ادعمنا بالإعجاب

من مآثر دولة المماليك بالهند

الدكتور محمد يوسف 
جامعة كراتشي- باكستان


من المصادفات ذات الأهمية الكبرى أن يكون أول مؤسس للدولة الإسلامية المستقلة بدهلي عبدا مملوكا، أعني قطب الدين أيبك الذي سعى بجد وإخلاص وكفاءة ممتازة لنشر نور الإسلام وتقوية دعائمه من الناحية السياسية والعسكرية والأخلاقية داخل الهند في القرن السابع الهجري – حا ليس الأمر بدعا في التاريخ الإسلامي، فإن المماليك حكموا مصر والبلاد الإسلامية الأخرى أحقابا طويلة، إلا أن أخص ما يمتاز به المجتمع الهندوكي، وهو نظام الطبقات المبني على أساس التمييز بين الناس من حيث السلالة والمولد، بحيث يكون البراهمة في الطبقة العليا والمتبوذون في الطبقة السفلى، وقد كتب للمنبوذين الأستسلام للرق والانخراط في المهن الوضيعة مؤبدا وحظر عليهم الاحتكاك بالطبقات العليا بأي شكل من الأشكال، ولا يسمح لهم بالمؤاكلة أو المجالسة أو الاشتراك مع غيرهم حتى في الاستقاء من الآبار يرتقي عرش دهلي مملوك من المماليك إيذانا بمجيء الحق وزهوق الباطل وإلغاء للفروق بين الناس حتى يرجعوا أحرارا كما ولدتهم أمهاتهم، والحقيقة أن حياة قطب الدين منذ الصغر وفي مختلف أدوارها تمثل المبادئ الإسلامية بأسمى معانيها من البر بالمماليك وتربية الصغار منهم وتعليمهم أسوة بالأولاد وأهل البيت، ثم تقليدهم المناصب الكبرى في الجيش والغدارة حسب مقدرتهم وكفاءتهم.لقد كان قطب الدين سعيد الحظ إذا التحق مملوكا صغيرا بخدمة القاضي فخر  الدين عبد العزيز الكوفي، الذي كان من أحفاد أبي حنيفة وكان يعرف بإمام عصره مع توليه الحكم بتيسابور وما حواليها، فبدأ قطب الدين يدرس القرآن بعناية فائقة ويختلف إلى الكتاب والمدرسة مع أولاد القاضي فخر الدين حتى عرف بلقب "القارئ" من بين المماليك الأتراك الذين كان دينهم الألعاب الرياضية والنرد والشطرنج فحسب، ومهر قطب الدين أيضا في أعمال الرمي والفروسية، حتى إذا شب وكمل ساعدته الأقدار مرة أخرى فانتقل بعد وفاة القاضي فخر الدين إلى ملك السلطان معز الدين سام المعروف بشهاب الدين الغوري، فتوسم فيه السلطان بنظره الثاقب مخايل العظمة والنباهة مع أنه كان قبيح المنظر وكانت أصابعه غير سليمة، مما جعله يلقب بـ "أيبك" – الكلمة التركية التي تشير إلى تلك العاهة بالذات، وكلما منحه السلطان منحة بادر إل توزيعها على المماليك الآخرين بدون أن يستأثر هو بها، وإلى جانب مظهر الجودة والسخاء هذا كانت له مواقف مشهودة في الحرب أيضا، إلى أن هاجم السلطان شهاب الدين وسط الهند ففتح (اجمير) وتغلب على دهلي ثم عزم على الرجوع إلى عزلة، فخلف وراءه قطب الدين كتائبه العام والقائد الأعلى للقوات المسلحة في الهند، فأحكم قطب الدين أمر البلاد المفتوحة واغتنم كل فرصة لتوسيع نطاق الفتوح وبنى قاعدة حكمه في دهلي، ومما يذكر أنه بقي دائما مخلصا في ولائه لولي نعمه يأتمر بأمره ويبغي رضاه في جميع تصرفاته، بصحبه في غزواته إذا حضر قويت شوكته ووطئت خيوله أرض جزرات إلى إقليم بنغاله – ولما استشهد السلطان شهاب الدين لم يفكر قطب الدين لحظة واحدة في الاستبداد بالأمر والاستقلال بالمملكة الهندية، بل ما زال مواليا للأسرة المالكة إلى أن تقدم السلطان محمود، ابن أخي السلطان شهاب الدين وملك غزلة الجديد، تقدم من تلقاء نفسه إلى خلع لقب السلطان على قطب الدين وتقليده الإمارة المستقلة في الهند، فكانت المعاملة بينه وبين الأسرة المغورية آية في الوفاء ونيل النفس والمجازاة على حسن العمل من الجانبين – كان طب الدين ورعا تيا حازما في السياسة الشرعية، لم يتوان في إقامة الحدود فرفع المكوس غير الشرعية عن أموال الناس وبسط العدل حتى قضى على جميع نزعات التعصب للجنس والوطن فتفانى التركي والخراساني والأفغاني والهندي كلهم في خدمة الإسلام وأعلاه كلمة الله وضبط الأمور بحزم حتى استتب الأمن ونشطت حركة التجارة والصناعة فتوفر الرخاء، كما أنه شجع الآداب والعلوم الإسلامية حتى تكفل العلماء ضرورات التشريع والوعظ والإرشاد، فخلاصة القول أن عهد قطب الدين المملوك التركي المملك، كان خير تعريف بالإسلام في أرض الهند المنكوبة بإهدار كرامة الإنسان وسيادة نظام الطبقات.شاءت حكمة الله أن يتم بناء قاعدة الحكم الإسلامي بدهلي على يد عبد مملوك، أعني قطب الدين أيبك الذي خدم الأسرة الغورية بولاء وإخلاص وتقلد الإمارة المستقلة بالهند بجدارة وكفاءة، ثم أراد الله أن يؤكد العدل الاجتماعي والمساواة بين الناس في الإسلام للهنود المنكوبين بنظام فقضى أن يخلف قطب الدين أيبك مملوك آخر يفوق أقرانه بأدبه في الحرب والسياسة فيملك برضا الخاصة والعامة، ألا هو شمس الدين ايلتتمش الذي تولى زمام الحكم بدهلي في أوائل القرن السابع للهجرة – لقد ابتلى ايلتتمش منذ الصغر بوقائع غريبة ذات عبر، فإنه ولد في بيت سؤدد وإمارة، كان أبوه أيلم خان شيخا من شيوخ القبائل بتركستان، مشهورا بكثرة خدمه وأعوانه، وكان ايلتتمش أعز أبنائه لديه لحسن صورته واعتدال سيرته، مما أثار الغيرة والحسد في سائر أولاده، فلم يكن منهم إلا أن كادوا له كما كاد أبناء يعقوب لأخيهم يوسف – نعم ! تآمر إخوة ايلتتمش عليه فاستدرجوه يوما للهو والصيد وباعوه لنخاس جلبه إلى بخاري حيث ملكت ايلتتمش أسرة ممتازة بالعلم والفضل، فتربى ايلتتمش بأحسن حال وأنعم بال أسوة بأولاد مواليه الأحرار، فتحلى بالعلوم والآداب والفضائل النفسية، ولاسيما الصدق في القول والإخلاص في العمل، ثم كان من حظه أن انتقل من بيت العلم والفضل إلى بيت الفقر والرياضة الصوفية، أي أنه بيع مرة أخرى فملكه الحاج جمال الدين، أحد المتصوفة ببغداد التي كانت تعج إذ ذاك بأقطاب الصوفية، فأتيح لايلتتمش الالتقاء بأمثال الشيخ شهاب الدين عمر السهرودي والشيخ أوحد الدين الكرماني، كان ايلتتمش غلاما في الثانية عشر من عمره، يتعهد إسراج الشمع وخدمة الشيوخ بينما هم يسهرون الليالي في الأذكار والأوراد، إلى أنه كان دائما يلفت أنظار الشيوخ إليه فكانوا يخصونه بالعطف وللتوجيه والإرشاد، وربما رأوا فيه مخابل العظمة والنباهة فبشروه بالأمر والحكم وأخذوا منه عهدا أن ينيب إلى الله في جميع أعماله ولا يتوانى في أعلاه كلمة الله ونشر الفضائل الإسلامية، ثم قدر له أن يتدرج من بيتي العلم والتصوف إلى بيت الإمرة والجهاد في الحرب، فباعه الحاج جمال الدين من قطب الدين أيبك، قرعاه قطب الدين أيبك حق رعايته على قدم المساواة مع أولاده، وأعجب به أي إعجاب لما أبداه من استعداد تام لأعمال الفتوة والحرب مع البراعة في تدبير الأمور وسياسة البلاد، وقد أبلى ايلتتمش بلاء حسنا في عدة حروب ولاسيما في منطقتي (جوليار) و (بدايون) بشمال الهند، كما أنه امتاز بالحزم واللباقة في إدارة المنطقتين حتى مع الأعداء والمشاغبين وأقام العدل والنظام، ولم يعجب به قطب الدين أيبك فحسب، بل أعجب به مولاه السلطان شهاب الدين الغوري إلى حد أنه أوصى أيبك بتحرير رقبة ايلتتمش، فأعتقه أيبك وزوجه ابنته، وهكذا سجل التاريخ كيف يكون الرق وسيلة للعلم وتزكية النفس وممارسة آداب الحرب والسياسة والحصول على الإمرة والحكم والالتحاق ببيت الرئاسة بالزواج – وأخيرا لم يوجد أحد أحق منه بالخلافة وأجدر منه بالرئاسة بعد وفاة قطب الدين أيبك فاختاره أهل الحل والعقد ورضي به الخاصة والعامة – ويشهد التاريخ بأنهم كانوا موفقين في اختيارهم له، إذ لم يكن بدعا منه بعد تدرجه في مراحل التربية السالفة الذكر أن يكون ملكا نقيا ورعا حتى أنه بلغ مرتبة الزهاد والصوفية، إلا أنه لم يبلغ به الزهد إلى أن يهمل أمور الدنيا وبغفل عن سياسة المملكة، كذلك لم يمل كل الميل لا إلى العلماء والفقهاء ولا إلى الزهاد والصوفية، فإن الفتتين مع الأسف كانتا تتناحران وتكيلان التهم كل واحد ضد الأخرى، لكن ايلتتمش أبى أن يدم إحداهما على الأخر، فإلى جانب إكرامه للصوفية لم يقصر في تنفيذ أحكام الشريعة والأخذ برأي الفقهاء في القضاء والحكم بين الناس، وكان يستمع إلى توجيهات الصوفية ونصائح الفقهاء على السواء وربما كان العلماء والفقهاء أشد وأبلغ في تذكيره بواجبات الملك من الصوفية، ومن مآثره الخالدة أنه أشرف بنفسه على تأسيس مدارس حكومية للآداب العربية والعلوم الإسلامية، أسس المدرسة المعزية بدهلي و (يدايلون) تخليدا لذكرى مولى مولاه، معز الدين الملقب بشهاب الدين الغوري، ولم يكن اهتمامه بمرافق الحياة العامة أقل من اهتمامه بالعلوم والآداب، فقد بنى خزانا للماء عرف بالحوض الثمي وقد أطنب في وصفه أبن بطوطة لدى زيارته للبلاد في زمن متأخر، فخلاصه القول أن ايلتتمش كان عديم النظير في الجمع بين الدين والدنيا والاهتمام بالظاهر والباطن على حد سواء، رحمه الله وجزاه عن المسلمين وعن الإسلام خير الجزاء.لقد كانت دولة المماليك بدهلي آية من آيات الله، فإنها مثلث مبادئ الإسلام السمحة خير تمثيل وأقامت مجتمعا يسوده العدل والمساواة ورفعت منار العلم والتقوى في بلد كان البراهمة يستأثرون فيه لا بالسؤدد والحكم فقط، بل بالعلم والعرفان أيضا، فإنهم كانوا قد حظروا على المستعبدين من عامة الناس حتى الإطلاع على الكتب المقدسة أو الاستماع لها، فشاءت حكمة الله أن يكون المجتمع الإسلامي  تحت رعاية دولة المماليك نموذجا للديموقراطية المبنية على الشريعة الغراء – لم تكن إمرة المماليك فلتة، بل أصبحت سنة وعادة متبعة بحيث أصبح يرتقي عرش المملكة أمراء من طبقة المماليك الذين تربوا في حجر المماليك أمثالهم بعد أن كانوا من المماليك الموالين للأحرار، ففي أواخر القرن السابع للهجرة خلف على عرش دهلي السلطان غياث الدين (بلبن) الذي اشتهر برعايته للعلم والعلماء وحرصه على طلب النصح من المشايخ والأتقياء – كان بلبن أصله من تركستان التي انتمى إليها ايلتتمش من قبله، اتفق له وهو غلام صغير أن وقع أسيرا في يد بعض الجنود من المغول الذين اعتادوا شن الغارات على تركستان في ذلك الزمن، فجلبه الجندي إلى بغداد وباعه لجمال الدين البصري الذي كان يتقي الله في جميع أعماله، فامتثل أمر النبي صل الله عليه وسلم في الشفقة والرأفة على مملوكه وحنا عليه حنوه على ولده، ولم يقصر في ح تعليمه وتثقيفه وتربيته في أعمال الفتوة، حتى إذا ترعرع وشب وكمل رأى جمال الدين البصري أن يقدمه إلى ايلتتمش ملك دهلي لعله يتذكر القربى وبقدر مواهب بلين فيوسع أمامه المجال للخدمة في المراتب العالية، وفعلا اغتبط ايلتتمش بضم بلين وجمع من المماليك التركستانيين معه إلى قصره وكافا جمال الدين أحسن المكافأة عن هؤلاء، وهناك في قصر ايلتتمش فوجئ بلين مفاجأة سارة بالالتقاء مع أخيه الذي كان سبقه في الأسر والالتحاق بخدمة ايلتتمش في الحجابة، وهناك في بلاط ايلتتمش ألقيا معديلين بالتصرف إلى العلماء والصالحين الدين ربما دعاهم ايلتتمش إلى الاجتماع به للوعظ والإرشاد إلى سبل الخير فتأثر بهم بلين وجاهد في ابتغاء الخير في مزاولة سلطته الملوكية فيما بعد، لقد توارث أولاد ايلتتمش الإمارة بعدد، يليق بالذكر منهم السلطانة رضية، ابنته المهذبة التي أثبتت كفاءتها ومقدرتها على سياسة الرعية على الرغم من تورع عامة الناس من الانقياد للمرأة، كذلك السلطان ناصر الدين محمود بن ايلتتمش الذي تزوج من ابنة بلين واتخذه وزيرا ونائبا له، فلما مات السلطان ناصر الدين محمود أتت الخلافة منقادة إلى بلين – نعم ! أصبح بلين ملكا مملكا من بل جميع الأمراء وأصحاب الحل والعقد – إلا أن الإمرة والخلافة زادته زهدا وتورعا مع الإقبال على أمور الملك والسياسة – يقول المؤرخون أنه كان قبل أن يرتقي العرش يشغل بعض أوقاته بمجالس الشراب واللهو والعزف مع عدم التقصير في أداء واجباته الدينية والرسمية، ولكن بعدما تقلد منصب الإمارة ترك جميع ملذات العيش ولم يبق له هم  إلا في صحية العلماء والفقهاء والأتقياء من الصوفية، ومن المصادفات إن اضطر كثير من الأمراء، ومعهم العلماء والأدباء والشعراء والفنانون، إلى الهجرة من تركسنان لاشتداد ضغط المغول عليهم، فلجأوا إلى دهلي حيث آواهم بلين وهيأ لهم جميعا أسباب الحياة مع الإكرام وحسن التقدير، فأصبحت لدار مملكته مرتبة عالية في العلم والفن، فمن أشهر هؤلاء العلماء برهان الدين محمود البلخي الذي أخذ الفقه عن الشيخ برهان الدين المرغيناني صاحب الهداية الذي كان تنبأ بنباهة شأن تلميذه إلى درجة أن الملوك سيزورونه في بيته، وقد صدق قوله فإن السلطان بلين اعتاد أن يعرج على بيته كلما قفل راجعا من المسجد الجامع بعد أداء صلاة الجمعة، وقد كان لبرهان الدين محمود أيضا شرف التخرج على الإمام الصاغاني صاحب مشارق الأنوار في الحديث – كذلك افتخرت دهلي في تلك الأيام بوجود تلميذ للإمام فخر الدين الرازي في الفلسفة، ألا وهو العلامة نجم الدين عبد العزيز الدمشقي – هذا وقد زار دهلي في أيام بلين ابن بطوطة الذي يشهد بعلم بلين وفضله وحسن سيرته ورقي العلوم ونفوذ العلوم وكثرة المدارس في أيامه – وأخيرا لا ننسى أنه لم يمنعه شغفه بالعلم وتزكية الباطن من الإقبال بجد واهتمام على سياسة الأمور الدنيوية، إذن كان بلين ملكا مثاليا من حيث الجمع بين العلم النافع والعمل الجدي في الدنيا للآخرة.
   
المال . . .قال عمر بن العاص لمعاوية : ما أشد حبك للمال، قال : ولم لا أحبه وأنا أتعبد به مثلك، وابتاع به مروءتك ودينك.وقال بعض الفرس : من زعم أنه لا يحب المال فهو عندي كاذب حتى يثبت صدقه، وإذا ثبت صدقه فهو عندي أحمق.وقال يونس : لو أن الدنيا مملوءة دراهم على كل درهم مكتوب من أخذه دخل النار لأمست وما على ظهرها درهم يوجد.وقيل لما ضربت الدراهم والدنانير صرخ وجمع أصحابه فقال : قد وجدت ما استغنيت به عنكم في تضليل الناس، فالأب يقتل ابنه والابن يقتل أباه بسببه.





مواضيع ذات صلة
الملوكيات, تاريخ الهند, تراث الهند،,

إرسال تعليق

0 تعليقات