ادعمنا بالإعجاب

اللغة العربية مفخرة اللغات البشرية في عصر العولمة

اللغة العربية مفخرة اللغات البشرية في عصر العولمة
عطاء الرحمن الندوي[1]*




خلاصة البحث:

الحمد لله الذي أنزل على عبده القرآن، واختار لكتابه أفصح اللغة من اللغات البشرية ثم جعله معجزة لنبيه الأمين صلى الله عليه وسلم ورفع به شأن اللغة العربية وأعلى درجتها بين اللغات البشرية، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد !

فإن خير ما استفتح به هذا البحث العلمي هو قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (سورة الحجر: الآية-9) ولا شك أن ورود
هذه الآية القرآنية بين آيات لغة القرآن، يحتاج من أهل اللغة العربية ودارسيها إلى وقفة تدبر راجين أن يفتح عليهم الفتاح العليم حقيقة هذه الآية، وهم إذا تأملوها بنظرة عميقة وجدوا أن مسؤولية حفظ القرآن على الله تبارك وتعالى ثم هو يحفظ لغته العربية بحفظ كتابه وهي تبقى خالدة وسالمة ببقاء القرآن إلى يوم القيامة، فهذه لطيفة قرآنية تدل على أن اللغة العربية مفخرة اللغات البشرية مهما تكون المؤامرة وتثور الدسائس من بني جلدتها تارة ومن الآخرين تارة أخرى بالهتافات المثيرة حينا وبالألفاظ الجميلة حينا آخر، ظاهرها ملامح الرحمة وباطنها صنوفا من العذاب، ولأجل ذلك كان من الواجب على الأمة الإسلامية عامة وعلى الأمة العربية خاصة أن تنتبه إلى هذه المؤامرة الخطيرة قبل فوات الأوان، وأن تستيقظ من سباتها العميق قبل أن يبكي عليها الزمان، كما نبه الشاعر الكبير حافظ إبراهيم حاملي لواء اللغة العربية حيث قال:     
           أيهجرني قومي عفا الله عنهم / إلى لغة لم تتصل برُواة
          أرى كل يوم بالجرائد مَزلقا / من القبر يُدنيني بغير أناة (1)
وقد اختتمت هذه المقالة بذكر أبلغ مقال قاله أبو الريحان البيروني عن حب اللغة العربية "لأن أشتم بالعربية خير من أن أمدح بالفارسية" وأنا أذكر هنا حسرة المتشككين حيث أنهم يقولون: مسكين من لا يعرف اللغة الإنجليزية فهو يواجه الصعوبة في فهم كلام الناس، وأنا أقول لهم: مسكين من لا يعرف اللغة العربية فهوا يواجه الصعوبة في فهم كلام رب الناس. وصلى الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
ما اللغة ؟
إن اللغة هي صورة صادقة للناطقين بها، وهي تحمل ذوقهم وطبيعتهم كما يعرف عامة الناس وخاصتهم، ولكن الخبرآء قد اختلفوا في تعريفها ومفهومها، وما اتفق علماؤها على تعريف معين، ومع ذلك توجد التعريفات المختلفة في الكتب الأدبية القديمة والحديثة، وهنا نذكر بعضها على سبيل المثال لتوضيح وظيفة اللغة، يقول الأستاذ أبو الفتح ابن جني: "أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم" (2)
وقال الآخر: "اللغة نظام من الرموز الصوتية الاعتباطية يتم بواسطتها التعارف بين أفراد المجتمع، تخضع هذه الأصوات للوصف من حيث المخارج أو الحركات التي يقوم بها جهاز النطق، ومن حيث الصفات والظواهر الصوتية المصاحبة لهذه الظواهر النطقية" (3)
يقول الأستاذ الدكتور جمعة سيد يوسف: "ظاهرة اجتماعية تستخدم لتحقيق التفاهم بين الناس" (4)
ويعرفها البعض" اللغة وسيلة إنسانية خالصة، وغير غريزية إطلاقا، لتوصيل الأفكار والأفعال والرغبات عن طريق نظام من الرموز التي تصدر بطريقة إدارية" (5) ومع ذلك توجد التعريفات كثيرة لدى خبراء اللغات وأهلها، ولا أذكر هنا نظرا إلى طوال البحث.
إذا ألقينا النظر على تاريخ تنمية اللغة وتطورها فإننا نرى أنها كالكائن الحي، إنها تتطور وتترعرع بتطور الحضارة والثقافة بين أهلها، حيث يتدفق دم الشباب في عروقها حتى يسفكوا الدماء في سبيلها، ثم هي تتمتع بنشوة الشباب حينا وتشيخ ويتجلط دمها حينا آخر، وأريقت الدماء لأجلها وفي سبيل إحيائها حتى انبسطت على وجه الأرض بركة من الدماء، كما يشهد التاريخ بأن الجمعية العامة للأمم المتحدة اتخذت قرارا على عناية منظمة إلىونسكو باللغة العالمية وسعيها إلى النهوض بها 21 فبراير اليوم العالمي للاحتفاء بلغة الأم من أجل النهوض بالتنوع اللغوي، ويرمز قرارها للاحتفال باليوم العالمي للغة الأمة البنغالية المسلمة إلى ذلك اليوم التاريخي الذي أطلقت شرطة باكستان الغربية على الطلاب المتظاهرين في مدينة داكا، وذلك في عام 1952م، وهي عاصمة بنغلاديش إلىوم، وليس لهم أي ذنب إلا أنهم كانوا يتطلبون من الحكومة الاعتراف بلغتهم الأمة كلغة واحدة من اللغة الرسمية، وهي اللغة البنغالية، ثم وقع ما وقع، فقد تنفس كثير من المتظاهرين أنفاسهم الآخرين بإطلاق رصاص الشرطة في حرم جامعة داكا قائلين للأجيال القادمة: إذا لم تتوفر عوامل التقدم والازدهار والديمومة والاستمرار أن لغتهم تموت بين أهلها مع أن أصحابها يلهجون بها ويحبونها، لأنها مرهونة إلى تلك الظروف التي تواجه في مسيرتها بين أهلها، فإذا أحرز أصحابها قصب السبق في مجال الحضارة والثقافة والتنمية والازدهار، فحينئذ أنها تتطور بتطور أهلها، مع أنها تختلف بين المدنيين والحضاريين وبين سكان الصحراء وأهل الجبال والسهول، والقصور الشامخة في المدن الراقية والأكواخ الحقيرة في الأرياف البعيدة، فإذا تكلم أحد يُعرف بلهجته التي تدل على علاقته التي يعيش فيها ونسبه الذي ينسب إليه، لأن لغة القوم هي ركن من أركان شخصيتها، ولأجل ذلك يفتخر بها أهلها، ويعتز بها رجالها ونساؤها وشبابها وكبارها، وعلماؤها وجهلاؤها، ويفرضون على أنفسهم مسؤولية دفع المعوقات والذود عنها جميع المشكلات بالمعرفة حينا وعدمها حينا آخر، ويتحملون مسؤولية صيانتها ووقايتها مما يشوبها من اللغات الأخرى بالاستعداد اللغوي والثقافي، ولأجل ذلك فإن علمائها لا ينظرون إليها كمجموعة من الأصوات وجمل مفيدة من الألفاظ والتراكيب، بل يعتبرونها كائنا حيا، فيؤمنون بقدرتها على مساير التقدم في جميع مراحل الحياة الفردية والجماعية، وإن اللغة أفضل القنطرة إلى شخصيات الأمور وخصائصهم البارزة، حيث أنها تربط الماضي بالحاضر، والحاضر بالمستقبل، وأمتها بالأمم الأخرى في العالم الراهن.
شبهات حول اللغة العربية:
وإن الشكوك والشبهات التي تثير من قبل المرجفين حولها وهي أن اللغة العربية لا دور لها في عصر العولمة، حيث أنه عصر المخترعات الجديدة والمكتشفات الحديثة، ولكنها جمدت عن مواكب العصر الراهن وتخلفت عن المسيرة اللغوية، لأنها لغة بداوة ترعرت في الصحراء بعيدة عن الحضارية والمدنية فلا تستطيع أن تحمل في أحضانها المصطلحات الحضارية في عصر العولمة، فهذا زعم ودعوى لم يقم عليها دليل، وفي الحقيقة أنهم يعيشون في بيت العنكبوت، لأن تاريخ اللغات العالمية يشهد لنا أن اللغة لا تجمد بنفسها وبطبيعتها قط، وإنها لا تتخلف عن مسيرة حياة شعبها، وكذلك أنها لا تتقدم ولا تتأخر، ولا تنمو ولا تزدهر إلا بمسيرة شعبها وأمتها، إذا تطور الشعب وتنهض الأمة في مجالات الحياة فلغتها تتقدم وتزدهر، حيث أن التطور الشعبي يعطي اللغة سيلا من حسن السبك والعذوبة، كما أن الشعب يتمتع بجميع التسهيلات بتطور المجتمع، ثم يعيشون في النعيم والترف وينامون على الفرش الناعمة بالغطيط، ولأجل ذلك إذا أمعننا النظر في تاريخ اللغة العربية وحضارتها الراقية فإننا نجد راية حضارتها اللامعة ترفرف في سماء اللغات العالمية في عصر العولمة كما كانت في المنصرم.
والمعلوم أنني حاولت في هذا البحث العلمي أن أوضح هذه الجوانب كلها في ضوء القرآن والسنة، ونقل آراء خبراء اللغات من كتبهم القيمة امع إلقاء النظر العميقة على الظروف والأوضاع والمؤامرة والدسائس التي تحاك وراء الستار حينا وفي رابعة النهار حينا آخر ضد اللغة العربية باسم عصر العولمة حتى تكون تعريتها وإفضاحها في العالم الراهن، كما قال أحد من الخبرآء " إن اللغة العربية ما كانت تطمع في أن يتعدى سلطانها جزيرتها، فتضرب الذلة على لغات نمت في أحضان الحضارة وترعرعت بين سمع المدينة وبصرها، وتستأثر دونها بالمكان الأسمى في ممالك ما كان العربي يحلم بها، فضلاً عن أن يكون السيد المتصرف فيها، ولكن القرآن الكريم انتزعها من أحضان الصحراء، وأتاح لها ملكاً فسيح الأرجاء، تأخذ منه لألفاظها ومعانيها، وأغراضها وأسلوبها، ما لم تمكنها منه حياته البدوية، فبعد أن كانت ثروتها في حدود بيئتها، أصبحت غنية في كل فنون الحياة فأقبل الناس عليها مدفوعين إلى معرفة أحكام الدين، وأداء واجبات الإسلام" (6).
 نظرة على اللغة في العالم المتغير:
لقد تبدلت اللغات بتغيير العالم، وظهرت تطورات كثيرة وتصرفات كبيرة في جميع مراحل اللغات العالمية من الكبيرة إلى الصغيرة من حيث إحصائيات شعبها التي توجد في العالم الراهن، وما وقفت على هذا الحد بل طُوي بساطها بعدم اهتمام أهلها وبعناية قومها حسب الظروف والأوضاع، وعدم تحقيق متطلبات العصور والأزمان، حتى أصبحت مفقودة وغير معروفة لدى أهلها خلال مدة قصيرة، ولا يوجد أحد من علمائها يَفهم كتابها الذي كتب قبل قرن أم قرنين، بل لا يُفهم ذلك الكتاب إلا بواسطة القواميس والتعليقات والشروح كذلك، وهي قبلت التغيرات والتصرفات في رابعة النهار حينا وفي ظلمات الليل حينا آخر، وإذا فكرنا عن هذه التصرفات والانقلابات فوجدنا أمرين عظيمين وسببين كبيرين مهدا السبيل لدخول التغيرات فيها وانقراض سلطانها وعظمتها.
ألف: الثورة الاجتماعية.
ب: الارتقاء الأدبي.
وإن اللغة العربية واجهت هذين الأمرين بكل شدة في القرون المنصرمة كما واجهت اللغات الأخرى، ولكن ما طرأ أي تغيير على أصلها ونقلها وحرفها ونقطها حتى على حركاتها وسكناتها، وإن اللغة العربية موجودة على أصالتها التي كما كانت في أول يومها وعند نزول القرآن، ويتكلم بها الناس في مكة ويفهم بنطقها عما في صدورهم حينذاك، مع أن اللغة العربية لم تكن لها ميزة خاصة قبل نزول القرآن، ولم يكن لها شأن يذكر، وموقع بين الأمم آنذاك حتى تتهافت على تعلمها الأمم الأخرى، وليست لغة حضارة وصناعة، ولغة علم ومعرفة، بل كانت لغة الصحراء بعيدة عن العلوم والمعرفة، ولكن أصبحت اللغة العربية قوية وساطعة، وما ذلك إلا بفضل القرآن، وإنها اكتسبت به القداسة والخلود إلى يوم القيامة، لأن القرآن تحولها من المنزلة الوضيعة إلى المنزلة الرفيعة، وحملت ما حملت في أحضانها من محاسن الكمال وأنواع الجمال، وإن القرآن تحول أهلها من أمة تائهة إلى أمة كريمة، ومن ضعيفة إلى قوية، حيث أنه صقل نفوسهم وهذب بيئتهم وطبيعتهم وطهر عقولهم وأفكارهم من رجس الوثنية وعطن الجاهلية حتى وصلوا ما وصلوا من أسفل سافلين إلى أعلى عليين.  وفي جانب آخر إذا ألقينا النظر في تاريخ اللغات الأخرى فرأينا الكتاب ألاليد (Homer–850م ق.م.) وراماين (Tulsi Das ت 1623م) والمسرحية (Shakespeare :1564-1616م) تعد بعمل عبقري في الآداب الإنسانية في عصرهم، وتُقرأ هذه الكتب الأدبية منذ تأليفها إلى يومنا هذا على الدوام باهتمام بالغ، ومع ذلك كله فإنها قابلت التطورات والتحويلات في صورتها الأصيلة التي كانت عند صاحبها وخرجت من قلمها، والآن أصبحت لغتها لغة كلاسيكية، لا يفهمها الناس ولا يستخدمونها في الكتابة والحوار، أو في المقالة العلمية والأبحاث التحقيقية، ولا تُضرب الأمثال التي ضربها المؤرخون المذكورون في كتبهم الأدبية المذكورة، لأن العصر قد تغير والناس يعيشون بعيدين عن تلك الأساليب القديمة في العصر الراهن، ولكن القرآن الكريم كتاب واحد في تاريخ الإنسان ومثال رائع في تاريخ اللغات يحمل لغته الأصيلة على رغم الانقلابات والتطورات العلمية والثورات التقنية والتكنولوجيا الحديثة.
