ادعمنا بالإعجاب

التعاليم الأخلاقية وعناصرها في الشعر العربي

التعاليم الأخلاقية وعناصرها في الشعر العربي

الدكتور/ ك. ت. شكيب*



وعجيب جدا ! لقد اعتنى الأدب العربي بالآداب الممدوحة والأخلاقيات الفاضلة، وسعى لها سعيا، ونيّر بشعلها المحمودات، ووفق بها لمن يحبه ويرضي، وحرض كافة الإنسان على تمسّكها لأن يكون أديبا مؤدَّبا ممدوحا بالكائنات الحية، وقدوة أخلاقية فاضلة لجميع الناس! نعم وهو الغرض المرغوب في حياة الإنسان.
الإنسان أهمّ الحيوانات في العالم، متكوِّن بالنفس والعقل والبدن، ومتكامل بالثقافات والمدلولات الاجتماعية والتاريخية التي تبعث بها التعاليم المعاصرة. وعليه واجبات وحقوق ومسؤوليّات. وهو أذكى المخلوقات بالعقل والوعي والإدراك، وبه يميّز الإنسان الحسن من القبح والطيّب من الخبيث والخير من الشرّ، إذ يمكن به اختيار الطرق المناسبة له مع القدرات الحسيّة، ولأجله كلّفه بالتكاليف وحمله ما لم تتحمّله السماوات والأرض والجبال ونناط به الثواب والعقاب. فيجدر له باستخدام العقل للاهتداء به.
فيتميز الإنسان بسمتين بارزتين: الأولى؛ تتعلّق بتعدّد الاحتمالات مثل الحوّاس والعقل والوجدان التي تحثّ على تطوّر الوجود البشري والنتيجة الحتمية. والثانية؛ هي مهارته المبدعة والمبتكرة بفضل امتلاكها لملكة العقل والحوّاس والوجدان. فبهذين يصبح الإنسان راعي القانون ومتمسّك الحسنات ومحترم الأخلاق. 
والإنسان برأي الحكماء والفلاسفة هو "حيوان اجتماعي"،1 لا ينحصر في رفقة سفر أو جلسة سمر فقط، بل يمتدّ ليشمل كلّ نواحي الحياة وفي تحمُّل الأعباء والأمانة. فيجدر التعاون بينهم لتحصيل الأغراض المختلفة وتسهيل الغايات التي تدور بينهم، والتمسّك بالإجراءات القيمية بينهم لتحصيل الحقوق الذاتىة والغيرية. ويمسّ ببعض القوانين ويحتاج إلى المعلومات الأخلاقية، ويبذل المحاولات لإرساء العدالة والإنصاف والتضامن. وهذه القوى الأبدية الفاضلة تجسّم للطبيعة والرحمة والمحبّة والإيثار والتضحيّة، وتقرّ السلام في القلوب والعدل والإخاء في الجميع.
وهذا الخلق هو سجية الإنسان وطبيعته التي خُلِق عليها ويعيش فيها، ويلتقط منها ما يحتاج من الآداب السلوكية والمعايير الفكرية والعقلية، وبها تتوفر سيرها الذاتىة وأفكارها الشخصية ملائمة لثقافة المجتمع وحضارته، وهي الوعي الإنساني والمضمون السلوكي والأصل الثقافي يتدرب الأشخاص  والشعوب  حسب  إرشاداته،
* الأستاذ المساعد كلية أنوار الإسلام العربية للبنات– مونغام، كيرالا، النهد.

والتمرّن به إلى مستوى الآداب والأخلاق والثقافة. وجمعها الأخلاق، يعني بها طريقة سلوك الإنسان إما الحسنة أو السيئة، فتنتسب إليه الحسنة والسيئة أو مشتقاتهما أو مشابهاتهما المتعددة. فالأخلاق إذا كانت محمودة فتعتبر الأخلاق فاضلة، وإذا كانت عكسها فتعتبر الأخلاق قبيحة. فالموجز أن الأخلاق لها وجهان – الحسنة والسيئة - وفق أغراضها للأفراد والمجتمع. والخلق بالمعنى اللغوي هو الدين والطبع والعريكة ومثلها. ويقول ابن منظور "الخلق هو الدين والطبع والسجية"،2 ويؤيّده قول ابن عباس: "إنك لعلى خلق عظيم" معناه "إنك على دين عظيم،3 أي وهو الإسلام". ويبيّنه مجاهد بقوله: الخلق هو الدين، مستدلا بعائشة رضي الله عنها التي قالت عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم: "فإن خلق رسول الله كان القرآن"؛4 أي الدين. ويؤكد الفيروزابادي: "اعلم أن الدين كلّه خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين".5
وبالمعنى الاصطلاحي، "عقيدة أخلاقية منبثقة من البحث الفلسفي في الأخلاق"،6 أو "هو حال النفس الإنساني ومعيار السيرة الأدبية والسلوك الطبيعي والآداب الاشتراكية، حيث يدبّر أفعاله ويرتب سيره وسلوكه بلا رؤية ولا اختيار. فيوجد بعض الخلق غريزة وطبعا، وبعضها بالتدريب والاجتهاد".7وتكون أكثر الأخلاقيات طبيعية محضة بدون الرياضية ولا التدريبية كما يوجد الشجاعة والحلم والعفّة الجنسية والعدل وغير ذلك من الأخلاقيات.
وقال الجرجاني: الخلق عبارة عن هيئة النفس الراسخة،تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر بغير حاجة إلى الفكرة والروية، فإن كانت الهيئة حسنة تصدر عنها الآداب الحسنة والأفعال الممدوحة، وإلا تكون في سوء الهيئة فتنبع عنها السيئات والفواحش. فهي هيئة راسخة حيث تعين الإجراءات الظاهرة عنها بأن تكون موافقة بأحوالها الداخلية، فتجدر أن تستقيم بحالها الحسنة المتوفرة.8
فالخلق بمقتضى المعاني اللغوية والاصطلاحية، هو سجية وطبيعة بطرفيها المهمين إما الحسنة أو السيئة، والعادة والطبيعة والدين والعريكة والصفة المستقرة في النفس التي تتأثر في سلوك الفرد والمجتمع إن كانت محمودة أو مذمومة. وجمعه (الخلق) الأخلاق الذي يعني بها "طبع، وسجية عريكة، وطريقة تصرُّف يتميّز بها الإنسان".9ونسبتها ‘الخلقي’ أي مطابقا للخلق والعادات المحمودة، ويعني بهما مورال (Moral) بالإنجليزية. والأخلاقي هي نسبة الأخلاق، وتأنيثها الأخلاقية التي تعني بها موراليتي (Morality) بالإنجليزية.10
والأخلاقية (Morality) هي الطريقة السلوكية التي يمتاز بها سلوك النوايا والقرارات والإجراءات بين الخير والشر أو الحق والباطل، فتتغير الأخلاقية حينما تتغير الأعراف والعادات والطرائق. كما يعرّفها قاموس وأكسفورد الإنكليزي بأنها "هي الآداب الأخلاقية المتصلة والفضيلة المعينة والقواعد السلوكية الصحيحة"، 11أو يبيّنها قاموس لونغمان الإنجليزية "هو الوعي والفكرة حول الصواب والخطأ".12
ويبيّن العلماء بأن الأخلاقية هي اتباع معايير سلوكية معينة يعتبر حقا ومقبولا بمعظم الناس أو جمهورهم. أو بمعني آخر إنه الرموز أو النظام المقرر وفقا لدين معين وفلسفة مقررة وثقافة معلومة، رغما من الفجور؛ هي المعارضة للنشاطات الأخلاقية الممدوحة والسلوك المحمود. وعند العامة، أن الأخلاقية مدوّنة لقواعد السلوك الفردية والاجتماعية أو القومية كما يمكن التمييز بين الصواب والخطأ. تعكس فيها القيم الخلقية في الشخصية الإنسانية، كما أنها هي الاستقامة السلوكية والوعي العقلي والعلاقة الجنسية واللياقة البدنية والصحة النفسية بأقصى غاية النفس وحسب السلوك الاجتماعي والثقافي والحضاري.
