ادعمنا بالإعجاب

مذكرات الشيخ أبي الحسن الندوي في منظور أدب إسلامي

محمد ضياء الدين الوافي، كنيالا، فتكاد
التمهيد :
إن الشيخ أبا الحسن علي بن عبد الحي بن فخر الدين الحسني الندوي الهندي رحمه الله كان من أعظم المفكرين في العالم الإسلامي الحديث. وهو يعد شخصية فريدة قل نظيرها في العالم. فقد جمع من الفضائل والمكارم ما جعله محل تقدير لدى كل متتبع لمراحل حياته، فهو عالم، وأديب، ومؤرخ، وداعية، وسائح. تشهد بذلك مؤلفاته المتنوعة التي غطت مجالات معرفية كثيرة وبلغات متعددة.

وكان الشيخ كثير السفر لدول العالم، لنصرة قضايا المسلمين والدعوة إلى الإسلام وشرح مبادئه، وإلقاء المحاضرات في الجامعات والهيئات العلمية والمؤتمرات. فقد درس في أماكن كثيرة وعلى أيدي علماء عديدين واشتهر بالعمل المتواصل في التدريس والكتابة والدعوة إلى الله ولقاء العلماء وإرسال صيحات التنبيه والتذكير في الأمة في كل ميدان وبكل وسيلة، ولذلك سافر كثيرا في ربوع العالم الإسلامي بهذا القصد.
المذكرات الرحلية في منظور الشيخ الندوي :
كان الشيخ الندوي في فن المذكرات الرحلية يعني أدب الرحلة بعيداً كل البعد عن انشغال الرحالة عموماً بوصف البنيان والانبهار أمام العجائب والتعليق على الغرائب من الطباع ولقاء الملوك والسلاطين ووصف الأطلال والعاديات. وذلك لانشغاله بالبحث عن أحوال المسلمين في البلاد التي زارها والالتقاء بعلمائهم ومفكريهم وربط حاضرهم بماضيهم وإلقاء الموعظة في جموعهم والتدارس مع زعمائهم حول أنفع السبل لكشف الغمة عن الأمة، وإحياء الشعور الديني والسعي نحو الوحدة الإسلامية... وهذا نمط من الرحلات يستحق منا الوقوف معه طويلا.

وكانت رحلاته من قصار الرحلات حيث لم تستغرق من الزمن إلا يسيرا، كما أنها في مسيرها لم تلم بالبلدان إلا قليلا، إلا أن المرء يقف أمام تلك الرحلة معجباً بشخصية الرحالة الندوي من جهة، وبأهدافه ووقفاته الإسلامية وتطوافه من جهة أخرى. حيث دعا إلى ضرورة التسجيل المباشر للأحداث والمشاهدات والانطباعات، وأهمية النظرة الشاملة للمجتمع الذي يكتب عنه الرحالة وأهمية ظهور ذات الأديب بعاطفته وعقيدته في أدب الرحلة. وطبق هذه النظرات تطبيقا حسنا في كتابيه ‘مذكرات سائح في الشرق العربي’ و ‘أسبوعان في المغرب الأقصى’. وقدم الشيخ في هذين الكتابين أنموذجاً متميزاً وطريقاً واضحاً لمن يريد الكتابة في هذا النوع من الأدب[1].
تأثير الرحلات في حياة الندوي :
طبعا، إن الرحلة في حياة الشيخ الندوي هي الدافع لمعظم كتاباته. ومن خلال قراءة كتاب السيد عبد الماجد الغوري ‘رحلات العلامة أبي الحسن علي الحسني الندوي’ يتضح هذا الأمر. ومع ذلك، إن كانت كتب الرحلات مفعمة بالقصص والحكايات الحقيقية أو الخيالية، إلا أن الندوي يخالف لهذا الحال حيث يقدم رسالة سامية تحمل هدفا ساميا هو الدعوة إلى الله ورفعة شأن المسلمين.
وعند ما نبحث عن أسباب رحلاته نجد أن طلب العلم كان من الأسباب الرئيسية التي دفعته للرحلة خارج الهند وداخلها، كما كانت رحلة الحج رحلة تاق إليها قلبه منذ صغره. وإن كان ارتحاله لأداء مهمة أو عمل بجامعة أو مؤسسة فإنه علاوة على هذا القصد يهدف أساسيا الدعوة إلى الله. فليس عنده مكانة وأهمية للرحلة الشخصية المعتادة المعروفة لدى سائر الناس.
جلّ مذكراته في لفتة واحدة :
كان الشيخ الندوي دائما يضع نتائج رحلاته في مقالاته التي كان يكتبها إثر كل رحلة. وإليك بعض مذكراته و محاضراته المهمة التي ألقاها في رحلاته إلى نواحي العالم الإسلامي وغيره في مختلف السياق والمواقع. وفي أول رحلته إلى خارج الهند وجد فرصة سانحة لإلقاء سلسلة من الأحاديث على إذاعة جدة، فألقاها بعنوان : "بين العالم وجزيرة العرب". وعند ما زار مصر أولا حضر ندوة دعوية في منزل سيد قطب حول كتابه: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين". وفي الرحلة نفسها نشرت رسالته بعنوان ‘اسمعي يا مصر’ علَّق عليها سيد قطب قائلا : "قرأت ‘اسمعي يا مصر’ ويا ليت مصر قد سمِعَتْ!". وطبعت مذكراته في الرحلة الطويلة إلى فلسطين والأردن بعنوان ‘مذكرات سائح في الشرق الأوسط’. سافر إلى تركيا ومكث فيها أسبوعين، وكتب مذكراته في هذه الرحلة بعنوان ‘أسبوعان في تركيا الحبيبة’.
ارتحل إلى لندن رحلته الرابعة بمناسبة تأسيس مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، وألقى في تلك المناسبة مقاله القيم بعنوان ‘الإسلام والغرب’. وكان سفره إلى بخارى للحضور بمناسبة تأسيس مركز علمي تذكارا للإمام البخاري رحمه الله. وكذلك ألقى عدة محاضرات قيمة في كل من جامعة كولومبيا، وجامعة هارفرد، وجامعة دترايت، وجامعة جنوب كيلي فورنيا، وجامعة أوتا، وفي قاعة الصلاة بالأمم المتحدة وما إليها[2].
مذكراته التاريخية الرحلية :
يرتحل الشيخ الندوي في التاريخ ويدون مشاهداته لنا، لأنه يتجول أحيانا عبر التاريخ. يغمض عينيه وتتراءى أمامه صور الماضي وعظمة الإسلام، ويظل يطالع هذا التاريخ حتى ينتبه إلى الواقع، وكان الشعور التاريخي لا يفارقه أبدا وقد اعترف بهذا حين قال : "عفا الله عن المؤرخين والمشتغلين بالتاريخ. إنهم لا يفارقهم الشعور التاريخي والتفكير التاريخي في أقدس مكان وأفضل زمان. إنهم أينما كانوا يعيشون فيما درسوه ويصلون الحاضر بالماضي"[3].
وكذلك دون الشيخ الندوي مشاهدات إقبال في رحلته إلى جزيرة العرب. فهو حريص على أن يحكي رحلة إقبال وهو قادم إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الشاعر إقبال عاشق الرسول ومحب المدينة، كلما ذكر المدينة فاضت عيناه وهطلت الدموع منهما، فلم يقدر له الحج وزيارة المسجد النبوي بجسمه الضعيف لما عاناه من الأمراض والأسقام، ولكنه رحل إلى الحجاز بخياله الواسع القوي[4].
فرحلاته صدرت عن مستوى أدبي رفيع ضمنها الأشعار والأمثال والحكم ، وأدمج في سطورها آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية التي ربما احتاج إليها للتعليق على موقف أو الفصل في قضية ما.