الانقلابات الاجتماعية وأثرها في اللغات العالمية:
وإذا ألقيت النظر على الثورات الاجتماعية وأثرها في العالمية رأيتها ما كانت محدودة في السياسة والصناعة، والأفكار في ساحة العلوم والفنون، بل أصيب بها اللغة دفعة من النفع حينا ومن الضرر حينا آخر، ومن النعمة تارة ومن النقمة تارة أخرى، ثم تلاعب بها الزمان ما تلاعب، وتصرف بها ما تصرف، وطرأ عليها تعديل وتحريف حتى فقدت اللغة روحها وخصائصها وميزاتها التي تميزها بين اللغات الأخرى، فاللغة العربیة تعرضت لهذه الطوارئ مثل سائر اللغات الحیّة، ولكن الله سبحانه وتعالى حفظها من أيدي العابثين عبر العصور والأزمان ويحفظها إلى يوم الدين بحفظ القرآن الكريم، كما كتب أحد من المدققين عن التاريخ "إذا تدبرنا تاریخ کلّ ظاهرة من مظاهر الأمة کالآداب أو اللغة أو الشرائع أو غیرها باعتبار ما مرّ بها من الأحوال في أثناء نموّها وارتقائها و تفرعها، رأیتها تسیر في نموها سیراً خفیاً لا یشعر به إلا بعد إنقضاء الزمن الطویل، ویتخلل ذلک السیر البطيء وثبات قویّة تأتي دفعة واحدة، فتغیر الشؤون تغیراً ظاهراً وهو ما یعبرون عنه بالنهضة، وسبب تلک النهضات في الغالب احتکاک الأفکار بالاختلاط بین الأمم علی إثر مهاجرة اقتضتها الطبیعة من قحط أو خوف ... أو یکون سبب الاختلاط ظهور نبیّ أو متشرع أو فیلسوف کبیر أو نبوغ قائد طمّاع یحمل النّاس علی الفتح و الغزو أو أمثال ذلک من الانقلابات السیاسیّة أو الاجتماعية (7)
إن اللغات العالمية قد تأثرت بتأثير الانقلابات الاجتماعية والثورات السياسية، وهنا نشير إلى اللغة اللاطينية لتوضيح هذه الحقيقة، وإن اللغة اللاطينية كان مركزها إيطالي، وما كانت هذه اللغة من حاصلات إيطإلى، بل خرجت هذه اللغة باجتماع القبائل الأوروبية في إيطاليا، ولما خيمت الروم بجوانبها ودخلت لغتهم في تلك المناطق الإيطالية حتى أنجبت لغة جديدة بامتزاج اللغتين واختلاطهما، وأخيرا حلت هذه اللغة محل اللغة اللاطينية، ولما بدأ الناس يلهجون بهذه اللغة شرع الكتاب والأدباء يلتفتون إليها بأهمية بالغة، حتى ترجم  (Lubes Andronicus)  بعض التمثيلية والقصص اليونانية باللغة اللاطينية وذلك في القرن الثالث قبل المسيح، وهكذا دخلت هذه اللغة في دور الأدب، وبعد ذلك فإن السلطة الرومانية اتخذتها كلغة رسمية، حتى تعززت علاقتها ورسخت جذورها بانتشار الدعوة المسيحية في أعماق قلوب عامة الناس وخاصتهم في المناطق المذكورة، ومن هنا بدأت تطوراتها بتقوية المذاهب والسياسة والتقدم الاجتماعي والارتقاء الاقتصادي، وانتشرت هذه اللغة في جميع أوربا القديم بكل سهولة، ونالت مكانا مرموقا لدى المجتمع وأصبحت لغة كبيرة في العالم وحلت المكان الأول بين اللغات العالمية، وفي القرن الثامن برزت قوة المسلمين وهاجموا على السلطة الرومية حتى لجأ الروميون إلى القسطنطينية، وفي عام 1453م فإن التركيين فتحوا القسطنطينية وقضوا عليهم وسقط نظامهم، وطُوي بساطهم، ولما انقرضت الدولة الرومية فوجدت اللغات المحلية فرصة سانحة لبروزها ولعب دورها وخرجت لغات كثيرة بشوائب وامتزاج اللغة اللاطينية، ومنها اللغة الفرنسية والإيطالية والأسبانية والبروتوغالية والرومانية كذلك، والآن فإن اللغة اللاطينية عظمتها وأبهتها وأخيرا أصبحت لغة الكنائس والعبادات، وتُستخدم في القانون واصطلاحات العلوم القديمة فقط، ولا تعد بلغة حية بل حلت المكان في التاريخ، ولذلك إذا أراد أحد أن يقرأ كتب (Newton 1642-1727) في عصرنا هذا يجب عليه أن يتعلم اللغة اللاطينية القديمة من جديد.
المد والجزر في تاريخ اللغات واللغة العربية:
وهكذا يوجد المد والجزر في تاريخ جميع اللغات الإنسانية، وتبدلت اللغة بتقلبات الزمان وبتحويل الأحوال الاجتماعية حتى انقرضت اللغة الأولى وحلت مكانها لغة أخرى، ولما واجهت اللغة باختلاط الأقوام والقبائل والصراع المذهبي والثورة السياسية والتغيرات الزمنية تأثرت كثيرا وتبدلت اللغة غير اللغة، ولكن اللغة العربية لم تبرح مكانها ساعة ولم تغمض عينها طرفة بل هي تشاهد تقلبات الزمان وتغيرات اللغات كأنها قطب يدور حولها رحى حوادث اللغات وتغييرها، ومما لا شك فيه بأن عدم تغيرها في العالم المتغير يدل على معجزة القرآن. والتاريخ يشهد لنا بأن اليهود خرجت من الشام في عام 70م ووصلت إلى المدينية، وفي ذلك الحين كانت تعيش فيها العمالقة وكانت تتكلم باللغة العربية، ولما اختلطت اليهود معها فأصبحت اللغة العربية لغتهم، ولكن تختلف لغتهم العربية من لغة العرب الأصيلة، وواجه العرب بعد إسلامهم هذه الحادثة على الصعيد الدولي، ولما خرجوا من وطنهم العرب وانتشروا في أقطاب الأرض حتى وصلوا إلى الآسيا الوسطى والدول الإفريقية ووجدوا فيها لغة غير لغتهم، وعلى الرغم من ذلك كله ما تأثرت لغتهم العربية، وهي كانت باقية على حالتها الأصيلة.
