ادعمنا بالإعجاب

شيخ النقاد محمد مندور (١٩٠٧ – ١٩٦٥) ومسيرته النقدية

أبو ذر
باحث بقسم اللغة العربية وآدابها
جامعة علي كره الاسلامية

المدخل
ينسج النقدالعربي الحداثي شبكته برؤي فكرية مختلفة تنم عن بطن التثاقف الأوروبي، مما أدي الفكر العربي إلي إتخاذ ماهو ينفع له من جهة التطور والإزدهار في مناحي مختلفة من الأدب والنقد متبنيا على شعور الزمكانية،وكانت أرض مصر بمثابة النقطة البؤريةفي معالجة القضايا الأدبية الجديدة وفي إيجاد وعي أدبىونقدى جديد عند سكانها حيث أنها كانت المركز الأول للتوصيل والتواصل في إنتاج مختلف ألوانالرقي والتطور و التقدم العلمي والعقلي نتيجة احتكاكها بالغرب تحت ظل حملة نابليون في عام ١٧٩٨، وأنجبتأرض مصر عددا كبيراً من الأدباء والعلماء الذين لعبوا دورا ملموسا لدفع حركة الأدب والنقدالعربيالحديثإلى آفاقرحبة وواسعة،والدكتور محمد مندورواحد منهم،وممالاشك فيه أنشخصيته الأدبية معروفة لدي الأوساط العلمية والأدبية والثقافية كماهي أزخرتالمكتبة العربيةمن أعمالهاالنيرةوكتاباتها العالية الجودة،وقام محمد مندور برفعمكانة النقدالأدبي الحديث وقدره إلى الذروة العالية،وكتب عدة مصنفات أدبية ونقدية، منها "النقد المنهجي عند العرب" و"الميزان الجديد" و غيرهما ، ففى هذه الورقة البحثية المختصرة سنحاولإلقاء الضوء على مراحل حياته المختلفة  ومراحله النقديةالمتباينة التى مر بها الدكتور محمد مندور كناقد أدبي بالإيجاز.
حياته وثقافته
المرحلة الأولى ١٩٠٧-١٩٣٠
ولد محمد مندور في ٥ يونيو سنة ١٩٠٧ في كفر مندور من منيا القمح بالشرقية بمصر، وترعرع فيبيت صالح ديني غرس فيه القيم الأخلاقية النبيلة التي عاشها طول حياته العلميةوالعملية، وكان والده متدينا ينتمي إلي الطريقة النقشبنديةفتأثر به تأثرا واضحا،1 وكذلك نما في جو ريفي مصري فبقي بصماته عليه إلي أن خيل بعض أصحابه حين يتحدثونبه بأنهم يتحادثون فلاحالادكتورا، قال رجاء النقاش متحدثا عن شخصية مندور، "وكانت شخصية بسيطة ليس فيها تعقيد، لافي التعبير ولا في التفكير وكثيرا ما كنت أنسى وأنا أستمعإليه أنني مع دكتور جامعي متخرج من السوربون، وأحس علي العكس أنني مع فلاح بسيط طيب وماكر معا وواسع الخبرة بالحياة وقد كان هذا شعور جميع من يتصلون به."2
أرسله أبوه إلي كتاب الشيخ عطوة في الخامسة من عمره، فتعلم مبادئ القراءة والكتابة ونصيبا من القرآن الكريم، وفي المدرسة الابتدائية كانت الظروف سيئة إلي أن الناظر قام بضرب الطلاب ضربا فظيعا، ذكر مندور أحوال المدرسة قائلا، "وكان الناظر في منتهى القسوة، وكان يضربنا ضربا فظيعا، فشلت شدة الخوف ملكاتي،ولم ألمع خلال هذه المرحلة أبداً"3وكان في نعومة أظفاره أن حدث ثورة ١٩١٩ الشهيرة التي تسببت لمجزرة عنيفة في مختلف أرجاء مصر، فكان لها الأثر الأكبر في شخصية محمد مندور حيث شاهدها بعيونه المفتوحة، وكذلك لها أصداء هائلة في السياسة المصرية وتوجيهها، ففي عام ١٩٢١ نجح مندور في امتحان الشهادة الابتدائية، وانتقل إلي مدرسة الثانوية بطنطا، فعبر مندور عن خواطره الحسنة، حيث قال "فقد ألحقني أبي بالقسم الداخلي بمدرسة طنطا الثانوية، ورأيتني بذلك أنتقل جحيم المدرسة الألفي إلي جنة مدرسة طنطا حيث الأمن وعدم الضرب ونظافة الحياة ونظامها وراحتها، فبدأت مواهبي المكبوتة تتفتح، ولم ألبث أن أصبحت الأول في فصلي،ثم الأول علي السنة الأولى كلها، وحافظت علي السبق طوال مرحلة الدراسة الثانوية، وحصلت علي البكالوريا من القسم الأدبي عام ١٩٢٥. 4 وتمتاز هذه الفترة بوجود أستاذيه الفائقين (أحمد هاشم عطية والسباعي بيومي) اللذين قاما بصقل مواهبه الأدبية وتنميتها ،فقرأ معهما أمهات كتب الأدب العربي كعقد الفريد ،والكامل للمبرد،والأمالى لأبي علي القالي، فكان مدينا لهذين الأستاذين الكبيرين طول حياته واعترف بعلمهما الغزير اعترافا تاما،فمن هنا بدأ حياته الجامعية بالتحاقه بكلية الحقوق ليتخرج وكيلا للنيابة فمن حسن الحظ أنه وجد طه حسين في الجامعة الذي وجهه وأرشده إلي مايختفي من عيونه من المستقبل الزاهر، كان طه حسين أديبا وناقدا كبيراً ذائع الصيت آنذاك وأحدث كتابه الأدب الجاهلي ضجة بين الأوساط العلمية والأدبية، فمما لاشك فيه أن لقاءه بطه حسين - في الواقع - نقطة التحول الحقيقي في حياتهمما أنتج ثمارا ناضجا في حقله المعرفي فيما بعد فقد وجهه إلى الآداب فجمع بين الآداب والحقوق وحصل علي الليسانس كلتيهما، فالأولى سنة ١٩٢٩ والثانية ١٩٣٠، فإن لم يكن طه حسين لفقد الوطن العربي ناقدا أدبيا كبيراً في شكل محمد مندور، ولعل في أول مرة استمع أسماء كبار الأساتذة الفرنسيين في محاضرات طه حسين، كأمثال سانت بيوف وتين وبرونتير، مما أثار الرغبة الشديدة للوقوف علي المناهج الفرنسية التي تمثل أكبر صورة التقدم والازدهار في الحضارة الأنسانوية الحداثية فالفترة التي  قضاها محمد مندور في الجامعة -  في الحقيقة - كانت المقدمة التمهيدية الأولى لما ينتظره المستقبل الزاهر بما فيه من الأمور.5
المرحلة الثانية ١٩٣٠ - ١٩٣٩
سافر مندور إلي فرنسا في البعثة العلمية المستهدفة إلي حصوله علي الليسانس من السوربون في الآداب واللغات اليونانية القديمة واللاتينية والفرنسية وفقهها المقارن مع حضور محاضرات المستشرقين وتحضير دكتوراه في الأدب العربي مع أحدهمعلي أنه قد فشل في الكشف الطبي فتدخل طه حسين في هذا الأمر وذهب بنفسه لمقابلة حلمي عيسى وزير المعارف آنذاك فقرأ عليه بعض الفقرات التي كتبها مندور عن الشاعر ذو الرمة الأموي فتعجب به فكتب حلمي عيسى مذكرة لمجلس الوزراء الذي وافق علي إعفائه منالكشف الطبيفانحلت الأزمةوتسهل له الأمور للسفر إلي فرنسا.6
فمن خلال وجوده في فرنسا تعرف على آراء عالم الألسني السويسري فرديناند  دي سويسر وعالم الأصوات الفرنسي أنطوان مييهمما كان له أثر بعيد لدراساته الصوتية في شروحه ونقده للشعر العربي بعد عودته من فرنسا وإلى جانب ذلك انصرف إلي التخصص في الفنون والاقتصاد السياسيوالتشريع الماليوكذلك تأثر في فرنسا بالثقافة الكلاسيكية من اليونانية واللاتينية الي جانب الثقافة الفرنسية التي فتحت أمامه أبوابا للتفنن في الجمال الاغريقي القديمفهو يعد مصدرا أساسيا في جماليات مندور النقديةوأكثرها بروزا في آثاره المعرفية.
وكانت مدينة باريس مدينة شاهقة في التطور والازدهار، مدينة العلم والفن، مدينة الجمال والمغريات، ذكر مندور مدينة باريس بالنسبة إلي كيفية تأثره بها وكيف تكونت عقليته وثقافته الواسعة من خلال وجوده فيها، "باريس مدينة بالغة الخطورة ،فيها الجد والصرامة ،وفيها المغريات المهلكة، وقد أخذت من الإثنين بطرف لساني، والغريب أن المغريات أفادتني كثيراً من الناحية العاطفية والثقافية، لأنها مكنتني من الاختلاط بدهماء الفن والأدب في مونبرناس والحي اللاتيني،وفي غلب الليل حيث الأحاديث التلقائية والاعترافات الصادقة في ساعات الحظ ولمس نفوس البشر عن قرب عارية صريحة غير مقنعة ولا متوارية.7
فكان مندور يتأثر بفرنسا وأهلها إلى أن يبتعد عن العرب واللغة العربية، واشتد احتكاكه بهم حتى بدأ التفكير باللغة الفرنسية مما أدته إلى تقويم منهجه النقدي وتفكيره الثقافي، فيقول مندور موضحا "فمن المؤكد أن تغيير لغة التفكير لا لغة الكلام فحسب هي النقلة الكبرى في منهج تفكيري العام بل إحساسي أيضا".8 وكذلك جامعة السوربون تركت فيه أثرا فعالا بمنهجها الذي كان يعالج النصوص بتفسيرها وتنقيحها، فهو ما يسميه الفرنسيون، "بتفسير النصوص" فهذا المنهج لا يقوم على المحاضرات النظرية فقط بل يفسر النصوص بكل ما يحتويه من المعني،والذي يدعوه بالنقد الموضعي الذي يعتمد على النصوصفينطلق منها رحلة مندور النقدية، فيدور هذا المنهج في كتاباته النقدية الأولى.
المرحلة الثالثة ١٩٣٩ – ١٩٦٥
هذه الفترة، - في الواقع – فترة حقيقيةللنضال والكفاح والجهد المستمر والعمل الدؤوب والتجربة الشخصية والخوض في معارك الحياة العملية الأصيلة التي تعتمد علي الجانب التطبيقي لما حصل عليهمن العلوم والفنون في داخل جدران الجامعات والمدارسوالمعاهد، وهذه الفترة من الحياة تقومبالكشف للمواهب البشرية المختفية، وتسنح له الفرصة للقيام بأعمال جبارة ومنجزات قيمة، فمن هنا نجدمحمد مندور مكافحا على مختلف مستوي حياته، سواء كان صحفيا أو مدرسا، أو ناقدا أو أدبيا، فكل هذا ترك علي حياته بصمات نجمت منها حياته الأكثر وضوحا وكونتها عقليا وثقافيا الأكثر مما يمكن.
عاد مندور إلي مصر الحبيبة غير أن يحصل على شهادة الدكتورة بسبب اكفهرار الجو السياسي،ولكن أفاده وجوده في فرنسا باعتبار الكسب الحقيقي للمعرفة التي كانت خيرا من ألف مرة من الدكتوراةحاملا بين أحشائه الدر للتجديد والحداثة التي تسببت لكثير من المتاعب والمشاكل والصدام العنيف بالهيئة الجامعية وكبار الاساتذة كطه حسين وعبد الوهاب العزام بسبب تقريره الهاجم على الأساليب البالية المتحكمة علي روح الشرق ثقافياومنهجيا، مما حفزه على تحضير رسالته الدكتوراة  بإشراف الأستاذ الكبير أحمد أمين الذي مهده الطرق له وهيأ له فرص مختلفة لتنمية مواهبه الكامنة التي كادت علي وشك الصدور، وهناك المزج الكبير بين عقلية محمد مندور والأستاذأحمد أمين، فكان يعادل في المزاج بالنسبة إلي كيفية النظرة للأشياء معتمدين علي الجزيئات بدقة ووضوح لما تعلما القانون دراسة عميقة، واشترك مندور بأحمد أمين في الصفات الأخرى كالتسامح العقلي ولم يوجد لديهما التصلب والقسوة كما نجده عند العقاد دائما وطه حسين أحياناً، على أن كان طه حسين قام بفعاليات إيجابية في أمر مندور، واعترف بها مندور طول حياته، فهذه القضية تمثل شخصية طه حسين نوعا من السلبية، وهذه المسألة ليست مسألة شخصية بل إنماهي مسألة موضوعيةوفي عام ١٩٤١ تزوج مندور بتلميذته ملك عبد العزيز، وكانت طالبة في الليسانس وقتذاك، ثم أصبح مدرسا في الجامعة الإسكندرية ثم استقال منها في عام ١٩٤٤، وتفرغ نفسها للصحافة فقام بالكفاح للشعب المصري بقلمه فعمل في الأهرام، والوفد المصري، وأصبح عضوا للبرلمانفحدثت ثورة ١٩٥٢ فأيدها ثم ركز عنايته إلي التصنيف والتأليف، فلم يكن هناك أي مجلة أو رسالة أوبرنامج إلا أن مندور كان يحضر فيها، وبقي كذلك إلى أن مات عام ١٩٦٥.