اهتمامه بالمذكرات في منظور الأدب الإسلامي :
اهتم الشيخ بمذكراته الرحلية اهتماما بالغا، واعتنى بها عناية خاصة، ومارسها كتابة وتنظيرا منذ الخمسينيات محاولا التجديد فيها شكلا ومضمونا. وقد وجه جل اهتمامه إلى ربطها بالرؤية الإسلامية، وإدخالها في دائرة الأدب الإسلامي بعد ما لاحظ أن كثيرا من الأدب لا ينطلق من مبادئ واضحة في الفكر والتصور، ولا يعبر بصورة جيدة عن عاطفة الأديب وعقيدته، مما يفقده طابعه الفني الذي يمنحه الحياة والجمال، ويخرجه عن خطه الالتزامي بوصفه تجربة إنسانية تستحق الذكر والتنويه. وآراء الشيخ النقدية في هذا الفن الأدبي تتمحور حول ثلاثة مقاصد :
أولا: يركز الشيخ الندوي على أهمية النظرة الشاملة للمجتمع الذي يكتب عنه الرحالة، فقد لاحظ أن كثيرا من كتب الرحلات يغلب عليها الجانب الجغرافي، وتعتني بالآثار والمشاهد أكثر من أي شيء آخر، ولا يتناول في الغالب إلا جانبا من جوانب الحياة يتلاءم مع ذوق الأديب. فإذا كان الرحالة أديبا مثلا اقتصر على ذكر الأدباء المشهورين وتصوير الحياة الأدبية في تلك البلاد. وإذا كان مؤرخا اهتم بذكر الجوانب التاريخية وكل ما ينبث بصلة إلى ماضي تلك البلاد. وهذا لا يعطي صورة متكاملة عن المجتمع والحياة، والعلاقات وأنماط السلوك السائدة، والعادات والتقاليد وغيرها من الأمور المهمة في أدب الرحلة.
ثانيا: ينبه الشيخ الندوي أيضاً إلى ضرورة التسجيل المباشر للأحداث والمشاهدات من قبل الأديب لتبقى المشاعر والانطباعات حية في الذاكرة. لأنه إذا مر عليها زمان ولم تسجل فستفقد حيويتها وصدقها، فالأحداث والمواقف أشبه بالظلال والأمواج لا تدون ولا تبقى في الذهن، ولا يستطيع الأديب أن يستعرضها بدقة وعناية بعد مرور فترة من الزمن، ولا يستطيع أن يستعيد ما شعر به، وما ترك الحادث فيه من أثر نفسي.
ثالثا: ويؤكد الشيخ الندوي دائما أهمية ظهور ذات الأديب وشخصيته في أدب الرحلة، فلا بد أن يعكس عاطفته وعقيدته في عمله، لأن هذا العمل إذا تجرد من العاطفة والعقيدة والمشاعر تحول إلى آلة تصوير باردة لا تؤثر في النفس، ولا تصلح للبقاء. نرى توفيق رؤيته الإسلامية للأدب في كتابيه في أدب الرحلات ‘مذكرات سائح في الشرق العربي’ و ‘أسبوعان في المغرب الأقصى’[5].
وهنا دراسة تحليلية عن مذكراته في الرحلة إلى الشرق العربي المؤلفة باسم: ‘مذكرات سائح في الشرق العربي’. ودراسة تعريفية في مجمل القول عن مذكراته خلال سفره إلى المغرب الأقصى المدونة باسم: ‘أسبوعان في المغرب الأقصى’.
الكتاب الأول : مذكرات سائح في الشرق العربي :
في مستهل العام الحادي والخمسين وتسعمائة وألف الميلادي، الموافق عام سبعين وثلاث مئة وألف الهجري، قام سماحة العلامة السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي بجولة دعوية وسياحة علمية أدبية لبلدان الشرق العربي، وفي مقدمتها مصر التي كانت قد سبقت إليها معرفته كداعية مخلص، ومفكر إسلامي كبير، وكاتب باللغة العربية قدير.
تميزت سياحته لبلدان الشرق العربي والعواصم العربية بطابع دعوي وفكري، ولون توجيهي تربوي، يتطلع فيها صاحبها نحو التعرف على الأعمال الدينية والحركات الفكرية، والتطورات العقلية التي يعيشها الشعب المسلم في مجالات الحياة المختلفة بتأثير الحضارات المادية الغربية والعقل الأوروبي.
إن السائح العبقري الجليل أدرك بذكائه وفي ضوء مشاهداته أن أمة الإسلام في هذه الديار تعيش مرحلة الانتقال من عهد الاستعمار والاستعباد إلى عهد الاستقلال والانفتاح، فهي بأمس حاجة لأن تعاد إليها ثقتها الكاملة بالإسلام وإلى نفسها من جديد، وتنقى أفكارها من شوائب الحضارة الغربية وإغراءاتها المادية.
كان المفكر الإسلامي الكبير العلامة الندوي قد أعد العدة قبل أن يبدأ رحلته هذه، وخرج لسياحة الشرق العربي وزيارة عواصمه الكبيرة. وبدأ رحلته من جدة إلى السويس على متن سفينة أوندا الإيطالية برفقة عدد من تلاميذه وأصدقائه، وكان سائق الشوق يحدوه إلى زيارة هذا البلد العربي والنزول بأرضه والاطلاع على معالمه ومراكزه ولقاء رجاله وأبنائه، وكان يبث أشواقه وآماله، إلى أصحاب الامتيازات والمسؤوليات وقادة الفكر، ويحقق أمنيته التي طالما راودته لزيارة هذا البلد العريق في العلم والأدب والدين، إنه تحدث عن هدف هذه السياحة والغرض الذي أراده من خلال هذه الرحلة المهمة في مقدمة كتابه ‘مذكرات سائح في الشرق العربي’ فيقول :
"خرجت في رحلة إلى عواصم الشرق العربي، ليدرس وضع هذه الأقطار الديني والعلمي والاجتماعي، ويتعرف برجالاتها وقادة الفكر فيها، ويتذاكر معهم في الشؤون الدينية والعلمية والقضايا الإسلامية، والمناهج الإسلامية، والمشاريع التعليمية، ويعرّفهم ببلاده شبه القارة الهندية... ويستفيد مما جدّ في العالم العربي، من آراء ونظريات، ونشأ من حركات ودعوات، ونبغ من رجال وشخصيات، وقام من مدارس فكرية ومؤسسات، وظهر من أساليب وثار من مشاكل، وقد أراد الله أن ينشأ قبل أن يزور هذا البلد نشأة علمية دينية أدبية.. يتذوق الشعر والأدب، والتاريخ والاجتماع، والحضارة وفلسفة الحياة، وقد مارس الحياة العلمية، وعمل في حقل الإصلاح والدعوة، وباشر مهنة التعليم، وعالج الكتابة والتأليف، وعرف الأساليب الأدبية، والمدارس الفكرية والاتجاهات المتعارضة في مصر والشام، فزار هذه البلاد على بصيرة وبينة من الأمر وبعد أن لم يكن ينقصه إلا اللقاء".[6]
وقد حرص في هذه الرحلة على تسجيل كل حديث، وكل انطباع في يومه غالبا، وأن يتحرى الدقة في النقل، والصحة في الرواية، هذا فضلا عن حرصه على تصوير المجتمع بنظرة متكاملة، وإبراز شخصيته ومشاعره وأفكاره وما يجول في خاطره حول كل حادث وموقف عاشه أثناء الرحلة، وقد تميز هذا الكتاب بجملة من الخصائص الفكرية والأسلوبية تتمثل فيما يأتي :
الأفكار والمشاعر المعروضة في الكتاب :
إن قارئ هذه المذكرات يدرك أن كاتبها حريص على رسم صورة متكاملة الجوانب للمجتمع الذي عايشه في تلك المرحلة من حياته. ويستطيع القارئ أن يأخذ فكرة واسعة عن الحياة الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية، وأن يعرف التيارات الثقافية، المستويات الحضارية لتلك المجتمعات المتنوعة، مما يعطي هذا العمل قيمة تاريخية وحضارية مهمة فضلا عن القيمة الأدبية والفكرية التي اكتسبته طابعه المتميز. والدارس هذه المذكرات يلاحظ اهتماما كبيرا بالجوانب الدعوية الأدبية، لعلاقتها المباشرة بشخصية الكاتب، فهو رجل يحمل رسالة فكرية حضارية ويعيش الهم الإسلامي، ويحس ويشعر بآلام المسلمين ومشكلاتهم في هذه البلدان التي زارها، وهو من ثم رجل فكرة ودعوة يريد التعبير عن مشاعره وتجسيد عقيدته بجلاء ووضوح في هذا العمل، وهو الأمر الذي طالما أكده في نظراته النقدية لأدب الرحلات[7].
القضايا المعروضة في الكتاب :
ويمكن إجمال القضايا المعروضة في هذه المذكرات في فكرة واحدة وهي: إن الشيخ الندوي يتألم للواقع الإسلامي المؤسف بمستوياته المختلفة، فهناك أزمة حضارية في البلاد العربية، والسبب يعود إلى تفسخ في الأخلاق، واستبداد في الحكومات، والاستقطابات الحزبية في السياسة، وانصراف بالكلية عن الدين، وعبادة المادة. ولا سبيل إلى التحضر إلا بوجود الشعور الديني الصحيح القوي في الشعب، ولا يكون هذا إلا عن طريق الدعوة العامة، والاتصال بالشعب وتربيته الدينية وإيجاد الوعي في طبقاته ثم في الجمع بين العلم الديني والمعارف العصرية.
ويؤكد الشيخ الندوي أن استعادة روح التحضر إلى المجتمعات الإسلامية لا يمكن أن تكون إلا بالجمع بين العاطفة القوية، والعقل الصحيح، أي بتحقيق شروط الاقتناع التام لقوى النفس المسلمة لتتولد لديها الإرادة الكافية للانطلاق نحو العمل والحركة والإبداع[8].
أسلوب الكاتب :
تميز أسلوب الكاتب في هذه المذكرات بوضوح العبارة، وسلامة الألفاظ، ودقة المعاني. فالكاتب كما يظهر يحب الاسترسال في الكتابة مع البعد عن التكلف والتصنع مما أكسب كتابه أسلوبا يجمع بين الفائدة والمتعة، وقد جاء الكتاب وكأنه قطعة من مؤلفه، فالأسلوب هو الرجل كما قرر النقاد، ويكفيك أن تقرأ هذا الكتاب لتعرف جوانب كثيرة من شخصية كاتبه، ومنهجه في الكتابة الأدبية.
ومما يجذب الانتباه في هذه المذكرات اهتمام الشيخ الندوي بموضوع أسلمة الأدب، وضرورة قيام جبهة قوية ضد الأدب المنحرف الذي أثر تأثيرا سيئا في الأمة وأسهم في إفساد الطبائع والأخلاق، وشارك مشاركة أكيدة في تردِّي الأمة الحضاري.
يقول القرضاوي : "لقد وجدنا في رسائل الشيخ لغة جديدة، وروحا جديدة، والتفاتا إلى أشياء لم تكن نلتفت إليها. إن رسائل الشيخ هي التي لفتت النظر إلى موقف ربعي بن عامر رضي الله عنه أمام رستم قائد الفرس وكلماته البليغة له، التي لخصت فلسفة الإسلام في كلمات قلائل، وعبرت عن أهدافه بوضوح بليغ، وإيجاز رائع : "إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام". فالشيخ أبو الحسن الندوي - فيما أعلم - هو أول من نبهنا إلى قيمة هذا الموقف وهذه الكلمات، ثم تناقلها الكاتبون بعد ذلك وانتشرت"[9].
الكتاب الثاني : أسبوعان في المغرب الأقصى :
قام الشيخ أبو الحسن الندوي برحلة إلى المغرب الأقصى سنة 1976م لحضور مؤتمر حول الجامعات الإسلامية، وقضى أياما وزار خلالها مناطق مختلفة من هذا البلد الجميل، واطلع على آثاره ومكتباته وتعرف على شعبه وعلمائه، وكتب هذه المذكرات معبرا فيها عن مشاعره وانطباعاته بأسلوب جميل بليغ. يغلب على هذه المذكرات الطابع التاريخي، غير أن كاتبها حرص على تسجيل انطباعاته عند كل مشهد أو موقف يتعرض له، فجاء الكتاب مصورا لجوانب من الحياة بمستوياتها المختلفة في هذا البلد الإسلامي، ومعبرا عن شخصية الكاتب الذي ينطلق دائما من فكره وعقيدته وعاطفته الإسلامية حين يتعامل مع الأشخاص أو الأفكار أو الأشياء.
رؤيته وتبصره في هذه المذكرة :
ويرى كاتب هذه المذكرات أن أكبر ما يعانيه العالم الإسلامي من الفراغ والعوز وأشد ما يقاسيه من أزمات، هو الضعف الإيماني والفساد الخلقي والتزعزع العقيدي، يقول : "ألقِ نظرة على العالم الإسلامي وانظر ماذا يعوزه، إنه غني بكل شيء، بعدد أفراده، وبوسائله وبثرواته، وبثقافته وبذكائه، ولكنه على الرغم من ذلك كله لا يملك ثقلا في الميزان العالمي، لا دورا مؤثرا في اتجاهات العالم أوضاعه وحوادثه، والأزمة الإيمانية هي سبب هذا التراجع الحضاري"[10].
ويدعو الشيخ الندوي إلى ضرورة التمسك بقيم الحضارة الإسلامية، وطابع الأمة الخاص، والاستفادة من الحضارة الغربية في مجالاتها الإيجابية وتجاربها المفيدة التي تتفق مع تعاليم الإسلام، كي يعود للأمة عزها ومكانتها في العالم. ويبقى أن نشير إلى أن هذه المذكرات كتبت بأسلوب جميل مؤثر، على الرغم من ترجمتها من الأردية إلى العربية.
الدافع إلى تدوينها وإصدارها :
ومن المفهوم، أن الأمر الذي دفعه إلى نشرها وإخراجها في صورة كتاب، هو ما فيها مما يحرك همم الإسلاميين ويشحذ عزائهم، وكذلك فيها موعزة وذكرى للذاكرين. وقد رأى المؤلف أن يتصدر المذكرة استعراضا موجزا لتاريخ المغرب والتطورات والتقلبات التي عاشها عبر الأدوار، وقصة الرقي والانحطاط التي مر بها، والحضارة والثقافة والمدينة التي عاش في حضنها، حتى لا يشعر القارئ بالصعوبة في فهم القصة وأدوارها حين لا يكون قد اطلع على الخلفيات، كما رأى أن يلحق به الكلمة التي بدأها في الرباط، بعنوان ‘نحن الآن في المغرب’، والتي ذكر من خلالها أبناء المغرب الأقصى، بتاريخهم الزاهر الزاهي وماضيهم المجيد العتيد، كما حذرهم من الأخطار التي تحدق بهم، وكادت تأتي عليهم، والواجبات التي تعود عليهم، والمسؤوليات التي تقع على عواتقهم، وقد جاءت فيها عصارة دراسة المؤلف وتجاربه، وأخلص فيها النصح إلى القادة وأولياء الأمور. وقد زادت قيمة الكتاب زيادة كبيرة مقدمة صديق المؤلف ‘عبد السلام القدوائي الندوي’، وكانت له عناية بالمغرب الأقصى وأسبانيا، وتاريخها منذ البداية، وعاش على الحب لهذه الأرض، وله نظر عميق واطلاع دقيق على تاريخها[11].
الخاتمة :
سار الشيخ أبو الحسن الندوي في حياته سيرة المسلم المخلص لله ورسوله. فدعا إلى الإسلام بالقدوة الحسنة، وبكتبه القيمة ومذكراته المفيدة، وبسياحته التي حاضر فيها، ووجه وأرشد، فجزاه الله خير ما يجزي عالما عن دينه. توفي الشيخ في يوم الجمعة، وذلك في شهر رمضان المبارك أثناء اعتكافه بمسجد قريته ‘تكية’ بمديرية ‘راي باريلي’ في شمال الهند سنة 1419هـ /  1999م. وجرى دفنه مساء نفس اليوم، في مقبرة أسرته بالقرية في حضور الأقارب والأهالي، وبعض مسئولي ندوة العلماء، التي ظل مرتبطا بها طيلة حياته الحافلة بالجهاد والدعوة، طوال 86 عاما هي عمره رحمه الله. وقد توالت التعازي من مختلف أنحاء الهند والعالم، وأقيمت عليه صلاة الغائب في مختلف المناطق.
المصادر والمراجع :
    1.     الندوي، الشيخ أبو الحسن علي، مذكرات سائح في الشرق العربي.
     2.     الندوي، الشيخ أبو الحسن علي، أسبوعان في المغرب الأقصى.
    3.     الندوي، الشيخ أبو الحسن علي، الطريق إلى المدينة.
    4.     الندوي، الشيخ أبو الحسن علي، روائع إقبال.
    5   .     الغوري، السيد عبد الماجد، رحلات العلامة أبي الحسن علي الحسني الندوي.
6.     مجلة الداعي، دار العلوم، ديوبند، العدد : 6 ـ 7 ، السنة : 37
7.     صحيفة أرجاء، http://www.arjja.com
      8.     موقع روائع الإسلام،  http://www.rawaealislam.com
         9.     موقع إسلامية المعرفة، http://eiiit.org/resources
10.                       رابطة أدباء الشام، http://www.odabasham.net
        11.                       موقع القرضاوي،  http://qaradawi.net
        12.                       موقع النيل والفرات، http://www.neelwafurat.com 
        13.                       موقع الصوفية، http://www.alsufi.net
      1  4.                       موقع  طريق الإسلام، http://ar.islamway.net





[1]  : موقع روائع الإسلام ـ مقالة عن ‘الرحلات الشهيرة في الأدب العربي’ للشيخ عبد الله نجيب سالم ـ http://www.rawaealislam.com/pages/posts/-518.php?p=15
[2]  : مقالة عن الشيخ أبي الحسن علي بن عبد الحي بن فخر الدين الحسني ـ بقلم : محمد طارق زبير الندوي ـ من موقع  طريق الإسلام ـ http://ar.islamway.net/scholar/1494
[3]  : الطريق إلى المدينة للسيد أبي الحسن علي الحسني الندوي، ص : 38
[4]  : روائع إقبال للسيد أبي الحسن علي الحسني الندوي، ص : 117
[5]  : موقع إسلامية المعرفة  ـ الأدب الإسلامي ونقده عند الشيخ أبي الحسن الندوي ـ http://eiiit.org/resources/eiiit/eiiit/eiiit_article_read.asp?articleID=699
[6]  : من كتاب ‘مذكرات سائح في الشرق العربي’ للشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي ـ ص 48
[7]  : رابطة أدباء الشام ـ ملامح الأدب الإسلامي في كتابات الشيخ أبي الحسن الندوي مع دراسة تطبيقية على أدب الرحلات ـ http://www.odabasham.net/show.php?sid=32384
[8]  : نفس المرجع السابق
[9]  : من موقع القرضاوي ـ الحلقة 37 ـ زيارة الشيخ أبي الحسن الندوي لمصر ـ http://qaradawi.net/component/content/article/5477.html
[10]  : كتاب ‘أسبوعان في المغرب الأقصى’ للشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي ـ ص : 113
[11]  : من موقع النيل والفرات ـ نبذة عن كتاب ‘أسبوعان في المغرب الأقصى’ 

مواضيع ذات صلة
الأدب العربي العالمي, الندويات, نداء الهند،,

إرسال تعليق

0 تعليقات