والمعلوم بأن اللغة العربية أصيبت بمثل هذه الحوادث في القرن الأول بعد نزول القرآن، ولما انتشر الإسلام بين القبائل فبدأ المسلمون الجدد يجتمعون في المدن الإسلامية، وكانت لغتهم لغة مختلفة جدا من حيث التلفظ واللهجة وأسلوب الكلام وصيغة الخطاب، حتى أبو عمرو العلاء قال: ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا، وكذلك ذكر التاريخ واقعة وقعت بين عمر الفاروق وبين رجل أعرابي، وإن الأعرابي كان يقرأ القرآن، وإن الفاروق لا يفهم تلاوته، فأخذه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه يتلو القرآن بلهجته التي تختلف لغة العرب حتى لا يفهمها عمر الفاروق، وماذا يقرأ وبأي سورة تتعلق قراءته؟ وهكذا كان يتكلم الرسول مرة مع وفد من الوفود القبلية بلغتهم المحلية، ولكن ما فهم على ابن أبي طالب هذا الحوار الذي دار بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم. وفهم أنه يتكلم بلغة أجنبية. وكان السبب الأكبر لعدم الفهم اختلاف اللهجة، وهنا نستطيع  أن نشير إلى قبيلة بنو تميم التي كانت تسكن في النجد المشرق، وهم يغيرون الجيم بالياء، ويقولون المسجد المسيد، وهكذا أنهم لا يستطيعون أن يتلفظوا الحرف (ق) ويغيرونها بالجيم، مثلا هم يقولون الطريج دون الطريق، والصديج دون الصديق، والجدر دون القدر والجاسم دون القاسم، وكان من اللازم حسب القانون أن تكون لغة جديدة باختلاط القبائل المختلفة،  ولكن أدب القرآن سيطر على جميع التغيرات والتطورات وأنقذ اللغة العربية من الاختلاط والتبديل، حتى قال الدكتور أحمد حسن زيات: (ما كانت لغة مضر بعد الإسلام لغة أمة واحدة، وإنما كانت لغة جميع الشعوب التي دخلت في دين الله) (8)
المسلمون العرب في خارج البلاد:
لقد رسخت جذور رسالة الإسلام الخالدة في بلاد العرب، وانتشرت من مشارق الأرض إلى مغاربها، حتى تغلغلت في أحشاء الناس، فاجتمعوا تحت راية الإسلام العظيم، وفتحوا من جبل الطارق إلى جبل كاشغر في الصين، وكانت فيها لغات مختلفة كما يلهج فيها الناس باللغة الفارسية والقبطية والبربرية والعبرانية والسريانية واليونانية واللاطينية والآرامية، وكانت لهذه اللغة أبهة عظيمة في تلك الأقطار، وكانت فيها أقوام وأرفعها شأنا وأعظمها مكانة في النظامي السياسي والحضاري، كما كانت العراق تحمل حضارة عالمية وإيران كانت تعد من أعظم الملوك، وبدأ الصراع بينهم وبين الحضارة الرومية والمذاهب النصارى حيث كانت راية النصارى عالية جدا ووصلت النصارى إلى منزلة لا تساويها منزلة، وحلت مكانا مرموقا في خارطة العالم في ذلك العصر، وحاربوا في الشام حيث كانت مركزا لجميع الحضارات الرائعة من الأقوام والأمم، وهزموا فيها قبيلة الفينيقي والكنعاني المصري اليوناني والغساني وتركوا وراءهم الآداب الرائعة والأطوار الملموسة وقابلوا أهل مصر وهي كانت مشتملة على الفلسفة الشرقية والعربية، وتتطلب تغيير اللغة العربية وتخرج لغة جديدة إلى حيز الظهور باختلاط القبائل وبوجود الأسباب المذكورة، ولكن لغة القرآن كانت باقية على حالها مع أن أهلها واجهوا تيارات لسانية كبيرة وهزة لغوية شديدة بتقلبات الزمان، أصبح القرآن معيارا لهذه اللغة وارتفع مستواها الذي جعل جميع العوامل والأسباب عديم الفعالية إجهاضا وإحباطا، وفي ضوء هذه الظروف ما أحسن ما قاله شاعر النيل حلفظ إبراهيم مشيرا إلى براعة اللغة العربية :
وسعتُ كتاب الله لفظا وغاية / وما ضقتُ عن آي به وعظاتِ
أنا البحرُ في أحشائه الدرُّ كامن / فهل سألوا الغواص عن صدفاتي (9)
وهكذا خرجت اللغة العربية من دائرتها المحدودة الضيقة ووصلت من أقصى الأرض إلى أقصاها ومن شرقها إلى غربها عن طريق فتوحات الإسلام بسرعة من البرق، ومن هنا لغة قوم أصبحت لغة الأقوام ولغة منطقة تحولت إلى لغة المناطق والدول، ووصلت من الصحراء إلى الأرياف البعيدة، ومن القصور العالية إلى الأكواخ الحقيرة، حتى حلت مكان لغة الأم في كثير من الدول في العالم الراهن كما ظهرت إحصائيات الأمم المتحدة عن اللغة العربية "واللغة العربية اليوم هي لغة رسمية 22 دولة من الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة للتبرية والعلوم والثقافة (إلىونيسكو) وينطق بها أكثر من 422 مليون شخص في العالم العربي، ويستخدمها أكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين في العالم " (10)
وتسربت اللغة العربية في عروق الناس ودمائهم، ولما بدأ الأقوام الأعجمون يدخلون في دين الله وأصبحت اللغة العربية لغتهم أيضا شيئا فشيئا، طبعا فإنهم لا يستطيعون أن يتكلموا مثل ما يتكلم العرب، ونشأ فيها العيب والنقص بتأثير لغتهم غير العربية، وتسرب هذا العيب والنقص في لغة عامة العرب الذين ما كانوا واعين، وهم لا يفرقون بين الخطأ والصواب، والمحلية والفصيحة، واستخدام كلمة صحيحة وغير صحيحة في مكانها الأصلي، وانشترت الأخطاء في المدن الكبيرة بإتيان الناس إليها من أقوام مختلفة ويجتمعون فيها حتى وصلت إلى خواصهم، كما قال أحد منهم في مجلس زياد بن أمية: (توفي أبانا وترك بنون) وكان من اللازم أن يقول: (توفي أبونا وترك بنين) كما ذكر المؤرخ الكبير ابن عساكر هذه الواقية النحوية في كتابه القيم "تاريخ دمشق" جاء أبو الأسود إلى زياد فقال أرى العربَ قد خالطت العجم فتغيرت ألسنتهم أفتؤذنُ لي أن أضع للعرب كلاما يقيمون به كلامهم؟ قال لا. قال فَجاءَ رجل إلى زياد فقال: " أصلح الله الأمير توفي أبانا وترك بنون" (والأصل أن يقول تُوفي أبونا وترك بنين) فقال ادعوا لي أبا الأسود، فَدُعي، فقال ضع للناس الذي نهيتك عنه. (11) ولما انقرضت الدولة الأموية ونهضت الدولة العباسية في القرن الثاني الهجري ثارت فتنة كبيرة ضد اللغة العربية حيث كانت حكومة بني أمية حكومة عربية خالصة، وهذه الحكومة أيدت القومية العربية واللغة العربية تأييدا بالغا، واتخذت دمشق عاصمتها التي تقع على ثغور الأرياف العربية، وكان الجنود والموظفون والعاملون والضباط كلهم كانوا العرب، ولكن غلب الإيرانيون على الحكومة العباسية، وإن العباسيين هزموا الأموويين بمساعدة الإيرانيين، ولأجل ذلك سيطر الإيرانيون على الحكومة العباسية حتى أعلنت بغداد عاصمتها ودار الخلافة، وتقع بغداد قريبا من إيران، وهم يتدخلون في جميع أمور الخلافة كانوا أحرارا، ويزدرون بالعرب والحضارة العربية، ويؤامرون مؤامرة خبيثة لاستترافها، حتى سيطر عليها الأقوام الأخرى، فقامت بينهم رابطة مصاهرة وغيرها، ولما اتصلت الحضارة الآرامية وارتبطت الحضارة السامية ثارت ثورة جديدة في تاريخ اللغة، وهذه الواقعات كلها أثرت في اللغة العربية، وأشار المتنبي (915-965) بأبياته إلى تلك الظروف القاسية التي واجهتها اللغة العربية قفال :         
مغاني الشعب طيبا في المعاني  /   بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها  /  غريب الوجه وإلىد واللسان
ملاعب جنه لو ساد فيها  /  سليمان الساد بترجمان (12)
اللغة العربية في عهد الخليفة المتوكل:
لقد انتشرت الأعاجم في أطباق أرض العرب بعد الخليفة المتوكل (207-247) ودمر هلاكو خان حكومة بغداد تدميرا في عام 656هـ، وفي عام 898هـ فإن الأقوام الأوروبية قد قضت على حكومة العرب الأندلوسية، وفي عام 923هـ طُوي بساط الحكومة الفاطمية، وتحولت الحكومة العثمانية إلى سيطرة الأتراك، وانتقلت دار الحكومة من القاهرة إلى القسطنطينية وجرت اللغة التركية لغة رسمية، ودخلت الكلمات المحلية والأساليب الأعجمية في اللغة العربية واتخذت هذه الكلمات تترك أماكنها من ألسنة العرب لتحل محل العربية، ومن ذلك الحين كان العالم العربي مستغرقا تحت سيطرة الملوك الأعجميين إلى 550 عام، وفي هذه المدة الطويلة محيت آثار العرب في المجتمع، وأحرقت المكاتب العربية، وخربت المدارس الدينية، ودمرت الزاويات الروحية وأهانوا العلماء، وقد بذلت الحكومة العثانية مجهوداتها الضخمة لتحويل العرب إلى الأتراك، حتى قال جمال الدين الأفغاني: "تتريك العرب" وهذه الأحداث المحزنة فشلت فشلا تاما في تأثيرها على اللغة العربية، الواقع أن اللغة العربية والحضارة العربية منعت بالجفاء على أيدي التتاريين في بغداد، والصليبيين في الشام، وأقوام الأوروبيين في الأندلس، وهذه بما لم تُمن من غيرهم، وهذه الخسارة كانت كافية لمحو وجودها ولدفنها في باطن التربة، وهنا أستطيع أن أقول في ضوء تاريخ اللغات الأخرى: كان من اللازم أن تختلط اللغة العربية باللغات السامية الأخرى، وإذا قلت: إن الجهالة التركية والعصبية الإيرانية إن لم تحول في ازدهار اللغة العربية فإن اللغة العربية تكون اليوم لغة المسلمين في سائر العالم في العصر الراهن، وتحكم عليه وترأس في مسيرة اللغات في عصر العولمة، وباقيتها على حالتها الأصيلة في المناطق العربية وهي بفضل القرآن ومعجزته الباهرة، وهي أرغمت الناس على توطيد علاقتهم باللغة العربية رغم مخالفة الحكومات السابقة، ولأجل ذلك نشأ رجال كثير في تلك الظروف القاسية لخدمة اللغة العربية وآدابها كما نجد رجالا لا تلهيهم المخالفة الحكومية، وعلى رأس قائمتهم ابن منظور (630-711) وابن خلدون (732-808) كما ذكر التاريخ.
وفي عام 1798م لما دخل نبليون في القاهرة وابتدعت الطباعة وازدهرت العلوم والمعرفة والتعليم والتعلم دخلت اللغة العربية في حياة جديدة، وأنجبت القرون المنصرمة ظروفا قاسية حتى اتخذت حكومة مصر والشام لغة كلغة رسمية مكونة من اللغة التركية والعربية، وتبدلت الأرض غير الأرض بعد أن سيطرت الحكومة الإنجليزية في مصر، وذلك في عام 1882م، وهذه الحكومة أيضا بذلت كل ما في سعتها من الدسائس الخبيثة والمؤامرات الشنيعة للقضاء على اللغة العربية، وجعلت التعاليم في جميع المراحل بواسطة اللغة الإنجليزية، وأغلقت أبواب تعاليم معاهد اللغات المختلفة الأخرى، وإن المناطق التي يعيش فيها الفرنسيون كأغلبية ساحقة فإنهم روجوا لغتهم الفرنسية محل اللغة العربية، ومع ذلك كله فإن اللغة العربية كانت باقية على حالتها الأصيلة إلى مائة عام تقريبا، واتسعت فيها دائرة الألفاظ كما جرت كلمة "دبابة" محل كلمة منجنيق، وأسلوب البيان أيضا اختار طريقا جديدا، كما نجد الكتاب المعاصرين الذين يكتبون اليوم عن أحوال المسلمين هم يسمون بكتبهم (لماذا أسلمنا) حيث كانت أسماء مشتملة على المسجع والمقفع، وهكذا تستخدم كلمات كثيرة بعد التعريب مثل الكلمة (الدكتور) ومع ذلك فإن اللغة العربية باقية على حالتها التي كانت عند نزول القرآن.
الارتقاء الأدبي واللغة العربية:
إن الأدباء والكتاب لعبوا دورا بارزا في تغيير اللغات، وإن الأديب العبقري يطيل كلامه ويختار أسلوب البيان الجديد لإظهار الرشاقة والبلاغة حتى يتمتع القاري بقراءة كتابه وأدبه، وهكذا تدخل اللغة في مرحلة التغيير والارتقاء والتنمية والازدهار بأيدي الأدباء والشعراء، وبدأت تقطع مسافاتها الأدبية والعلمية حتى يتغير الشيء إلى شيء آخر، ولكن اللغة العربية عكسها، لأن القرآن رفع مستواها في أول يومها فلا تحتاج إلى أي أسلوب أدبي جديد ومستوى جديد بأيدي أديب عبقري، مهما يكون معجبا لدى الأدباء والكتاب، فلا يستطيع الأديب أن يسبقه، وما استطاع أن يكتب أحد من الكتاب والأدباء قرآنا جديدا يتشابه بالقرآن الذي نزل على محمد ، لأن لغة القرآن فاقت كل بلاغات العرب والعجم، ليس بشعر ولا نثر.
نظرة خاطفة على تاريخ اللغة الإنجليزية:
وفي جانب آخر إذا ألقينا النظر على اللغة الإنجليزية فوجدناها كلغة محلية، فلا يستطيع الأدباء في القرن السابع أن يعبروا بها عما في قلوبهم وعقولهم وأعماق وجدانهم بسبب قلة الألفاظ، وكانت هذه اللغة باقية على هذه الحالة إلى خمس مائة عام، وكان مؤسسها الأول (Geoffrey Chaucer 1340-1400)  فإنه لعب دورا كبيرا في مجال الارتقاء وتنمية اللغة الإنجليزية، وكانت اللغة الفرنسية رائجة كلغة رسمية في بريطانية، وإنه كان يعرف اللغة اللاطينية والفرنسية والإيطالية، وكان أديبا رائعا، وكتب النظم والأشعار، وبواسطة فطانته الاستثنائية ومعرفته الواسعة عن اللغات الأخرى فإنه رفع مستوى اللغة الإنجليزية بين اللغات المروجة في ذلك الحين، وجعلها لغة أدبية وعلمية وعالمية، كما قال عنه (Ernest Hauser) "إنه جعل اللغة الإنجليزية لغة قوية بأبياته الأدبية وبتوجيهاته الرشيقة وفتح أبوابها إلى الأمام لقطع مسافاتها الأدبية، ونفخ فيها روحا جديدة تشير إلى الاحتمالات الجديدة للارتقاء والازدهار إلى عالم اللغات" (13) ومن المعلوم إن الأديب  (Geoffrey Chaucer 1340-1400)كان أديبا رائعا على سماء اللغة الإنجليزية إلى مائتين عام، وكان يلمع في سماء الأدباء بالنضارة والجمال والبراعة والكمال، وحل محل قائد أدبي ورائد مؤثر في مجالاتها الأدبية، حتى خرج  (William Shakespeare 1558-1625)  إلى حيز الظهور وقدم نموذجا رائعا ووصل إلى ما وصل إليها  (Geoffrey Chaucer 1340-1400)  في عصره، وبسط نفوذه على مجال الأدب والأدباء، وذاعت سمعته وعلت كلمته في العالم كله، ورفع مستوى اللغة الإنجليزية مرة أخرى بأبياته المؤثرة ومسرحياته المتنوعة، حتى بدأت اللغة الإنجليزية تقطع مسافاتها الأدبية على طريق الازدهار والتنمية مرة أخرى، وكانت على هذه الحالة إلى مائة سنة إلى أن خرجت العلوم إلى حيز الوجود، وبدأت تؤثر على الأدب كما أثرت على جميع مراحل الحياة الفردية والجماعية من المستوى التعليمي ومستوى المعاش والقيم الخلقية والمقاييس الاقتصادية، والآن بدأ الكتاب يكتبون النثر دون الشعر والمقلات العلمية والواقعية محل المسرحية، والواقعة التاريخية محل القصص الموضوعية، واتخذ الأدباء الأسلوب العلمي في بيان الواقعات والحوادث، واختار هذا الأسلوب كثير من الأدباء وعلى رأس قائمتهم  (Jonathan Swift 1667-1745)والأديب(T. S. Eliot 1888-1965)، وتركوا آثارا تذكارية وأعمالا مجيدة في ارتقاء أدب اللغة الإنجليزية.
