ادعمنا بالإعجاب

العالم العربي بين العاميات والفصيحة


رفيق حميد الحميري( جامعة تعز، الجمهورية اليمنية)

بادئ ذي بدء، اود ان أبين ان فحوى هذه الرسالة مبني على ثقافتي العامة وتجاربي وقرائتي الخاصة لبعض ما كتب في هذا المجال واستنتاجات اظنها صحيحة، فهي اذاً ليست مبنية على نصوص نقدية محضة في هذا الجانب، كما اود ان ابين سبب اختياري للعبارات التي يحملها عنوان هذه الرسالة، اخترت لفظ العامية وليس اللهجة لانها اقرب الى لفظ العامة أوالدهماء او العوام، فالعاميات هي ما يلتاكها العامة في اطار اللغة الواحدة كقولهم "اشلونك" في الخليج و "ازايّك" في مصر او " كيفك" في الشام وكلها تقابل "كيف حالك" في الفصيحة،و قد يصر البعض على استخدام مصطلح اللهجات مقابل الفصحى او الفصيحة على اية حال.

أما اختياري للفظ ‘الفصيحة’ فهو مجرد اجتهاد مني، واظن ان هناك من النقاد من قد ميز بينهما ايضا، هذا التمييز أستحضره وأحبذه لسببين :اولاً، لأميز الفصيحة عن الفصحى واللتي هي لغة القران الكريم، و ثانيا لان الفصيحة هي اللغة التي حافظت على الكثير من اساليب الفصحى وكلماتها برغم التجديد الحاصل فيها، فهذه الاخيرة هي لغة الصحافة والاعلام والمؤتمرات الادبية والثقافية ولغة الادب الروائي والمسرحي الى حد كبير،فالفصيحة لها اساليبها المستحدثة والدخيلة على العربية الفصحى سواء من الاجنبيات او من العاميات الى جانب ما ترتكز عليه مما تحتفظ به من الفصحى (لغة العرب الاوائل و لغة القران الكريم)، هذا الاستحداث انتشر على مستوى الكلمة رسما ومعنى وعلى مستوى بناء العبارات، وهاهي بعض الامثلة التوضيحية[1]
 ان كلمة "تلفزيون" وكلمة" ستلايات" و"اجندة" وكذالك "راديو" و"موبايل" و"كمبيوتر" والفعل "يتلفن" المشتق من الاجنبية "تلفون" وغيرهن من الكلمات التي تظهر في الروايات والقصص والاعلام باشكاله، هذه الكلمات لها مرادفات عربية مترجمة ورغم ذلك دخلت هذه الكلمات على الفصيحة واصبحت جزءاً منها،وكان الاولى عدم استعمالِها واستعمالِ الكلمات التالية بدلا عنها: "الرائي" و"قمر صناعي"، "جدول اعمال"، "مذياع"، "جوال"، "حاسوب"، و"يتصل هاتفياً،" صحيح ان هذه الترجمات مستعملة في الاعلام ايضا ولكن كان الاولى عدم افساح المجال للكلمات الاجنبية لتحل محلها في لحظة من اللحظات، اما العبارات والاساليب التي تم استحداثها على الفصحى فقد اخذت تظهر الى درجة ملحوظة في معظم الكتابات الادبية والوسائل الاعلامية والترجمات واصبح من الصعب تمييزها بالنسبة للمثقف العادي، "فالمترجمون اليوم" كما يقول ستتكيفتش" يمكنهم بيسر ودون جهد يذكر ان يترجموا اللغة العربية الفصحى الى اللغات الحديثة الاخرى، كما يمكنهم ايضا ان يفعلوا العكس، لقد بدا التقارب اللغوي يظهر على حين لم يكن موجودا من قبل،،،، فالعرب يجدون اللغات الاجنبية اليوم أسهل، وكذلك يجد الاخرون اللغة العربية،" والامثلة على مثل هذه الاساليب الدخيلة كثيرة ومتعددة:
فقولهم "يلعب دورا مهماً" و " يوجد"، "رأيت صديقي الذي اعطاني الكتاب" و اخيرا " يقتل الوقت"، فهذه الاساليب كما يعتقد عبد القادر المغربي، معربة او مستحدثة اوتعد تجاوزاً للاستخدام العربي الافصح (نسبة للفصحى)، فالاصل ان الدور يمثل ولايلعب، و"يوجد" ماهي الا تعريب لthere is”  واستخدام الاسم الموصول عوضا عن الفاء في مثل الجملة السابقة و العرب تقول "يقتل الجوع" ولم تتوسع في كلامها الى "قتل الوقت،"
اما الكلمات والاساليب العامية التي دخلت الفصيحة فكثيرة ايضاً، وتظهر في كثير من الكتابات الادبية، هذه المستحداثات، والتي قد نلحظ توالفها وربما توافقها مع الصحيح من كلام العرب تصبح جزءاً من الفصيحة، وهي مقبولة ولاغبار عليها، وان كنا نطمح الى أساليب عربية أخلص وأصح، هذه المستحدثات وغيرها جعلتني أعتقد، الى جانب بعض النقاد، ان هناك فرق بين صفتي الفصحى والفصيحة، واعتقد ان الحديث عن "الفصيحة" اوكما يسميها البعض "الفصحى الحديثة" سيكون اقرب الى الواقع والى التطبيق، واعتبر بهذا ان تكون الفصيحة ممرا لنا الى احياء الفصحى في نهاية المطاف على ارض الواقع،
قراءة للماضي والحاضر
كانت العرب تتحدث لهجات عدة ونزل القران بلهجة قريش، ولكن كل تلك اللهجات كما يؤكد بعض الباحثين لا تنفك ان تكون جميعها فصحى ولايمكن تسميتها بالعاميات كما هو الحال اليوم؛ فقد كانت الفروق بينها معدودة على مستوى بعض الالفاظ والاعراب، والدليل على هذا ان الرسول أقر قراءة عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم عندما احتكما اليه، فبعد ان سمع الرسول قراءة كليهما قال "كذلك انزلت "ان هذا القرءان قد انزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه"، ومن هنا نخلص الا ان لهجات العرب كانت كلها عربية فصحى ولا يمكن ان نصفها بالعاميات كما قد يفهم البعض، فشتان بين لهجاتهم وبين عاميات العرب اليوم.
ومما يؤكد التقارب والتفاهم باقصى درجاته واجمل حالاته بين العرب قديما هو انها كانت غير مستقرة، فقد كانت العرب تهاجر من مكان الى مكان بحثا عن الماء والمرعى وكانت تجتمع حول البيت الحرام، كما كان للعرب منتديات وندوات يتبارى فيها الشعراء وتناقش فيها شؤون القبائل، وكانت القوافل تسير من الشام الى اليمن مرورا بنجد والحجاز، هذه المؤشرات من واقعهم تدل دلالة واضحة على عمق الاحتكاك والتواصل والتفاهم، اما اليوم فليس ليمني ان يزور اخا له في ارض من بلاد العرب، ولعراقي ان يسمح له بدخول تونس والجزائر وقد ضربت بيننا الحدود وعززت بالقوميات، كل هذا يدفعنا لمخالفة من يقول بان العاميات ما هي الا أشكال توارثناها، وهناك ما هو اقوى من هذا الدليل ألا وهي الآ يات القرآ نية: من مثل "كتاب فصلت اياته قرءاناً عربياً لقومٍ يعقلون(فصلت ٣) وقوله تعالى "وما ارسلنا من رسولٍ الا بلسان قومه،،،" (ابراهيم ٤)، وقوله تعالى "وهذا كتابمصدّق لسانا عربيا " (الاحقاف١١)
 فاذا كان الله قد انزله قرآنا عربيا فهو لكل العرب وبلسان العرب اذا فهو بلسانهم وبما جرت عليه السنتهم والقول الفصل في هذا الموضوع يجب ان يرد الى ما يثبته الباحثون من المتخصصين و الى ما تثبت عليه الحجة في نهاية المطاف، وظلت العربية الفصحى مشهودا لها بوحدتها ووصفها "فصحى" منذ العصر الجاهلي و حتى بداية العصر العباسي حيث جاءت "العربية المولدة" والتي تطورت فيها الأساليب والألفاظ واستمر هذا التطور من العصر العباسي فصاعدا، وتاثرت الفصحى كثيراً لاسباب منها:
١-  لمواكبة تطور الاحداث والافكار
٢ -   لاختلاط الاجناس الاخرى بالعرب بعد دخولهم في الاسلام
 واستمر هذا التأثر حتى القرن السادس عشر وما بعد، والذي كان يشهد نهضة اوروبا بعد عصور الظلام، كان هذا التاريخ ذاته تأريخا لبدء نكسة حقيقية في تاريخ المسلمين وبدأت معاقلهم العسكرية والمدنية والثقافية تضعف وتتهدم، وتزامن مع كل هذا انقطاع العرب عن عصرهم الذهبي في آدابه ولغته وعلومه، وان كان هذا الانقطاع انقطاعا جزئيافي هذه الحقب، هذا الانقطاع الجزئي تم تعزيزه فيما بعد بدخول الاستعمار الاوربي البلاد العربية وتفكيكها جغرافيا وذلك حين بدا فعلا بتنفيذ سياساته التي فصلت العرب فصلا قاهرا عن عصرهم الذهبي بلغته وءادابه وعلومه، فقد عمل الاستعمار على:-
١- تشجيع لغاته الاوروبية وجعلها لغات للتدريس ونشر ثقافاتها
٢- محاربة اللغةالعربية وآدابها، لعلمه- اي الاستعمار- بانها الرباط الذي يصل العرب ببعضهم ويدفعهم الى التعلق بماضيهم المجيد، كما ان المستعمرين يدركون ان اللغة العربيةهي التي ستمكن العرب من فهم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والعودة الى الاتباع وترك الابتداع، فهم يعلمون ان اضعاف الدين يكون أولا باضعاف لغته، ولهذا عمل الاستعمار بجد في هذا الاتجاه، وحصل الاستعمار بفعله هذا على النتائج الاتية:  -