فالأخلاقية هي النظام السلوكي المحمود والآداب الفاضلة والصفات المقبولة بمعظم الناس في المجتمع أو جمهورهم، فتفترق الأخلاقية حسب المجتمع ويتغير مضمونها ورموزها وفق الآداب السلوكية فيهم. فمثلا، أن العلاقة الجنسية قبل الزواج واللوطية والسحاق (Lesbianism) مقرّرة ومحافظة، كما أن تناول المخدّرات والخمور وتوزيعها وتدمينها أصبحت حضارة اجتماعية في بعض البلدان. وأيا كانت الأمور أن التعاليم الأخلاقية والأدبية هي التي تعرف بأدب الأخلاق عند العامة.
الأدب الأخلاقي وميزاته
والأدب في اللغة هو الدعوة إلى الطعام والمحامد والتحلي بالخلق الفاضل والقيام بأمر جلل. ثم اتسع المعنى في العصرين الأموي والعباسي ليشمل التعليم والتهذيب والتأديب بالأخلاق والآداب المحمودة. أما في المعنى الاصطلاحي هو الكلام البليغ الصادر عن العاطفة والأفكار والخيال الفطري. وقد قسّم الأدب إلى شعر ونثر؛ والشعر هو الكلام الموزون المقفى الذي يصور عن العاطفة والخيال، والنثر هو الكلام المرسل، لا يتقيد بالوزن والقافية.
والأدب لا شكّ هو المعبر عن الأخيلة البديعة والصور المؤثرة البليغة، والشعر هو من أقدم الآثار الأدبية عهدا لعلاقته بالشعور وصلته بالطبع. ويقال إنه ظاهر على هذه الصورة الرائعة من شعر مهلهل بن ربيعة وامرئ القيس. ويقال إن أول من بدأ به هو مضر بن نزار حين سقط عن جمل، فانكسرت يده فحملوه وهو يقول وايداه وايداه، وكان أحسن خلق الله صوتا ومع صوته اختلط صوت الإبل في سيره، وسموه هذا اللحن رجزا.13
وأما الأدب الأخلاقي هو نوع من الفنّ الأدبي، يتضمن أنواعا مختلفة من النثر والشعر المؤلفة بشكل خاص للأطفال والأولاد لتقوية الأخلاق وتنميتها في سلوكهم وآدابهم كي يتبنوا السلوكيات المحمودة ويتحلوا بالأخلاقية الفاضلة. وبدأ تطوّر هذا النوع الأدبي في القرن السابع عشر في أوربا، ثم أخذ يزدهر في منتصف القرن العشرين مع تحسن أنظمة التعليم في جميع أنحاء العالم، وبعدها تكاثرت المؤلفات المخصصة للأطفال بلغات مختلفة وتوسع نطاقها حتى تضمنت الآداب المتنوعة والأخلاق السلوكية المتعدّدة.
نشأة الشعر الأخلاقي وتطوّره
وكان الكلام كلّه منثورا في قديم الزمان، ففكّر العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها وطيب إغراقها وذكر أيامها الصالحة وأوطانها النازحة وفرسانها الأمجاد وسمحانها الأجواد، تهز نفسها إلى الكرم وتدل أبنائها على حسن الشيم. فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تم لهم كلام موزون قرضوا شعرا، لأنهم شعروا به أي فطنوا.
وبدأ العرب أولا بالسجع ووضعوه لتقييد علومهم أو ما يريدون حفظه، واليونان وضعوا أشعارهم لضبط العلوم والأشياء النفيسة والطبيعية التي يخشى ذهابها. والشعر وضع أولا للتغني به وإنشاده للآلهة والملوك، ولعل العرب يقولون الشعر إنشادا في أقدم أحوالهم. والشعر والغناء عند جميع الأمم من أصل واحد.