 مسيرته النقدية
مر محمد مندور بمراحل ثلاثة نقدية مختلفة فالمرحلة الأولى تتمثل في النقد التأثري والثانية في النقد الايدولوجي والثالثة في المنهج الوصفي التحليلي.
المرحلة الأولى
إن حياة محمد مندور مفعمة بأحداث كبيرة  ومتشعبة حيثأنها أدت دورا بارزا في تنضيج تفكيره الثقافي والنقدي، كما مر بمراحل ثلاثة في منهجه النقدي مرورا بالنزعة الجمالية الأنسانوية و الأيدولوجية الواقعية وصولا إلي المنهج الوصفي التحليلي القائم علي التفسير والتبسيط والوصف والفهم والاستفهام، يبدو لنا أن طريقة تفكيره تتغير وتتشعب حسب الزمان والمكان والوقائع والأحداث التي عاشها محمدمندور، واستندفي المنهج الذوقيالتأثريإلى الجمال الكلاسيكي الاغريقي الذي تعرفعليه في فرنسا كطالبا للآداب، ولم يكن طالبا نظريا فحسب بل إنما هو آمن بنظرة التطبيق العملي، فلأجل ذلك شاهد وتجول في بلاد اليونان في وقت كان طالبا في فرنسا ،وإليك قصة زيارته إليها التي تدل علي نشاطه الفكري والإنسانوي ، "وبعد أن فرغ من دراسة اللغة اليونانية قامبالسفر إلي بلاد اليونان لكي يعيش بين روح الجمال الأغريقي ويتنفس في أجواء الحب والجمال كما درسها في دروس الجامعية بفرنسا، فكانت هذهالزيارة رغم إعتراض مدير البعثة في باريس، فزار الأكروبول في أثينا وأكادمية أفلاطون والغابة المقدسة التي لجأ إليها أوديب، والمعبد الخاص لإله (أبوللو) مما شربه الروح الهيلينية،،فهي روح تمتاز بالصفاء وهدوء القلب وحرارة الفكر وانفعاله، لأن اليوناني القديم كان يحس بعقله ويدرك بقلبه، ففي عقله حرارة العاطفة، وفي قلبه ضوء العقل".9فبدأ مندور يفكر علي الطريقة التي كانت سائدة علي أروبا، ويحب أن يدخل الأدب العربي في تيارات معاصرة من حيث الموضوع والوسائل ومنهج الدراسة الذي - أساسا – منهج تفسير النصوص الفرنسي المتبني علي الذوق والتأثر،ويتمحور هذا المنهج في كتابيه الشهيرين المعروفينالأول"النقد المنهجي عند العرب "وهو- أساساً-  مقالته للدكتوراة التي كتبها بعنوان" تيارات النقد العربي في القرن الرابع الهجري "والثاني "الميزان الجديد" الذي- فيالواقع-مجموعة مقالات تتناثر علي صفحات "المجلة" والثقافة " ويتبلور أفكاره النقدية والمنهجية علي صفحاتهاوكذلك قام بترجمة كتاب لانسون بالعربية بعنوان"منهج البحث في الأدب واللغة "الذي يدور حول منهج الذوقي التأثري الفرنسي اللانسوني وهو أكبر حافز لإتخاذ  مندور المنهج الجمالي الانسانوي،فانطلق مندور من نقطة حيث يعرف الأدب قائلا، "الأدب عبارة فنية عن موقف إنساني عبارة موحية "  فيستقي تعريفه للأدب من تعريف الأستاذ لانسون وهو" المؤلفات التي تكتب لكافة المثقفين وتثير لديهم بفضل خصائص صياغتها صورا خياليةأو انفعالات شعورية أو احساسات ففنية10 فمن خلال هذا المنطلق نستشعر أن الأدب هو الصياغة الفنية أولا والتجربة البشرية ثانيا، إن الصياغة الفنية تتمثل في الاسلوب الفني وعندما أمعنا النظر في التعريف نجد أن العبارة الفنية تمثل التعبير الفني والصياغة الفنية، فهذا من جانب "الشكل من الأدب" وقطعة أخرى من الجملة تؤكد المعني الداخلي للأدب وهو المضمون والمحتوى، وهو في الواقع موقف إنساني أو تجربة بشرية، الأدب دون التجربة لايكون أدبا بل انما هو نوعا من الفلسفة والنظرية العلمية بحتة،ومن هنا يبرز تياره الجمالي والإنسانوي الذي ينتمي إليه، ويورد مندور مثالا لتفهيم ذالك الجوهر الأساسي للأدب، فيقول،" إن وقت الظهيرة قد  حان،" فلقد أدي المعني بجملة مفيدة ولكن الشاعر أعشي يقول،"وقد  انتعلت مطي ظلالها" وهذه الجملة أيضا تؤدي نفس المعني ولكن بأسلوب فني جميل، فيختلف الأسلوب الفني من الأسلوب العقلي الذي يعتمد علي التاريخ والفلسفة والعلم، ويلصقه مندور اصطلاح" بأدب الفكرة "فالأدب عنده غير التفكير الفلسفي وهو غير التاريخ وغير النظريات الأخلاقية أو الاجتماعية أو السياسية"11 هذا من جانب الشكل والأسلوب والصياغة، ومن جانب آخر هو المحتوى والمضمون الذي ينبض من داخل نفس البشر والتجربة البشرية، فمن لا يمر بتجربة الحياة فكيف يخلق الأدب، وكيف يؤدي المعني الذي لم يجربه، الأدب موضوعه الإنسان، وغايته فهم النفس البشري، الأدب يشرع من البشر وينتهي به، فمن خلال هذه النزعة دعا محمد مندور إلي نوع خاص من الأدبالذي يعرفبأدب المهموس، والذي يتناول التواضع والرقة والتلطف دون الطنطنة والجعجةالتي من خاصيات الخطابة الزائفة، الهمس هو احساس وشعور عجيب يناجي به الشاعر عن داخل نفسه، فيقول مندور واضحا معالمه وملامحه، "الهمس في الشعر ليس معناه الضعف، فالشاعر القوي هوالذي يهمس فتحس صوته خارجا من أعماق نفسه في نغمات حارة، والهمس ليس معناه الارتجال فيتغني الطبع في جهد والا أحكام صناعة، بتأثير عناصر اللغة واستخدام تلك العناصر في تحريك النفوس وشفائها مما تجد، وهذا في الغالب لايكون من الشاعر عن وعي بما يفعل"12
 الهمس – في الواقع – نقيض الخطابة، الهمس هو التهذيب والنفس المصقولة المتواضعة الخالية من الادعاء والحدة والغرور، الهمس هو التواضع والرقة واللين فهذا صفات انسانية، وإنما الخطابة فهي علامة من علامات الامتلاء بالنفس والاعتداد والغرور، ذكر رجاء النقاش قصة جميلة لإثبات الفرق الواضح بين الهمس والخطابة، فيقول "أن الزعيم الهندي نهرو يروي في مذكراته متحدثا عن زملاءه الذين كانوا يدرسون في إنجلترا في أوائل هذا القرن، لقد كان الطلاب يعقدون مؤتمرات وطنية عديدة في لندن، وفي هذا المؤتمرات كان هناك عدد من الذين احترفوا الخطابة والصخب والتطرف والعنف، وكان صوتهم أعلى الأصوات في تلك المؤتمرات، وكانت كلماتهم أكثر الكلمات جذبا للأنظار والأسماع بما فيها من ضجة ودعوة عالية إلي محاربة الإستعمار، بينما كانوا هناك آخرون يقدمون الملاحظات الهادئة البسيطة الدقيقة، وكان هؤلاء لا يحظون با الأهتمام كاالآخرين ولايلفتون النظر، ولكن نهرو لاحظ بعد عودته الطلاب جميعا إلي الهند أن أكثر المتعاونين مع السلطات الإنجليزية هم هؤلاء الخطباء الصاخبون ذووالاصوات العالية المتحمسة المندفعة بينما كان الآخرون مم ذوي الأصوات الهادئة الوديعة أقرب إلي الصواب والوطنية الصادقة من غيرهم".13 فالهمس كما يعبر مندور نفسه" ليس واضحا في ذهنه تمام الوضوح، لأنه إحساس أكثر منه معنى، " ولكن هذا الإحساس علي أي حال هو إحساس صادق يمكن إدراكه إدراكا وجدانيا صحيحا وإن لم نستطيع إدراكه إدراكا عقلياً كاملا.14 ففي هذه الدعوة كان مندور أنسانويا خلصا، ويري البشرية من منظور إنساني آمنا بكرامته وفضائله تقديسا الجمال الإنساني، فانطلق مندور في مسيرته النقدية من منظور نقدي جديد معتمدا علي أسس القيم الجمالية التي تري النقد أداة تعمل في خدمة الأدب الجمالي الأنسانوي، فيدعو إلي إتخاذ منهج الذوقي التأثري الذي يدعمه الذوق والتأثر.
فيري مندور من خلال تنظيره النقدي هذا المنهج أساسا للنقد الذي يجب أن يقوم عليه كل نقد سليم وذالك لأننا لايمكن أن ندرك القيم الجمالية في الأدب بأي تحليل موضوعي ولا بتطبيق أيه أصول أوقواعد تطبيقا آليا، والإلجاز أن يدعي مدع أنه قد أدرك طعم هذا الشراب أو ذاك بتحليله في المعمل إلي عناصره وإنما تدرك الطعوم بالتذوق المباشر، ثم نستعين بعد ذلك بالتحليل والقواعد والأصول في محاولة تفسير هذه الطعوم وتعليل حلاوتها أو مرارتها على نحو بعين الغير علي تذوقها والخروج بنتيجة مماثلة للنتيجة التي خرج بها الناقد بفضل ملكته التذوقية  المدربة المرهف السليمة التكوين.15 في رأيه أن النقد الأدبي في أدق تعريفاته هو أولا وقبل كل شي  فن تمييز الأساليب بإعتبار أن أسلوب الرجل هو الرجل نفسه، وهناك مفارقات لاتنتهي  بين كل نظري من أنواع الأساليب، فالأسلوب الساخر ،منه المر ومنه الحلو، ومنه المتشائم منه المتفائل....... والناقد الناجح هوالذي يحس بهذه المفارقات ويبرزها ليميز كاتبا كبيراً عن آخر وبذلك يحدد أصالته ولونه النفسي المتميز عن ألوان النفوس الأخري،16 هذا المنهج يعتمد كثيراً علي التذوق الشخصي الذي يختلف تمام الإختلاف  عن شخص آخر، ففي  إطار ذالك يري مندور التراث العربي القديم متبنيا علي الذوق بصفته أساسا لكل النقد الأدبي المتواجد في تلك حقبة من الزمن، فيشاهد مندور الآمدي بصفته ناقد ذوي الفن الخاص،لأن  وسائل نقد الآمدي فهي المعرفة والذوق وهو في الكثير من نقده يقوم علي معاني إنسانية وذوق دقيق وإدراك نزعات النفوس.17 فالذوق عنصر أساسي عند محمد مندور واللبنة الأساسية للنقد متأثرا بمدرسة اللانسونية  التي تنطلق من هذا المثال البسيط حيث تقول "لن نعرف قط نبيذا بتحليله تحليلا كيمياويا أو بتقرير خبراء دون أن نذوقه  بأنفسنا"18 وهذا المنهج الذوقي التأثري يتبنى من مرحلتين،مرحلة  التأثرية ومرحلة التفسير والتحليل، يقول مندور أن التأثرية هو أن نقوم بقراءة متأنية دقيقة بارزة لكي أبرز الإنطباعات  التي خلفها في نفسي ثم أفسر انطباعاتي وتبريرها بحجج جمالية وفنية يمكن أن يقبلها الغير، فإنه لايطلق  ذمام الذوق مطلقا أن يشمل فيه العنصر الذاتي الذي يسبب لإفساد الذوق الخاص لأنه يري أن الذوق المكون بالإحساس وسيلة مشروعة للمعرفة التي تصلح لدي الغير.19
المرحلة الثانية
بعد أن تفرغ من الدراسة والعمل الجامعي دخلمحمدمندور في طور جديد من حياته العملية و شرع العمل الصحفي الذي فتح أمام عينيه آفاقا رحبة تتوسع إلي أن يغمره التجربة التي عاناها الشعب المصري بشكل مباشر، فيتطور منهجه التفكيري الجديد الذي يعتمد علي الواقعية الاشتراكية، فيوضح أسباب اعتناقه بالمنهج الايدولوجي الواقعي قائلا "لقد دفعت إلي اعتناق هذا المنهج نتيجة لاهتمامي بالقضايا العامة والنواحي السياسية والاجتماعية في حياتنا ثم لايماني بالفلسفة الاشتراكية وازدياد إيماني بها كلما ازددت معرفة بواقع مجتمعنا أثناء عملي بالصحافة والبرلمان وبحكم نشأتي الريفية واستمرار صلتي الوثيقة بالريف وأهله وطبقات شعبنا الكادحة المظلومة".20 بدأ مندور يفكر في الفلسفة الواقعية الاشتراكية التي تأثربها من خلال زيارته العالم الاشتراكي ووقوفه علي القضايا الهامة والمشاكل الحياتية التي مر بها الشعب المظلوم فيه، ويري الضوءفيالفلسفة الاشتراكية لانقاذ الشعب المصري من ورطة تحيطبه، فيؤكد أن الأدب لابد أن يكون في خدمة الحياة والانسان ويعالج القضايا البشرية دون غياب القيم الجمالية ويدعو بشدة إلي إتخاذ المنهج الايدولوجي الواقعي لتحقيق ذالك الحلمرغم معارضة عنيفة ومهاجمة شديدة من قبل رشاد رشدي وأصحابه، فيقول " يرى المنهج الايدولوجي بحق أن ما كان يسمي في أواخر القرن الماضي بالفن للفن لم يعج له مكانا في عصرنا الحاضر الذي تصطرع فيه معارك الحياة وفلسفاتها المتناقضة، وأن الأدب والفنقد أصبحا للحياة ولتطويرها الدائم نحو ما هو أفضل وأجمل وأكثر إسعادا للبشر،..... وحان الحين لكي يلتزم الأدباء والفنانون بمعارك شعوبهم وقضايا عصرهم ومصير الإنسانية كلها وبخاصة في عصر فيه الاكتشافات العلمية بخطي حثيثة".21 وعلي هذا الأساس يتبنى الهيكل النقدي لأدلجة الأدب في إطار واقعي ديالكتيكي يعتمد علي أن" النقد يناصر اليوم عدة قضايا أدبية وفنية كبيرة مثل قضية الفن للحياة، وقضية الالتزام في الأدب والفن، وتفضيل الأدب أو الفن القائد علي الأدب الفن الصدي. ومن الواضح أن كل هذه القضايا ترتبط بواقع الحياة المعاصرة وقضاياها ومعاركها".22 ويضيف موضحا هذا المنهج في كتابه النقد والنقاد المعاصرون قائلا" المنهج الايدولوجي في النقد هو منهج لا يريد أن يسلب الأدب أو الفنان حريته، وكل ما يرجوه هو أن يستجيب الأدب والفنان لحاجات عصره وقيم مجتمعه بطريقة تلقائية، وهو لابد مستجيب اذا فهم وضعه الحقيقي في المجتمع، أدرك مسؤوليته الكاملة ونهض بالدور القيادي الحر الذي يعزز مكانة الأديب والفنان،...... فالأدب والفن بغير القيم الجمالية والفنية، لا يفقد طابعه المميز فحسب بل يفقد أيضا فاعليته."23 ففي ضوء هذه الأسس يحدد وظيفة المنهج الايدولوجي الواقعي في ثلاث مهام، وينزله في مجال العمل والتطبيق فيقول" (١) تفسير الأعمال الأدبية وتحليلها مساعدة لعامة القراء، وإدراك مراميها القريبة والبعيدة وفي هذه الوظيفة يعتبر النقد عملية خلاقة قد تضيف إلي العمل الأدبي أو الفني قيما جديدة ربما لم تخطر بال، وإن لم تكن مقحمة عليه، (٢) تقييم العمل الأدبي والفني في مستوياته المختلفة، أي في مضمونه وشكله الفني، ووسائل العلاج كاللغة في الأدب، والتكوين والتلوين وتوزيع الضوء والظلال في التصوير مثلا، وذلك لأصول كل فن مع مراعاة تطور تلك الأصول عبر القرون، (3) توجيه الأدباء والفنانين في غير تعسف ولا إملاء، ولكن في حدود التبصير بقيم العصر وحاجات البشر ومطالبهم وما ينتظرونه من الأدباء والفنانين.24
المرحلة الثالثة
ففي هذه المرحلة خاض في المنهج الوصفي التحليلي للنقد الذي يعتمد علي التفسير والتبسيط والوصف والفهم والاستفهام للأعمال الأدبية دون أي نقد عليها أو الإصرار علي أن يتخذ الأدباء والفنان منهجا خاصا، واتخذ مندور هذا المنهج من خلال حضوره في المعهد العالي حينما دعي لإلقاء المحاضرات حول الأدب والفن، ولكن هذا المنهج فشل في لفتانتباه العلماء والأدباء، فيقول موضحا " والمرحلة الثالثة التي مررت بها كناقد هي المنهج الوصفي التحليلي، وهو المنهج الذي صدرت عنه الثلاثة عشر كتابا التي ألفتها لمعهد الدراسات العربية العليا، فقد التزمت فيها أسلوبا علمياً محايدا يهدف إلي الوصف والتحليل والتعريف والتثقيف أكثر مما يهدف إلي التوجيه."25
ومن خلال هذا العرض الموجز تبين لنا أن شخصية الدكتور محمد مندور شخصية إبداعية وعلمية وخدم محمد مندور الأدب والنقد من خلال تنظيره النقدي الخاص طول حياته، ومر بمراحل ومستويات عدة في حياته وثقافته الواسعة.

الهوامش:
١فاروق العمراني، تطور النظرية النقدية عند محمد مندور، ص 24
٢ رجاء النقاش، أدباء معاصرون،ص 79-80
٣ فؤاد دوارة، عشرة أدباء يتحدثون،ص ٢٢٩
4المرجع السابق،ص ٢٣٠-٢٣١
٥ فاروق العمراني،تطور النظرية النقدية عند محمد مندور، ص٢٦
٦ فؤاد دواره،عشرة أدباء يتحدثون،ص ٢٣٣-٢٣٤
٧المرجع السابق،ص ٢٣٤
٨ فاروق العمراني،تطور النظرية النقدية عند محمد مندور، ص٣١
٩ فؤاد دواره،عشرة أدباء يتحدثون،ص ٢٣٨-٢٣٩
١٠ في الميزان الجديد، ص ١٣٧-١٣٨
١١ رجاء نقاش، أدباء معاصرون، ص ٨٤
١٢المرجعالسابق، ص ١٠٤-١٠٥
١٣ المرجع السابق، ص ١٠٥
١٤مصدر السابق، ص ٢١
١٥محمد مندور، معارك أدبية،ص ٥
١٦المرجع السابق، ص ٤
١٧ محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، ص ١٢٥
١٨لانسون وماييه، منهج البحث في الأدب واللغة، ص 26
١٩ محمد مندور، معارك أدبية، ص ٨
٢٠ رجاء النقاش،أدباء معاصرون، ص ١٢٠
٢١النقد والنقاد المعاصرون،ص ١٨٨-١٨٩
٢٢المرجع السابق، ص ١٨٩
٢٣المرجع السابق،ص ١٩٠
٢٤المرجع السابق، ص١٩٠-١٩١
٢٥ عشرة أدباء يتحدثون،فؤاد دواره،ص ٢٦١

المصادر والمراجع:
١ .الدكتور محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ١٩٩٦.
٢. الدكتور محمد مندور، في الميزان الجديد، نشر وتوزيع مؤسسات بن عبدالله، تونس، الطبعة الأولى، ١٩٨٨.
٣. الدكتور محمد مندور، في الأدب والنقد،نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة.
٤. الدكتور محمد مندور، النقد والنقاد المعاصرون،نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع،١٩٩٧.
٥. الدكتور محمد مندور، معارك أدبية، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة.
٦. الدكتور محمد مندور، منهج البحث في الأدب واللغة، لانسون، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ٢٠١٥.
٧. غالي شكري، ثورة الفكر في أدبنا الحديث، منتدى سور الازبكية، الطبعة الأولى، سبتمبر ١٩٦٥.
٨. فاروق العمراني، تطور النظرية النقدية عند محمد مندور،الدار العربية للكتاب، ١٩٨٨.
٩. فؤاد دواره، عشرة أدباء يتحدثون،مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثالثة، ١٩٩٦.
١٠. رجاء النقاش، أدباء معاصرون،دار العرب للطباعة بغداد، ١٩٧٤.
١١. محمد إقبال حسين ندوي، النقد الأدبي الحديث في مصر، قسم اللغة العربية، جامعة اللغة الانجليزية واللغات الانجليزية حيدراباد الهند، ٢٠١٨.






مواضيع ذات صلة
أدبيات, الأدب العربي العالمي, دراسات أدبية,

إرسال تعليق

0 تعليقات