 (1    فصل المستعمرون العربَ عن انجازاتهم الماضية وعصرهم الذهبي فقد • قاموا باغلاق المدارس التي تعنى بااللغة العربية وآدابها، وعدم تشجيع من اراد التحدث بها واحياء مفرداتها، وتعيين اقل المدرسين كفاءة للقيام بتدريسها، وعلى النقيض من هذا قاموا بتشجيع العاميات المبتذلة واستئجار من يروج لها من ابناء العروبة انفسهم، حتى صرنا نرى من يتخذها وسيلة للكتابة الادبية، قبل هذا كله قام الاستعمار بانشاء مدارسه و تعليم لغاته وتشجيع الدارسين لها بتعيينهم كمدرسين في المدارس التي فتحت خصيصا لهذا الغرض وابتعاثِ المتخرجين منها الى الخارج، فيعود هؤلاء وقد اعجبوا بالحضارة الغربية فلا يلبثوا ان يتحولوا الى معاول هدم للغتهم ودينهم وثقافتهم، وهذه السياسة لاتزال متبعة حتى اليوم،


2)فصلوا العرب عن بعضهم البعض ومزقوا الخلافة العثمانية وهي الخلافة الاخيرة واضعف الخلافات في تاريخ المسلمين، جاءت على اثر هذا التمزيق النعرات القومية التي طردت الاستعمار العسكري من البلاد العربية وظلت في نفس الوقت حاجزا بين العرب انفسهم، هذه القوميات عززت العاميات التي كان الاستعمار قد اذكى فتيلها ليشعَلها العرب انفسهم، تسبب هذا في فصل العرب كلية عن مظان لغتهم الفصحى في الحديث اليومي ومع كرور الايام نسيت الاجيال كثيرا من كلام العرب واساليبهم حتى اصبح لكل قطر عربيٍ عامياته ومفرداته تبتعد فيما بينها احيانا واحيانا تتقارب، تبتعد هذه الاقطار لغويا عن بعضها كلما تناست الفصحى او على الاقل كلما اهملت الفصيحة وتقترب كلما حافظت عليهما،

3) فصل المستعمرون العربَ عن تعاليم الشريعة و القرءان الكريم، كان هذا نتيجة طبيعية لما سبق، فبابتعاد العرب عن لغة القرآن والسنة سيكون الامر سهلا في تشكيكهم بالقرآن الكريم والسنة النبوية والتاريخ الاسلامي، وهذا ما قام به المستشرقون وما يقومون به حتى يومنا هذا، وقد ذهب بعض هؤلاء المستشرقون إلى وجوب التأليف والنطق بالعامية والإعراض عن الفصحى، وقد اشارالاستاذ عيسى إسكندر المعلوف في بحثه ‘اللهجة العربية العامية الى الصراع المتواجد في ارض الواقع بين نصراء الفصيحة والعامية حيث قال:

" اختلفت آراء العلماء في هذا العصر في اللهجة العامية، (فمنهم) من ذهب إلى وجوب ردِّها إلى حضن أمها، مثل الأستاذ (هكسلي) العلامة الإنكليزي الشهير، الذي خطأ القائلين بوجوب كتابة العلم بلغة عامة الإنكليز، مدعيا أن ذلك يفضي إلى إضعاف المواهب العلمية، فضلاً عن خسارة ملكة الإنشاء الفصحى؛ لأن ترقية عقول العامة لفهم لغة العلم العالية أسهل وأفضل من أن يتزيأ العلم بأزياء لغة العامة، فيتقهقر وجاراه في ذلك كثير من علماء الاشتقاق على اختلاف لغاتهم. ومنهم من ذهب إلى تدوين العلوم بلغة العامة، ولا سيما في لغتنا العربية مثل (الكونت كرلودي لندبرج) اللغوي الأسوجى، في تقريره الذي تلاه بمجمع اللغويين في مدينة ليدن سنة ١٨٨٣ م، واللورد (دفرين) السياسي الإنكليزي في التقرير الذي رفعه إلى وزير خارجية إنجلترا من جهة لغة مصر العربية، وغيرهما،وكلٌّ يعلم ما تناقلته الجرائد والمجلات منذ بضع وعشرين سنة عن (ولهلم سبتابك) ( أمين دار الكتب الخديوية في القاهرة، وهو ألماني توفى سنة ١٨٨٣ )، فإنه استنبط حروفًا إفرنجية تكتب بها لهجة مصر العامية، وألف كتابا ألمانيا في صرف اللغة المصرية، وهو الكتاب العلمي الوحيد، الذي وضع على ذلك النمط للهجة من لهجات لغتنا العربية العامية،
   واختلفت الصحف في هذا الرأي، فمنها ما خطَّأه، ومنها ما صوبه، وبينا نرى حينئذ وبعد ذاك بعض الصحف تسعى في توثيق عرى اللغة العربية، والتجافي بها عن مضاجع العامية، ضنا بمحياها أن يشوه، وحرصا على مكانتها من الفصاحة والبلاغة أن تنحط؛ إِذْ نرى صحفًا أخرى تسعى في تقويض خيامها، وتخديش بضاضتها بمخلب التصرف، فكان الباحثون فريقين متخالفين : أحدهما للتشييد ، وآخر للهدم،" 
وذكر الدكتور يوسف عز الدين في بحثه القيم ‘الفصحى والعامية في وسائل الاعلام’ والذي القي في احدى مؤتمرات المجمع العربي في القاهرة، مايقوم به اكثر المستشرقين الدعاة الى العامية فيتحدث عن:
"وليم سبيتا الذي أراد إثبات رأيه فوضع كتابه (قواعد اللغة العامية في مصر) وطالب بأن تكون العامية لغة الآداب والعلوم والفنون، ورأى الفصحى محدودة في المفردات وظن أن هناك اختلافًا كبيرا بينها وبين العامية وقال بأن الفصحى تؤخر الحضارة، وفاته أنها اللغة التي دامت طول القرون الطويلة واستوعبت ثقافات الأمم وحضارات العالم وازدهرت بها وما نزال نفهم الكثير من الأدب الجاهلي والإسلامي والأموي بيسر وسهولة، وأن الإنجليز اليوم لا يفهمون لغة جوسر(CHAUCER) ولا لغة شكسبير وسائر كتابهم إلا  بوساطة المعاجم على الرغم من قصر عمر الإنجليزية واللغات الأخرى واضطرت الشعوب الغربية إلى التخلص من اللاتينية واستعمال اللغة الشعبية للبعد الكبير بينها وبين الإيطالية والفرنسية والإسبانية ...... وولككس (WILCOKS) الذي كان في دعوته يهاجم الفصحى  ويسخف اللغة العربية ويزعم أنها عاجزة عن مسايرة ركب الحياة الحديثة وادعى أن الشعب المصري تأخر لأنه لم يستعمل العامية وعاقته الفصحى عن الابتكار والاختراع، ونشر إعلاناً في (مجلة الأزهر) يغري فيه باتخاذ العامية لغة للكتابة والأدب، قال فيه: (من قدم لنا هذه الخطبة باللغة الدارجة المصرية وكانت موافقة جدا يكافأ بإعطائه أربعة جنيهات (إفرنكية) وإن كثر المتقدمون ،( فيعطى هذا المبلغ لمن يجوز الأولية )
    والدعوة إلى العامية انتشرت في كتابة الغربيين والعرب، ومن الغربيين كارل فولرس الألماني (FULLERS) سنة ١٩٠٩ م الذي هاجم الفصحى لأنها  جامدة فلم تساعد المصريين على النهضة الفكرية والتقدم الحضاري وحسبها كاللاتينية التي ماتت فألف كتاب (الّلهجة العامية في مصر ١٨٩٠ م) كما ألف سلدن ولمور الإنجليزي كتابا سماه (العربية المحلية في مصر) وحسب أن اللغة الأجنبية ستسيطر على مصر واتفق هؤلاء على ضرورة جعل العامية لغة العلوم والآداب والفنون، ولعلي أستغرب من الأستاذ أحمد لطفي السيد تساهله في قبول المسميات الأجنبية ورأيه بأن العربية فقيرة وأن لغة الجمهور ستخرج الفصحى من جمودها، وأن يكون الصلح بين العامية والفصحى وعندما تستعمل مفردات العامية، وإن وضع شرط عدم الابتذال ولكنه يعود فيقول أن نتذرع إلى إحياء العربية باستعمال العامية، ومتى استعملناها في الكتابة اضطررنا إلى
تخليصها من الضعف وجعلنا العامة يتابعون الكتاب في كتاباتهم والخطباء في خطاباتهم والممثلين في رواياتهم ،وأعمال المجمع دليل على أن الفصحى قادرة على استيعاب الجديد عندما وضع عددا كبيرا من معجمات متعددة في كل العلوم الحديثة وما زال يوالي عمله ومعه مجامع اللغة العربية في دمشق والأردن وبغداد والمغرب،"
هذا الكلام وغيره مما يتحدث عنه المختصون يجعلنا نؤمن بالواقع بسلبياته وايجابياته وهذه قراءة سريعة لهذا الواقع، صحيح ان الاستعمار الغربي للعالم العربي لم يعد عسكرياً كما كان الا انه لم ينته منذ ان بدا، العرب اليوم في مهب الريح سواء تلك التي تأتي من الغرب او التي تاتي من الشرق، فبغض النظر عن اقتصادهم الذي قد يكون مثار فخر لبعض البلاد العربية، الا ان السياسة العربية لا تزال بعيدة كل البعد عن كونها سياسة مستقلة ولصالح شعوبها، هذا التذبذب السياسي نتج عنه الكثير من المتناقضات على المستوى الثقافي؛ هذه اهمها:-
اولا: الايجابيات
   ١-   انفتاح   العالم العربي على كافة العلوم والثقافات،
٢- امتلاك العالم العربي رصيدا ضخما من الادباء والشعراء والمفكرين والنقاد واساتذة الجامعات المتخصصين والطلاب المجتهدين والصحفيين ودور النشر والمنتديات الثقافية والادبية الذين يجاهدون لاجل العربية وعلومها،
٣- ظهور الكثير من الدعوات والنداءات والبرامج المرئية التي تنادي بضرورة احياء الفصيحة في الحديث والمحافظة عليها لغة دائمة في الكتابة،
ثانيا: السلبيات
    1.  غياب    اللغة العربية الفصحى عن الشارع العربي الذي يفضل العامية في حديثه،
2.  تشجيع  العامية على مستوى الاعلام المرئية و المسموع،
    3. ظهور الكثير من الادباء والشعراء الذين يكتبون بالعامية و يظهرونها على الفصيحة
، ومن خلال هذه المتناقضات التي يعيشها الوطن العربي اليوم نجد امامنا كماً هائلا من العقبات التي تقف حائلاً بيننا وبين تراثنا المجيد، صحيح ان هذا التراث لم يغب يوما عن اذهاننا ولكننا حتى اليوم بعيدين جدا عن عمل ما يجب فعله لاحياءه، بالاضافة الى ذلك فمعاول الهدم لاتزال باقية والاعلام بمؤسساته يمثل اهم الركائز التي يجب ان يستند عليها التغيير واهم المراكز التى ينبع منها الاصلاح والاحياء، و لكي انهي هذه الرسالة بما يليق فهذه هي بعض القناعات التي اؤمن بها كتوصيات للخروج من الازمة:-
١- على المثقف العربي اليوم ان يثار للغته ممن بدا بهدمها وذلك بالترويج لها و الكتابة بها و الحديث بها دون غيرها من الاجنبيات او العاميات،
٢- على نصراء الفصحى و محبيها في الداخل والخارج تجنب شراء الكتب والصحف التي تروج العاميات والتنبيه الى خطورتها.
٣- على جميع الباحثين والنقاد والمبدعين احتقار كل من يكتب بالعامية وعدم الاعتراف بادب من يكتب بها ويستعملها كوسيلة ادبية.
٤- على الباحثين الطامحين التنبيه الى تفاهة كل بحث يكتب عن العامية وقواعدها واساليبها واهميتها، فهذه البحوث ليست الا خيانة للغة القرءان ولسان العروبة والاسلام، و نحن لا نريد للمكتبات العربية ودور الكتب ان تمتلا بمثل هذه البحوث التافهة التي لا تغني ولا تسمن من جوع، وعلى جميع مشرفي البحوث رفض البحوث المقدمة عن العاميات العربية الا اذا كان الهدف منها بيان عيوبها واصلاحها بما يخدم لغة العرب الفصحى.
٥- على جميع محبي العربية من ابناء الاسلام السخرية من أدباء وخطباء ودعاة العامية، بل وممن يتكلمها مع من يحاول الكلام بالفصيحة.
٦- على المجامع العربية الموجودة ان تطالب الجامعة العربية بإنشاء قنوات فضائية في جميع البلدان المتواجدة فيها هذه المجامع بحيث تعمل هذه القنوات على عرض مؤتمرات المجامع و نقاشاتهم ومقترحاتهم، و تعمل على عرض المسلسلات الهادفه للاطفال والكبار باللغة العربية الفصيحة، و عرض كل ما يقلل من خطر العاميات التي تحضى بالتدليل من قبل الكثير من القنوات الموجودة حالياً. كما اود ان اذكر بما اورده المستشرق جاروسلاف ستتكيفتش في مقدمة كتابه الآنف الذكر، حيث قال:
"ان اللغة العربية لغة مميزة، لقد عاشت خمسة عشر قرنا لم تتغير اثنائها تغيرا جوهريا، انها غالبا ما تكسب، ولم تخسر البتة، انها كفينوس ولدت كاملة الجمال، واحتفظت بهذا الجمال على الرغم مما اصابها بمرور الايام من عوامل التعرية والتاكل…"، وهذا صوت اخر اطلقه المستشرق يوهان فك، فقا ل : " ولقد برهن جبروت التراث العربي التالد الخالد على انه اقوى من كل محاولة يقصد بها الى زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر، واذا صدقت البوادر ولم تخطئ الدلائل فستحتفظ ايضا بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الاسلامية ما بقيت هناك مدنية اسلامية[2].
فاذا كان الاجنبي قد عرفها وعرف حقها وقدم لنا بحثا وكلاما اثبت فيه مقدرة العربية على مجابهة تطورات العصر الحديث أفلا يجدر بنا ان نكون بها أعرف وعلى علومها أقدر، الا اننا أمام ما هو أخطر ألا وهو بعض التافهين من العرب وغيرهم الذين يرددون عن قصد وغير قصد مثل هذه الدعايات كقولهم:
أ- ان العربية الفصحى ليست قادرة على مواجهة علوم اليوم و صياغة المصطلحات الفلسفية والادبية واللغوية في كافة المجالات،
ب - ان العربية الفصحى تعجز عن نقل المشاعر و الاحاسيس نقلا صادقا،
ت - ان الفصحى لا تصلح للتعبير عن قضايا الواقع و هي بعيدة عن واقع الناس ولا تصلح كاداة ادبية في الروايات الواقعية مثلا،
   ث - ان العربية الفصحى صعبة في قواعدها، ولكن هذه الاتهامات غير صحيحة للاسباب الآتية:-
أ- العربية الفصحى قادرة على مواجهة المطلحات الفنية والادبية في كافة المجالات لانها لغة الاشتقاق ولغة القلب والابدال وطرق اخرى كثيرة، والعلماء العرب الذين ترجموا في العصور الوسطى علوم الحضارات السابقه الشرقية والغربية لم يدخلوا على اللغة العربية لفظا اجنبيا واحدا رغم ان ما نقلوه كان جديدا عليهم وعلى ثقافتهم، وهذا ما شهد به المستشرق الذي سبق ذكره حيث قال:
"ومع ذلك عندما ترجمت العلوم الهيلينية الى العربية في بداية العصر العباسي...كان مبدأ القياس الحي الذي جعل الاشتقاق ممكنا، ومبدأ صوغ الكلمات المركبة او النحت، و كذلك مبدأ التعريب وفقا لروح العربية ،اوجد معيارا خلاقا لصوغ مصطلح قادر على استيعاب العلوم الدخيلة"، كما يشير المؤلف نفسه الى ان احد المجمعيين استطاع ان يشتق من الفعل الثلاثي "صهر" اكثر من مائة وتسعين مصطلح كلها واضحة المعنى وقابلة للتطبيق،
ب - اما عن قولهم بان الفصحى عاجزة عن التعبير عن المشاعر والانفعالات فنقول لهم اولا ان الله قد قال "لو انزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله" (الحشر) فهل القرآن عامي ام فصيح،؟! ونقول لهم ثانيا جيئونا بمثل أشعار عنترة وجميل و زهير و المتنبي او حتى شعر نزار قباني الحر،
ت - اما عن قولهم ان العربية لا تصلح للتعبير عن واقعية الناس والفاظهم العامية، فالاصل ان يصحح الناس كلامهم لا ان تصحح العربية حتى توافق اقواَلهم، وقد استخدم الروائي الشهير نجيب محفوظ العربية الفصيحة على لسان الدهماء من شخصيات رواياته فلا يزال القارئ يحس بواقعيتهم رغم التباين الموجود بين عامية الواقع ولغة هذه الشخصيات في الرواية، ونشير ايضا ان اكثر الكّتاب نجاحاً في الوطن العربي لم يعترفوا بالعامية كلغة ادب وانكروا على من يكتب بالعامية،
ث - اما قولهم ان العربية لغة صعبة في قواعدها فهذا القول ليس ببعيد عن قوم لايعرفونها ولا يتحدثونها، وهذا يبرهن ان العربية لاتعجز وانما العاجز هو من لا يعرفها ، و لكونهم لا يعرفونها فمن الطبيعي ان يعجزوا عن النقل والترجمة، اما اولئك الذين
عرفوها في العصور الذهبية للاسلام فما عجزوا عن ترجمة علوم كانت كلها غريبة عليهم وما علمنا عن احد قال بان العربية عجزت عن نقل علوم تلك اللغات، فالمتمكن من لغته لا يشكوا، اما العاجز عن ادراكها وادراك اسرارها فسيرمي حمله على لغته لابعاد الحرج عن نفسه، فهو يعلم ان اللغة لن تتكلم بلسانها لتشكوه الى بارئها، ولكن أنا لهم مايريدون ؛فبرغم كل ماسبق ستظل الفصيحة عنوان المثقفين في محافلهم الادبية ومنتدياتهم الثقافية وستظل لغة المجتمع الراقي في العالم العربي وخارجه وستكون ان شاء الله طريقا يعود بنا الى لغة اهل الجنة، فالعامية لا تصلح ان تكون لغة رقي ولا ادب ولا فكر ولا اعلام ولا حتى خطابة، وهي علاوة على هذا وذاك، ذات اصوات قبيحة نبراتها تثير الغثيان وتبعث على الاشمئزاز، فحتى اولئك الذين يشجعون العاميات لن يستطيعوا ان يصمدوا في مواجهة اللغة التي تكفل الله بحمايتها وأعدها لتكون لغة اهل السماء في جنة الخلد،هي الفصحى الجميلة ولا يستطيعون وصفها بغير الجمال؛ وان كانوا لا يتكلمونها ولا يحفلون بها فليس لانها تتمنع عليهم ولكن لانهم حقا لايعرفونها،

المصادر والمراجع
·        العربية الفصحى الحديثة: بحوث في تطور الالفاظ والاساليب’ تأليف جاروسلان ستتكيفتش،ترجمة وتعليق دكتور محمد حسن عبد العزيز، استاذ علم اللغة المساعد بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، ١٩٨٥، " الترجمة او نقل الكلام من لغةالى اخرى،"( ٦١١  -٦٣٢)

·        للدكتور عمر فروخ و "احكام ترجمة القران الكريم وتاريخها" للاستاذ عبد اللطيف الطيباوي(٦٣٥-٦٦٠) مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق’ الجزء - الثالث، المجلد الرابع والخمسون،يوليو ١٩٨٩

·        الادب العربي المعاصر في مصر’ تاليف الدكتور شوقي ضيف، دار  المعارف، القاهرة ١٩٦١

·        -"الفصحى والعامية في وسائل الإعلام" للأستاذ الدكتور يوسف عز 􀀀 الدين، ألقي هذا البحث في الجلسة الرابعة عشرة من مؤتمر المجمع في الدورة السادسة والستين بتاريخ ٧ من المحرم سنة ١٤٢١ ه الموافق ١٢ من أبريل (نيسان) سنة ٢٠٠٠


·        "اللهجة العربية العامية" للاستاذ عيسى اسكندر المعلوف، عضو مجمع  اللغة العربية الملكي، مجلة المجمع – الجزء الأول ص ٣٥٠- ٣٦٨
·         The Origins of Modern Arabic Fiction by Matti Moosa, A  Three Continents Book, Colorado, 1997






  [1]الامثلة الخاصة بالأسالیب الاجنبیة وردت في كتاب ستتكیفتش مع التعلیق علیھا من قبل الكاتب الذي خصص فصلا كاملا لھذا الغرض. 
 یظھر ھذا القول على الصفحة التالیة للعنوان في ترجمة كتاب استتكیفیتش [2]

مواضيع ذات صلة
دراسات, شأون الخارجية,

إرسال تعليق

0 تعليقات