وأصبحت طبيعة الشعر هي الغناء المطلق، ووظيفته هي أداء ما تترسب في النفس من مشاعر وانفعالات حين ترتفع فوق الحياة العادية وتبلغ درجة الرفرفة والانسياب. والعرب لما نمت فيهم ملكة الشعر واتسعت أغراضه أمامهم نوعوا الأوزان وأطالوا القوافي وقصدوا القصائد. وليس في الدنيا أمة تضاهي العرب في كثرة الشعر والشعراء. الشعر العربي أكثره من الشعر الغنائي، وهو أرقي في العربية منه في سائر اللغات.
وقد ساهم الخليل بن أحمد إلى الشعر العربي بخمسة عشر وزنا، وسماها بحورا وزاد عليها الأخفش بحرا آخر، والشعر الواحد عند العرب يبني على قافية واحدة إلا بحر الرجز، فقافيته في الصدر والعجز فقط. قال عمرو بن العلاء: "ما انتهي إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير".14والشعر يجمل أثره في إثارة العواطف وتصوير أحوال النفس وإن النفس ترتاح بصور المحسوس الباهر، وما انتزع منه الخيال الجلي لخفة مؤنته عليها وإراحته لها من المعاونات والكد. فكيف إذا أنغم إلى ذلك نظم الوزن والقافية الشديدة الشبه بتأثير الإيقاع والتلحين الذي يطرب له الحيوان بله الإنسان !.
والشعر الأخلاقي هو الكلام البليغ على الآداب والأخلاق مع الوزن والقافية، وأحيانا يكون الشعر بدون القافية ويعرف بـ‘الشعر الحرّ’. وقد وزّعت الأشعار إلى الوجدانية والتاريخية والأخلاقية حسب الأغراض، وحينما تحتوي الأبيات الشعرية على الآداب الأخلاقية والسلوكية فهي تعرف بالشعر الأخلاقي.
مساهمة الشعر العربي للأخلاق والآداب
ولقد ورد أن الأخلاقية هي ثروة الأمم الفكرية والحضارية التي تصنع مجتمعًا بشريّا تسوده قيم الخلق والأدب والخير والحق؛ لذا يحسن سرد أهم ما سطره الشعراء في تناولهم للقيمة الحقيقية للأخلاقية في حياتنا. وما من شك أن هزيمتنا السياسية الفاجعة اليوم، بالإضافة لتدهور مستوانا العلمي والفكري والحضاري هي في حقيقتها أزمة خلق وأدب، أزمة القيم التي بات مجتمعنا الإسلامي يفتقدها بشده في الوقت الراهن، ربما لأننا أقمنا هذا الحاجز الضخم بين الدين والدنيا. ويمكن أن نفهم هذا المعنى الحقيقي من خلال قول الشاعر أحمد شوقي رحمه الله :
فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت                          فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إن فقدان القيّم الاجتماعية في الكثير من زوايا المجتمع العراقي واندثار معظمها قد أدى إلى أن يبقى مجتمعنا بلا قيّم، وهناك آثار وذكريات لقيم الماضي، وليس هناك قيم جديدة تحل محل تلك القيم فتكون مثلها أو أفضل منها، فإن ذهبت أخلاقهم ذهبوا وذبحوا وهزموا شر هزيمة. وليتأمل قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"،15وثناء الله تبارك وتعالى على نبيه أعظم الثناء بقوله: "وإنك لعلى خلق عظيم".16فأما عن أهم ما أنتجته قرائح الشعراء، فسنتخير منها بعض الأبيات التي تدل على مدى أهمية الأخلاق عند القوم وفي حياة الأمم. فهذا يؤكد على أن الحُسن يقاس بالخلق أولاً فيقول :
شمائل وبهجـة مرموقة                        والحسـن بالأخلاق ثم الخِلَق
كما لا ننسى قول الشاعر أبو الفتح البستي :
       فأقبل على النفس واستكمل فضائلها     فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان 17
أما صفي الدين الحلي فيزيد على ما تقدم: أن المرء إذا لم يقم منزلته الأدبية في المجتمع على الأخلاق، كان بناؤه واهي الأساس، فقال :
إذا عدم الفتى خلقا جميــلا    يسود به، فلا خُـلق الجمال
ويلمح أبو العتاهية إلى أهمية مكانة الأخلاق في صون الشرف فينشدنا :
هي الأعراق بالأخلاق تنمـو       بقدر أصولها تزكو الفروع
ثم يأتي أبو العلاء المعري ليعلن تفضيله للأخلاق على تيجان الملوك فجدير بنا أن نقول معه :
