ادعمنا بالإعجاب

الخطبة الجهادية للقاضي محمد ومكانتها التاريخية


الخطبة الجهادية للقاضي محمد الكاليكوتي: وثيقة تاريخية نادرة وأثر أدبي قيم
عبد الرحمن كوتي. م. ك*

الخطابة فن أدبي له جذور عميقة في الأدب العربي، يعتبر من أسبق أنواع النثر، لأن سائر الأنواع لم تتبلور إلا بعد انتشار القراءة والكتابة. وكان للخطابة دور لا يستهان به في تحويل مجرى التاريخ في كر العصور ومر الأعوام، رغم تفاوت أهميته وفقا للبيئة الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية التي تتأثر بها وتؤثر فيها. "فالخطابة في نشأتها الأولى خلال الجاهلية، كانت تصحب المقاتلين في غمار المعارك، وتسهم في ملاحم البطولة إلى جانب السيف، وتساعد في وضع أكاليل الغار على رؤوس الأبطال، كما تلحق الذل والعار بالمنكسرين والمخذولين."[1] ثم تطورت الخطابة وتأثرت وأثرت وأدت دورها في العصور الأموية والعباسية وفي عصر الدويلات، وعصر الخلافة العثمانية، وفي عصور الاستعمار وما بعد الاستعمار.
وهناك خطب ارتسمت على صفحات التاريخ بسطور ذهبية للدور الذي قامت به في تصميم مصائر الأوطان والأمم، إضافة إلى قيمتها الأدبية والفنية والعلمية، مثل خطبة الجهاد للإمام علي رضي الله عنه، والخطبة البتراء لزياد بن أبيه، وخطبة حجاج بن يوسف على منبر مسجد الكوفة، وخطبة طارق بن زياد بعد ما عبر خليج جبل الطارق وأحرق السفن وأخمد آخر شعلة رجاء في نفوس جنده عن العودة إلى أوطانهم إلا بعد الفتح، وخطب قتيبة بن مسلم الباهلي الذي فتح بلاد ما وراء النهر وغزا أطراف الصين.
والخطبة الجهادية التي نحن بصدد الدراسة عنها وتحليلها واستطلاع خلفيتها التاريخية وقيمتها الفنية لا تقل أهمية عن الخطب المذكورة اعتبارا للمرحلة التاريخية الحاسمة التي اضطرت صاحبها إلى تقديم هذا الأثر البديع ليقوم بدوره في طرد المستعمرين عن وطنه المحبوب، وفي الحفاظ على هوية أمته ومكانتها الاجتماعية، وفي تعزيز التسامح الديني والانسجام الطائفي بين طبقات الشعب. فهي خطبة أنشأها القاضي محمد بن عبد العزيز الكاليكوتي رحمه الله، وأرسلها إلى قلعة شاليات (جاليم) إبان الحرب التي شنها المسلمون وجنود النيار تحت قيادة الملك السامري (ساموتري) لفتح قلعة شاليات التي بناها المستعمرون البرتغاليون في موقع استراتيجي على ضفة نهر بيبور على بعد عشر كيلومترات من مدينة كاليكوت، متوسلين بالمكر والحيلة والدهاء للحصول على الموافقة من السامري ملك كاليكوت. وبعد ما تم بناء القلعة محكمة مشيدة، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، ومن اقتحام جند من الجنود، أبدوا ما أضمروا في نفوسهم من الشحناء والبغضاء للمسلمين، فطغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد. فتصدى المواطنون لمحاربتهم تحت قيادة الملك السامري، وأعدوا لهم ما استطاعوا من قوة، وحاصروا القلعة، وصابروا ورابطوا، حتى جاء نصر الله والفتح.
أضواء على حياة القاضي محمد بن عبد العزيز رحمه الله
ولد القاضي محمد بن عبد العزيز الكاليكوتي في أسرة القضاة المشهورة بكاليكوت، التي يعتقد أنها من سلالة مالك بن حبيب رضي الله عنه الذي كان أحد أركان الوفد الأول الذي وصل إلى مليبار للدعوة الإسلامية تحت زعامة مالك بن دينار رضي الله عنه. تلقى الدراسة الابتدائية من والده الكريم الذي كان يحتل منصب القاضي الشرعي بكاليكوت، ثم قرأ على العلامة عثمان لبا القايلي والشيخ عبد العزيز المعبري، وبرع في فنون مختلفة مثل التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه وأصول الدين والفلك والفلسفة والتصوف وغيرها. تولى منصب القضاء بعد أخيه علي الناشوري، وقد قام بالتدريس في جامع المثقال بكتيجرا ( Kuttichira ) مدة مديدة.[2]
ويجدر بنا في هذا المقام أن نقول: إن مدة حياة القاضي محمد رحمه الله لا تزال تحتاج إلى تحقيق وتدقيق، فإن المصادر تكاد تتفق على أنه توفي سنة 1025هـ \ 1616م. وأما سنة ولادته فقد كتب بعض المؤرخين أنها كانت سنة 980هـ / 1572م[3]. وهذا لا يكاد يصح للأمور التالية:
1.     ارتأى د/ معيد خان الذي ترجم قصيدة الفتح المبين إلى الإنجليزية أنه تم تأليفها سنة 1578 أو 1579م.[4] وأما الدكتور أبو بكر محمد فقد عين عصر تأليفها في سنة 1579. يقول: إن الشاعر قد أشار في قصيدته بأسى بالغ وحزن عميق إلى المعاهدة بين السلطان إبراهيم علي عادل شاه حاكم بيجابور في الهند، وبين البرتغاليين. وكانت تلك المعاهدة سنة 1579م. ومات السلطان عادل شاه في السنة نفسها. ولكن الشاعر لم يشر إلى وفاة السلطان. ومن ثم نكاد نجزم بأن القصيدة نظمت بعد إبرام المعاهدة وقبل وفاة السلطان، أي في 1579م." ( د/ أبو بكر محمد، مقاومة الاستعمار البرتغالي في مليبار، ص: 91 )[5]. وبديهي أن من ولد سنة 1572م لا ينظم قصيدة كهذه سنة 1579 في سنه السابعة أو الثامنة.
2.     يقول الأستاذ عبد العزيز المنقادي الذي قام بدراسة جادة حول حياة القاضي محمد ومساهماته، وترجم قصيدة الفتح المبين إلى مليالم: هذه حكايات شاهد عين، إنه يحكي ما شاهده وما لقيه في ميدان الحرب، لا ما سمعه من الآخرين، إنه لم يكن عالما أو شاعرا يسكن في القصر، بل كان جنديا ساهم في الحرب، واستخدم سيفه تارة وقلمه أخرى[6]. ومعلوم أن فتح قلعة شاليات كان سنة 979هـ / 1571م. وقد صرح به القاضي محمد نفسه في قصيدة الفتح المبين حيث قال:
وفتحها في يوم الاثنين جرى         
            سادس عشر من جمادى الأخرى
من فضل ربي الغني في سنة        
            تســــــــــــع وســـــــــبـــعـــين وتــــســعــمائة
يدل هذا على أنه قد شب وترعرع وباشر القتال إبان حرب شاليات، خلافا لما يقال إنه ولد في السنة التالية.
3.     إن الخطبة الجهادية التي نحن بصدد البحث عنها قد عُنونت في النسخة المخطوطة التي وجدناها ب"الخطبة الجهادية التي أنشأها وأرسلها العلامة القاضي محمد بن عبد العزيز في أيام الحرب إلى قلعة شاليات لأجل الواعظ"[7]. يدل على أنه قد صار عالما شهيرا وأديبا بارعا قبل الحرب، حتى يتمكن من إنشاء هذه الخطبة البليغة وإرسالها إلى الأئمة والوعاظ بين المرابطين الذين يحاصرون قلعة شاليات أو إلى المساجد المجاورة.
4.     يكتب ك. ت. حسين الندوي: كان القاضي محمد شابا حينما اندلعت حرب شاليات التي كسرت قاعدة الاستعمار البرتغالي في كيرالا سنة 1571م. ولأنه كان قد استمد العاطفة المضادة للاستعمار من والده الكريم، لم يكن في وسعه أن يقف مكتوف اليد، بل أخذ السلاح ورمى بنفسه في ميدان القتال مع والده وغيره من العلماء. وحينما كان والده من أبرز مخططي حرب شاليات، كان نفسه من مقدم المحاربين".[8]
5.     إن سياق قصيدة الفتح المبين وكثيرا من أبياتها تشير إلى أنه كان مشاركا في الحرب، أو معاصرا لها على الأقل. وهو الأمر الذي أدى إلى أن يصرح د/ أحمد إدريس قائلا: إنه كان معاصرا للواقعة المذكورة".[9]
وفي الجملة تحتاج حياة هذا العلامة الأديب إلى دراسة جديدة توضح الغوامض وتحل العقد، كما يحُتاج إلى اكتشاف آثاره الأدبية التي تعرضت للتلف والضياع. ومن المستغرب أن سيرة علمين من أعلام أدب المقاومة في مليبار، الذين يعتبر آثارهما من أهم المصادر في تاريخ كيرالا، أخفق التاريخ في قيد تفاصيلها لأجل الجيل الجديد، هما الشيخ زين الدين صاحب تحفة المجاهدين، والقاضي محمد الكاليكوتي صاحب قصيدة الفتح المبين.
أعماله
"وللقاضي محمد تأليفات كثيرة، ويقال إن له من التأليفات ما يبلغ الخمسين نثرا ونظما"[10]. ولكن جلها صارت أدراج الرياح ولم يبق منها إلا النزر اليسير. ومن أشهرها:
1.     قصيدة الفتح المبين للسامري الذي يحب المسلمين
2.     منظومة الأجناس
3.     قصيدة إلى كم أيها الإنسان
4.     ملتقط الفرائض
5.     نظم قطر الندى
6.     منظومة في تجويد القرآن
7.     منظومة في علم الحساب
8.     منظومة في علم الأفلاك والنجوم
9.     منظومة في الرسائل والخطوط
10.                       مولد في مناقب الشيخ عبد القادر الجيلاني
11.                       كتاب نصيحة المؤمنين وإرشاد الضالين
12.                       تنبيه الإخوان في أحوال الزمان
13.                       الدرة النصيحة
14.                       قصيدة مقاصد النكاح
15.                       منتخبات الفرائض
16.                       نظم العوامل
17.                       مدخل الجنان[11]
وأشهرها على الإطلاق هي قصيدة الفتح المبين التي نظمها إثر الانتصار الحاسم الذي ظفر به الملك السامري وجنوده في حرب قلعة شاليات. وهي ملحمة طويلة تشتمل على أكثر من 530 بيتا. وقد صور فيها الشاعر وصول البرتغاليين إلى كيرالا والأعمال الوحشية التي اقترفوها ضد المواطنين عموما، والمسلمين خصوصا، والأوضاع التي أدت إلى تلك الحرب، ومشاهد الحرب التي ليس لها مثيل في تاريخ هذه البلاد، ويمدح الملك السامري على مواقفه الباسلة ضد المستعمرين، ويستغرب مواقف الملوك المسلمين الذين لم يبذلوا ما في وسعهم من جهد – بزعم الناظم – لطرد البرتغاليين الذين كان هدفهم الأهم محو شعائر الإسلام والمسلمين واضطهادهم وإجبارهم على اعتناق النصرانية.
الخطبة الجهادية
هي خطبة أنشأها وأرسلها القاضي محمد إلى قلعة شاليات أيام الحرب. وكان هذا الأثر الأدبي القيم في دياجير الجهل والخمول حتى تم اكتشافه أثناء الاستعراض الذي جرى في بعض المكتبات العربية العريقة في مليبار تحت إشراف الأستاذ الدكتور ن. أ. محمد عبد القادر، كجزء من الورشة الوطنية حول المخطوطات العربية والأردوية والفارسية، التي تم تنسيقها في قسم العربية بجامعة كاليكوت، تحت رعاية الهيئة الوطنية لرعاية المخطوطات. وقد وجدنا هذه النسخة في مجلد كبير يشتمل على آثار أدبية عديدة، وبين عدة مخطوطات، في بيت المرحوم أحمد بن نور الدين الملّوي من أشهر علماء القرن الأخير، في حوزة الشيخ عبد الرحمن القاسمي نجل أخيه. وقد تم تحقيق هذا المخطوط بيد كاتب هذه السطور، ونشر في كتاب "الإيديولوجيا والنضال" عن قسم العربية لجامعة كاليكوت. وقد قام الأستاذ الدكتور ن. أ. محمد عبد القادر بترجمته إلى الإنجليزية، ونشرت هذه الترجمة في كتاب Ideology and Struggles: A study of Malabar Muslims
عرض النص
يستهل هذه الخطبة بالبسملة والحمدلة فيقول: الحمد لله قاصم الجبابرة فلم يفلت أحد من حكمه، ومدبر الكائنات فلم يعزب شيء في الأرض ولا في السماء عن علمه، ومقدر الأشياء بمقتضى إرادته فليس فيما قضاه نقض، وبارئ البريات فاختص منهم من شاء ودفع بعضهم ببعض، فقال: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ...
وبعد أن حمد الله بما شاء أن يحمده به، خصوصا بما أعده للمجاهدين من الأجر الكبير، تشهد وصلى على النبي وآله وأصحابه وأزواجه، ثم دخل في صميم الموضوع يخاطب الناس قائلا: أيها الناس، من أراد الجهاد فهذا أوانه، ومن ابتغى السعادة العظمى فهذا إبانه. وماعتّم أن شرع في بيان الاعتداءات البرتغالية الغاشمة قائلا: فإن النصارى عبدة الأصنام والأوثان، قد دخلوا في إقليم المليبار في كل بلدان، وأكثروا فيه الصولة والفساد، وأظهروا أنواع التعدي والعناد، وهدموا مباني الإسلام، ومحوا شعائر الأحكام، وتسلطوا على المسلمين تسلط المالك على المملوك، وأذل(أذلوا) الجبابرة من السلاطين والملوك، وملكوا بسطوة بلادهم، وملأوا من خيفة أكبادهم، حتى أزالوا رسمهم واسمهم، وأخرجوا دموعهم ودمهم، وتحصنوا بالقلعة والمدافع، وليس لقلعها حيلة ولا مدافع، قد أيتموا بقتلهم الولدان، وأرملوا الإماء والنسوان، وخربوا أكناف البلاد، وأبطلوا معائش العباد، وعطلوا المسافرة والتجارة، وعوضوا لربحها الخسارة، كم من مسلم في حبسه مقيدون، وأي محنة بها يعذبون، كم من مراكب بنار أحرقوه، كم من سفائن ببحر أغرقوه، كم من مسلم قد دخلوا في دينهم قهرا، ومنعوا طرق المسلمين برا وبحرا، أحرقوا المصحف والمساجد، وعمروا في أماكنها الكنائس والمعابد، ونبشوا بظلمهم قبورا، وشيدوا بحجرها قصورا، وهتكوا بين المحارم حرمة النسوان، وعذبوا المسلمين بعذاب أهل النيران، وجعلوا المؤمنين ذبيحتهم، وأموالهم غنيمتهم، قد نزع الله من قلوبهم الرحمة، كأنهم لم يخلقوا إلا من النقمة.
وبعد ما صور تلك المظالم الوحشية طرح إلى السامعين أسئلة توقظ هممهم وتثير عواطفهم، قائلا: عباد الله، أنتم أيقاظ أم نيام، أم أنتم في شغل عن هذا الكلام، أما ترون الأعمار تنصرم عاما بعد عام، وليس بينكم وبين الموت إلا أيام.
ثم يبسط في بيان فضيلة الجهاد مستدلا بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية ومقتبسا منها، ويأمرهم بأن يشمروا للجهاد، ويقول: فشمروا للجهاد ما استطعتم أيها المؤمنون ولا تفشلوا، ولا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فقال تعالى ردا عليهم لئلا يقعدوا في مواضعهم، قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، فلا تهنوا ولا تحزنوا يا معشر المجاهدين، فإنكم أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ...
ثم يرجع إلى بيان فضائل الجهاد، ومن ثم ينتقل إلى بيان فضيلة الغزو في البحر، ويقول: وأحثكم على الغزو في البحر، فإن غزوة في البحر أفضل من عشر غزوات في البر، وكفى لغزوة البحر شرفا بقول سيد البشر، من فاته الغزو معي فليغز في البحر، ومن أجاز البحر فكأنما أجاز الأودية بقدمه، والمائد في البحر كالمتشحط في البر في دمه، وإن ملك الموت يقبض روح كل شريد وغيره إلا أرواح شهيد البحر، فإن الله يتولى قبض أرواحهم لكرامتهم عنده على شهيد البر ...
ثم يحثهم على الإنفاق، وأخيرا يحثهم على الرباط، فإنهم كانوا في أمس الحاجة إليه لحصار القلعة حتى يتم الفتح. ثم يعود فيأمرهم بالثبات عند تزلزل الأقدام. وأخيرا يختتم الخطبة داعيا: جعلنا الله وإياكم ممن أحيا دينه بأيديهم، وينزل نصرته على نواصيهم، ولا جعلنا وإياكم ممن قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم.
تحليل النص
كل خطبة تنقسم إلى ثلاثة أجزاء رئيسية، المقدمة والعرض والخاتمة. "أما المقدمة فليست سوى مدخل للخطبة، يتوسل به الخطيب ليمهد لأفكاره ويوهم السامعين ويستثير انتباههم. وهذه المقدمة ضرورية لتنزع بالسامع من حالة اللامبالاة التي ترين عليه إلى جو آخر، يصبح فيه أكثر تقبلا للأفكار التي سيتولى الخطيب عرضها والتأثير بها. وعلى نجاح المقدمة أو فشلها يتوقف نجاح الخطيب أو فشله".[12]
وانطلاقا من هذا نجد أن صاحب هذه الخطبة قد حقق نجاحا كاملا في إيراد المقدمة على أحسن ما يرام. فعلى الرغم من أنه لم يهمل سنة بداية الخطب الدينية بالحمدلة والشهادة والصلاة والسلام، نجح عن طريق استخدام براعة الاستهلال، في التلميح إلى غاية الخطبة من غير تكلف ملوم.
"وأما العرض فيراد به معالجة الموضوع، وهي أهم قسم من أقسام الخطبة، وهو يعتمد – بالإضافة إلى الموهبة الذاتية التي تحدس للخطيب بالأفكار – على الثقافة المتوغلة التي تثير السامع بالتعجب والاندهاش، فضلا عن الحماسة والمشاركة". ففي هذه الخطبة قد ساعدته ثقافته العميقة على تصميمها تصميما قاتما غامضا، وعلى تحليتها بالمحسنات اللفظية والمعنوية، وعلى صياغتها بصورة بليغة تكون أوقع في نفوس السامعين.
"وخاتمة الخطبة ينبغي أن تأتي موجزة قصيرة بالنسبة إلى الخطبة ذاتها، لكنها بالرغم من ذلك لا تقل تأثيرا عنها، فكما أن المقدمة تعد السامع للتأثر وتجتذب حواسه، فإن الخاتمة هي التي تبقى من الخطبة في نفس السامع، لأنها تكون آخر مرحلة يتركز عليها انتباهه". ففي هذه الخطبة نجد أنه أكد في ختامها على الفكرة العامة الرئيسية، وهي الجهاد والثبات في المعركة حتى ينزل عليهم نصر من الله. ثم ختمها نهائيا يدعو الله أن يجعلهم ممن أحيا دينه بأيديهم. وأي مسلم لا يرغب في أن يُجعل واحدا منهم، ولا يرغب عن جعله من أقوام لا خلاق لهم في الدنيا ولا في الآخرة!
العناصر الفنية
العاطفة: "الخطابة تهدف إلى الإقناع والتأثير لتنقل السامع من موقف إلى آخر، ومن عقيدة إلى أخرى، باعثة فيه نزعة للعمل الإيجابي، فيما كان يقف موقفا سلبيا. والواقع أن الأفكار التي تقطن الذهن، مهما سمت وشرفت، تبقى دون تأثير على تصرف الإنسان، إذا لم تنتقل من فكرة يعيها في ذهنه بلا مبالاة، إلى شعور راغم حي. فكل واحد يدرك أن الخير أفضل من الشر، وأن الشرف أفضل من الذل، إلا أن تلك المعرفة تظل عاجزة لايتأثر بها تصرف الإنسان، حتى تشتعل بالعاطفة والحماسة، فلا يعود مدركا أن الخير أفضل من الشر فحسب، بل يتواقع لخدمة الخير، ويصبح قادرا على المجاهدة دونه، والتضحية والاستشهاد في سبيله".[13]
ومن هذا المنطلق نجد أن القاضي محمد قد توسل بوسائل متعددة إلى تحويل الأفكار إلى عواطف، فقد اتخذ طريقة التدرج المنطقي، فأطنب في الحمد حتى أخذت العواطف تستيقظ وتستعر شيئا فشيئا، ثم صور لهم مشاهد الوحشية التي يرتكبها البرتغاليون بأسلوب مثير، ثم طرح إليهم أسئلة تزلزل أذهانهم، وصور لهم الجنة والنعيم المقيم الذي ينتظر المجاهدين، كما هول لهم النار والعذاب الأليم الذي يتوقع المعرضين، وجمع بين الترغيب والترهيب ليشتد التأثير في نفوس السامعين.
الخيال: "إن ضرورة الخيال تتعاظم في الخطابة، لأنها تعنى بالتأثير، والمرء يتأثر بما يشخص أمامه ويراه، أكثر مما قد يتأثر بما يدأب لتمثيله في ذهنه، لهذا تعنى الخطابة بتمثيل العواطف تمثيلا حسيا ماديا عبر الخيال".
ربما نحس بادئ ذي بدء بأنه لم يستخدم عنصر الخيال في هذه الخطبة خق الاستخدام. ولكن إذا أمعنا النظر وجدنا أن هناك قدرا غير يسير من الخيال يكفي ليقوم بدوره في إثارة العاطفة، مثل ما نجد في عبارات مثل: شهادة تشرب قائلها كأس الشهادة، وتسلطوا على المسلمين تسلط المالك على المملوك، وملأوا من خيفة أكبادهم، حتى أزالوا رسمهم واسمهم، وجعلوا المسلمين ذبيحتهم، وسهامه على كل أحد واقع، والأسلحة مفاتيح الجنة، ولا يجدون ألم السلاح إلا كشربة عسل، ونحوها. هذا بالإضافة إلى مظاهر الخيال والتصوير التي تفيض بها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي ذكرها أو اقتبس منها.
المنطق: وللمنطق أثر لا يستهان به في الخطابة. "والواقع أن الخطيب الذي لا تصدر خطبته عن التفكير العميق والتوغل الفكري، قد يشتد تأثير خطبته في السامعين، لكن ذلك التأثير يزول سريعا بعد أن يجتاز سطح النفس. والخطيب الذي يترسخ تأثيره في الشعب، إنما هو قبل كل شيء مفكر جاد يتبصر بالأمور ويعلنها للسامعين في إطار عاطفي خيالي". ولا شك أن القاضي محمد كان مفكرا جادا يتبصر بالأمور، ويعاني من تلك الأوضاع الحرجة، ويريد أن يتدخل فيها ويتغلب عليها، لأجل النفسية المضادة للاستعمار التي أخذها عن والده القاضي عبد العزيز الكاليكوتي، وأستاذه الشيخ عبد العزيز المعبري، وشيخه أبي الوفاء شمس الدين الكاليكوتي، والشيخ زين الدين المخدوم الثاني – إن صح أنه تتلمذ له[14]. ( ويلاحظ أن الشخصيات الثلاث الأولى المذكورة كانت من أبرز من شارك في الاجتماع الهام الذي انعقد في مسجد المثقال بكاليكوت أثناء حرب شاليات، والذي حول مصائر الأمور، وجعل الملك والمسلمين والنيار يتفقون على كلمة واحدة ويقاتلون جنبا لجنب ضد المستعمرين ).
براعة الاستهلال: لا يخفى على أحد براعة الاستهلال التي تتحلى بها هذه الخطبة، فقد تخير للحمد والشهادة كلمات وعبارات تشتمل على تلميحات إلى صميم الموضوع الذي يريد أن يعبر عنه في هذه الخطبة.
كثرة الاقتباس: هذا الأثر الأدبي مفعم بالاقتباسات من القدم إلى الرأس، إضافة إلى أنه قد أورد فيه عدة آيات قرآنية وأحاديث نبوية من غير أن يخل بتناسق أجزاء الخطبة ولا بسلاستها.
مراعاة السجع: إنه بالغ في مراعاة السجع من أولها إلى آخرها، اللهم إلا في مواقع يسيرة. وهذه الظاهرة كانت من سمات الخطبة العربية في العصور الأولى. وفي عصرنا أيضا يهتم بها الكثير، خصوصا في الخطب المشروعة، مثل خطبة الجمعة.
المقابلة: هي من الأساليب البيانية الشائعة، فيعمد الخطيب إلى توضيح فكرة بالمقابلة بينها وبين فكرة أخرى. نجد هذا الأسلوب في مواقع من هذه الخطبة. مثلا، يقول: فوالله ما قرّب أجل أحدكم الإقدام، ولا زاد في عمره الفرار والإحجام.
تداخل الأجناس الأدبية: ومن الطريف أن بعض أجزاء هذه الخطبة قد استخدمها بعينها في قصيدته المسماة بالفتح المبين، حينما استخدم بعضا آخر بتعديلات طفيفة. وهذا يدل على براعة المؤلف في النثر والشعر في آن واحد. نقرأ أولا هذه الفقرة من الخطبة الجهادية، يصور فيها اعتداءات البرتغاليين بأسلوب مثير، ويقول:
"أكثروا فيه الصولة والفساد، وأظهروا أنواع التعدي والعناد، وهدموا مباني الإسلام، ومحوا شعائر الأحكام، وتسلطوا على المسلمين تسلط المالك على المملوك، وأذل(أذلوا) الجبابرة من السلاطين والملوك، وملكوا بسطوة بلادهم، وملأوا من خيفة أكبادهم، حتى أزالوا رسمهم واسمهم، وأخرجوا دموعهم ودمهم، وتحصنوا بالقلعة والمدافع، وليس لقلعها حيلة ولا مدافع، قد أيتموا بقتلهم الولدان، وأرملوا الإماء والنسوان، وخربوا أكناف البلاد، وأبطلوا معائش العباد، وعطلوا المسافرة والتجارة، وعوضوا لربحها الخسارة، كم من مسلم في حبسه مقيدون، وأي محنة بها يعذبون، كم من مراكب بنار أحرقوه، كم من سفائن ببحر أغرقوه، كم من مسلم قد دخلوا في دينهم قهرا، ومنعوا طرق المسلمين برا وبحرا، أحرقوا المصحف والمساجد، وعمروا في أماكنها الكنائس والمعابد، ونبشوا بظلمهم قبورا، وشيدوا بحجرها قصورا، وهتكوا بين المحارم حرمة النسوان".
ولنقرأ الآن الأبيات التالية من قصيدة الفتح المبين:
فأكثروا الصولة والعنادا
وأظهروا الطغيان والفسادا

وهدموا مباني الإسلام
كذا محوا شعائر الأحكام

ثم تسلطوا على الملوك
تسلط المالك في المملوك

وملكوا بسطوة بلادهم
وملأوا من خيفة أكبادهم

حتى أزالوا رسمهم واسمهم
وأخرجوا دموعهم ودمهم

وخربوا أجلة البلاد
وعطلوا معائش العباد

كم مسلم في حبسه مقيدون
وأي محنة بها يعذبون

كم أيتموا بقتلهم ولدانا
كم أرملوا الإماء والنسوانا

كم من مراكب بنار أحرقوا
كم من سفائن ببحر أغرقوا

كم صيروا من مسلم نصارى
حتى من السادات كالأسارى

ومنعوا للمسلمين الطرقا
برا وبحرا لم يزالوا فرقا

فصار يمشي الناس فوق الجبل
لكن يمرون بها بالوجل

وأحرقوا المصحف والمساجدا
ثم بنوا لهم بها المعابدا

ويضرب المسلم بالنعال
وينجس المسجد بالأبوال

ونبشوا بظلمهم قبورا
وعمروا بها لهم قصورا

وهتكوا لحرمة النسوان
بين محارم وزوج عاني

الأهمية التاريخية
"كان ابتداء وصول البرتغاليين إلى مليبار سنة أربع وتسعمائة من الهجرة النبوية ( 1498م )"[15]. "وذلك سعيا وراء احتكار المجالات التجارية دون غيرهم، تلك المجالات التي ما زالت مفتوحة أمام الجميع، كان يشارك فيها العرب وأهل مليبار، وفيهم الهنادكة والمسلمون، على أساس من التفاهم المشترك المبني على المودة والإخاء. وكانت سياستهم التجارية الجديدة تجسد خبايا ضميرهم، وهي مستمدة من نظرية "فرِّق تسُدْ"، وبهدف السيطرة الدائمة على الثروات ذات الأهمية التجارية العالمية مثل الفلفل والزنجبيل، كما استهدفوا أن يشدوا القبض على معابر السفن التجارية في البحر العربي. وكانوا يعقدون النية لوضع الحد لنفوذ التجار المسلمين الذين في أيديهم عنان التجارة بين مليبار والجزيرة العربية. هذا إلى السخط القائم بين النصارى والمسلمين، نتيجة للحروب الصليبية التي وضعت أوزارها في القرن الثاني عشر، إلا أن أوارها لم يخمد بعدُ".[16]
ويصرح الشيخ زين الدين المخدوم في كتابه "تحفة المجاهدين" بهدفهم قائلا: ثم إن بغيتهم العظمى وهمتهم الكبرى قديما وحديثا تغيير دين المسلمين وإدخالهم في النصرانية."[17] وهو الذي يصرح به القاضي محمد في "الفتح المبين":
       وقصده الأعظم جعل المسلمين                     
                                              في دينه أو قتلهم يا مسلمين
أما البرتغاليون المستعمرون فقد اتخذوا في أول أمرهم سياسة المداهنة والمجاملة، ولما قامت قائمتهم وقويت شوكتهم أبدوا ما أضمروا في نفوسهم، وأظهروا أنواع التعدي والعناد. يقول عنهم الشيخ زين الدين: وهم لعنهم الله أهل مكر وخديعة، عارفون بمصالح أمورهم، فيتذللون لأعدائهم وقت الحاجة غاية التذلل، وإذا انقضت سطوا عليهم بكل ممكن، وكلهم على كلمة واحدة لايخالفون أمر كبرائهم مع بعد المسافة عن رعاتهم، وقلما يصدر بينهم الاختلاف، ولم يسمع أن أحدا منهم قتل كبيرهم لأجل الولاية، ولذا دانت لهم مع قلتهم رعاة مليبار وغيرها، بخلاف ما عليه عساكر المسلمين وأمراءهم من الاختلاف وطلب الاعتلاء على الغير ولو بقتله".[18]
ومهما يكن من أمر فقد نجحوا إلى حد في تحقيق أغراضهم عن طريق هذه السياسة الماكرة. فعلى الرغم من أنهم حاولوا مرة اغتيال الملك السامري مقتحمين إلى بيته، وأخرى بدعوته إلى قلعتهم متظاهرين بتقديم هدية غالية إليه، ورغم أن الملك السامري اضطر من قبلُ إلى فتح قلعتهم بكاليكوت التي بنوها على موافقة منه على أنهم لن يصيبوا النظام الاجتماعي السائد في هذه الديار بسوء، حينما نقضوا المواثيق والعهود بعد أن انقضت حاجتهم، رغم كل ذلك حصلوا على موافقة من الملك لبناء قلعة بشاليات. "وقد زاد من أهمية هذه القلعة أنها أقيمت في موقع استراتيجي، لأن قرية جاليام بمثابة شبه جزيرة، يحدها من الشمال نهر جاليار الذي اشتق منه اسم القرية، كما يحد من الجنوب نهر كادلندي، وأما في الشرق فهناك احتداد من مياه البحر، مما جعل هذا الموقع يضمن بقاء القلعة، كما مهدت الطريق للبرتغال لبث نفوذهم في التجارة البحرية".[19]
وكفى شاهدا على الأهمية الاستراتيجية لهذه القلعة ما كتبه ملك كوشي الذي كان مواليا للبرتغاليين إلى ملكهم في ديسمبر سنة 1533م: إن قلعة شاليات بندق موجه إلى حلق الملك السامري، لها أهمية استراتيجية بالغة، إضافة إلى أنها تصيب كافة تجارات السامري بسوء، وإذا حاول للحرب مع كوشي صارت تهديدا للتواصل بينه وبين جنده". ( A history of Kerala 1498 – 1801 A.D., By A Sreedhara Menon, Page; 102  )[20]
ويلخص الشيخ زين الدين تاريخ حرب قلعة شاليات، ويقول: ولما قوي عزم السامري على حرب قلعة شاليات لصدور بعض التعدي منهم، وبتحريض المسلمين له على ذلك وتوكيدهم، خصوصا في أيام حرب كووة انتهازا للفرصة، فإنهم لا يقدرون على إرسال المراكب والغربان في ذلك الوقت للمدد، أرسل إليها بعض وزرائه، ومعهم أهل فنان وجمع من أهل شاليات، ووافقهم في الطريق أهل برونور وتانور وبربورنكادي، فدخل هؤلاء المسلمون في شاليات ليلة الأربعاء الخامس والعشرين من شهر صفر سنة تسع وسبعين ( 1571م )، ووقع الحرب بينهم وبين الإفرنج في صبيحته، فأحرقوا بيوتهم الخارجة من القلعة وبيعهم، وهدموا القلعة البرانية، واستشهد من المسلمين ثلاثة، وقتل من الإفرنج جماعة، فالتجأوا إلى القلعة الأصلية الحجرية واستقروا فيها، فحاصرهم المسلمون ونيار السامري، ووصل إليها المسلمون من سائر البلدان للجهاد، وحفروا خنادق حول القلعة، واحتاطوا في المحاصرة، فلم يصل إليهم القوت إلا نادرا خفية، وصرف السامري لذلك أموالا جزيلة.
وبعد نحو شهرين من ابتداء الحرب وصل السامري بنفسه من فنان إلى شاليات، وحصل الاحتياط التام في المحاصرة، حتى نفد ما عندهم من القوت، وأكلوا الكلاب وأمثالها من المستقذرات، وكان يخرج برضاهم من القلعة في أكثر الأيام من معهم من العبيد وممن تنصر ذكورا وإناثا لقلة القوت، وأرسل الإفرنج القوت إلى شاليات من كشي وكننور، فلم يصل إليها مع اجتهادهم ومقاتلتهم على ذلك إلا قليل لا يسد مسدا.
وفي أيام المحاصرة أرسلوا إلى السامري يطلبون الصلح على تسليم بعض المدافع الكبار التي في القلعة والمال المصروف في الحرب مع زيادة، فلم يرض به السامري، مع أن وزراءه كانوا راضين به. فلما اضطروا بعدم القوت، ولم يجدوا طريقا للصلح، أرسلوا  إلى السامري في أن يتسلم القلعة وما فيها من الحوائج والمدافع، ويخرجهم سالمين من القتل، ولا يتعرض لما معهم، ويوصلهم إلى مأمنهم. فقبل ذلك السامري، وأخرجهم منها ليلة الاثنين السادس عشر من جمادى الأخرى ( 1571م )، ووفى لهم بذلك...
ثم إن السامري أخذ ما في القلعة من المدافع وغيرها، وهدم القلعة حجرا حجرا، وجعل موضعها كالصحراء، ونقل أكثر الأحجار والأخشاب إلى كاليكوت، وسلم بعضها لعمارة المسجد القديم الذي هدموه عند بناء القلعة، وسلم الأرض التي بنوها فيها وما حولها إلى راعي شاليات على ما وقع القرار عند ابتداء الحرب".[21]
وأما قصيدة الفتح المبين للقاضي محمد فتحكي لنا قصة هذه الحرب وأسبابها ومشاهدها ومصائرها بكل تفصيل، ويصف فتح قلعة شاليات بالفتح المبين. ولا غرابة فيه، إذ "هي الحرب التي دمرت قاعدة القوة البرتغالية في الهند، ولولا ذلك الفتح لصارت مليبار كووة، وربما صارت الهند برتغالية بدلا من أن تحولت إلى مستعمر بريطاني".[22] وشتان ما بين الاستعمار البريطاني والاحتلال البرتغالي، فإن البرتغاليين فرضوا في مستعمراتهم لغتهم وثقافتهم وديانتهم بكل قسوة وقهر، بخلاف البريطانيين.
وجدير بالذكر أن الخطبة الجهادية وثيقة تاريخية تسلط الضوء على النظام الاجتماعي السائد في ربوعنا في تلك الأيام، الذي كان أساسه التسامح الديني والتوادد والإخاء. فالقاضي محمد لم يحرض على الجهاد في هذه الخطبة لتأسيس دولة إسلامية، وإنما حرض عليه لمؤازرة ملك هندوكي يحب المسلمين ويوفر لهم التسهيلات ليسكنوا في مملكته متمسكين بشعائرهم الدينية ومحتفظين بهويتهم الإسلامية وعزتهم الاجتماعية، وقلما يوجد لهذا المثال الكيرالي مثيل في تاريخ الهند.
وكان من أروع مناظر هذه الحرب أنه لما طال الحصار وتأخر الفتح اجتمع المسلمون في مكان، والنيار في مكان آخر، وقال قائل من المسلمين: نحن بمفردنا نهاجمهم ونصرعهم، فأجاب إخوانهم من النيار: لا، أنتم قليل، ولنهاجم الأعداء يدا واحدة." يصور القاضي محمد هذا المشهد في قصيدة الفتح المبين:
فاجتمع النيار في مكان
                        والمسلمون في مكان ثاني

والوزراء سايروا بينهما
                        ليخبروا الحال لكل منهما

فاختص كل مسلم بجانب
                        لأن يكون غيرهم في جانب

وأقسموا جميعهم بأننا
                        نموت أولا على عدونا

فقالت النيار أنتم قليل
                        ولا نخليكم على الحرب الجليل

لكن يكون كلنا جميعا
                        على الحصون جملة طلوعا

فاتفق الآرا على هذا الفكر
                        وإن يمت في مرة ألف نفر 
وهناك مشهد آخر يسترعي انتباهنا ويبقى صداه حتى في أيامنا هذه، هو أن الملك السامري كان غائبا في بداية هذه الحرب، وكان في مدينة فناني لبعض حوائجه، فعين وزيرين من وزرائه لتنسيق أمور الحرب، وأثناء ما تتقدم الحرب تحت قيادتهما نشأت بينهما خصومة، فأوقفا الحرب، فغاض عليهما الملك غيضا شديدا وعزلهما، وعين لكل أسبوع وزيرا وكاتبا وخازنا وناظرا، ووزع بينهم المسؤوليات، ويصف حالهم القاضي محمد قائلا:
وكلما يجيئ منهم أحد
                        يكون بطشه كقوة الأسد

إذا مضى عليه يومان ترى
                        ذاك الوزير ماشيا مثل الورى

من شدة الحرب وموت الخلق
                        وكيف لا وروحهم في الحلق
حينئذ أحست أم السامري بخطورة الموقف، فأرسلت إلى زعماء المسلمين خطا ليتفكروا في حال الحرب ويخططوها تخطيطا شاملا، فاجتمعوا في مسجد المثقال بكاليكوت، وشارك المسؤولون الهنادك أيضا في ذلك الاجتماع، فعزموا على مواصلة الحرب حتى يتم الفتح، وخططوها، وأخبروا الملك بخطورة الأوضاع، وكتبت أم الملك إليه أيضا، وألحت عليه بالوصول، فرجع إلى كاليكوت، وتولى قيادة الحرب بنفسه، فحدثت العجائب، وجرى ما جرى. وكان الاجتماع المذكور هو الذي حول مجرى الحرب،. وقد حكى القاضي محمد هذه الأحداث بأبيات رائعة:
إذ ذاك أمّ السامري بعقلها
                        قد أرسلت للمسلمين خطها

ليتفكروا بحال الحرب
                        وينظروا لما يجي في العقب

وكان سيْدي أحمد القمامي
                        مجاهدا في جملة المقادم

وشيخنا المشهور ذو الأسرار
                        أبو الوفا محمد الشطاري

ومنهم مقدم الشجعان
                        كنجي علي المشهور في البلدان

والشاه بندر عمر العنتابي
                        وسائر الرؤسا أولو الأنساب

ومعهم المخدوم ذو الإتقان
                        عبد العزيز المعبري الفناني

وهكذا قاضي القضاة المسلمين
                        عبد العزيز الكالكوتي كالمعين

فأحضروا أعيان كل بلد
                        والوزرا جميعهم في المسجد

فشاوروا مع غرة العساكر
                        وكتبوا الأحوال نحو السامري

كذاك أم السامري قد كتبت
                        لكنها على الوصول أكدت

فالسامري قد جاء في ذا الحال
                        لما أحاط علمه بالحال

فازداد إذذاك سرور الناس
                        وزال عنهم ما بهم من بأس

المراجع والمصادر
1.             القاضي محمد بن عبد العزيز، الخطبة الجهادية، منشورة في كتاب "الأيديولوجيا والنضال، قسم العربية بجامعة كاليكوت، 2012
2.             القاضي محمد بن عبد العزيز، الفتح المبين للسامري الذي يحب المسلمين ( نسخة مخطوطة )
3.             إيليا حاوي، فن الخطابة وتطوره عند العرب،بيروت، دار الثقافة
4.             الشيخ زين الدين المخدوم، تحفة المجاهدين في بعض أخبار البرتغاليين، مع تحقيق وتعليق حمزة جيلاكودان، كاليكوت، مكتبة الهدى، 1996
5.             د/ أحمد إدريس، الأدب العربي في شبه القارة الهندية حتى أواخر القرن العشرين، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، الهرم ( جمهورية مصر العربية )، 1998
6.             سلينة. أن، حركة المقاومة لعلماء كيرالا كما تنعكس في مؤلفاتهم العربية، رسالة دكتوراه، قسم العربية، جامعة كاليكوت، 2008
7.             عبد الغفور عبد الله القاسمي، المسلمون في كيرالا، مالابرم، مركز أكمل للكتب، 2000
8.             د/ ويران محيي الدين الفاروقي، الشعر العربي في كيرالا مبدأه وتطوره، كاليكوت، مكتبة عربنيت، 2003
9.             محمد علي المسليار النلكتي،عظماء مليالم ( بلغة مليالم )، كاليكوت، مكتبة الإرشاد، الطبعة الأولى، 1997
10.        ك. ت. حسين، مسلمو كيرالا: إيديولوجيا النضال المقاوم للاحتلال ( مليالم )، كاليكوت، دار النشر الإسلامي، 2008
11.        ب. أ. زيد محمد، تاريخ مسلمي كيرالا ( مليالم )، ترشور، مكتبة كرنت، الطبعة الثانية، 1969
12.        عبد العزيز المنقادي، ترجمة الفتح المبين ( مليالم )، كاليكوت، مكتبة الهدى، 1996
13.        د/ كنكادهرن، مقدمة ترجمة الفتح المبين ( مليالم )، كاليكوت، مكتبة الهدى، 1996
14.        د/ جمال الدين الفاروقي، الأهمية التاريخية لقصيدة الفتح المبين، مقالة في مجلة كاليكوت، العدد الأول، نوفمبر، 2006
عبد الرحمن آدرشيري، وثيقة نادرة عن النضال المقاوم للاستعمار ( مليالم )، مقالة نشرت في جريدة Thejas اليومية، 4 مارس 2012




* باحث دكتوراه، قسم العربية، جامعة كاليكوت.
[1]إيليا حاوي، فن الخطابة وتطوره عند العرب،بيروت، دار الثقافة، ص: 31
[2]  د\ ويران محيي الدين الفاروقي، الشعر العربي في كيرالا مبدأه وتطوره، كاليكوت، مكتبة عربنيت، 2003، ص: 78. محمد علي المسليار النلكتي، عظماء مليالم (بلغة مليالم)، كاليكوت، مكتبة الإرشاد، الطبعة الأولى، 1997، ص: 32 - 34
 [3] نفس المرجع
[4]عبد العزيز المنقادي، مقدمة ترجمة الفتح المبين ( مليالم )، كاليكوت، مكتبة الهدى، 1996، ص: 29
[5] سلينة. أن، حركة المقاومة لعلماء كيرالا كما تنعكس في مؤلفاتهم العربية، رسالة دكتوراه، قسم العربية، جامعة كاليكوت، 2008، ص: 113
[6]  عبد العزيز المنقادي، ترجمة الفتح المبين ( مليالم )، كاليكوت، مكتبة الهدى، 1996، ص: 32
[7] الخطبة الجهادية ( النسخة المخطوطة )
[8] ك. ت. حسين، مسلمو كيرالا: إيديولوجيا النضال المقاوم للاحتلال ( مليالم )، كاليكوت، دار النشر الإسلامي، 2008، ص: 52، 53
[9] د. أحمد إدريس، الأدب العربي في شبه القارة الهندية حتى أواخر القرن العشرين، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، الهرم ( جمهورية مصر العربية )، 1998، ص: 419
[10] الدكتور ويران محيي الدين الفاروقي، الشعر العربي في كيرالا مبدأه وتطوره، كاليكوت، مكتبة عربنيت، 2003، ص: 78
[11] عبد الغفور عبد الله القاسمي، المسلمون في كيرالا، مالابرم، مركز أكمل للكتب، 2000، ص: 186
[12] إيليا حاوي، فن الخطابة وتطوره عند العرب،بيروت، دار الثقافة، ص: 18، 19
[13] نفس المصدر، ص: 8، 9 ( بتلخيص )
[14] كما يوجد في كتاب "عظماء مليالم" لمحمد علي المسليار النلكتي
[15]  الشيخ زين الدين المخدوم، تحفة المجاهدين في بعض أخبار البرتغاليين، مع تحقيق وتعليق حمزة جيلاكودان، كاليكوت، مكتبة الهدى، 1996، ص: 36
[16]  د\ جمال الدين الفاروقي، الأهمية التاريخية لقصيدة الفتح المبين، مقالة في مجلة كاليكوت، العدد الأول، نوفمبر، 2006، ص: 57
[17]  الشيخ زين الدين المخدوم، تحفة المجاهدين في بعض أخبار البرتغاليين، مع تحقيق وتعليق حمزة جيلاكودان، كاليكوت، مكتبة الهدى، 1996، ص: 42
[18] نفس المرجع، ص: 43
[19] د\ جمال الدين الفاروقي، الأهمية التاريخية لقصيدة الفتح المبين، مقالة في مجلة كاليكوت، العدد الأول، نوفمبر، 2006، ص: 59
[20] د\ كنكادهرن، مقدمة ترجمة الفتح المبين ( مليالم )، كاليكوت، مكتبة الهدى، 1996، ص: 17
[21] الشيخ زين الدين المخدوم، تحفة المجاهدين في بعض أخبار البرتغاليين، مع تحقيق وتعليق حمزة جيلاكودان، كاليكوت، مكتبة الهدى، 1996، ص: 61 - 63
[22] حكاية عبد العزيز المنقادي عن د\ أم. جي. أس. نارايانان، مقدمة ترجمة الفتح المبين (مليالم)، كاليكوت، مكتبة الهدى، 1996، ص: 28

مواضيع ذات صلة
أدب كيرالا, الأدب العربي الهندي, الاستعمارية, تراث الهند،, كيرالا,

إرسال تعليق

0 تعليقات