وفي جانب آخر إذا ألقينا النظر على اللغات العالمية فإننا نرى بأن هذه المفاخرة العظيمة قد ظهرت في جميع اللغات، فجاء أديب بعد أديب، ولعب دورا هاما في مجاله، وترك وراءه خزائن كبيرة من الأدب، ويمهد السبيل للغة إلى المستوى الأعلى في محال العلم والأدب حيث أنه حل محل رائد اللغة والأدب، ومع ذلك كله تغيرت اللغة وفقدت صورتها الأصلية، فلا يوجد أحد من علمائها أن يفهمها بكل سهولة، ولغة المتقدمين أصبحت صعبة جدا ولغة مجهولة لا يفهمها أحد دون التعليقات والشروحات خلال قرن أم قرنين، ويستثنى من هذه الكلية لغة واحدة وهي اللغة العربية لأنها لغة القرآن الكريم، ونفخ فيها القرآن روحا جديدة وجعلتها خالدة إلى يوم القيامة، وهذه الحقيقة تكفي لاثبات التحدي الذي يتحدى المسلمون ويقولون: لا يستطيع أحد من الناس أن يكتب كتابا مثل القرآن، كما يقول جل ذكره: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ...} (سورة الإسراء: الآية–88) وفي مكان آخر أشار القرآن إلى عجز الخلق: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ..} (سورة البقرة: الآية- 23 و24) وفعلا عجز العرب وأدباؤه عن معارضه عجزا تاما.
هل اللغة العربية قادرة على أن تكون لغة العولمة؟
لقد أمطر المتشككون وابلا من الأسئلة حول اللغة العربية، ويسألون عنها بكل الإعجاب بأن اللغة العربية قادرة على أن تكون لغة العولمة؟ ولغة العصر الراهن؟ الذي يقال عنه أنه عصر التقدم والازدهار وعصر التكنولوجيا الحديثة، وأنا أقول لهم ردا على هذه الأسئلة بلى! لأن اللغة العربية ما كانت لغة واحدة قبل نزول القرآن، كان الناس يتكلمون بها وبلهجات متعددة، ولكنها تحتوي على الفصيح والأفصح، والرديء والمستكره، أغلبها لهجة قريش، ومع ذلك أنها كانت غنية ومرونة، وكانت لغة قريش أسهل اللغات، كما نقل الإمام السيوطي عن الواسطي"إن كلام قريش سهل واضح، وكلاب العرب وحشي غريب" (14)
وهذه الأوصاف ساعدت اللغة العربية في مسيرة التقدم والتنمية في مجال اللغات العالمية، ولما نزل القرآن بهذه اللغة سحرت عقول البشر ببيانه السماوي عن الخالق والمخلوق وأسلوبه عن الخطابة إليهم، وعن الحياة والموت والجنة والنار، وفهموا أنهم ما خلقوا ليأكلوا ويشربوا، ويلهوا ويلعبوا كالبهيمة والأنعام، وإن القرآن جعل الدار الآخرة عنايته العليا وللنجاح في الآخرة، حتى يكون الإنسان عبدا خالصا بعيدا لله تبارك وتعالى عن عبودية الشهوات والملذات وزخارف الدنيا ويخرج من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. وإن القرآن لعب دورا كبيرا في مجال وحدة اللغة العربية وحفظها من الانقراض، ومن هنا أنه نفخ فيها روحا طبية جعلتها قوية تساعد في قطع مسافات اللغات العالمية، مهما رُفعت الهتافات المثيرة ضدها بكلمات جميلة مرة وبألفاظ ملونة مرة أخرى، ومنها عصر العولة. وقد عبر أمير الشعراء أحمد شوقي عن فخره مشرا إلى حسن اللغة العربية وجمالها، فقال:
إن الذي ملأ اللغات محاسنا / جعل الجمال وسِرَّهُ في الضادِ (15)
وقد نسي أو تناسى هؤلاء المتشككون عن مسقبل اللغة العربية ويقولون: إن اللغة العربية قد جمدت، وأصبحت بالية لأنها قديمة، وفي الحقيقة لا تكون اللغة قديمة فضلا عن الجمود مهما طال العهد، وهناك يتحقق المثال عدم العلم لا يدل على عدم الوجود، كما قال خبير من خبراء اللغات:"إن جمود اللغة وتخلفها، ونموها وازدهارها،كل أولئك يرجع أولاً وأخراً إلى وضع أهليها، وإلى نصيبهم من التعامل والتفاعل مع الحياة، وما يجري، في العالم من أفكار وثقافات ومعارف جديدة ومتنامية، فإن كان لهم من ذلك كله حظ موفور انعكس أثره على اللغة، وإن قل هذا النصيب أو انعدم، بقيت اللغة على حالها دون حراك أو تقدم، اللغة لا تحيى ولا تموت بنفسها، وإنما يلحقها هذا الوجه أو ذاك بحسب الظروف والملابسات التي تحيط بها، فإن كانت الظروف فاعلة غنية بالنشاط العلمي والثقافي والفكري، كان للغة استجابتها الفورية ورد فعلها القوي تعبيراً عن هذه الظروف وأمارة ما يموج به المجتمع من ألوان النشاط الإنساني، وإن حرمت اللغة من هذا التفاعل ظلت على حالها وقدمت للجاهلين فرصة وصمها بالتخلف والجمود، في حين أن قومها هم الجامدون المتخلفون" (16)
اللغة العربية وصلتها باللغة السامية:
‏وإذا دارسنا تاريخ اللغة العربية نجد جذورها في أعماق إحدى اللغات السامية، ولكن علماء اللغات قد اختلفوا كثيرا في هذا الموضوع، فقال بعضهم: إن اللغة العربية وصلتها باللغة السامية الأصيلة، ولكن الحق كما أنا وجدت بعد أن طالعت كتبا كثيرة وقلبت أوراقها التي كتبها خبراء اللغات، مهما يكون الخلاف في تعيين أصل اللغة العربية فإنني وجدت فيه قرابة واضحة بينها وبين اللغة العربية، وإذا ما اعتبرت هذه الآراء أستطيع أن أقول: إن اللغة العربية أقدم اللغات في العالم على الإطلاق، ويعترفها الجميع، وإن الله سبحانه وتعالى علم بها آدم الأسماء كلها، وما وقف الأمر على هذا، بل اللغة العربية لغة القبر والحشر والنشر ولغة الجنة كذلك، ويشهدها الحديث النبوي الشريف كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحبوا العرب لثلاث، لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي" (17) ولعل هذا حرض الثعالبي على الكتابة عن مكانة العربية في نظره، وعبر عما في صدره عنها بأبلغ التعبير فقال:"من أحب الله تعالى، أحب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ومن أحب الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية، ومن أحب العربية عني بها، وثابر عليها، وصرف همته إليها، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان، وآتاه حسن سريرة فيه، واعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم خير الرسل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم، ومفتاح التفقه في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد، ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها، والوقوف على مجاريها ومصارفها، والتبحر في جلائلها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة البصيرة في إثبات النبوة التي هي عمدة الإيمان، لكفي بها فضلاً يحسن أثره، ويطيب في الدارين ثمره " (18).‏
وقد ذكر كثير من أئمة المسلمين التكلم بغير العربية لغير حاجة يدل على النفاق، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:"تعلموا العربية فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم " وكره الإمام الشافعي لمن يعرف العربية أن يتكلم بغيرها" وقال الإمام ابن تيمية: "إن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، لأن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بالعربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهوا واجب" وقال ابن فارس: "لذلك قلنا: إن علم اللغة كالواجب على أهل العلم لئلا يجيدوا في تأليفهم وفتياهم" (19)
ولأجل ذلك لا أريد أن أخوض في تلك الآراء مرة أخرى، لأن الخوض فيه من جديد لا يفيد الباحثين الجدد شيئا من المعرفة اللغوية، بل يعثر الباحث في تحقيق غرضه، إلا أن أذكر قولا من الأقوال عن اللغة العربية، كتبه المؤرخ الفاخوري نقلا عن الدكتور طلس حول تطور اللغة العربية "إن أقدم النصوص العربية الفصيحة التي عُثر عليها ترجع إلى الفترة التي تمتد من القرن الثالث بعد الميلاد إلى القرن الخامس، وهذه النصوص هي الشعر الجاهلي، والحكم الجاهلية، ولكن من يدقق في هذه النصوص يجدها كاملة مهدبة، ذات نحو متسق وصرف منظم، وقواعد عروضية وشعرية راقية، ولا شك في أن اللغة العربية قد مرت بأطوار بعيدة العهد تطورت فيها وتدرجت إلى هذا الكمال الذي وجدناه في الشعر الجاهلي ثم في القرآن" (20)
وقد تكلم الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا عن المرجفين وردهم ردا قاطعا فقال: "وأما قضية جمود اللغة وعدم تطورها مع الزمن كما يرجف المرجفون فتلك قضية باطلة ودعوة على ظاهرها ملامح الرحمة وتكمن في باطنها صنوف العذاب، فلقد أمضّ أعداء من هذه اللغة أن تكون اللغة الوحدة بين لغات الأرض التي اتصل تليد تراثها بطريفه خلال خمسة عشر قرناً امتدت منذ النابغة في الجاهلية إلى شوقي في العصر الحديث، والتي يستطيع الملايين من أبنائنا في العصر الحاضر تلاوة القرآن الكريم والحديث الشريف وأن يفقهوا معانيهما، وأن يدركوا هديهما، وأن يستشعروا عظمتها، وأن يتملوا مما حفلا به صلاح وإصلاح" (21).‏
اللغة العربية رائدة في عصر العولمة:
من أمعن النظر في الكتب التاريخية ثم يقارن اللغة العربية باللغات البشرية الأخرى تأخذه الحيرة والإعجاب من فصاحة اللغة العربية وبلاغتها، حيث أنها كانت تحملها في العصر الجاهلي!! قبل نزول القرآن!! وكانت زاخرة ومليئة بالمفرادات وعذوبة ألفاظها، وإن الأسواق لعبت دورا كبيرا في جمال اللغة العربية ورشاقتها، وفي تجمل الألفاظ والتراكيب، لأن الأسواق كانت منتشرة في أيام مختلفة في أماكن شتى وفي مواسم مختلفة، وكان العرب يأتون إليها للتجارة حينا ولإظهار البراعة الأدبية والمفخرة الأسرية حينا آخر، ويشاركون في الحفلات الاجتماعية والسياسية والأدبية ويعالجون فيها القضايا الأسرية والقبلية بقرض الأشعار، وإلقاء الخطابات في الأحساب والأنساب وببيان الشجاعة والفصاحة التي عاشوا فيها، ويتمعون بالحضور في الأسواق كفرحة العيد وأقدمها سوق عكاظ، وهي أثرت العرب تأثيرا كبيرا، ونفخت روح تنمية اللغة العربية بحفلاتها الأدبية والشعرية في أهلها، لأنها كانت مؤثرة على الأدباء والشعراء ما قبل الإسلام، وكلهم يراجعون كلامهم إلى سوق عكاظ، وكانت لها مكانا مرموقا للتحيكم بينهم، ويميز الحكم بين اللغة الفصحة والعامية، ثم يعلن الفائزين في المسابقة الأدبية، وهم يقدمون الألفاظ العامة والأساليب اللغوية في لغة مثالية يتمتع الجميع، ثم قبيلة قريش ولغتها كانت غالبة على سائر اللغات الموجودة آنذاك، ولأجل ذلك كانت أشهر الأسواق في مكة، وكانت مكة مركزا للتجارة والسياحة في العصر الجاهلي، تأت إليها القوافل في جميع المواسم، وكان لها مكان إجلال العرب، وفيها الكعبة المشرفة، يأت الحجاج إلى بيت الله العتيق من كل فج عميق، ومن هنا قريش لعبت دورا هاما في توحيد اللغة ونشرها بين القبائل الأخرى، وبلغة القوافل أنها كانت تزين لهجتها وتراكيبها مما يكون الخفيف على اللسان والمسعول على السمع، ولأجل ذلك يقلدها الشعراء والخطباء في كلامهم، ثم تنتشر لغتهم في جميع المدن ونواحي الجزيرة العربية بصبغة لهجة قريش، وهذه هي الأسباب التي جعلت اللغة العربية رائدة في مسيرة اللغات البشرية في عصر العولمة، وإن التاريخ سجل هذه الميزات كلها بسعة صدورها، ولما نزل القرآن باللغة العربية فهي وجدت روحها من جديد، وتدفقت روعتها في عروقها كالبرق، ومما لا شك فيه كان للقرآن الكريم تأثير كبير في شحن بطارية تطور اللغة العربية ونبغ فيها قوة التقدم في جميع العصور والأزمان، فبقاء اللغة العربية إلى يوم القيامة جعلها رائدة في مسيرة اللغات البشرية في عصر العولمة، فلولا القرآن اختفت هذه اللغة من الوجود كما اندثرت اللغات الأثرية القديمة.
وهنا أستطيع أن أقول: إن الحقائق التي توجد في الكتب التاريخية تشير إلى طبيعة اللغة العربية في ألفاظها وتراكيبها ودلالاتها وظلالها إلى قدرتها في السير في جميع العصور والأزمان، وتوجد فيها القيم الدينية والروحية المستمدة من الدين الإسلامي، فللعربية أبعاد دينية وثقافية واجتماعية تجعلها محل تقديس عند أبنائها من الرجال إلى النساء والكبار إلى الصغار، فهي العروة الوثقى التي شكلت ذلك الانسجام بين أبناء الأمة الإسلامية في الماضي، وهي قنطرة للوصول إلى الرسالة السماوية لتحقيق الخير والفلاح في حياة الناس، وهي تنقذ الإنسان من الانحراف والسقوط في الضلال، وهذه اللغة العربية التي مازالت محافظة على خصوصياتها الحضارية بالرغم من ضعف أبنائها وعجزهم في العصر الراهن، كما قال الدكتور بن عيسى"وتشير الدلائل إلى أنه إذا نهضت الأمة من جديد، وتكاثرت عناصرها، قويت اللغة العربية وانتشرت واتسعت لها الآفاق، ورضيت بها النفوس" (22).‏
كذلك أجاب الأستاذ شحادة الخوري هؤلاء المتشككين عن مستقبل اللغة العربية قائلا: "من أمعن النظر في اللغة العربية وقارنها باللغات الأخرى، تملكه العجب من فصاحة مفرداتها وعذوبة ألفاظها، وجزالة تراكيبها، ورقة عباراتها، وقدرتها على التعبير والتوليد وقابليتها للنماء والتطور، وحسبها أن تكون لغة القرآن الكريم بجلال معانيه، وبلاغة بيانه، وهو الذي زادها غنى ووسع لها في الأرض امتداداً، وفي الزمان بقاءً، ثم استطاعت أن تكون وعاء المعرفة البشرية قروناً متطاولة، ولا يشك في أنها قادرة على أن تكون لغة المستقبل بعلومه وآدابه وفنونه، محتفظة بعالميتها التي اكتسبتها منذ خمسة عشر قرناً إلى آخر الزمان".‏(23)
ولأجل ذلك قد اعترف أعداء العربية من المستشرقين وغيرهم بقوة اللغة العربية وحيويتها وسرعة انتشارها، فيقول:"أرنست رينان" من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب حل سره، انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء، فبدأت فجأة في غاية الكمال، سلسة أي سلاسة، غنية أي غنى، كاملة بحيث لم يدخل عليها إلى يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة، من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمّة من الرحل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها، وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم علمت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغيير يذكر، حتى إنه لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى" (24)
ويقول جورج سارنوت: "ولغة القرآن على اعتبار أنها لغة العرب كانت بهذا التجديد كاملة، وقد وهبها الرسول صلى الله عليه وسلم مرونة جعلتها قادرة على أن تدون الوحي الإلهي أحسن تدوين بجميع دقائق معانيه ولغاته، وأن يعبر عنه بعبارات عليها طلاوة وفيها متانة، وهكذا يساعد القرآن على رفع اللغة العربية إلى مقام المثل الأعلى في التعبير عن المقاصد"(25)
ويقول بروكلمان: "بفضل القرآن بلغت العربية من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أي لغة أخرى من لغات الدنيا، والمسلمون جميعاً مؤمنون بأن اللغة العربية هي وحدها اللسان الذي أحل لهم أن يستعملوه في صلواتهم، وبهذا اكتسبت اللغة العربية منذ زمان طويل رفيعة فاقت جميع لغات الدنيا الأخرى التي تنطلق بها شعوب إسلامية" (26)
كما اعترف المؤرخون هذه الحقيقة بسعة صدورهم في كتب التاريخ، وقد ذكر الأستاذ محمد الخضر قصة رائعة في كتابه عن مستقبل هذه اللغة، فقال: " جون فرن " قصة خيالية بناها على سياح يخترقون طبقات الكرة الأرضية حتى يصلوا ويدنوا من وسطها، ولما أرادوا العودة إلى طاهر الأرض بدا لهم هنالك أن يتركوا أثرا يدل على مبلغ رحلتهم، فنقشوا على الصخر كتابة باللغة العربية، ولما سئل فرن عن اختياره للغة العربية، قال: إنها لغة المستقبل، ولا شك أنه يموت غيرها، وتبقى حية حتى يرفع القرآن نفسه " (27) وها أنا ما ذكرت هذه الأقوال المذكورة لإثبات منزلة اللغة العربية أمام الناس، بل نقلتها لأبين للمشككين أن الفضل ما شهدت به الأعداء، وهنا أختتم هذه المقالة‏ بذكر ألبغ مقالة قالها أبو الريحان البيروني عن اللغة العربية " لأن أشتم بالعربية خير من أن أمدح بالفارسية "وأخيرا أذكر حسرة المتشككين وهم يقولون: مسكين من لا يعرف  الإنجليزية فهو يواجه صعوبة في فهم كلام الناس وأنا أقول: مسكين من لا يعرف اللغة العربية، فهو يواجه صعوبة في فهم كلام رب الناس.
المراجع والمصادر :
1-        شاعر النيل حافظ إبراهيم
2-        ابن جني، أبو الفتح عثمان، الخصائص، عالم الكتب، بيروت، تحقيق: محمد علي نجار، دار القلم، بيروت، ج/1 ص/ 33.
3-        عمايرة، د/خليل أحمد، في تحليل اللغوي، الطبعة الأولى: 1987م، مكتبة المنار، ص: 12.
4-        د/ جمعة سيد يوسف، سيكولوجية اللغة والمرض العقلي، الطبعة الأولى، 1990م ، سلسلة عالم المعرفة، ص/51
5-        ادوارد سابيير، الارتقاء بالعربية في وسائل الإعلام،رجب 1422ه، سلسلة كتاب الأمة، رقم : 48، ص/ 47 ـ
6-        الباقوري، أثر القرآن الكريم في اللغة العربية، الطبعة الأولى 1995،  دار القلم، بيروت، ص/49
7-       بشر، د/ كمال، اللغة العربية بين الوهم وسوء الفهم، طالقاهرة: 1999، دار غريب، ص/23.‏
8-        زيات، الدكتور أحمد حسن، تاريخ الأدب العربي، دار القلم، بيروت، ص/ 34
9-        شاعر النيل حافظ إبراهيم
10-     د/ ثمامة فيصل، إلىوم العالمي للغة العربية، مجلة البعث الإسلامي، الهند، مارس 2014، العدد/ 8، ج/59
11-     إبن عساكر، تاريخ دمشق، حرف التاء، وسير أعلام النبلاء، ج/ 1، ص/ 279، وأبوطاهر المقرئ، راجع لمزيد من المعرفة أخبار النحويين.
12-      المتنبي، شرح ديون المتنبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1938، ص/ 38
13-     Reader Digest June-195 P. 35 
14-     السيوطي، الاتقان في علوم القرآن، ج/1، ص/60 والزركشي، البرهان في علوم القرآن، ص/236
15-     أحمد شوقي، الشوقيات، دار القلم، بيروت، لبنان، ج/1، ص/ 183.
16-     بشر، د/كمال، اللغة العربية بين الوهم وسوء الفهم، الطبعة 1999، دار غريب، القاهرة، ص/54.‏
17-     حاكم النسيابوري، محمد ابن عبد الله ، مستدرك على الصحيحين، ط: 1411هـ، بيروت، دار المعرفة. ج/4 ص/87.
وقال المحدثون: سنده صعيف.
18-     الثعالبي، فقه اللغة وسر العربية، الطبعة: 1938، دار الفكر، القاهرة، مقدمة الكتاب، ص/ 1.
19-     ابن تيمية، الفتاوي، تحقيق: أحمد بن فارس الصاحبي، الطبعة: دار القلم، بيروت، ج/ 1، ص/55
20-     الفاخوري، أحمد حسن، أثر القرآن في اللغة العربية، الطبعة: 1969، دار المعارف، مصر، ص/ 33.
21-     الباشا، د/ عبد الرحمن رافت، العدوان على العربية عدوان على الإسلام.‏ الطبعة: 1985، دار القلم، بيروت، ص/ 133
22-     د. بن عيسى باطاهر، الدور الحضاري للعربية في عصر العولمة، الطبعة الأولى، الشارقة، الطبعة:2001، ص/ 38
23-     الخوري، شحادة، مجلة مجمع اللغة العربية، الطبعة: 1997، دمشق، المجلد: 73، الجزء/ 4، ص/ 799.‏
24-     الجندي، أنور، اللغة العربية بين حماتها وخصومها، الطبعة: 1980، مطبعة الرسالة، بيروت، ص/25
25-     د/ عبد الجليل عبد الرحيم، لغة القرآن الكريم، الطبعة، 1981، مطبعة الرسالة الحديثة، عمان، ص/585
26-     كارل بروكلمان، تاريخ الأدب العربي، الطبعة: 1975، دار القلم، بيروت، ج/1، ص/23
27-     حسن، محمد الخضر، القياس في اللغة العربية، الطبعة الثانية 1983، دار الحداثة، بيروت، ص/12






* الأستاذ المشارك باللغة العربية،الجامعة الإسلامية العالمية شيتاغونغ

مواضيع ذات صلة
أدبيات,

إرسال تعليق

1 تعليقات

  1. اللغات للتواصل فقط والعربية يحتاجها المتخصصون لفهم القرآن والسنة وتبليغ الرسالة لمن لا يفهمها .
    اذ يستحيل عقلا ان يتقن المسلمون جميعا العربية .
    ولهذا أشعر كأن قومجيا عربيا كتب هذا المقال واراد ان يخلط العروبة العنصرية بالدين

    ردحذف

أكتُبْ تعليقا