أُسَرٌ إن كنت محموداً على خلقٍ                    ولا أسر بأني الملك محمود
ما يصنع الرأس بالتيجان يعقدها                  وإنما هو بعد الموت جلمود
وبالرغم مما هو معروف عن تفاخر العرب بأنسابهم، إلا أن بعضا من شعرائهم رأوا أن للأخلاق رابطة اجتماعية قد تفوق رابطة النسب ، فهذا البحتري يقول :
        كم سري تقبل السرو  منهـم                  واشتباه الأخلاق عـدوى وإلف
       إذا تشاكلت الأخلاق واقتربت                  دنت المسافة بين العجم والعرب
وهو تأكيد لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى". أما أبو تمام فتفوق صلة الأخلاق عنده صلة النسب في متانتها؛ لذا فقد رثى غالبا الصفدي بأشد ما يرثي، الأخ أخاه فقال :
قلت أخي، قالوا أخ من قرابة؟           فقلت نعـم .. إن الشكول أقارب
نسيبي في عزم ورأي ومذهب إذا باعدتنا في الأصول المناسب
والعجيب أن غالبية الشعراء ذهبوا (وإن كان في هذا نظر) على القول بغلبة الطبع على التطبع، ومن ثم استحالة تغيير الخلق واكتساب أخلاق جديدة حميدة. ونورد في هذا الصدد قول أبي العتاهية الشهير:
كل امرئ متفرد بطباعه                     ليس امرؤ إلا على ما يطبع
كما أن العرب اعتبروا عامل الوراثة هو الأهم في تكوين الأخلاق، واستدل أصحاب هذا القول بقول زهير بن أبي سلمى:
فما يك من خـير أتوه فإنما ذ   توارثـــه أباء أبائهم قبـل
وهل ينبت الخطي إلا وشيجة            وتغرس إلا في منابتها النخل؟
ويقول التميمي :
أرى كل عـود نابتـا في أرومة                 أبــى نسب العيدان أن يتغيرا
بنوا الصالحينَ الصالحونَ ومن يكن لآباء سوء يلقهم حيث ســيٌرا
ويقول النجاشي :
خلائق فينا من أبينا وجدنــا         كذلك طيب الفرع ينمي على الأصل
أما النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، فيقول بإمكانية تغير الطباع واكتساب الأخلاق الفاضلة، فيقول صلى الله عليه وسلم: "إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم". مما يعني إمكانية تغيير الطبع و السلوك. وقد ورد على ألسنة الشعراء إمكانية اكتساب الخلق الحميد؛ شريطة وجود القدوة الحسنة، وأشاروا إلى أهمية عامل التربية والتأديب، وأكدوا على أن الوازع الديني هو الوحيد القادر على إحداث تغير تام وتأثير ملموس في خلق الإنسان، كما يدل على ذلك قول الحكم بن عبدل :
لم أجد عروة الخلائق إلا الـ     دين، لمـا اعتبرت، والحسبا
ولا ننسى قول الطائي :
فجاور كريما واقتدح من زناده           وأسـند إليه أن تطاول سلما
وورد للبحتري قول يؤكد فيه بأن الأخلاق تتأثر بالعشرة، ففي مزاحه لأحد أقرانه يقول
أنت أعديته بحب سعـــاد        وكريم الأهواء يعدي الكريما
أما ابن التعاويذى، فقد حذر من سوء القدوة الذي يؤدي إلى التطبع بأخلاق المقتدي به فأنشد بيته الشهير :
إذا كان رب البيت بالدف مولعا           فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
واختلف الشعراء في وسائل التأديب، ولكنهم اتفقوا على أن الحر يكفي لتأديبه الترغيب والعتاب، أما العبد فلا ينجع فيه إلا الترهيب، فقد جاء في قول ابن دريد :
واللوم للحر مقيـــــــــــم ورادع                  والعبد لا يردعه إلا العصا
وقال بعضهم :
العبد يقرع بالعصــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا                    والحـــر تكفيه الإشـــــــــــــــــــــــــــــارة
كما أجمع شعراء العرب على ضرورة التهذيب منذ الصغر و منه قول ابن قريع :
إذا المرء أعيته المروءة ناشئا فمطلبها - كهلا - عليه شديد
كما ورد في الشعر العربي أنه يصعب على المرء إخفاء عيوبه، ولزهير بن أبي سلمي بيت شهير يقول فيه :
ومهما تكن عند امرئ من خليقة        وإن خالها تخفي على الناس تعلم
كثيرة هي القصائد التي تشيد بالقيم الخلقية، وليس يتسع المجال هنا لحصرها، ولكن إن فاتك فلا يفوتنك قول الإمام الشافعي في جهاده لنفسه من أجل أن تحظى بالخلق الطيب:
إذا سبني نذل تزايدت رفعــــــــــة                وما العيب إلا أن أكون مساببه
ولو لم تكن نفسي علي عزيزة                 لـــــــــــمكنتهــا من كل نذل تحاربه
يخاطبني السفيه بكل  قبــــــــــــح                 فــأكـــــــــــــــــــــــــره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد  حلمــــــــــــــــــــــــا                  كعـــود زاده الإحـــــــــــــــــــــراق طيبا
ونرى هذه الأبيات الشعرية ارتبطت جوانبه برباط أخلاقية وتعاليم آدابية لتحقيق غايته الأخلاقية، فيؤكد أن الأخلاق هي روح الحياة المادية، والنظام التشريعي الإسلامي هو صورة مجسمة لهذه الروح الأخلاقية. ومهمة الدين هي تنظيم الحياة الإنسانية ووضع الضوابط الإلهية التي تحفظ للإنسان ضرورياته وتساعده على تحقيق حاجياته وكمالياته. فالإنسان لا يستطيع السير بدون قدرة إلهية وهدى رباني يوجهه حيث يكون الصلاح والفلاح.
الهوامش
1.     حسن، حسين سرمك؛ الركابي عرّاب اللاشعور الماكر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت (2009). ص: 79
2.     ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم؛ لسان العرب، دار صادر، بيروت (1990). ص: 1/889
3.     الرازي، الإمام محمد فخر الدين؛ التفسير الكبير ومفاتيح الغيب، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت (1985). ص: 15/81
4.     ابن كثير، الإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل الدمشقي؛ تفسير القرآن العظيم، دار الفتح للطباعة والنشر والتوزيع، (1999). ص: 8/244
5.     الفيروزآبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب؛بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (تحقيق: الأستاذ محمد علي النجار) المكتبة العلمية، بيروت (1964). ص:2/568
6.     أنطوان نعمه، وعصام مدوّر، ولويس عجيل، ومتري شمّاس (محرّر)؛ المنجد في اللغة العربية المعاصرة، دار المشرق، بيروت، لبنان (2000). ص:419
7.     فخري، ماجد (د/.)؛ الفكر الأخلاقي العربي، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت (1978). ص:2/89
8.     الجرجاني، الفاضل العلاّمة عليّ بن محمد الشريف؛ كتاب التعريفات، مكتبة لبنان، بيروت (1985). ص: 106
9.     أنطوان نعمه، وعصام مدوّر، ولويس عجيل، ومتري شمّاس (محرّر)؛ المنجد في اللغة العربية المعاصرة، دار المشرق، بيروت، لبنان (2000). ص:418
10.Cowan, J.M.; The Hans Wehr Dictionary of Modern Written Arabic, Spoken Language Services Inc. Ithaca, New York (1976). P: 259
11.Hornby, A.S.; Oxford Advanced Learner’s Dictionary of Current English, (8th Edition) Oxford University Press, New York (2010). P: 994
12.Bullon, Stephen.; LONGMAN- Dictionary of Contemporary English, Pearson Education Limited, England (2004). P: 1067
13.الفاروقي، محمد، والمجددي، محمد إسماعيل؛ العربة وآدابها، إرشاد بك سطال، كاليكوت. ص:148
14.جورجي زيدان؛ تاريخ آداب اللغة العربية، دار مكتبة الحياة، بيروت. ص:1/70
15.الريشهري، محمد (1423هـ)؛منتخب ميزان الحكمة،(تلخيص: السيد حميد الحسيني)، دار الحديث للطباعة والنشر والتوزيع، قم (2000). ص: 170
16.القرآن الكريم، سورة القلم. الآية:4
17.البستي، أبو الفتح؛ قصيدة نونية البستي.

