قال: لا إله إلا الله محمد رسول
الله، وفعل بعد ذلك سائر المعاصي لم يدخل النار أصلا، ومما لا شك فيه أن الحنفية
براء من هذا الاعتقاد.
فقلت: الإرجاء إرجاءان، إرجاء يخرج القائل به عن
السنة، وإرجاء لا يخرج، أما الأول فهو أن يعتقد أن من أقر باللسان وصدق بالجنان لا
يضره معصية أصلا. وأما الثاني فهو أن يعتقد أن العمل ليس من الإيمان، ولكن الثواب
والعقاب مترتب عليه، وسبب الفرق بينهما أن الصحابة والتابعين أجمعوا على تخطئة
المرجئة، فقالوا: إن العمل يترتب عليه الثواب والعذاب، فكان مخالفهم ضالا مبتدعا.
وأما المسألة الثانية فليست مما ظهر فيها إجماع من
السلف، بل الدلائل متعارضة، فكم من حديث وآية وأثر يدل على أن الإيمان غير العمل،
وكم من دليل يدل على إطلاق الإيمان على مجموع القول والعمل، وليس النزاع إلا راجعا
إلى اللفظ؛ لاتفاقهم جميعا على أن العاصي لا يخرج عن الإيمان، وأنه يستحق العقاب،
ثم الدلائل الدالة على أنه المجموع يمكن صرفها عن ظواهرها بأدنى عناية.
والإمام أبو حنيفة من القائلين بهذه الثانية، وهو
من كبار أهل السنة وأئمتهم. نعم؛ نشأ في أهل مذهبه والتابعين له في الفروع آراء
مختلفة، فمنهم المعتزلة كالجبائي وأبي هاشم والزمخشري، ومنهم المرجئة، ومنهم غير
ذلك. فهؤلاء كانوا يتبعون أبا حنيفة في الفروع الفقهية، ولا يتبعونه في الأصول
الاعتقادية، وكانوا ينسبون عقائدهم الباطلة إلى أبي حنيفة t؛ ترويجا لمذهبهم، ويتعلقون ببعض أقوال أبي حنيفة t، فانتهض لذلك أهل الحق من
الحنفية كالطحاوي وغيره، فبينوا مذهب أبي حنيفة t، وذبوا عنه....
إذا علمت هذا فاعلم أن الشيخ t ذكر في الفرق الضالة المرجئة أهل الإرجاء الخارج عن السنة، ولذلك
قال: إنما سموا مرجئة إلخ، وذكر منهم الحنفية، يعني قوما يتبعون في الفروع الإمام
أبا حنيفة، ويدعون أنه t كان موافقا لهم في هذا المذهب، ثم ذكر ما تعلقوا به من أقواله t، فقال: زعم أن الإيمان هو
الإقرار إلخ. فلما قررنا هكذا اضمحل الاعتراضان معا، وظهر أن الشيخ t ما اتهم الإمام أبا حنيفة
ولا الماتريدية من الحنفية، أعاذه الله من ذلك، وإنما نسب ما نسب إلى قوم من
المرجئة، منتسبين إلى الإمام أبي حنيفة في الفروع»([70]).
ومن هذا النص يفهم مدى رسوخ علم الدهلوي في العقائد
وأصول الدين؛ حيث تناول قضية إيمانية خطيرة، اشتهرت في الأوساط العلمية بقضية
«الإرجاء»، أو «هل الإيمان يزيد أو ينقص»، وما إلى ذلك من العناوين. والمذاهب فيها
اختلفت بين أهل السنة ومخالفيهم في ناحية، وبين أهل السنة أنفسهم في ناحية أخرى.
وأسلوب عرضه يدل على أنه ينهج نهج متكلمي الأشاعرة والماتريدية تماما، ولن يشم من
كلامه رائحة التيمية أبدا، التي لا تخفى على مطلع على التراث التيمي في مسألة
الإيمان والإرجاء وما إلى ذلك.
فالمرجئة القائلون بأن «الإيمان بالله هو المعرفة
بالله فقط، وبرسله وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وأن ما سوى المعرفة من الإقرار
باللسان والخضوع بالقلب، والمحبة لله ورسوله والتعظيم لهما، والخوف منهما، والعمل
بالجوارح فليس بإيمان»([71])،
والقائلون «بأن الإيمان أقوى من الكفر، فكما لم ينفع مع الكفر طاعة لم تضر مع
الإيمان معصية»([72])
لا محالة خارجة عن دائرة أهل السنة.
وأما الذين خالفوا جمهور السلف والمحدثين القائلين
بأن «الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص»([73])،
وقالوا: إن العمل ليس ركنا من الإيمان، وبالتالي فهو لا يزيد ولا ينقص، ولكن الذي
أَخَلَّ بالعمل وارتكب المعاصيَ يستحق العقاب، إلا أن هذا ليس أمرا مقطوعا به في
كل فرد فرد، بل الأمر فيه يُرْجَأُ إلى الله؛ لجواز العفو وإمكانه، ومن هنا صح
إطلاق «المرجئة» عليهم – كما فعل ذلك كثير من العلماء ومؤرخي الفرق([74])
- فهؤلاء أبدا ليسوا خارجين من أهل السنة، بل هم طائفة معدودة من أهل السنة، وكيف
لا، وأبو حنيفة القائل بهذا القول من خيار أهل السنة. هكذا كان بيان مولانا الشاه
في هذه القضية.
ولا شك أن إطلاق مصطلح «المرجئة» على الإمام أبي
حنيفة t وأتباعه أمر مشكل، وإن كان
له وجه كما أشرت إليه، وذلك لأن هذا المصطلح في ظاهره ينصرف إلى المرجئة الخارجة
عن أهل السنة. ومنزلة الإمام الأشعري وكذا الشيخ عبد القادر الجيلاني t تجل عن أن يصدر منهما مثل
هذا الصنيع تجاه الإمام أبي حنيفة.
ومن هنا نجد بعض الغيورين على مقام هؤلاء الأجلة
ينفون نسبة هذه الكلمات إليهم، ويقولون إن كتب الإمام الأشعري عامة أصابها دس، فلا
يعتمد عليها إلا بتحر دقيق، كما فعل ذلك العلامة الكوثري في مواضع من كتبه([75])،
وكذا الأمر بالنسبة إلى كتاب «الغنية» للشيخ عبد القادر الجيلاني قدس سره، قال عنه
الإمام ابن حجر الهيتمي إن فيه عبارات مدسوسة عليه([76]).
ونقل الإمام ابن حجر الهيتمي عن الحافظ ابن عبد البر([77])
حين تطرق لاتهام الإمام الأعظم أبي حنيفة بالإرجاء قوله: «كان أبو حنيفة يحسد
وينسب إليه ما ليس فيه، ويختلق عليه ما لا يليق به»([78]).
ويوجد في نسخ «الغنية» المنتشرة الآن مخطوطة
ومطبوعة مواضع أخرى مدسوسة، نبه عليها العلماء المحققون. وهذا هو العلامة الشيخ
شهاب الدين أحمد كويا الشالياتيرحمه الله يقول في صدد الحديث عما يوجد في «الغنية»،
من نسبة الجهة إلى الله I ما نصه: «وقد افترى بعض الحنابلة القول بالجهة على الإمام الأنبل،
الصديق الثاني، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني. وكذا دسه في كتاب «الغنية» للإمام
الشيخ الرباني والغوث الصمداني، القطب السيد محيي الدين، عبد القادر الجيلاني، رضي
الله عنهما وأفاض علينا فيضهما. كما يدل عليه النسخ القلمية العتيقة المنقولة من
النسخ الصحيحة المكتوبة في مدرسة الغوث القطب، المتصلة إلى حضرته راية بالسند
المتصل والإسناد المسلسل»([79]).
ثم يواصل العلامة الشالياتي قائلا: «ومن أعدل شاهد
على أن القول بالجهة مدسوس في كتاب «الغنية» عقيدة الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين
بن عربي، المسماة «عقيدة الخواص»؛ فإنه ساق فيها لفظ «الغنية» حرفا حرفا، وليس
فيها لفظ الجهة. وقد رأيت عدة نسخ منها صحيحة، بخط قديم عليها كتابة أجلة العلماء
المتقدمين بالتصحيح وضبط الكلمات. وقد صرح أكابر العلماء الأعلام كالشيخ نجم الدين
البكري والإمام القطب عبد الله اليافعي والشعراني والهيتمي وأضرابهم بتنزيه القطب
الأعظم سيدي الشيخ السيد محيي الدين عبد القادر الجيلاني عن ذلك، وأن لفظ الجهة
مدسوس في كتابه «الغنية»، فتنبه»([80]).
صحيح أن الشالياتي لم يتكلم على قضية الإرجاء،
وإنما تكلم فقط في «الجهة»، ولكن تأكيده وجود دس في كتاب «الغنية» فيه ما يكفينا
في عدم الجزم بنسبة هذا الكلام إلى الشيخ عبد القادر. بالإضافة إلى أن عددا من
النسخ المطبوعة لـ«الغنية» التي رجعتُ إليها خاليةٌ من هذا الاتهام، ولم يأت فيها
ذكر أبي حنيفة أو الحنفية أصلا، في المكان الذي أشير إليه في نقل الشاه ولي الله
الدهلوي([81]).
ولله الحمد على هذا الاكتشاف الذي يقطع دابر الشبهات.
هكذا فعل فريق من العلماء، وهو أمر مقبول بلا شك،
درج عليه أئمة التحقيق في كثير من المواضع المشكلة، وليس فيه أي استغراب، وقد
ابتلي بهذا النوع من التزوير كلام صاحب الشرع نفسه، وكلنا يعرف أن هناك صنفا من
الأخبار المروية عن النبي e يُدْرَج في قائمة الموضوعات؛ لعلمليات نقدية مختلفة، منها عدم
تناسقه للقطعيات العقلية والأصولية، فيرى النُّقاد البُصَراء من المحدثين عدم
إمكان صدور مثل هذا الكلام عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى e.
إلا أن الإمام الدهلوي هنا كما رأينا لم يسلك في
تبرئة الإمام أبي حنيفة هذا المسلك، بل اختار طريقة التحليل العلمي لمعنى الإرجاء
المستعمل في تراثنا الفكري الكلامي، فوجد أنه قسمان: قسم يضر، وقسم لا يضر، واعترف
بصحة نسبة الإمام الأعظم إلى القسم الثاني، طالما هو لا يضر، بالإضافة إلى إلصاق
بعض المرجئة المبتدعة قولهم هذا بالإمام أبي حنيفة زورا وبهتانا. وهذا النوع من
البيان أيضا شيئ مقبول لا غضاضة فيه، وقد درج عليه أيضا أهل التحقيق من العلماء،
فيقول صاحب «المواقف» وشرحه: «..(وغسان كان يحكيه) – أي القول بالإرجاء بالمعنى
المرفوض عند أهل السنة – (عن أبي حنيفة)، ويَعُده من المرجئة، (وهو افتراء) عليه،
قصد به غسان ترويج مذهبه بموافقة رجل كبير مشهور. قال الآمدي: ومع هذا فأصحاب
المقالات قد عدوا أبا جنيفة وأصحابه من مرجئة أهل السنة، ولعل ذلك لأن المعتزلة في
الصدر الأول كانوا يلقبون من خالفهم في القدر مرجئا، أو لأنه لما قال: الإيمان هو
التصديق، ولا يزيد ولا ينقص ظُن به الإرجاءُ بتأخير العمل عن الإيمان، وليس كذلك؛
إذ عرف منه المبالغة في العمل والاجتهاد فيه»([82]).
ولا شك أن هذا الذي فعله الإمام الدهلوي يدل على
بصيرته العلمية في مضايق المسائل الكلامية، ودقائق الفرق الإسلامية، ولو لا تنبيهه
وتنبيه أمثاله لبقيت هذه القضية الخطيرة مشتبهة عند كثير من أهل العلم، فضلا عن
غيرهم، وسينخدعون بما يجدونه في بعض كتب الفرق والكلام، من نسبة مثل أبي حنيفة،
إمام المسلمين شرقا وغربا، إلى الإرجاء، وهو بعيد عن الحق والتحقيق بمراحل بلا
أدنى شك عند أهل التوفيق والبصيرة. ومن هنا فإن موقف الدهلوي هذا موقف علمي جريئ
ينبغي أن يذكر ويشكر، ويكتب ضمن إنجازاته العظيمة، وخدماته الجليلة لفكر أهل السنة.
وبالجملة فإننا قد رأينا بكل وضوح وجلاء أن مولانا
الشاه لم يكن قط كما صوره الندوي وغيره من أذناب الحشوية والإصلاحية، بل كان
مستقيم المنهج، سليم المعتقد، ما كان وهابيا ولا إصلاحيا، ولكن كان سنيا أشعريا،
صرح بأشعريته في غيرما موضع، وخطَّأ جميعَ الفرق المخالفة للأشعرية. وكل هذه
الحقائق توصلنا إليها من خلال البحث والاطلاع فيما سلم من التحريف والدس من مؤلفات
هذا الإمام، بعد عبث العابثين بها، ولم تنجح محاولات العابثين من الوهابية، كما لم
تنجح محاولات اليهود والنصارى في تحريف كتب الأنبياء؛ حيث بقيت بعد كل دسائسهم نصوص
تصرح برسالة سيد الأنبياء وخاتمية نبوته.
*****
المبحث الثاني: الشاه ولي الله الدهلوي الحنفي
وأما الحديث عن حنفية الإمام الدهلوي رحمه الله فهو
أيضا من المباحث المهمة جدا؛ لأن اللامذهبيين في الهند – ويعرفون بـ«أهلِ حديث» -
ويدعمهم كثير من رجال مدرسة «ديوبند» - قد ركزوا كل جهودهم على هذا الإمام،
واتخذوا منه قدوة لهم في هذا الباب، فكتبوا عنه من هذا المنطلق، بحيث لو اطلع
القارئ على كتيباتهم ظن أن الشاه ولي الله الدهلوي رحمه الله لامذهبيمتمجهد مثلهم،
بينما الحق والواقع أنه لم يكن كذلك،في ضوء النصوص والنقول التي لا تزال باقية في
مؤلفاته التي وصلتنا.
وقد سبق أن نقلنا نص كلامه من موضع من بعض إجازاته:
«..... وكَتَبَه بيده الفقيرُ إلى رحمة الله الكريم الودود ولي الله أحمد بن عبد
الرحيم بن وجيه الدين بن معظم بن منصور بن أحمد بن محمود – عفى الله عنه وعنهم،
وألحقه وإياهم بأسلافهم الصالحين – العمري نسبا، الدهلوي وطنا، الأشعري عقيدة،
الصوفي طريقة، الحنفي عملا، والحنفي والشافعي تدريسا...» ([83]).
كتب هذا في عام 1159هـ، كما في آخر تلك الإجازة، وهذا يعني أنه كان في الخامسة
والأربعين من عمره، وبعد أربعة عشر عاما من رجوعه من الحرمين الشريفين، وذكرنا أنه
رجع من الحرمين إلى الهند عام 1145هـ.
بالنسبة للباحث المنصف فإن مجرد هذا الكلام يكفيه
في إثبات تمذهبه بالمذهب الحنفي، ولا يحتاج إلى زيادة استدلال، ثم إن وجَد في بعض
مؤلفاته ما يخالف مقتضى هذا الكلام فيحمله على محامل شتى سائغةٍ، منها احتمال الدس
في كتبه، ومنها احتمال اضطراب حصل له في أوائل حياته ثم رجع عنه إلى الحق والصواب
فيما بعد، سيما أن «الحجة» و«التفهيمات» - اللتين فيها بعض العبارات المشكلة التي
بها يتمسك الوهابية – قد ألفهما قبل ذلك التاريخ (1159هـ) قطعا. وإن لم يمكن حملها
على أيٍّ من هذه المحامل فيبقى على ظاهره كلاما مشكلا، فهذا يعني أنه قد حصل له
اضطراب أو شذوذ في بعض الآراء، فيكون مردودا عليه، أويكون«له فيها انفرادات لا تصح
متابعته فيها»، على حد تعبير العلامة الكوثري([84])،
ولكن هذا احتمال بعيد جدا؛ لأن الدليل القاطع قد ثبت على كونه حنفيا بنص كلامه
وشهادته، فلا يجوز العدول عنه إلا بقاطع يساويه أو يفوقه، هذا هو المنهج العلمي.
ومع ذلك فلا بأس أن نذكر بعض الشواهد على صحة
كلامنا لزيادة التأكيد والاطمئنان. كان رحمه الله كغيره من علماء أهل السنة يرى
وجوب التفرقة بين من هو أهل للاستنباط المباشر من مصادر التشريع – القرآن والسنة
والإجماع والقياس – وبين من ليس كذلك. فيجب على من ليس أهلا له تقليد من هو له
أهل، وهو الذي نريده بالاجتهاد والتقليد. ولم يَدْعُ قط الناسَ جميعا –كاللامذهبية
والوهابية – إلى أخذ الأحكام الفقهية من القرآن والسنة، بل قال إن جبال العلم
وكبار الأئمة الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد كانوا مقلدين لأئمة الاجتهاد، ولم
يأنفوا عن التقيد بالمذاهب كأشقياء اللامذهبية من الشوكانية والألبانية والقنوجية.
قال رحمه الله في «الإنصاف»، نقلا عن الشيخ ابن
زياد اليمني الشافعي: «وممن ذكره السبكي في طبقاته الشيخ أبا الحسن الأشعري، إمامَ
أهل السنة والجماعة، وقال: إنه معدود من الشافعية..»([85]).
ولا يخفى على أهل العلم منزلة الإمام الأشعري وعلو كعبه في علوم العقل والنقل، وهو
إمام أهل السنة شرقا وغربا، ذكره السبكي في عداد المقلدين بمذهب الإمام الشافعي،
ونقله الدهلوي في كتابه الإنصاف ولم يعترض عليه.
وله رحمه الله كلام رائع في بيان درجات الناس،
وبيان كيف يجب على بعضهم تقليد بعض في فهم أحكام الدين. قال رحمه الله: «.. وعلى
هذا ينبغي أن القياس وجوب التقليد لإمام بعينه؛ فإنه قد يكون واجبا، وقد لا يكون
واجبا، فإذا كان إنسان جاهل في بلاد الهند، أو في بلاد ماوراء النهر، وليس هناك
عالم شافعي ولا مالكي ولا حنبلي، ولا كتاب من كتب هذه المذاهب، وجب عليه أن يقلد
لمذهب أبي حنيفة، ويحرم عليه أن يخرج من مذهبه؛ لأنه حينئذ يخلع ربقة الشريعة،
ويبقى سدى مهملا، بخلاف ما إذا كان في الحرمين؛ فإنه متيسر له هناك معرفة جميع
المذاهب... كما ذكر كل ذلك في «النهر الفائق شرح كنز الدقائق»»([86]).
هذا هو الحق الذي لا خير إلا فيه، والصواب الذي لا
يستقيم دين الرجل إلا بالثبات عليه، جرى عليه أئمة الإسلام قديما وحديثا، وممن صرح
بهذه الحقيقة من المتأخرين العلامة الإمام الصاوي المالكي في حاشيته على تفسير
الجلالين؛ حيث قال: إن الخروج على المذاهب الأربعة خروج إلى الكفر والزندقة،
وسيأتي نقل نص كلامه في محله إن شاء الله.
وهل يبقى للقنوجيةوالشوكانية ومن قلدهم شبهة، فضلا
عن دليل، على نبذ التقليد، ودعوة البسطاء والفلاحين إلى الاجتهاد !؟ وهل يصح لهم
اتخاذ هذا الإمام قدوة لهم وإماما !!؟ وإن أصروا على أن يتخذوه إماما لهم فليت
شعري ما معنى الوهابية واللامذهبية !!
وقد صرح بوجوب تقليد المذهب الحنفي على المسلمين في
البلاد الهندية، التي لا وجود فيها لغير هذا المذهب، سيما المناطق الهندية
الشمالية، حيث يوجد الشافعية في الجنوب وبعضِ مناطق الغرب، ثم انظر كيف حصر
المذاهب في الأربعة، حين عد المذاهب، ولم يخطر بباله مذهب خامس ولا سادس، كما يروج
له المتمجهدون؛ لأنه واضح صريح في أنه لا يوجد مذهب صالح للتقليد غير هذه الأربعة،
كما سيأتي ذلك في كتابه الذي هو بين أيدينا الآن. وهذا رد يقصم ظهور كل ندوي
قنوجيلامذهبي، ويقطع أعناق «أهل حديث» الهند، بلا أدنى مراء ولا جدال.
قال رحمه الله في معرض تقسيم المجتهدين إلى أقسام: «ولنضرب
لذلك مثلا، فنقول: كل من تَطَبَّبَ في هذه الأزمنة المتأخرة إما أن يكون يقتدي
بأطباء اليونان، أو بأطباء الهند، فهو بمنزلة المجتهد المستقل. ثم إن كان هذا
المتطبب قد عرف خواص الأدوية، وأنواع الأمراض، وكيفية ترتيب الأشربة والمعاجين
بعقله، بأن تنبه لذلك من تنبيههم، حتى صار على يقين من أمره، من غير تقليد، واقتدر
على أن يفعل كما فعلوا، فيعرف خواص العقاقير التي لم يسبق بالتكلم فيها، وبيان
أسباب الأمراض، وعلاماتها ومعالجاتها، مما لم يرصده السابقون، وزاحم الأوائل في
بعض ما تكلم، قل في ذلك منه أو كثر، فهو بمنزلة المجتهد المطلق المنتسب.
وإن سلم ذلك منهم، من غير يقين كامل، وكان أكثرهم
توليدا للأشربة والمعاجين من تلك القواعد المهمة، كأكثر متطببي هذه الأزمنة
المتأخرة فهو بمنزلة المجتهد في المذهب»([87]).
انظر إلى هذا الكلام الرائع الذي أحكم به الدهلوي
رحمه الله قانون الاجتهاد والتقليد أيما إحكام، وقام بتوضيحه خير قيام، وضرب له
مثالا قريبا إلى أذهان الناس، ولا شك أن هذا البيان منه قد لعب دورا كبيرا جدا في
توضيح وجوب التقليد على من لم يرتق إلى درجة المجتهدين، وأن من ترك هذا التقليد
خلع ربقة الشريعة من عنقه. ثم انظر إلى جراءة هؤلاء الذين لا يشعرون بأدنى حياء،
ولا يحسون بشيئ من حرج، حين يفترون على هذا الإمام افتراءات باردة، وحين يكذبون
عليه كذبات سافرة، ويقولون إنه زعيم الوهابية في الهند، الوهابيةِ الذين يرون
تقليد الأمة لأئمتهم عبادةً منهم لهم، ويستدلون على ذلك بآية من القرآن الكريم.
هكذا أعلن الفكر المنحرف عن إفلاسه غاية الإفلاس، نسأل الله العظيم ربَّ الناس ملك
الناس أن يُعَجِّل بنصر هذه الأمة، وينقذها من شر الوسواس الخناس، من الجنة
والناس.
وكان رحمه الله ميالا إلى المذهب الشافعي، مع كونه
حنفيا، ولم يخف إعجابه به، وله كلام جميل في الثناء عليه، يقول مثلا: «.. وأما
مذهب الشافعي فأكثر المذاهب مجتهدا مطلقا، ومجتهدا في المذهب، وأكثر المذاهب
أصوليا ومتكلما، وأوفرها مفسرا للقرآن وشارحا للحديث، وأشدها إسنادا ورواية،
وأقواها ضبطا لنصوص الإمام، وأشدها تميزا بين أقوال الإمام ووجوه الأصحاب، وأكثرها
اعتناءً بترجيح بعض الأقوال والوجوه على بعض، وكل ذلك لا يخفى على من مارس المذاهب
واشتغل بها»([88]).
وهذا لا يعني أنه كان يخالف مذهبه الأصلي الذي هو
المذهب الحنفي، كما يشيعه الندوي وغيره من أصحاب الأغراض السيئة، بل كان رحمه الله
باقيا على الحنفية متمسكا بها، وعليه يدل ما كتبه بيده في بعض إجازاته، كما رأيناه
قبلا، كما يدل عليه أيضا ما ذكره في «فيوض الحرمين»؛ حيث قال: «عرفني رسول الله e أن في المذهب الحنفي طريقة
أنيقة، هي أوفق الطرق بالسنة المعروفة التي جمعت ونقحت في زمان البخاري وأصحابه
إلخ»([89])،
وقد لاحظه العلامة الكوثري في «حسن تقاضيه» وبعض مقالاته([90]).
بل نراه أحيانا يتحدث عن المذهبين الحنفي والشافعي
معا بإعجاب، ويشيد بهما، فمثلا يقول في موضع من «التفهيمات الإلهية»: «ونشأ في
قلبي داعية من جهة الملأ الأعلى، تفصيلها: أن مذهبي أبي حنيفة والشافعي هما
مشهوران في الأمة المرحومة، وهما أكثر المذاهب تابعا وتصنيفا، وكان جمهور الفقهاء
المحدثين والمفسرين والمتكلمين والصوفية متمذهبين بمذهب الشافعي %، وجمهور الملوك
وعامة اليونان متمذهبين بمذهب أبي حنيفة»([91]).
وهو مع ذلك يذهب مذهب أهل التصوف في التعامل مع
اختلاف الفقهاء، وهو الأخذ بالعزيمة واجتناب الرخصة قدر الجهد، وهذا النوع من
التعامل مما رسمه الفقهاء أنفسهم حين وضعوا قاعدة «سن الخروج من الخلاف» بشروطها
المبينة في محلها، إلا أن لعلماء التصوف فضلَ إبرازها والتوسع فيها، مثل الإمام
الشعراني رحمه الله في كتابه الماتع «الميزان الكبرى». يقول مولانا الشاه في هذه
المناسبة في كتابه «التفهيمات الإلهية»: «... فمن قوِيَ على العزيمة فليأخذ بها،
ومن قصر عنها قوتُه الجسمانية أو قوتُه الروحانية فليأخذ بالرخصة، وبسط في ذلك
كلامه كالشعراوي في ميزانه، وقد سبقه الشيخ محيي الدين محمد بن على بن العربي إلى
أصل ذلك»([92]).
*****
المبحث الثالث: الشاه ولي الله الصوفي
كان مولانا الشاه صوفيا كسائر صوفية أهل السنة،
وحين نتعرض لموقفه رحمه الله من بعض المسائل التي تعرف بالمسائل الصوفية أو قضايا
التصوف نعرف صحة هذه الدعوى بلا أدنى خفاء ولا لبس. وهو يقول في أثناء حديثه عن
نشوء الفرق المختلفة في الإسلام ما نصه: «.. ثم جاء سيد الطائفة جنيد البغدادي،
فمهد الطريقة على السنة، وهذبها ولخصها، فطريقة جنيد خير محض، ونفث الله تعالى
فيها البركة، وجمع عليها طوائف لا تحصى، ثم وقعوا في رسوم أخرى، من لبس الصوف
والكلام على الناس وسماع الأغاني وغير ذلك مدة مديدة، ثم جدد الله الطريقة بالشيخ
أبي سعيد بن أبي الخير، ثم جددها بالشيخ ابن العربي، وفتح عليه من العلوم والمعارف
ما لم يمكن بحساب. ثم نبت فرقة خبيثة، وهي الفرقة التي تزعم أن الله عين العالم،
والعالم عين الله، وأنه ليس هناك حساب ولا عذاب إلخ»([93]).
ثم قال بعد ذلك «وهؤلاء المتصوفة القائلون بأن العالم عين الله والله عين العالم
زنادقة، وضررهم على العامة شديد كبير، هانت النواميس الإلهية عندهم، وطمحت أبصارهم
إلى إشارات المغلوبين، وكلامُ العشاق يُطْوَى ولا يُرْوَى»([94]).
وهذا النص يدل على أن تصوف الدهلوي تصوف سني متبع،
ولم يكن فلسفيا مبتدعا، ولا صلة له بالحلول والاتحاد.
الشاه
ولي الله الدهلوي ومسائل القبور والاستغاثة
يوجد في كتب الإمام الدهلوي عبارات كثيرة صريحة تدل
على استقامة منهجه، وعدم خروجه على منهج السواد الأعظم، وهي في ميزان العقل
الوهابي عبارات كفرية شركية صوفية جاهلية، ولا يتردد وهابي أن صاحبها قبوري خرافي
غير موحد. وكتابه «فيوض الحرمين» مليئ بهذه العبارات، ومن هنا فلا نجد أبا الحسن
الندوي يقف عند هذا الكتاب وقوفَه عند غيره من كتبه، ولا ينقل منه إلا نادرا جدا.
ولا يخفى أن مجرد عنوانه المركب من «الفيض» و«الحرمين» يدل على مضمون الكتاب، وأنه
كتاب صوفي مخالف لتوحيد الخوارج، وسنتعرف على بعض عباراته فيما يلي إن شاء الله.
قال مولانا الشاه في «فيوض الحرمين»: «اعلم: أني
لما زرت شهداء بدر رضي الله تعالى عنهم، وقمت بحيال قبورهم سطعت الأنوار من قبورهم
إلينا دفعة في أول الأمر، مثل الأنوار المحسوسة، حتى ترددت أني أدركها بالحس أو
ببصر الروح، ثم تأملت فيها فوجدتها أنوار الرحمة، ولما زرت القبر الذي ينسب إلى
أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه بصفراء – والله أعلم بحقيقة الحال – وجلست
حياله، وتوجهت إلى روحه ظهرت لي كمثل هلال الثالثة، فتأملت فيها فإذ أنوارها
كالأعمال ونور الرحمة جميعا، إلا أن نور الرحمة أغلب وأظهر»([95]).
يقول في موضع آخر منه حين الحديث عن تكرار زيارته
لقبر الحبيب e: «فتفطنتُ أن له – أي النبي e - خاصية من تقويم روحه بصورة
جسده عليه الصلاة والسلام، وأنه الذي أشار إليه بقوله: إن الأنبياء لا يموتون،
وإنهم يصلون ويحجون في قبورهم، وأنهم أحياء إلى غير ذلك»([96]).
هكذا فضح الشيخ الدهلوي رحمه الله أشقياءَ الوهابية، وأفشل محاولتهم التمسك بقوله
تعالى: إنك ميت وإنهم ميتون.
يقول أيضا: «رأيت التشفع إليه eوالتوسل
لديه بعلماء الحديث، والدخولَ في عدادهم، وبعلم
الحديث وحفظه على الناس عروةً وثقى وحبلا ممدودا لا ينقطع»([97]).
رأيتَ كيف يتوسل بعلماء الحديث، دون التعرض للتمييز بين الأحياء منهم والأموات،
فيشمل علماء الحديث جميعا، ورأيتَ كيف اعتبرَ هذا النوع من التوسل عروة وثقى وحبلا
ممدودا لن ينقطع، وهل هكذا يكون الوهابية ؟ وهل هذا مذهب كبيركم الحراني أيها
التيميون الملبسون ؟ فلم تكذبون وتزورون وتلبسون، وهل توهمتم أن ترهاتكم وأساطيركم
تعيش أبدا، دون أن تمر تحت مجهر النقاد، وتُخضَع لمقياس النقد.
وهو رحمه الله يرى كغيره من علماء أهل السنة صحة
نسبة الأفعال إلى الفاعل الحقيقي وإلى الفاعل المجازي، ولا يرى في ذلك الثاني
إشراكا، انظره يقول في «الفتهيمات الإلهية»: «لا يستحق العبادة، أي أقصى غاية
التعظيم، إلا هو، ولا يشفي مريضا ولا يرزق رزقا ولا يكشف ضرا إلا هو، بمعنى أن
يقول لشيئ كن فيكون، لا بمعنى التسبب العادي الظاهري، كما يقال شفي الطبيب المريض،
ورزق الأمير الجند، فهذا غيرُه، وإن اشتبه في اللفظ»([98]).
ويعجبني هنا ما ذكره في «التفهيمات الإلهية» فيما
يتعلق بهذا الموضوع؛ حيث قال: «بلغنا أن عمر t لما استلم الحجر الأسود قال: أعلم أنك حجر، لا تنفع ولا تضر،
ولولا أني رأيت رسول الله e استلمك لما استلمتك، فقال على t: هو ينفع ويضر، سيشهد لمن استلمه وعلى من ترك. فهذا اختلاف يرجع
إلى اختلاف المقامات؛ فإن عمر t مقامه يرجع إلى حفظ الشرع عن التحريف، فقال ذلك ردا على أهل
الأصنام ومن يحذو حذوهم؛ حذرا أن يحمل هذه السنة على غير محملها، وأن عليا t مقامه يرجع إلى معرفة
الأسرار الخفية في العالم، فعرف أن في الحجر هيئة حيوانية فائضة عليه، ولقد أشير
إلى ذلك بما قيل إنه من الجنة، فصار بتلك الهيئة شهيدا كمثل الأنبياء يوم القيامة»([99]).
وأما مسألة الصلاة في المقابر التي هي من رأس
القضايا التي يميز بها الوهابية التوحيد عن الشرك، ما ذا كان موقف الشاه ولي الله
منها، وهل كان يقول: إنه شرك يخرج به الإنسان من الملة ؟ أو قال إنه حرام، كلا
أبدا، بل قال كما قال غيره من الفقهاء إنه مكروه، ولا تعاد الصلاة لسببه. يقول
رحمه الله في «شرح تراجم أبواب صحيح البخاري»: «ولو صلى في المقابر
فالصلاة فيها مكروهة، ومع ذلك فلا إعادة عليه»([100]).
ولم يكتف بالحديث عن نفسه فقط، وزياراته لمراقد
الأولياء، بل ذكر أن الذهاب لزيارة قبور الصالحين من عادات الصالحين، منهم والده
الماجد الشيخ عبد الرحيم الدهلوي أيضا، وهو يقول في موضع من «التفهيمات» عن والده
الشيخ عبد الرحيم الدهلوي %: «كان أبي قدس سره جامعا للفضائل الظاهرية والباطنبة،
وكان وليا عارفا، فاتفق أنه ذهب يزور مرقد الشيخ قطب الدين بختيار الكاكي، فكلمه
الشيخ، وبشره بولد يولد له، وأمره أن يسميه قطب الدين كاسمه، فلما ولدت أنساه الله
سبحانه أن يسميني قطب الدين، وسماني ولي الله، وذلك لانعقاد الأسباب على كوني
متولى – على صيغة المفعول – ثم سماني بقطب الدين أيضا»([101]).
هكذا رأينا «مسائل القبور» - وهي أعظم المسائل خطرا
عند الوهابية – وموقف الشاه ولي الله منها،فقل لي بربك أيها القارئ العزيز، أين
الوهابية في كلام هذا الإمام ؟ أين التيمية في فكره ومنهجه ؟ كلا إنها أساطير قوم
لم يحترموا عقولهم، إن كان لهم عقول، وافتراءات أناس عرفوا وأيقنوا أن بضاعتهم لن
تلقى رواجا إلا بالكذب والتزوير والتلبيس، وهو سنة الحشوية قديما وحديثا، وقد
حذرنا منه الأئمة البصراء أيما تحذير.
هذا، وقد تجد في بعض كتب هذا الإمام عبارات لن
تنسبك مع أخواتها، ولن تلتئم مع نظيراتها، فيقطع الإنسان في أول وهلة أنها مدسوسة
عليه من قبل أناس لا خلاق لهم في الدنيا والآخرة. وقد تنبه إلى هذا النوع من الدس
رجال من أهل العلم قبلي، وسجلوا ذلك في كتبهم؛ حتى نكون على حذر، ولا يلتبس علينا
الأمر ولا نغتر، ومن هذا الباب قول الإمام الكوثري في «حسن التقاضي» في معرض
الحديث عن الدهلوي؛ حيث قال: «... وعبقات حفيده – يقصد إسماعيل بن عبد الغني بن
الشاه ولي الله الدهلوي – مما زاد في الطين بلة، وفرق كلمة الملة، إلى
لامذهبيةوحشوية وحنفية متنافرة متنابذة في الأصول والفروع، حتى دار الزمن، فأخذت
اللامذهبية تنمو وتترعرع في تلك البلاد»([102]).
ولعل الإمام الشيخ أحمد كويا الشالياتي المليباري
رحمه الله أبرز من أشار إلى وجود الدس في مؤلفات الدهلوي، وقد أفرد كتابه «دفع
الشر الأثير عن الخير الكثير» تحذيرا من العبارات المدسوسة الموهمة التي دسها
الشاه إسماعيل بن عبد الغني بن الشاه ولي الله الدهلوي في كتاب جده الشاه ولي الله،
المسمى بـ«الخير الكثير»، الذي سبق أن نقلت منه أشياء في مواضع مختلفة. وهو – أي الإمام
الشالياتي - يقول في مقدمة «دفع الشر» عن سبب تأليفه: «أمليته – أي كتابه «دفع
الشر» - لما اطلعت فيه على كلمة شنيعة، وجملة فضيحة فظيعة، ثار منها نتن الحراني
الحرون، الذي أضل السلف، وأفسد الخلف، وليس مولانا الشاه ممن يتعلق به ذيلُه، أو
يصيده مِثلُه، فها أنا أنقل ما فيه برمته ليتبين سقمه من صحته إلخ»([103]).
والعبارات المدسوسة في كتاب الدهلوي تتعلق بمسألة
خلافية شهيرة بين أهل السنة ومخالفيهم التيمية منذ زمن ابن تيمية، وهي معروفة
بمسألة «الاستغاثة» أو «الاستمداد» بغير الله، وقد تكلم فيها ابن تيمية بكلام جديد
غريب، حتى أفرد إمام أهل السنة الأشاعرة في عصره: الإمام تقي الدين السبكي في الرد
عليه كتابَه «شفاء السقام». يقول الشالياتي: لا يمكن أن يكون الإمام الدهلوي قد
قال بمنع الاستغاثة، وإنما الذي يوجد في كتابه «الخير الكثير» من فِعل حفيده الشاه
إسماعيل.
ونقل الشالياتي نص ما في طبعة «الخير الكثير»، وهو
كما يلي: «كلمة الشهادة أصل الدين، وسنخها الهوية الصرفة، وصورتها في النشأة
القديمة تجمع لجميع الاعتبارات والوجوه، ولهذا كانت أصل الدين، وفي نشأة صفات
النفس إخلاص في معرفة الحكماء والصحابة، وتوحيد تام في نشأة كمال الأولياء، وفي
اللسان هذه الكلمة أو ما في معناها، وفي الأفعال العبادات بأسرها. واعلم: أن طلب
الحوائج من الموتى عالما بأنه سبب لإنجاحها كفْرٌ، يجب الاحتراز عنه، تحرمه هذه
الكلمة، والناس اليوم فيها منهمكون»([104]).
ثم عقبه الشالياتي قائلا: «ولا يمتري من له مسكة من
العلم والفهم والدين الحنيفي في أن جملة «واعلم إلخ» لا تلايم الجملة السابقة
عليها، ولا تلتئم معها أصلا؛ فإن سنخ كلمة الشهادة وصورتها في النشآت المذكورة
بالمعنى المبين لا يُحَرِّم التعلق بالأسباب، فضلا عن طلب الحوائج من الموتى،
معتقدا بأنه سبب لإنجاحها»([105]).
ولم يكتف رحمه الله في بيان الدس في كلام الإمام
الدهلوي بمجرد دعوى عدم الانسباك والمواءمة بين أطراف كلامه، كما يظهر للمتأمل،
وهو النقد الداخلي، بل سلك في إثبات الدس مسلكا آخر؛ حيث رجع إلى صاحب الكتاب نفسه
– أقصد به الإمام الدهلوي – فوجد أن له كلاما يبطل هذا الكلامَ الموجود في «الخير
الكثير» وينقضه، وهذا النوع من النقد هو النقد الخارجي.
ومن هنا نقل الشالياتي كلاما للإمام الدهلوي في
كتابه الشهير «فيوض الحرمين»، يقول فيه الدهلوي: «لما كان اليوم الثالث سلمتُ عليه
e، وعلى صاحبيه $، ثم قلت: يا
رسول الله، أَفِضْ علينا، جئناك راغبين في خيرك، وأنت رحمة للعالمين، فانبسط إلي
انبساطا عظيما، حتى تخيَّلْتُ كأن عطافةَ ردائه لَفَّتْنِي وغشيتْنِي، ثم غطنيغطة،
وتبدى لي وأظهر لي الأسرار، وعرفني، وأمدني إمدادا عظيما إجماليا، وعرفني كيف
أستمد به في حوائجي»([106]).
كما نقل أيضا في هذا الباب كلاما للشاه ولي الله من
كتاب آخر له، وهو «القول الجميل»، ورد فيه: «وقال في القول الجميل عن المشايخ
الجشتية: إنهم قالوا إذا دخل المقبرة قرأ سورة (إنا فتحنا) في ركعتين، ثم يجلس
مستقبلا إلى الميت، مستدبرا الكعبة، فيقرأ سورة الملك، ويكبر ويهلل، ويقرأ سورة
الفاتحة إحدى عشرة مرة، ثم يقرب من الميت، فيقول: يا رب يا رب إحدى وعشرين مرة، ثم
يقول: يا روح يضربه في السماء، ويا روح الروح يضربه في القلب، حتى يجد انشراحا
ونورا، ثم ينتظر لما يفيض من صاحب القبر على قلبه»([107]).
وقال أيضا: «وقال مثله في كتابه "الانتباه في
سلاسل أولياء الله"، وله في كتابه "الهمعات" كلام مطنب في جواز
الاستمداد من أهل القبور، وكذا لابنه مولانا الشاه عبد العزيز المحدث الدهلوي في
تفسيره "فتح العزيز"»([108]).
وهناك نقولات أخرى كثيرة من كتب الإمام الدهلوي، أو
من كتب من نقل عن الإمام الدهلوي، كلها يفيد أنه رحمه الله لم يكن منحرفا عن مسلك
آبائه ومشايخه من أجلة أهل السنة، ولم يكن العلامة الشالياتي بصدد إيرادها جميعا،
إلا أن فيما أورده كفاية للمنصف. وانظر إلى الأبيات الرنانة الطنانة التي قالها
الدهلوي في بعض كتبه، ونقلها عنه اللكهنوي: صاحب «الثقافة الإسلامية في الهند»،
يقول فيها:
«كأن نجوما أومضت في الغياهب عيون الأفاعي أو رؤوس العقارب
إذا كان قلب المرء في الأمر خاثرا فأضيق من تسعين رحب السباسب
وتشغلـــــــــــني عني وعن كـــــل راحتي مصائب تقفو مثلها في المصائب
إذا مــــــــــــا أتتني أزمــــــــــــة مـــــــــــــــــدلهمة تحيط بنفسي من جميع الجوانب
تطلبت هل من ناصر أو مساعد ألوذ به من خوف سوء العواقب
فلست أرى إلا الحبيب محمدا رسولَ إلهِ الخلقِ جَمَّ المناقب
ومعتصَم المكروب في كل غمرة ومنتجع الغفران من كل هائب
ملاذ عباد الله ملجأ خوفهم إذا جاء يوم فيه شيبُ الذوائبِ»([109]).
أ ليس هذا هو التوسل والاستشفاع بالنبي e، الذي اتهِم سواد الأمة
بالكفر والضلال والزندقة والتخلف والجمود بسببه ؟ أو ليس هو الذي أداهم – أي
التيميين – إلى الطعن والقدح في سيدنا الإمام الأجل إمام المحبين البوصيري – قدسنا
الله بأسراره –حين قال:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
وبالجملة فإن هذه النقول من كتب الإمام الشاه ولي
الله الدهلوي كافية في إثبات وجود الخلل في كتابه «الخير الكثير»([110])،
عند المتأمل المنصف؛ لأن نسبة هذه العبارة الموجودة في «الخير الكثير» مع هذه
النقولات الكثيرة التي في كتبه الأخرى تعني نسبة التناقض إلى هذا الإمام الجليل،
وليس هذا من قبيل المسائل التي تقبل التغير وإعادة النظر؛ حيث هو متعلق بالإيمان
والكفر، فليس من المتصور تغير اجتهاد مثل هذا الإمام في مثل هذه المسألة.
ولا غرو يتابع الشالياتي قائلا: «ومن هنا يتضح حق
الاتضاح لمن وقفه الله للنجاح أن مولانا الشاه ليس ممن يمتطي تلك الجملة الزائغة،
عن هدي الأئمة البالغة، ذوي الحجج البازغة، وعن سبيل المؤمنين أولي الهمم السابغة،
في تمييز أمور الإيمان، عما ينافيه من شرور الكفر والطغيان، فعياذ بالله عن الاغترار
بمثل هذا البهتان. أ ترى أن مولانا الشاه – حكيم الأمة المحمدية، الواقف على أسرار
الشريعة النبوية، والمطلع على النكات الطريقية والحقيقية – ممن يعترف بقصور أمسه
عن يومه في إدراك ما به يمتاز نور الإيمان عن ظلمة الكفر وشومه، حاشا وكلا، ثم
حاشا وكلا».
نعم؛ الخلل في الكلام واقع في ضوء هذه الأدلة، بل
الخلل واقع في كلام ابنه الشيخ عبد العزيز الدهلوي في فتاويه، وفي كلام أخيه
مولانا الشاه رفيع الدين الدهلوي، ابنَي مولانا الشاه ولي الله الدهلوي، كما
ينبهنا عليه الشالياتي رحمه الله([111]).
وأما الذي ارتكب هذه الشنيعة فهل هو حفيده الداعي إلى الفكر الوهابي محمد إسماعيل
الدهلوي ؟ فالشالياتي يرى أنه هو الذي فعل ذلك؛ لأن أحدا من عائلة هذا الإمام لم
يعرف أنه قدانحرف عن منهج أهل السنة.
وفي ذلك يقول الشالياتي: «ولاح من القرائن أن
الإلحاق من جانب المولوي إسماعيل الدهلوي – ابن بنت مولانا الشاه عبد العزيز
المذكور – فإنه أول من مال إلى النزعة التيمية والنزعة النجدية في الهند»([112]).
الاحتفال
بيوم مولد الحبيب صلى الله عليه وسلم:
ولم تكن مسائل القبور وحدها مما اختلف فيها بين أهل
السنة وأهل البدعة الوهابية تكلم فيها الشاه ولي الله وأبدى موقفه منها، بل هناك
مسائل خلافية أخرى تحدث عنها الدهلوي في كتبه، وظهر أنه على نهج السداد والاستقامة
فيها بلا أدنى ميل عنه إلى الضلال والانحراف.
ومن تلك المسائل الاحتفال بيوم مولد سيد الخلق e، فيقول مولانا الشاه في
أثناء حديثه عن زيارة قبور بعض الصحابة: «وكنت قبل ذلك بمكة المعظمة في مولد النبي
e في يوم ولادته، والناس يصلون
على النبي e، ويذكرون إرهاصاته التي ظهرت
في ولادته، ومشاهده قبل بعثته، فرأيت أنوارا سطعت دفعة واحدة، لا أقول إني أدركتها
ببصر الجسد، ولا أقول أدركتها ببصر الروح فقط، الله أعلم كيف كان الأمر بين هذا أو
ذاك، فتأملت تلك الأنوار فوجدتها من قبل الملائكة المؤكلين بأمثال هذه المشاهد،
وبأمثال هذه المجالس»([113]).
قوله
بأن النبي e أول خلق الله U والحقيقة المحمدية:
ومن تلك المسائل أيضا مسألة النور المحمدي، أو
الحقيقة المحمدية، وأولية خلق هذا النور، يقول رحمه الله في «فيوض الحرمين»: «تحقيق
في بيان قول السيد عبد السلام بن مشيش قدس سره([114])
على مشرب القوم: اللهم اجعل الحجاب الأعظم حياة روحي، وروحه سر حقيقتي وحقيقته
جامع عوالمي بتحقيق الحق الأول، اهـ المراد بالحاب الأعظم ذات النبي e؛ كما دل عليه قوله قدس سره
فيما سبق: "وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك"([115]).
وإنما عبر عنه بالحجاب الأعظم؛ لأن حقيقته عليه الصلاة والسلام أول المبدعات
وأعظمها، كما ذكره القوم في قوله e: أول ما خلق الله نوري، ومنها انشعبت الحقائق، فهي الواسطة بينه
وبينها»، ثم استمر قائلا «فأولها مرتبة تسمى عند الطائفة بالحقيقة المحمدية إلخ»([116]).
وله رحمه الله إشارات وتلميحات بل وتصريحات في
الحقيقة المحمدية والنور المحمدي في غير ما موضع من غير ما كتاب له([117]).
الشاه
ولي الله الدهلوي وقضية الروحانيات والأسماء والطلسمات:
كما أن له رحمه الله عناية بعلم الأسماء والطلسمات
وتسخير قوى الكون، وأطال النفس في مذهب سيدنا أبي الحسن الشاذلي والشيخ البوني([118])،
وهذه المسألة مما قد استغلها جهلة الوهابية لتكفير الصوفية، ولكن في الزمان
القديم، وأما الآن فلعل الوهابية أعظم الناس اعتقادا في الجان والأرواح والأفلاك،
حتى أدت هذه المسألة إلى انشقاق صفوفهم إلى فرق وأحزابا شتى، لعل بعضها يكفر بعضا،
وهكذا كفى الله المؤمنين القتال.
وهو يرى كما يرى سائر الصوفية مكانة أئمة التصوف
وكتبهم الصوفية، ويرشد المريدين إليه، وها هو يقول لواحد جاءه من بلد آخر: «...
وذكرت له أن العمدة في الطريقة السهروردية المواظبة على الأذكار والأوراد المذكور
في كتاب «العوارف»، وذكرت له أني سمعت سيدا من سادات مشايخ المدينة أن العمدة
عندهم هي العمل بما في «الإحياء» و«قوت القلوب»...»([119]).
وخلاصة القول أن الإمام الشاه ولي
الله الدهلوي رحمه الله كان علما من أعلام أهل السنة والجماعة في الهند، فكرا
وفقها وسلوكا، لا يمتري في ذلك إلا جاهل، ولا يماري فيه إلا متجاهل، وكل من حاول
غير ذلك فقد حاول المحال، وما لا يمكن أن يكون بحال. ولم أجد في كتبه رحمه الله
ذكرا لابن تيمية ولو مرة، على خلاف ما هول به المهولون، بينما وجدته في كثير من
كتبه يذكر أئمة أهل السنة الأحناف والشافعية الأشاعرة والماتريدية مرات كثيرة جدا،
يستشهد بأقوالهم ويستند إليهم. ومرة واحدة فقط رأيته يذكر ابن حزم الظاهري – وهو
أقرب من أشرب قلوب الوهابية حبهم؛ لضلالاته الفقهية، مع رده البليغ على التجسيم
والمجسمة – أثناء الحديث عن التقليد، في كل من «حجة الله البالغة» و«عقد الجيد» و«الإنصاف»،
ولكنه لم يذكره للاستشهاد به، بل للرد عليه وتفنيد مزاعمه. فأين «الإصلاح» المزعوم
في تاريخ هذا الإمام، وأين اتخذ الحرانيَّ إماما له، وأين اتخذ ترهات المجسمة قدوة
ومنهجا !! كلا أبدا، إنه لم يكن، رغم أنف الملبسين.
([4]) هناك مؤلفات قيمة لكثير من
الأئمة أفردوها في هذا الموضوع، إضافة إلى ما يوجد في مواضع من الكتب الأصولية
والفقهية والكلامية، كما أشرت إلى ذلك. ومن تلك التأليفات المفردة: آداب المفتي
والمستفتي للإمام ابن الصلاح الشافعي، معنى قول الإمام المطلبي إذا صح الحديث فهو
مذهبي للحافظ التقي السبكي الشافعي، شرح منظومة رسم المفتي والمستفتي للعلامة ابن
عابدين الحنفي، الفضل الموهبي للإمام أحمد رضا خان الحنفي، وكذا يدخل في هذا الباب
أيضا الفوائد المدنية للعلامة الكردي – التي لخصها الشيخ أحمد كويا الشالياتي،
علامة مليبار، في «العوائد الدينية»، ونال الفقير شرف إخراجها مدروسة محققة -
والفوائد المكية للعلامة السقاف، وغيرها كثير.
([5]) ولا يشك إنسان عنده أدنى
حرص على منهج أهل السنة والجماعة في أن شابا خليا عن العلم والتحقيق إذا تربى على
أدبيات أبي الحسن الندوي – مثل «رجال الفكر» و«إذا هبت ريح الإيمان» وأشباههما،
وأدبيات «ندوة العلماء»، وعلى رأسها مجلتُها المشهورة المسماة «مجلة البعث
الإسلامي» باللغة العربية، وعلى ما يُنتِجه عقولُ كثير من التائهين من رجال «دَيُوبَنْدْ»
الناقمين على إمام أهل السنة والجماعة أحمد رضا خان رحمه الله وصرامتِه في
الالتزام بمنهج السلف، لا يشك إنسان في أن هذا الشاب الذي يقرأ هذه الأدبيات – كما
هو الحال في كثير من الأحيان – ويتربى عليها ينحرف عن منهج أهل السنة والجماعة
ويتخبط في الفكر الوهابي، وقد حصل ذلك بالفعل لكثير من الشباب في العالم العربي،
بل في الهند نفسها. ومن زار مراكزهم في الهند – كمدرسة ديوبند نفسها وندوة العلماء
بلكهنو– حاليا يجد تماما، إن كان منصفا أنها تسير في ركاب النجدية طائشةً تائهةً.
فالذي يدعي أن هذه الفئة صوفية وأهل سنةٍ ويزعم أنها حنفية إن كان أراد بذلك
صوفيةَ الهروي المجسم وسنةَ ابن تيمية وحنفية الزمخشري فهو محق صادق، وإن أراد
المعنى الذي يتبادر إليه ذهن أهل العلم عند إطلاق هذه المصطلحات فهو إما مفتر كاذب
أو متوهم مُغَيَّب.
([8]) انظر فهرس الفهارس للكتاني:
178-180، 204، 205، 1119-1122، إيضاح المكنون للبغدادي: 1/65، أبجد العلوم
للقنوجي: 3/241، نزهة الخواطر لللكهنوي: 858، الأعلام للزركلي: 1/149، مقدمة
الناشر الهندي للخير الكثير للشاه ولي الله الدهلوي: 4، 9، معجم المطبوعات العربية
في شبه القارة الهندية الباكستانية، د/ أحمد خان: 222-226.
([12]) هو الشيخ الإمام العلامة
الكبير عبد الحكيم بن شمس الدين السيالكوتي الحنفي الماتريدي، توفي عام 1067هـ،
له: حاشية على تفسير البيضاوي، وعلى حاشية الخيالي على شرح العقائد النسفية، وعلى
شرح المواقف، وعلى شرح الشمسية، وعلى شرح الدواني على العقائد العضدية وغيرها.
انظر في ترجمته كشف الظنون لحاجي خليفة: 2/1148، 1894، هدية العارفين للبغدادي:
1/504، إيضاح المكنون له: 1/140، 319، نزهة الخواطر: 2/558، الأعلام للزركلي:
3/283.
([20]) يضاف إلى ذلك وجود نوع من
العلماء الذين هم في نظر العوام محسوبون على الأشاعرة وأهل السنة، ولكنهم في
الحقيقة «شر من تحت أديم السماء»، يصدرون الأحكام والفتاوي على حسب هواهم، يقول
واحد منهم مثلا: إنه لا يسن ستر رأس الرجل، ولا يجب نقاب المرأة، وحلق اللحية ليس
حراما، وختان المرأة ليس له أصل، بل يزيد الطين بلة حيث يصرح بأن هذه الأمور وأمثالها
– مما يدل على المظاهر الإسلامية التي اتفقت الأمة كابرا عن كابر، وثبتت النصوص
على أنها إما واجب أو مندوب – من علامات الإرهابيين والمتشددين. والحق أنهم لا
يمثلون الفكر السني الأصيل في شيئ، إلا أنهم في نظر الناس أشاعرة، فمن هنا يفتحون
بابا واسعا لدخول الناس في المذهب الوهابي الذي يرى أن أقوى شبكة لاصطياد الضعفاء
هو الاعتماد على هذه المظاهر، وإن كانت العقيدة عقيدة الوثنية.
([21]) انظر صحيح البخاري، كتاب
المغازي، باب بعث على بن أبي طالب، حديث رقم (4351)، وكتاب فضائل القرآن، باب إثم
من رآءى بقراءة القرآن، حديث رقم (5058)، وكتاب التفسير، سورة براءة باب رقم 10،
حديث رقم (4667)، وغيرها من المواضع، وكذا في صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب التحريض
على قتل الخوارج: 7/169، وفيه وصف النبي e للخوارج «قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول
البرية»، صدق الإمام النووي رحمه الله؛ حيث قال في شرحه (7/169): «صغار الأسنان
صغار العقول» «خير قول البرية، معناه في ظاهر الأمر، كقولهم لا حكم إلا لله
ونظائره، من دعائهم إلى كتاب الله تعالى».
([23]) الشيخ عبد الرحيم من مشاهير
أهل العلم في الهند في زمانه، كان شيخ الطريقة النقشبندية، وهو ممن قرأ على المحقق
الكبير الشهير القاضي مير محمد زاهد بن محمد أسلم الهروي الكابلي، صاحب التعليقات
النافعة على كثير من الكتب الكلامية والمنطقية. توفي الشيخ عبد الرحيم عام 1131هـ،
وله سبع وسبعون سنة. انظر نزهة الخواطر لللكهنوي: 747، رجال الفكر والدعوة للندوس:
827-834.
وانظر «رجال الفكر والدعوة» لأبي
الحسن الندوي (ص: 797 طبعة نزار مصطفى) تجد كيف يغمز بهذا المحقق الكبير – أقصد
المير محمد زاهد - الذي تمهر به والد الشاه ولي الله في العلوم العقلية، وهكذا كان
الندوي يمكر، ولم يتنبه لمكره الكثيرون.
([24]) انظر أبجد العلوم للقنوجي:
3/241، 242، نزهة الخواطر لللكهنوي: 858. ولا يشك من عنده أدنى مسكة في منهج
مولانا الشاه بمجرد النظر في أسامي هذه الكتب – الدينية، لا الفلسفية أو الطبية أو
الفلكلية إلخ - التي درسها على والده، وهي كتب أشعرية أو ماتريدية، ما فيها شيئ
فيه شائبة تجسيم أو توهُّب، وهي الكتب التي قامت الدعوة التيمية والوهابية على
تحريم النظر فيها. وكذلك الحال بالنسبة لعم الشاه ولي الله - اسمه أبو الرضا محمد
- الذي تعرض أبو الحسن الندوي لجانب من حياته وتاريخه، ويدرك الفاهم من كلامه أنه
هو الآخر أيضا أشعري العقيدة بلا شك، صوفي كذلك، وانظر قول الندوي عن هذا العم: «وقد
ذكر الإمام الدهلوي عددا من وقائع كشوفه وكراماته، ونقل بتفصيل كثير من أقواله
وكلماته، التي يصعب فهمها والاستفادة منها في هذا العصر، ولذلك نفضل الإعراض عن
ذكرها». (رجال الفكر: 827، طبعة نزار مصطفى).
([26]) هو: أبو طاهر، الملا محمد
بن الملا إبراهيم بن حسن الكردي الكوراني المدني الشافعي، ولد عام 1081هـ/1670م،
وتوفي عام 1145هـ/1733م، له: اختصار شرح شواهد الرضي. انظر لترجمته فهرس الفهارس
للكتاني: 494-496. وأما الشيخ إبراهيم الكوراني والد أبي طاهر فقيل – القائل هو
ابن الآلوسي التيمي الوهابي - إنه كان يدافع عن ابن تيمية وترهاته، وبالتالي فإن
المشكلة نفسها سوف تنتقل إلى الآخذين عنه في الغالب، على فرض صدق هذا القيل. راجع
جلاء العينين للآلوسي الابن: 61، رجال الفكر والدعوة للندوي: 851.
([52]) موقف المعتزلة من التعليل
واضح لأغلب أهل العلم، وأما أن ابن تيمية وابن القيم ومن ساروا في ركبهما كانوا
معللين، وتركوا صفحات كثيرة من كتبهم لبيان وجوب التعليل وأنه هو مذهب السلف (!!)
فهو أمر لا يتنبه له الكثيرون، ولست هنا بصدد بيان موقف ابن تيمية والتيميين،
وإنما هدفي هو إثبات أن مولانا الشاه لم يتخذ من ضلالات ابن تيمية إماما له ومذهبا.
([61]) قف عند هذه العبارة أيها
القارئ المتبصر، وهل تجد في هذه العبارة شيئا من القلاقة أو الركاكة، وكأن تحريفا
أصابها، وكأني بالإمام الدهلوي ذكر الاستواء هنا: الاستواء على العرش، ليدل على
تسخير الملك لمدينته لتسخيره لجميع الموجودات، وسلك في تأويله مسلكا رائعا، على
خلاف تجسيم التيميين والوهابيين، وهو بالتأكيد لا يعجب المجسمة العابثين، وإن لم
يحرف هذا الكلام فياليت شعري ما المراد بقوله «إذ لا عبارة في هذا المعنى أفصح من
هذه»، ما المراد بـ«هذه»، وكأنه يشير إلى عبارة أسقطته الأيدي الآثمة، قاتل الله
المجسمة أذناب اليهود.
([62])
حجة الله البالغة للشاه ولي الله الدهلوي: 1/122، 123، وهذا الكلام نقله الندوي في
«رجال الفكر والدعوة» له (885، طبعة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة)، ولكن انظر
بعين الإنصاف كيف أوقعته الحميةُ الجاهلية في الهلاك والخسران؛ حيث نقل الكلام
هكذا: «واعلم: أن الحق تعالى أجل من أن يقاس بمعقول أو
محسوس، أو يحل فيه صفاتٌ كحلول الأعراض في محالها، أو تعالجه العقول العامية، أو
تتناوله العرفية. ولا بد من تعريفه إلى الناس ليكملوا كمالهم الممكن لهم، فوجب أن
تستعمل الصفات بمعنى وجود غاياتها، لا بمعنى وجود مباديها، فمعنى الرحمة إفاضة
النعم، لا انعطاف القلب والرقة، وأن تستعار ألفاظ تدل على تسخير المَلِك لمدينته
لتسخيره لجميع الموجودات؛ إذ لا عبارة في هذا المعنى أفصح من هذه، وأن تستعمل
تشبيهات بشرط ألا يقصد إلى أنفسها، بل إلى معان مناسبة لها في العرف... وقد أجمعت
الملل السماوية قاطبة على بيان الصفات على هذا الوجه» ثم أكمل بقية النص. وأسقط من
الجملة قوله رحمه الله «فيراد ببسط اليد الجود مثلا»، ووضع في مكانه علامة
(...) حتى لا يراه قارئ كتابه، ولكنه لم يعلم أن الله متم نوره ولو كره وأبى.
([66]) انظر تقريظ محمد عمارة
الإصلاحي لكتاب «ابن تيمية والآخر»: 7 (مكتبة الإمام البخاري، الإسماعيلية/ مصر،
2007م). وانظر لجواز الاشتغال بالكلام ما كتبته في مقدمة تحقيقي لكتاب «الرسالة
التسعينية في الأصول الدينية» للإمام الصفي الهندي، بعنوان «معنى كلام الإمام في
ذم الاشتغال بالكلام»: 8-27 (طبعة دار البصائر، القاهرة، 2009م).
([69]) هو: الشيخ عبد القادر بن
موسى بن عبد الله بن جنكي دوست الحسني، أبو محمد، محيي الدين، الجيلاني أو الجيلي،
من كبار مشايخ التصوف والفقه، كان يفتي على المذهب الشافعي والحنبلي، ولد في
«جيلان» عام 471هـ، وانتقل إلى «بغداد» شابا عام 488هـ، وتوفي بها عام 561هـ. له:
الغنية لطالبي طريق الحق، الفتح الرباني، فتوح الغيب، وهو مؤسس الطريقة القادرية
المنتشرة في شتى أنحاء شبه القارة الهندية انتشارا واسعا. انظر الأعلام للزركلي:
4/47.
([74]) كما فعل ذلك الشيخ عبد
القادر الجيلاني كما ورد في كلام الدهلوي السابق، بل الإمام الأشعري نفسه فعل ذلك
في «مقالات الإسلاميين» (1/219-221)، وإمام الحرمين في «البرهان» (1337) والغزالي
في «المنخول» على فرض ثبوت نسبة هذه الأقوال إليهم، وانظر أيضا القسم الدراسي
لكتاب الشامل في أصول الدين لإمام الحرمين: 31-33.
([110]) بل يوجد في كتب الدهلوي
الكثيرة ما ينقض هذه الفكرة الغريبة، ويثبت أنها مدسوسة في «الخير الكثير»، وهو
رحمه الله يرى كغيره من علماء أهل السنة صحة نسبة الأفعال إلى الفاعل الحقيقي وإلى
الفاعل المجازي، ولا يرى في ذلك الثاني إشراكا أو شائبة إشراك، انظر ما قاله في
«الفتهيمات الإلهية» (1/145)، وقد نقلته سابقا.
([114]) هو: الإمام الشيخ العارف
القطب الأكبر والولي الأشهر، سيدنا ومولانا أبو محمد، عبد السلام بن مشيش بن أبي
بكر بن على الإدريسي الحسني، أحد مفاخر بلاد المغرب، شيخ الإمام أبي الحسن الشاذلي
قدسنا الله بأسرارهما، وتوفي شهيدا عام 625هـ. وقبره معروف بالمغرب، وهو بها
كالشافعي بمصر. انظر جامع كرامات الأولياء للإمام النبهاني: 2/140.
11 تعليقات
لله دركم فقد دفعتم عن هذا الإمام المحدث الأعظم منذ قرنين شبهة الإنتماء للقرن
ردحذفكما أوضحتم ضلالات الامذهبيين
كما أنكم أفقدتم التيميين شبها يتعلقون بها لجعل هذا الإمام على منهجهم
فهم يستميتون لتغطية عورتهم العلمية وخلوهم من العلماء الكبار مثل الإمام بنسبته إليهم
ولكن هيهات هيهات العقيق
فقد قمت يا سيدي بمجهود عظيم لحفظ نسبة هذا العلم إلى أهل السنة
ونزعت عنه ثوب البدعة الذي حاول الوهابية نسبته إليه
وأما مسألة تكفيره للمستغيث بالصالحين وإن صحت فإن في النص ما يدل على أنه لم يقصد به التكفير
بل هو يقصد به أنه ميل عن الطريق المستقيم وذلك بدليل ذكره لحرمة ذلك بعد ما ذكر الكفر
مما يدل على أنه يقصد أنه محرم في رأيه
وأنت ياسيدي تعلم أنه يوجد في المذهب الحنفي قول بحرمة التوسل ولعله اعتمد على هذا القول إن افترضنا صحة العبارة مما يرفع الإشكال ويثبت أنه لا يوافق الوهابية على تكفير المستغيث
كما أن ذكره لكلمة كفر تدل على أنه ليس وهابيإ بدليل أن الوهابية يقولون أن الاستغاثة شرك
مما يدل على عدم موافقته لهم ويدل على أن كلمة كفر لو صحت نسبتها له هي بمعنى المعصية بدليل ذكره للحرمة
بعد ذكر كلمة كفر
فتكون كلمة كفر عنده بمعنى كفر النعمة وهو جحدها لا بمعنى الكفر المخرج من الملة
وهذا إن صحت نسبة العبارة
وقد أدليتم بما يشكك بنسبة كبيرة في نسبة هذه الكلمة له
كذبت فضحك الله
ردحذفكان صوفيا ماتريديا
لكنه اذا سافر الى بلاد الحرمين و عرف الحق رجع و تاب الى نذهب السلف الصالح. ترك مذهب خبيث اهل الكلام
كما تاب الأئمة المتكلمين قبيل وفاتهم.ههههههه
حذفكيف يكون كون الإمام صوفيا متكلما كذبا والنصوص شاهدة له. وان لم توافق أنت إياه فخل سبيله لماذا تحمل الإمام وهنا على وهن
حذفhttps://islamqa.info/ar/answers/290275/%D9%8A%D8%B3%D8%AA%D9%81%D8%B3%D8%B1-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE-%D9%88%D9%84%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%87%D9%84%D9%88%D9%8A-%D9%88%D8%B9%D8%A8%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%86%D8%AF%D9%8A-%D9%88%D8%B3%D8%B9%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%B1%D9%8A%D8%A8%D9%88%D8%B1%D9%8A
ردحذفهو بنفسه في مذهبه في كتابه "الجزء اللطيف" فهو يقول:
ردحذف" بعد دراسة فاحصة لكتب المذاهب الأربعة ، وكتب أصول الفقه ، والأحاديث التي يتمسكون بها استقر في القلب بتوفيق من الله وهدايته طريقة الفقهاء المحدثين".
أنقل بعض وصاياه وأقواله في هذا الصدد لتتضح معالم دعوته:
" وصية هذا الفقير: الاعتصام بالكتاب والسنة في العقيدة والعمل والتفكير فيهما دائما؛ وقراءة جزء منهما كل يوم وإن لم يستطع القراءة فيسمع ترجمة ورقة من كليهما، واختيار مذهب قدماء أهل السنة في العقيدة والإعراض عن تفصيل مالم يفصلوه، وعدم التوجه إلى تشكيك أهل العقول، واتباع العلماء المحدثين في الفروع، فهم قد جمعوا بين الحديث والفقه، وعرض الفروع الفقهية دائما على الكتاب والسنة وقبول ما يوافقهما ورد مالم يوافق ... " من كتاب "التفهيمات الإلهية". " انتهى من "جهود مخلصة" (ص 51).
وانت عاجز عن درك معنى قول الإمام الدهلوي رحمه الله. لأنك تفهم معاني المفردات والكلمات فقط، ولا غير ذلك .
حذفمقال جميل يذب عن هذا الإمام العظيم شبهة كونه من الوهابية الجهلة، فجزى الله كاتبه وناشره خيراً
ردحذفأنت تضر نفسك وتسيء إلى غيرك وتحاملك ظاهر جدا في فظاظة عباراتك والمطلوب الإنصاف والدهلوي مؤدب لطيف في عباراته فما دمت تنتسب إليه فعلى الأقل كن مثله في التعبير ، وهل البداوة والفكر البدوي هو محل الذم والعيب ولماذا الدس يكون إذا خالف هواك أليس مخالفك يسوغ له أن يقول إن الدس من المبتدعة أمثالكم لا تطفف فالله تعالى يقول ويل للمطففين وأكبر دليل أنك صاحب هوى أن الدهلوي تنسب له السحر والطلاسم وتسخير قوى الكون وهل يوجد مسلم عاقل يؤمن بالله ورسوله يرضى أن تنسب ذلك لدين الإسلام ولو وقع فيه الدهلوي لكان أكبر برهان على ضلالته فالمحب له ينبغي أن يقول هذا لعله تاب منه أو يقول (مدسوس ) على طريقتك:) وكل من تكم عنه لا يقول إنه أصاب في كل ما كتب وقال بل هو رجل يظهر أنه يريد الخير وإصابة الحق ولكن نشأته في وسط مليء بالظلمات والعقائد الكفرية والمبتدعة فما دام أنه وصل إلى هذا المستوى من علم الحديث وتعظيم الكتب والسنة فهذا شيء لا تطيقونه ولا يطيقه إلا الأقوياء الناصحون ولا يعني هذا أن الرجل وصل مرتبة الكمال والعصمة كما تريد أن تصور الأمر ، وجميع أهل العلم لهم مكانتهم بحسب علمهم ونصحهم واجتهادهم ولا يمدحون إلا بما نصروا دين الله وقاموا بشرعه ودعوا إلى ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أبد أن يمدحهم عاقل بالابتداع في الدين ومخالفة الهدي النبوي، وهب أن بعض اهل الحديث مدحه فهو يمدحه بما وافق الكتاب والسنة ومذهب السلف الصالح ولكن أنت تمدحه ليس لأجل ذلك بل تصرح أنك تمدحه بسبب وقوعه في الاستمداد من الموتى وإقراره المولد وانتسابه للأشعري ووقوعه في تحريف معاني الصفات وتجويزه الصلاة في المقبرة فلتهنأ بمعاندة النصوص وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون.
ردحذففالإمام الدهلوي كان أشعريا والشواهد على أشعريته أبلج وأضوء، وإلا أخبرني عن الشيء الذي أبعده عن الأشعرية وهو عاش في دهر كانت الأشعرية مشرب سائدة للاعتقاد، والسواد الأمة منتسبون اليها، ولم توجد الوهابية في تلك الفترة. إضافة الى كونه موافقا للاستغاثة، والأدلة عليه كثيرة كثيفة مثل شعره في مدح خير الورى, ثم أنت لا تفيد بكلامك هذا ، فخير لك أن تترك الإمام الديهلوي (الخرافي ، ومخالف في الشريعة، وغير متقن في العقيدة ) ورائك ، فامش في سبيلك
حذففالإمام الدهلوي كان أشعريا والشواهد على أشعريته أبلج وأضوء، وإلا أخبرني عن الشيء الذي أبعده عن الأشعرية وهو عاش في دهر كانت الأشعرية مشرب سائدللاعتقاد، والسواد الأمة منتسبون اليها، ولم توجد الوهابية في تلك الفترة. إضافة الى كونه موافقا للاستغاثة، والأدلة عليه كثيرة كثيفة مثل شعره في مدح خير الورى, ثم أنت لا تفيد بكلامك هذا ، فخير لك أن تترك الإمام الديهلوي (الخرافي ، ومخالف في الشريعة، وغير متقن في العقيدة ) ورائك ، فامش في سبيلك
حذفأكتُبْ تعليقا