ادعمنا بالإعجاب

دور العلماء في مكافحة استقلال الهند

بقلم: دكتور معراج أحمد معراج الندوي (الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها جامعة عالية- كولكاتا)
 المصدر: مجلة "ثقافة الهند" المجلد 68 ،العدد 1 ، ینایر- مارس 2017



إن شهادة السلطان تيبو في عام 1799م غيرت مجرى التاريخ في الهند وقطعت كل رجاء في استقلال البلاد في مدة قريبة ودخلت الهند في أيدي الإنجليز الغاشمه بدون خلاف. ولم تعرف الهند في تاريخها الطويل قائدا عالي الهمة ثاقب النظر، وأشد غيرة على الدين والوطن وأعظم عداء وبغضا للمستعمر الأجنبي من السلطان تيبو. فكان الإنجليز يهابونه جدا ويعدونه أكبر منافس ، وأعدى عدو لهم ، ويعتبرونه عقبة في سبيل زحفهم وتحقيق نواياهم ، ويكفي لنا معرفة مدى خطره عندهم أن الجنرال"هارس"البريطاني قال يوم شهادته وهو واقف على جثمانه مند هذا اليوم الهند لنا ، أي ملكنا اليوم بلاد الهند فلا يمنعنا مانع ولاينافسنا أحد بعده، كما صرح بذلك الجنرال"ويلزلي" الحاكم البريطاني العام في الهند وقتئذ. لايجترئ أحد من حكام الهند وأمرائها علينا بعد موت تيبو.[1]
وقد أدرك العلماء المسلمون بأن سيطرة الإنجليز على الهند والقضاء على الحكم الإسلامي خطر على دينهم وثقافتهم ، وهذه السيطرة تؤدى المسلمين إلى العبودية ، وإن العبودية سواء كانت للأجانب أو للمستبدين لا تجتمع مع الإسلام ، وإن السعي للحرية والاستقلال وحمل الشدائد والمصائب والاغتباط بالموت في سبيله ، كل ذلك واجب المسلمين ، فلما رأى العلماء سيطرة كاملة لبريطانيا على الهند فلم يطيقوا الصبر أن يبقى وطنهم وأبناؤهم تحت الحكومة الإنجليزية الغاشمة فقاموا برفع صوتهم ضد الاستعمار البريطاني ، وهبوا لدفع هذا الخطر وإثارة الناس بمختلف الوسائل.
وحينما تجرأ مندوب الشركة الإنجليزية عام 1803م ، على إجبار الملك المغولي’’شاه عالم‘‘على توقيع القرارات وأعلن أن الأرض لله ، والبلد للملك ، والحكم للشركة[2] مشيرا   إلى أن السلطة تكون في يد الإنجليز ، وأما الملك فيبقي رمزيا بلا نفوذ . فعارض العلماء هذه الفكرة وقاموا في القضاء على سياستها الفاسدة، وبدأوا يوقظون في أهالي الهند الغيرة الدينية والحماسة الوطنية ، ويدعونهم إلى الجهاد والكفاح ، ضد الاستعمار البريطاني.
فأول من قام لحماية الملك ضد الحكومة الإنجليزية ، هو الشاه عبد العزيز الدهلوي الذي كان خليفة للشاه ولي الله الدهلوي في الدين والسياسة ، فأصدر الفتوى أن الهند الآن أصبحت دار حرب ، وقد وجب علينا وعلى المسلمين أن يهبوا للجهاد ضد الإنجليز الغاصبين ، لأن الحل والعقد صار بيد المسيحيين الإنجليز ، فهم يديرون الأمور ويعينون الموظفين ، ويلغون القضاء والأمن ، ولايحترمون الأمور السياسية للإسلام ، ويهدمون المساجد بغير اكتراث. من أجل ذلك تحولت بلادنا الهند من دار الإسلام إلى دار حرب ، فانتشرت فتوى الإمام في البلاد ، وكان لهذا الفتوى, صدى كبير وتأثير بالغ في المسلمين  وأحدثت ضجة فى صرح الاستعمار البريطاني ، فأخذ العلماء بالقرى والأرياف يحرضون الناس على الجهاد ، وسار جميع العلماء على نمطه في فتاواهم، إلا البعض القليل من العلماء الذين اصطبغهم الإنجليز واستجلبوا فتاواهم حتى من مكة المكرمة كي يقضوا على فكرة الجهاد التي يعتنقها بعض المسلمين في الهند ، ويعمل لها المتحمسون الفدائيون منهم.