المصادر والمراجع
-    موران، ادغار؛ تربية المستقبل- المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل (ترجمة: عزيز لزرق ومنير الحجوجي) دار توبقال للنشر، يونسكو (2002).
-        حسن، حسين سرمك؛ الركابي عرّاب اللاشعور الماكر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت (2009).
-    بوكاي، موريس (د/.)؛ أصل الإنسان بين العلم والكتب السمأوية، (ترجمة: فوزي شعبان)، المكتبة العلمية (1981).
-        ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم؛ لسان العرب، دار صادر، بيروت (1990).
-    الرازي، الإمام محمد فخر الدين؛ التفسير الكبير ومفأتىح الغيب، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت (1985).
-        ابن كثير، الإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل الدمشقي؛ تفسير القرآن العظيم، دار الفتح للطباعة والنشر والتوزيع، (1999).
-    الفيروزآبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب؛ بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (تحقيق: الأستاذ محمد علي النجار) المكتبة العلمية، بيروت (1964).
-    أنطوان نعمه، وعصام مدوّر، ولويس عجيل، ومتري شمّاس (محرّر)؛ المنجد في اللغة العربية المعاصرة، دار المشرق، بيروت، لبنان (2000).
-        فخري، ماجد (د/.)؛ الفكر الأخلاقي العربي، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت (1978).
-        الجرجاني، الفاضل العلاّمة عليّ بن محمد الشريف؛ كتاب التعريفات، مكتبة لبنان، بيروت (1985).
-    أنطوان نعمه، وعصام مدوّر، ولويس عجيل، ومتري شمّاس (محرّر)؛ المنجد في اللغة العربية المعاصرة، دار المشرق، بيروت، لبنان (2000).
-        Cowan, J.M.; The Hans Wehr Dictionary of Modern Written Arabic, Spoken Language Services Inc. Ithaca, New York (1976).
-        Hornby, A.S.; Oxford Advanced Learner’s Dictionary of Current English, (8th Edition) Oxford University Press, New York (2010).
-        Bullon, Stephen.; LONGMAN- Dictionary of Contemporary English, Pearson Education Limited, England (2004).
-        الفاروقي، محمد، والمجددي، محمد إسماعيل؛ العربة وآدابها، إرشاد بك سطال، كاليكوت.
-        جورجي زيدان؛ تاريخ آداب اللغة العربية، دار مكتبة الحياة، بيروت.
-        القيرواني، أبو علي الحسن بن رشيق؛ العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، مكتبة التجارية، مصر (1963).
-        القيرواني، أبو علي الحسن بن رشيق؛ العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، مكتبة التجارية، مصر (1963).
-    الفاروقي، ويران محي الدين (د/.)؛ الشعر العربي في كيرالا - مبدأه وتطوره، عرب نيت، كاليكوت، كيرالا (2003).
-    الريشهري، محمد (1423هـ)؛ منتخب ميزان الحكمة، (تلخيص: السيد حميد الحسيني)، دار الحديث للطباعة والنشر والتوزيع، قم (2000).



مواضيع ذات صلة
دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات