· أ. د / عبد الحكيم عبد الرحيم الكَنافَلي السعَدي
امتثالا لأمر الله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى
الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُون (آل عمران: 104)، ومصداقا لقول النبي الصادق الأمين صلى الله عليه
وسلم: "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم
حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك"(صحيح البخاري: 3442)، واستجابة لقوله صلى
الله عليه وسلم أيضا: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ"، قُلْنَا لِمَنْ؟ قَالَ:
"لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ"(صحيح
مسلم: 205)، وتحذرا من وعيده صلى الله عليه وسلم أيضا: "إذا ظهرت الفتن أو
قال البدع وسبّت أصحابي فليُظهر العالم علمه، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا" (الخطيب البغدادي
كما في الصواعق المحرقة) تصدى للبدعة وأهلها علماء السنة على بكرة أبيهمخلفهم
وأولهم وآخرهم ومتقدموهم ومتأخروهم وكبيرهم وصغيرهم. فكلما ظهرت البدعة ورفعت
رأسها وأبرزت نابها شدوا مئزرهم وكشفوا عن ساقيهم وشنوا الغارة عليها وعلى أصحاب
الأيدي التي تعمل وراءها من قرناء الشياطين وحلفاءهم دون تفاوت بين عصر وعصر،أومصر
ومصر.
وجهود السلف الصالح في هذا الصدد
مشهورة ومنقطعة النظير أيضا، فمن ذلك الموقف الصارم الذي وقفه الصديق الأكبر رضي
الله تعالى عنه من أهل الردة والذين ارتدوا بإنكار الزكاة بعد ارتحال رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى فقيض الله تعالى لتصدي هذه الفرقة المنحرفة
أبا بكر رضي الله عنه فوقف وقفته الحازمة المشهورة التي كسر الله بها موجة الردة،
وأعز بها دينه، وأيده على ذلك الصحابة بإجماع وآزروه وقاتلوا معه.
ثم لما ظهر بعض بذور البدع في عهد
الصحابة من القدرية والخوارج والشيعة تصدى لهم كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم
وقدموا خدمات جليلة سجلها التاريخ الإسلامي بماء الذهب حتى صار تصديهم لهم أسوة
حسنة لمن بعدهم من علماء السنة والجماعة عبر العصور.
وكان على رأس المعارضين للشيعة
علي بن أبي طالب رضي الله عنه نفسه، وقد قضى هو على بعض الشيعة الغلاةوغرب بعضا
آخر. وممن عارض القدَرية عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وأبو هريرة وعبد الله
بن عباس وأنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى وعقبة بن عامر الجهني رضي الله تعالى
عنهم. كما أن عليا رضي الله تعالى عنه تصدى للشيعة قد تصدى للخوارج أيضا، وكان معه
في قيادة الثورة ضد الخوارج طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما.
وكان من أعمالهم لمعارضة هذه
الفرق الضالة المناظرةُ مع رؤسائهم وبيان فساد عقائدهم لجماهير المسلمين علنا
وتحذيرهم من الجلوس إليهم وسماع كلامهم ونهيهم من موالاتهم وأداء حقوق المسلمين
لهم حتى منعوهم من التبسم في وجوههم وقراءة السلام عليهم ورد سلامهم والمناكحة
معهم والصلاة على جنازتهم وعدوا هذه كلها من خصال التعظيم لأهل البدعة وهو منهي
بلسان سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد اقتدى التابعون قدوة الصحابة
رضي الله تعالى عنهم حين ظهر في زمنهم المعتزلة والمرجئة والجبرية وعارضوهم معارضة
حادة بالإضافة إلى تصديهم ضد من بقي من القدرية والخوارج والشيعة. وكان ممن قام
أمام صفوف علماء السنة عمر بن عبد العزيز وزيد بن علي زين العابدين وحسن البصري
وعامر الشعبي والزهري وجعفر الصادق رضي الله تعال عنهم. وإلى جانب أنواع الخدمات
التى قدمها الصحابة لنصرة الدين الحنيف في مجال كسر شوكة أهل البدعة والهوى أبدع
بعض منهم تصنيف كتاب يصارح بفساد عقائدهم وتحذير المسلمين من اتباعهم. فممن صنف
الكتاب ضد المبتدعة بقية الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز وزين العابدين وحسن
البصري رضي الله تعالى عنهم، ألفوا كتبا ضد القدرية في حين ألّف جعفر الصادق رضي
الله تعالى عنهم ضد القدرية والخوارج والرافضة.
ثم سلك علماء السنة من تبع
التابعين مسلك السلف الصالح في الرد على أهل الأهواء، وقد ظهر في زمنهم المجسمة
إضافة إلى تواجد بعض الفرق السابقة الذكر. فأخرجوا سيوفهم ورماحهم من غمدها
وكنانها وأعلنوا ضد كل هذه الفرق الضالة حربا لا هوادة معها. وكان من قواد صفوف
التصدي من تبع التابعين ومن بعدهم الإمام أبو حنيفة النعمان والإمام مالك بن أنس
والإمام محمد بن إدريس الشافعي والإمام أحمد بن حنبل والإمام المحاسبي والإمام ابن
كُلّاب والإمام عبد العزيز المكي والإمام الكرابيسي والإمام سفيان بن عيينة
والإمام سفيان الثوري والإمام إسحاق بن راهويه رضي الله تعالى عنهم.
أما تصدي الإمام أبي الحسن
الأشعري وأبي منصور الماتريدي فواضح كشمس الظهيرة، ولم يهمهما في سبيل الله إلا
الرد على الفرق الضالة فكرسا حياتهما وضحّيا بنفسهما ونفيسهما لحماية دين الله
الحنيف من مكايد أعدائه من المبتدعة الضالة والمضلة، فدوّنا عقائد السلف الصالح من
الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان وبيّنا فساد عقائد أهل الأهواء وناظراهم وقاما
بالرد عليهم أحسن قيام لم يسبق له نظير ولن يأتي بعد. ولم يحتج الإمام الأشعري في
إلزام المعتزلة وتبكيتهم إلى جهد كبير حيث أنه قد أحس بنبضات قلب الاعتزال حتى لم
يخف عليه من أسرارهم خافية؛ لأنه تربى في حجر رئيسهم أبي علي الجبائي.
وكان بعدهم ممن تصدى للمبتدعة
أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري والإمام مسلم وسائر أصحاب صحاح الستة. ومن
أكبر شاهد على تصدي الإمام البخاري لأهل البدعة أبواب كتاب الإيمان من صحيحه حيث
عقد كل هذه الأبواب لتفنيد عقائد فاسدة أو عقائد باطلة لفرقة أو فرق من المبتدعة
كما لا يخفى على من له إلمام بفوائد وأسرار تراجم هذه الأبواب. وكذلك ما يروى عنه
أنه قال: إنه لم يكتب إلا عمن قال: الإيمان قول وعمل.
وممن رد على السلفية التي أسسها
ابن تيمية الحراني وقام بنشره تلميذه ابن قيم الجوزية وكشف للمسلمين عن فساد
عقائدهم وخروجهم عن اقتداء ما كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
وجماعته قدوة الأمة المحمدية وخرقهم إجماع الأمة في نحو ستين مسألة في الأصول
والفروع الإمام صفي الدين الهندي والحافظ أبو سعيد العلائي والحافظ ولي الدين
العراقي والإمام شمس الدين بن طولون والإمام ابن شاكر الكتبي والإمام صلاح الدين
الصفدي - تلميذا ابن تيمية - والملك محمد بن قلاوون والإمام أبو حيان الأندلسي رضي
الله تعالى عنهم وغيرهم خلق كثير.
ومن الدرر اليتيمة في سلك نظم
سلسلة الرد على المبتدعة في الأعصار المختلفة إمام الحرمين والإمام أبو حامد
الغزالي وأحمد بن حجر العسقلاني وفخر الدين الرازي وسعد الدين التفتازاني والإمام
جلال الدين السيوطي وأحمد بن حجر الهيتمي رضي الله تعالى عنهم وغيرهم كثير لا يكاد
يحصي.
أما الوهابية فممن وقف ضدهم وقفة
حازمة وحاربهم بكل ما أوتو من حول وحيلة الشيخ محمد بن سليمان الكردي –من أساتذة محمد بن عبد الوهاب
مؤسس الوهابية - والشيخ سليمان بن عبد الوهاب شقيق محمد بن عبد الوهاب والشيخ أحمد
الصاوي والشيخ ابن عابدين الشاميوالشيخ يوسف النبهاني والشيخ أحمد بن زيني دحلان
والشيخ الإمام الشهيد محمد سعيد رمضان البوطيوالشيخ محمد علوي المالكي المكي وغيرهم
جمّ غفير رحمهم الله.
وقد أدى علماء الهند واجبهم
وقاموا بدورهم الفعال في مجال المهاجمة على أهل الأهواء، وممن يشار إليه بالبنان
في هذا المجال من علماء القرن العاشر الهجري الإمام عبد الواحد البلجرامي، ومن
علماء القرن الحادي عشر الشيخ الإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي، والشيخ عبد
الحق المحدث الدهلوي، والسلطان أورنكزيب عالمكير، ومن علماء القرن الثاني عشر
الشيخ كليم الله الجشتي، والشيخ محب الله البيهاري، ومن علماء القرن الثالث عشر
الشيخ عبد العزيز الدهلوي، والشيخ غلام علي الدهلوي، ومن علماء القرن الرابع عشر
الإمام أحمد رضا خان بن نقي علي خان البريلوي.
ولم تتبدل سنة الله تعالىحين ظهر
إسماعيل الدهلوي وشاقق سبيل المؤمنينوألقى لأول مرة بذور الوهابية في شبه قارة
الهند،فتحلى علماء السنة وقادوا الجيش ضده، وممن يجدر ذكره في هذا المجال ممن
عاصره وناظره ورد
على بدعته الشيخ رشيد الدين خان الدهلوي، والشيخ مخصوص الله الدهلوي، والشيخ محمد
موسى الدهلوي، والعلامة فضل حق الخيرابادي، والعلامة فضل رسول البدايوني، والشيخ
أحمد سعيد المجددي الرامفوري، والشيخ آل رسول المارهروي، والشيخ تراب علي اللكنوي،
وقائمتهم طويلة جدا لأنه لم يكن من علماء مسلمي الهند في زمن إسماعيل الدهلوي إلا
وله نوع –علىالأقل - منأنواعالردعليه. ومن الطبقة الثالثة الذين تصدوا لإسماعيل
الدهلوي وبدعته الشيخ العلامة أحمد رضا خان البريلوي، وليس هو الوحيد الذي حمل
السلاح ضد إسماعيل الدهلوي كما يتهم.
وكذلك ردوا ردا بليغا على
القاديانية الفرقة التي ظهرت في هذه القارة وارتدوا عن دائرة الإسلام ببدعتهم
وإنكارهم بعضا مما علم من الدين بالضرورة، وكذلك قاموا بالرد البليغ على قاسم
النانوتوي رئيس الفرقة المنحرفة من علماء دِيوْيند، وأشرف على التهانوي ورشيد أحمد
الجنجوهي وخليل أحمد الأنبيتوي السهانفوري، ومحمود الحسن الدِيوْبندي، والذين
اتبعوهم ممن خالف السلف من علماء دِيوْبند وأسلافهم مثل العلامة شاه ولي الله
الدهلوي والشيخ محمد علي السهارنفوري شارح صحيح البخاري والشيخ عابد حسين
الديوبندي مؤسس دار العلوم بدِيوْبند. وردوا أيضا على فرقة جماعت إسلامي التي
أسسها أبو الأعلى المودودي متأثرا بحسن البنا، ومحمد إقبال، وكفاية الله، وأحمد
سعيد، وكذلك متأثرا بالخوارج وبالقدرية وبالمعتزلة وبالزيدية وبالتيمية والوهابية.
وكذلك قاموا بالإنكار الحازم أيضا على محمد إلياس مؤسس الجماعة التبليغية، والذي
تأثر بإسماعيل الدهلوي وبالوهابية وبالذين شاققوا سبيل المؤمنين من علماء ديوبند
الذين سبق ذكر رؤسائهم. وكذلك قاوموا رجال ندوة العلماء بلكنو، ومن عدادهم عبد
الحي بن عيد الحليم الحسني، وابنه أبو الحسن علي الحسني الندوي.وكذلك عارضوا النيجرية
(الطبيعية) التي أسسها سَرْ سَيِّدْ أحمد خان.
ولم يتخلف علماء ولاية كيرالا (مليبار) في صعيد
فرسان الرد على الفرق الضالة قديما وحديثا. وممن سبق إلى النصب وأصاب الهدف من
متأخريهم علماء أسرة المخدوم الفناني. ثم عند ما ظهرت الوهابية بربوع كيرالا في
أوائل القرن العشرين الميلادي اجتمع علماء السنة من كيرالا وشاوروا في اختراع
محاولة جماعية موحدة ومنظمة وكان ذلك على رياسة السيد مُلّا كويا تَنْغَلْ
الوَرَكَّلي. فنتيجة لهذه المشورة تشكلت جمعية العلماء بعموم كيرالا. فوضعوا برامج
وعينوا أعمال وقاموا بواسطتها بالرد على جميع الفرق الضالة - بما فيهم القاديانية
والوهابية والسلفية والإصلاحية والتبليغية والمودودية - التي رفع رأسها في حين
لآخر ومد عنقها في فينة وأخرى وحذروا المسلمين من التأثر بهم وكشفوا عن الشبهات
التي أثاروها في عقائد المسلمين. ومن أشهر علماء كيرالا الذين تصدوا للبدعة وأهلها
في القرن العشرين رشيد الدين موسى مُسْلِيار، ومحي الدين كُتّي مسليار
البَرَوَنّي،وبَتي عبد القادر مسليار، ووانِيَمْبَلَم عبد الرحمان مسليار، وشمس
العلماء أبو بكر مسليار، وحسن مسليار.
لو تفكرنا لحظة في أنه لولا
مقاومة هؤلاء العلماء الأجلاء المخلصين والمجاهدين في سبيل الله البدعة وأهلها
ومحاربتهم لها ولأهلها فما ذا عسى أن يكون مصير هذا الدين الحنيف الذي لا يقبل
الله تعالى دينا غيره ولا يرضى لعباده ملة غيرها. وحقا ويقينا لا يبلغنا ما بعث به
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا محرفا كما وقع لما بعث به موسى وعيسى
عليهما الصلاة والسلام حرفه الأحبار والأساقفة. فالحمد والمنة والمجد والثناء لله
الواحد القهار على ما قيض من علماء السنة والجماعة حماة لدينه وهداة لخلقه في كل
عصر ومصر وجعله سنة فلا تبديل لسنة الله ولا تحويلا. فمن آثار قيامهم بواجب العلماء
أحسن قيام ومن علامات إخلاص نياتهم أن بتر الله تعالى نسل كثير من هذه الفرق
الضالة حتى لم يبق لهم عقب ولا ذكر على سطح الأرض. فيا لها من الحقوق لهم على
اللأمة المسلمة، فهم مدينون بهم بكل معنى الكلمة. شكر الله تعالى سعيهم وجعله
مونسا في وحشاتهم ومائلا بدفة حسناتهم ورزقهم به عيشة راضية.
0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا