ادعمنا بالإعجاب

التصوف الإسلامي: مفهومه ومنهجه

  بقلم: حمزة بوكات الباقوي الآدرشيري

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين،  وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
 فقد اختلف الباحثون حول أصل التصوف على آراء كثيرة، مثلا:
    1.   منهم من يقول إن التصوف مشتقّ من الصوف -وهو مظهر وشكل- لأنّ هؤلاء لم يعبؤوا بالملابس الفاخرة، ويلبسون ثياب الصوف ويختارونها لعدة أهداف غالية ككثير من أهل الصفة وغيرهم من الزهاد منذ عصر النبوة تعبيدا للنفس بدون فائق العناية.
   2.   ومنهم من يقول إن ذلك نسبة إلى صحابِيّيْن رضي الله عنهما  يعدان  بحقٍ أسبق السابقين إلى الزهد عن نضارة المال والدنيا كصوفيين بينهم حافظين جميع الجوارح والأعضاء والقلب عن كل عمل أو وصف يباعدهما عن الله، هما أبو ذر الغفاري وحذيفة اليماني رضي الله عنهما، ويرى أهل هذا الرأي أن الصوفية نسبة إلى أهل الصّفّة.
   3.   ومنهم من يقول إنه نسبة إلى قبيلة بني صوفة قبيلة بدوية لأنهم يختارون التقشف فى جميع مناحي حياتهم خوفا للفقر المستقبل كما وقع في أيام يوسف عليه السلام.
   4.   بعضهم يرى أنه نسبة إلى أصحاب الصفة لكونهم دائما في الصف الأول في الصلاة والسلم والحرب.
   5 .   وفيهم من يقول إنه نسبة إلى الصوفانه، وهي بقلة تكثر في القفر وبعيدا من الأماكن الساحلية والأراضي الملوحية.
   6.   وفيهم من يقول إنه مأخوذ من الصفاء فلذا استعمل فيمن صفا قلبه عن الكدرات الدنيوية، فاستعمل الصوفي لمطاوع حقّاني ربّاني.
   7.   وقد استعمل لفظ الصوفية في القرن الثاني الميلادي بالتورية لمُتنسِك بالأوامر السماوية كما ورد في سورة الكهف عن موسى عليه السلام ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ ( الكهف ٦٥)
    8.   ومنهم من يقول إن كلمة الصوفي معادلة بين يونوسوفيا اليونانية وبين التصوف لأن فيهم من عكف متجزدا عن الجميع متجها إلى النقطة الوحيدة كإلههم المعبود أو الهدف المقصود في وقت ذاك عندهم.
فيتضح لنا من هذه الآراء كلّها بديهة أنه لابد من صفاء القلب فيمن يوصف بالصوفية كما أجاب عليه الصلاة والسلام لسؤال جبريل عن الإحسان "أن تعبد الله كأنك تراه" إلخ. في الحقيقة هو محاولة شاقة وجادة لتصفية القلب وإرسائه في المقصود الوحيد. وإن قارن ذلك الإيمان والإسلام المشروط فهو صوفي. والتجرد عن الماديات المالية والجنسية يقرّبه للصفاء والوجد. إنه في الحقيقة العكوف على الله وتجربة روحية تعلو عن الوصف والتعبير. وفي عصرنا هذا نرى الكثير متصوّفين لهم طرق وبطانة، سيما هذه الولاية.
" وكل يدعي وصلا " إلخ.
وأما محاولة تعريفه فهي من الأمور العسيرة كما قال ابن خلدون إنه طريقة لهؤلاء القوم لم تزل في سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، أصله العكوف على العبادة والانقطاع عما سوى الله. فلما زاد الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده جنح الناس إلى مخالطة الدنيا كغايةٍ لا كوسيلة، واختصّ المقبلون إلى الله خاصة بتزكية النفس وتصفية القلب، فسمّوا بصوفية. فيعرّف التصوف بأنه عِلم يقتدر به المؤمن على التقرب إلى الله والعبودية له في جميع مناحي حياته بدون أن يقع في قلبه الصافي أيّ مكانة لزخارف الدنيا وزينتها.
وللصوفية أيضا مصادر: الهندية والمصرية والآرية والمجوسية والفارسية والبوذية واليهودية والمسيحية واليونانية والأفلاطونية الحديثة وغيرها الكثير، وإن مآب ومرجع كل ذلك ترسيخ القلب على نقطة واحدة وتجريده عن البواقي، فبقي بعد ذلك أهم المصادر للحياة الروحية في الإسلام، وهو الإحسان نفسه متمثلا في القرآن والسنة، فنجد أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هي المصدر الحقيقي لكل ما تواضع عليه الزهّاد والصوفية من قواعد الرياضة والمجاهدة وما انكشف لأبصارهم من أنوار الحقيقة والمشاهدة.
وهكذا بدأ التصوف الإسلامي على يد الرسول صلى الله عليه وسلم سلوكا وعملا وتطبيقا لروح الإسلام وتخلقا بآدابه وأخلاقه صدقا أي ظاهرا وباطنا، وكانت الصحابة رضي الله عنهم يرقبونه ويترسمون خطاه هديا وعملا وآدابا حتى إنّ بعضا منهم كان يفعل الشيئ إذا سئل عن حكمته يقول: لا أدري إلا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ففعلته، وقد جرى التابعون على سنة أسلافهم من الصحابة. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات (الرسول والصحابة) فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة (البخاري- باب الفتنة)
أولئك أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، فلذا اختارهم الله للصحبة. ومن ثم كان القرآن الكريم وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة الصحابة والتابعين هي المنابع العذبة الصافية التي استقت منها هذه الشجرة المباركة، فنبتت شجرتها وآتت أكلها طيبة مباركة بإذن ربها، وكان هؤلاء على نهج أساتذتهم يعملون كثيرا ولا يتكلمون إلا قليلا. فالمسلم القارئ لقول الله تعالى:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾(الشورى ١١) وقوله تعالى:﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾( القصص ٨٨) وقوله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾( الذاريات ٥٠) لا يحتاج إلى نظريات وعميق فكر، كقصة موسى مع خضر عليهما السلام وقصة مريم العذراء والعديد من قصص الأنبياء عليهم السلام وكرؤية عمر الأعداء ضد جيش المسلمين من وراء الجبل وندائه لسارية رئيس الجيش يا سارية الجبل الجبل الخ وسماع سارية من نهاوند قوله رضي الله عنه من المدينة المنورة وكقول عثمان بن عفان رضي الله عنه لمن دخل المجلس  "لا يدخلن مجلسنا هذا من زنت عيناه" وكان ذلك الرجل قد نظر إلى امرأة من بعد ١٩٠ كيلومترا تقريبا إلخ ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ﴾ إلخ ( الأنفال٢٩) اي نورا يفرّقون به بين الحق والباطل، وهو العلم اللدني ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾، فلذا قد قال كثير من السلف الصالحين من قرأ هذه الآيات بالتبصر لا تزن عنده الدنيا جناح بعوضة، وإن الصوفية يفعلون أكثر من القول، وإنهم ترجموا تلك الآيات إلى التطبيق العملي والسير والسلوك الفعلي في الحياة. فلما سئل صلى الله عليه وسلّم عن معنى قوله تعالى:﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ﴾ قال: هو نور يقذفه الله في قلب المؤمن، قيل: وما علامته؟ قال : التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود. فلذا عرّفوا التصوف فقالوا: إنه الأخذ بالحقائق واليأس والغنى عما في أيدي الخلائق.
الزهد:
ولقد وردت كلمة الزهد في القرآن مرة واحدة حكاية عن إخوة يوسف عليه السلام ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾(يوسف ٢٠) لأن الزهد ليس من الأفكار الوافدة على المسلمين كما يدّعي البعض.
    1.   والزهد بدايته إظهار الحزن والبكاء والخوف عما وقع وصدر منه مما لم يرض الله ورسوله،وغايته التوبة النصوح .﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ إلخ.
    2.   الحزن والهم والبكاء في عدم التجلّي والوجدان والمشاهدة . ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (يونس ٦٢). ولقد حفلت كتب الطبقات بذكر كثير من زهد الصحابة والتابعين ومن بعدهم. لذا لم تكن حركة الزهد بشكل منظّم عند جميع المشائخ، ولكن يتفق الجميع في الأصلَيْن المذكوريْن كما قال حسن البصري رحمه الله: ليس الزهد طعاما ولا لباسا وإنما هو الخشوع لله. وبعضهم زادوا على ذلك دوام الفكر في الله كأصل ثالث، ومنهم أويس بن عامر  القرني والربيع بن خيثم ومسروق بن عبد الرحمن الكوفي وعامر بن عبد الله بن قيس البصري وغيرهم الكثير. ولقد كانت لهم آنذاك مدرستان إحدىهما في البصرة والأخرى بالكوفة، كل منهما حافلتان بعلماء الفقه والحديث والتفسير وعلماء اللغة والأدب، ودونهم فريق من النُسّاك والزُهّاد والعبّاد الذين كانت لهم شدة عناية برياضة القلب ومجاهدة النفس،  ومنهم في مدرسة البصرة الحسن البصري المتوفى ١١٠هـ ومالك بن دينار المتوفى ١٨١هـ وصالح بن بشر المتوفي١٧٢ه  وفي مدرسة الكوفة الربيع بن خيثم وجابر بن حيان ومنصور بن عمّار وغيرهم.
وعندما فتح الله على المسلمين كثيرا من البلدان ووجدوا أنفسهم بهذا الفتح أمام الحضارات الإسلامية ووجدوا الاكتفاء الذاتي بما حصل من الغنائم وغيره وقع الكثير في ألوان الترف وأنواع اللهو والشهوات ينهلون وينهمكون فيها، أعرض عنهم غير قليل مقتصدين في المآكل والملابس متجهين إلى خالقهم فسمّي بعضهم بالعبّاد وآخر بالزُهّاد وآخر بالنسّاك وآخر بالفقراء ثم أطلقت عليهم جميعا كلمة الصوفية أو الزهاد.
ولذا قال حسن البصرى إن المؤمن يصبح حزينا ويمسي حزينا ولا يسعه فراغ. وكان دائم الفكر لايسعه وقت لطاعاته وأفكاره. والمتأمل في حياة حسن البصري يراها مبنية على الزهد والخوف والحزن مع أنّه لا يترك الرجاء من الله .." أنا عندظن عبدي بي". وقد سار على نهج البصري أبوهاشم الكوفي المتوفى ١٥٠هـ وإبراهيم بن أدهم  المتوفى١٦١هـ  وداود الطائي المتوفي ١٦٥هـ  والفضيل بن عياض المتوفي ١٨٧هـ  وشفيق البلخي المتوفى ١٩٤هـ.
ومنهم رابعة العدوية المتوفاة ١٨٥هـ  حيث لم تر معنى لكلمة الحب إلا الحب في الله، وكان موضع سجودها كهيئة الماء المستنقع من الدموع، وكانت تنشد الأشعار. مرة قالت لسفيان الثوري - رحمه الله- في جواب سؤاله: ما حقيقة إيمانك ؟ قالت: أحب ربي . قال: كيف ؟ قالت :يا رب :
                  أحبّك حــــــــبّـــــــــــــــيْن حـــــــبّ الهوى – وحبـــّـــــــــــــــــــــــــــــــــــا لأنك أهــل لـــــــــذاكا
                 فأمّا الذي هو حبّ الهوى – فشغــــــــــــــــــــــلي بذكـــــــــــــــــــــرك عمّن سواك
                   وأمّا الذي أنـــت أهـــل لــــــــــــــــه – فكشفك لي الحجـــــب عمن سواك
قالت:ومحب الله لايسكن أنينه وحنينه حتى يسكن مع محبوبه. نعم، لقد كان حبُّها لله تصويرا معروفا لدى زهّاد عصرها. ومن هؤلاء ذو النون بن إبراهيم المصري، إنه تتلمذ على الإمام مالك بن أنس رضي الله عنهما، وسئل رحمه الله عن محبة الله فقال: "أن تحب ما أحب الله وتبغض ما أبغض الله". بحق هو الذي أسّس لهذا الطريق والفكر بالنُظم، وكان ذوالنون وحيد عصره علما و زهدا.
وفي  القرن  الثالث الهجري تحول علم التصوف إلى أصول نظرية وقواعد منظمة، ولكن سرعان ما عاد التصوف إلى سيرته الأولى في النصف الثاني من القرن السادس الهجري، فظهرت في أواخره الطرق الصوفية مثل الطريقة القادرية نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلي رضي الله عنه المتوفى ٥٦١ هـ،  والرفاعية المنتسبة إلى أبي الحسين الرفاعيّ المتوفى٥٧٥ هـ، والشاذلية  المنسوبة إلى أبي الحسن الشاذلي المتوفى ٦٥٦ هـ إلى غير ذلك من طرق الصوفية، فتميزت تلك الفترة بطابع عملي من الزهد و التقشف والعبادة، ثم تحول كل ذلك إلى علم خاص يعرف بالتصوف له مذاهبه وطرقه، فاشتمل على مراقبات و محاسبات و رياضات و مجاهدات و أحوال ومقامات عدة بداية من التقوى و نهاية مع الغوث.
حسب اختصاري من 50  كتابا المقامات عند الصوفيين والأطوار الناشئة النفسية لمن سلك طريقهم بعد الإيمان بالله و تطبيق عمله على القران والسنة كثيرة، وللصوفية آراء كثيرة في مقاماتهم، ولكن يشترط في كل ذلك تقوى الله، ثم يتدرج في مدارج التقوى ثم العرفان ثم السير إلى الله والسير في الله ثم السكران ثم المراد ثم النقيب ثم الرقيب -وفي قول بالعكس- ثم النجيب ثم المربي ثم البدل ثم الوتد ثم القطب والغوث. والعارف له شتى التفاسير في المعجم عند أهل السلوك والأهم أنه إذا أمعن المريد في الارتياض -أي أداء الرياضات- فكثُر تتاح له في أوقات غير محدودة نفحة إلهية، كلما لمح شئ أو تركه منصرفا إلى جانب القدس تلوح له البروق فيكاد يرى الحق في كل شيء قائلا لا موجود إلا الله الخ فحينا تلوح له وتزول هذه البروق فينتبه جليسه ويحصل له الصحو فيسمى الساري إلى الله، وإذا غلبت عليهم الأحوال من فكره الدائم في المخلوقات حتى يغيب عن نفسه فيسمى سكران أو مجذوبا، وحينا إذا حصل له  الصحو من ذلك يسمونه الساري في الله لكون فكره في صفات الله وقدرته، وإذا اضطرب مرة ثانية فخلّط وملّط ولم يدر ما يقول فحار في ذات الله فلم يدر سوى الله يقال له المراد أو الولي، فيجوز له الإجازة والبيعة، وهو المسؤول عن المريد، ثم إذا غاب عقله وذاب فؤاده في الله يقال  له حالة الجمع، وإذا حصل الصحو فأطاع جميع المأمورات واجتنب جميع المنهيات يقال له نقيب لأنه تنقّب نفسه لله من كل شيئ
 " ففي كل شيئ له شاهد _ يدل على أنه واحد "
ثم إذا اعترى عليه حال أو غيبوبة عن ذاته وغيره من الخلق يقال له حالة الوصل، واذا صحا فهو الرقيب لأنّه ترقب في جميع الكائنات خالقها، ثم إذا غاب عقله يقال حالة جمع الجمع، ثم النجيب، ثم حالة الوصل أو الاتحاد، ثم المربّي الذي يقتدر على تربية تلميذه ومريده. "ولقد همّت به وهمّ " الخ. ثم الوحدة وفي قول الاتحاد، ثم البدل وهم٤٠ وقيل ٣٠، ثم الوجدان، ثم الأوتاد هم ٤ في مراتب الأنبياء في عصرهم "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل". -وهذا الحديث إشارة أيضا إلى ختم النبوة- ثم الوصال ثم القطب هو الغوث في حالة الالتجاء، وهم الذين يتصرفون الأمور وفق أوامر الله وقيادته. هذا مراتبهم على الاختصار كما قال البعض، والله ولي التوفيق. 

مواضيع ذات صلة
الت, التصوف,

إرسال تعليق

0 تعليقات