وفي عام 1980م أرسل الشيخ’’الشاه عبد العزيز خليفته ومريده السيد أحمد الشهيدإلى النواب أمير علي خان ليلتحق في جيشه الذي كان يحارب ضد الإنجليز مع صديقه جسونت راؤ هلكر ، وهذه هي بداية للمقاومة العسكرية للعلماء ضد الإنجليز الغاصبين ، فمكث السيد الشهيد مع أمير علي خان وظل يحارب ضد الإنجليز حوالي عشرة أعوام ، ثم انفصل عنه حين رأى أن النواب رأى أن يصالح مع الإنجليز ورجع إلى دهلي ، ولكن شيخه الشاه عبد العزيز لم يقنط من هذه الظروف القاسية ، ولم يكف عن عمله ، إنه كان رجل العزم والهمة ، كرس حياته لخدمة الخلق وخصص جهوده لتحقيق مبدأ تتبناه مدرسة فكر الإمام الشاه ولي الله الدهلوي التي تولى رعايتها ، فأنه كان ينبه في خطبته ، بخطر الاستعمار ويحث الناس على الجهاد ، ويهـيِّئ الجولتأسيس جماعة تحت رئاسة السيد أحمد الشهيد ، فلا ندخل في عام 1818م ، حتى نرى أن كل الدويلات والطاقات التى كانت تقاوم الإنجليز ، خضعت لهم وسيطرت الحكومة الإنجليزية كل السيطرة على كل أرجاء البلاد ، ولم يكن هناك أي حزب أو قوة ، تصادم الإنجليز ، وهذه الجماعة كانت شعارها "فك كل نظام" يعني "الثورة الكاملة". ففي هذه الظروف العصيبة والأحوال السيئة أعد الشيخ عبد العزيز مع الرغم من كبر سنه وضعف بدنه وقلة بصره ، خطة للثورة المسلحة ن وشكل أول كتيبة وفقا لنظرية الإمام الشاه ولي الله الدهلوي.
فحص الشيخ عبد العزيز مواهب أتباعه ، ليكون توزيع المناصب على حسب الكفاءات والمؤهلات ، فاختار السيد أحمد الشهيد أميرا لهذه الجماعة من المجاهدين ، وجعل كلا من الشيخ إسماعيل والشيخ عبد الحي ، قائدا مساعدا مستشارا خاصا له ، ثم أرسل هذا الجيش تحت قيادة البطل الجرئ السيد أحمد الشهيد في صورة قافلة صغيرة تتكون من 50 نفرا فألبسه السيد أحمد الشهيد عمامته السوداء وقميصه الأبيض المستعمل إشارةً إلى أنه خليفة له وبطل للحرية وقائد للجهاد ، وأجازه للسفر. وهذه القافلة تتسم بطابع إرسالية دينية ، لم تهدف إلى إصلاح الناس وتطهير المجتمع مماعلق به من البدع والخرافات فحسب ، بل هدفت لتحرير الوطن وإعادة الحكم الإسلامي بإحداث الثورة المسلحة للقضاء على الحكم الإنجليزي.
غادرت هذه الجماعة من المجاهدين من دهلي سنة 1818م إلى المدن الواقعة في جهة الشمال وقامت بجولة في مختلف الأنحاء وأدى فيها المجاهدون خدمات إصلاحية ، كما نشروا الوعي السياسي ، ونفخوا روح الجهاد في نفوس المسلمين ، ثم وصلت هذه القافلة في بلدة "لكناؤ" حيث أقامت مدة أربعة أشهر واشتغلت في إصلاح الناس وإزالة الخرافات والبدع وتدريب المجاهدين.
وفي عام 1821م اجتمع المجاهدون تحت قيادة الشيخ السيد أحمد الشهيد وقاموا بجولة أطول وأشمل ، وعددهم يومئذ407 نسمات فخرجوا في سبيل الله ، وكانوا ينـزلون في المدن والقرى لأداء واجباتهم للحج والزيارة ، لأن بعض العلماء أصدروا الفتوى بأن فريضة الحج ساقطة عن المسلمين الهنود بسبب عدم الأمان في الطريق ، فأراد السيد أحمد الشهيد أن يسافر للحج لكي يحث الناس على هذه الفريضة المهمة. ويقول الشيخ عبيد الله السندي عن الهدف الذي كان يرى إليه الشيخ عبد العزيز الدهلوي ، من بعث السيد أحمد الشهيد في جولتين : لقد بعث الشخ عبد العزيز جماعة السيد أحمد الشهيد لأول مرة في الرحلة سنة 1431هـ ، ليأخذ بيعة الطريق (يريد ميثاق الأخلاق والإصلاح الروحاني) وأما تجهيزها للمرة الثانية سنة 1436هـ ، فإنما كان ليأخذ بيعة الجهاد ، وأمره بالسفر للحج على رأس القافلة بأسرها, يتدرب على طريقة الاحتفاظ بالنظام وتترقى موهبته القيادية وقدرته التنظيمية بالتجارب.[3]   
 ولما رجع السيد أحمد الشهيد مع أصحابه من مكة المكرمة إلى وطنه رائي بريلي اشتغل في استعداد الجهاد كما يكتب الشيخ جعفر التهانيسري ، وهو يصور نشاطات المجاهدين :"عندما وصل السيد أحمد الشهيد إلى وطنه ، بدأ يصلح منـزله الذي انهدم بعض أجزائه في غيابه ، ثم اشتغل في أخذ الاستعداد للجهاد ، وأرسل الشيخ إسماعيل والشيخ عبد الحي إلى القرى والأرياف ، ليدعوا الناس إلى الإسلام ويحثاهم على الهجرة والجهاد في سبيله . وفي هذه الأيام ماألقى خطبة ، إلا في فضيلة الهجرة والجهاد ، وهكذا غيرت نشاطات المجاهدين من الذكر والمراقبة والمشاهدة إلى تنظيف البنادق وصقل السيوف وتدريب الحصان وما إلى ذلك. فهكذا تحول هؤلاء الصوفية ، جنودا واحتلت السيوف مكان التسبيح ،كما احتل لباس المجاهدين مكان لباس الصوفية.[4]  
سافر السيد أحمد الشهيد مع أصحابه 17 من يناير عام 1826م من رائي بريلي للجهاد في سبيل الله إلى شمال الغرب ، بعد أن أمضى مدة سنتين في استعداد الجهاد ، حتى وصل إلى’’جارسده‘‘حيث أقام وجعلها مركزا للجهاد ، وقد استغرق هذا السفر عشرة أشهر تقريبا. ومن الجدير بالذكر أن عدد المجاهدين كان خمس مائة عند الخروج ولكن أصبح عددهم ألف وخمس مائة في’’جارسده‘‘علاوة عن ذلك بدأت تصل جماعات المجاهدين إلى’’جارسده‘‘من كل نواحي البلاد.
            وقعت المعركة الدامية بين هؤلاء المجاهدين والسيخ ، الذين فرضوا الحظر على الأذان وذبح البقرة ، وضيقوا الأرض على المسلمين في هذه المناطق ، فدارت الحرب بين هؤلاء المجاهدين والسيخ في 21 من ديسمبر عام 1826م ، فانتصر هؤلاء المجاهدون على عدوهم السيخ ، ثم أسسوا حكومة إسلامية على منهاج الكتاب والسنة ، وجعلو "بشاور" عاصمة لها ، واختاروا السيد أحمد الشهيد أمير المؤمنين ، وعينوا قضاة ، وأقاموا حدودا. قال الشيخ السيد محمد ميان عن ذلك: إن هذه الجماعة من المجاهدين لم يوجد لها نظير في التاريخ بعد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، فتجددت ذكرى الصحابة وأضافت صفحة جديدة في تاريخ الدعوة الإسلامية والتجديد الإسلامي.[5] 
وفي عام 1831 م ، اصطدم المجاهدون مرة أخرى بجيش السيخ الذي كانوا يذيقون المسلمين أسوأ العذاب ، فبعد معركة عنيفة ودامية استشهد الإمام السيد أحمد وصاحبه إسماعيل 7من مايو عام 1831م ، في وادي بالاكوت. إن هذه الحركة الإسلامية التي قادها السيد أحمد الشهيد وأصحابه في الهند ، تستحق أن تعتبر أعظم حركة إسلامية ، لكونها حركة دينية ودعوية وسياسية شاملة ، ولم يكن تأثير هذه الحركة مقتصرا على العهد الذي نشأت فيه أو الزمن الذي عاصرته ، بل إن آثارها الطيبة باقية في حياة المسلمين الدينية والثقافة إلى هذا اليوم.
ثورة عام 1857م :
لم يكف العلماء عن مسؤوليتهم نحو دينهم ووطنهم. فهبوا يعملون لإعادة ما فقد المسلمون من مجد وعظمة وعز وشرف ، وبدؤوا في الجهاد والانقلاب لإنقاذ الوطن من براثن الاستعمار. فقام السيد أحمد الشهيد والشيخ إسماعيل الشهيد أول مرة بعد حركة تجديدية فكرية للإمام الشاه ولي الله الدهلوي بتجربة التحرير والجهاد ضد الإنجليز ، فاستشهدا في هذا السبيل عام 1831م ، وفشلت حركة التحرير ولكن نيران الجهاد التي أشعلها هؤلاء المجاهدون لم تخمد وإنما التهبت بصورة ثورة عام 1857م ، فساهم فيها العلماء الأبطال بكل مالديهم من قوة مادية ومعنوية وفي حماس بالغ ونشاط ملموس ، ولكن هناك فرصة تستحق أن نفرد لها مكانا خاصا ، وهذه هي الوقعة التي دارت رحاها في شاملي المدينة التابعة لمديرية مظفر نكر بين العلماء والإنجليز. فعندما وقعت الثورة في دهلي كان تلامذة مدرسة الشاه ولي الله الدهلوي ، وأتباع السيد أحمد الشهيد لم يكفوا عن الحرب والجهاد ، حتى بعد استشهاد أميرهم في بالاكوت ، فلا عجب أن ينتهزوا الفرصة في هذه الثورة العامة ويخوضوا غمارها.
 الحركة الثانية:
قامت حركة ثانية للعلماء تحت قيادة الحاج إمداد الله التهانوي ، والشيخ رشيد أحمد الكنكوهي ، والشيخ محمد قاسم النانوتوي ، والحافظ محمد ضامن ، فشمر هؤلاء العلماء الأبطال عن سواعدهم ، ودعوا الناس إلى الجهاد ، وكونوا جيشا من العلماء واختاروا الحاج إمداد الله إماما لهم ، والشيخ محمد قاسم قائدا عاما ، والشيخ رشيد أحمد قاضيا ، والشيخ محمد منير والحافظ محمد ضامن قائدين على الميمنة والميسرة ، وكانوا جميعا محل ثقة من العامة ، فاجتمع المجاهدون حولهم من كل ناحية من أنحاء البلاد ، وأتوا بأسلحتم ، وكانت كلها من الطراز القديم ، وكانوا يتدربون على الفنون الحربية من قبل.
دارت الحرب بين العلماء والإنجليز في"تهانه بهون"التابعة لمظفر نكر فانتصر هؤلاء العلماء على الإنجليز ، وأقاموا فيها الحكم الإسلامي وأخرجوا منها الحكام الإنجليز ، ولما وصلت هذه الأنباء إلى الإنجليز ، تحركوا للقضاء على هؤلاء الأبطال بالأدوات الحربية المستجدة ، ومعهم مدافعهم متجهين إلى"شاملي" ولما علم العلماء بذلك بدؤوا يفكرون كيف يمكن لهم أن يقاوموا مدافعهم بالسيوف المنكسرة والبنادق القديمة ، ولم يلبثوا كثيرا حتى رأى الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي أن يغامر بخطوة جريئة ضد هذه القوة الزاحفة ، فأسرع مع كتيبة تتكون من أربعين مجاهدا وأخفوا أنفسهم وراء الأشجار في طريق هذه القوة حتى إذا مرت بهم أطلقوا عليهم بالرصاص ففر الإنجليز وتركوا مدافعهم وأسلحتهم واستولى عليها المجاهدون وألقوها أمام الناس على باب المسجد ، فأثار هذا الإقدام شعلة الجهاد في نفوس المجاهدين.
            ثم دارت معركة حامية بينهم وبين الإنجليز في مدينة "شاملي" استشهد فيها الحافظ محمد ضامن, قائد الميسرة ، وقد شارك في هذه المعركة جميع الأهالي حتى النساء والصبيان  ولكن بعد فترة جاءت الأخبار المؤسفة من دهلي حيث انهزم الثوار واستولى الإنجليز على دهلي من جديد ، وهكذا خمدت فيهم روح الحماس ، فلم يجدوا بدا من إلقاء السلاح والتخلص من أيدي أعدائهم الذين أخذوا يطاردونه لينتقموا منهم ، فهاجر الحاج إمداد الله إلى مكة المكرمة وألقي القبض على الشيخ رشيد أحمد وبقي في السجن ستة أشهر إلى صدور قانون العفو العام فأفرج عنه. وأما الشيخ محمد قاسم النانوتوي فقد اختفى حتى صدرو قانون العفو العام فسلم من السجن.[6]   
ومن الواضح أن ثورة عام 1857م ، كانت ثورة شعبية ، قاتل فيها المسلمون والهندوس جنبا إلى جنب ، ولم تعرف الهند حماسة وطنية ووحدة شعبية ، قبل هذه الثورة ، ولكن كانت المساهمة للمسلمين أكثر من شعوب أخرى. وكان منهم العدد الأكبر والأهم من القادة الزعماء ، وقد ساهم فيها المجاهدون الذين كانوا من أتباع السيد أحمد الشهيد ، فلذا نرى السير "هنتر" قال في هذا الصدد : إن جمرات الجهاد التي أشعلها السيد أحمد الشهيد في عام 1831م ، ألهبت نار هذه الثورة.[7]  
وكما ذكرنا سابقا أن القيادة لهذه الثورة ، كانت في أيدي المسلمين ، خاصة في أيدي العلماء الأبطال ، وكان هؤلاء العلماء المجاهدون ، يحملون هذه الروح المثالية العالية في فدائها. .... وتضحياتها ، فإن الكثرة الكاثرة من المسلمين كانوا يشاركونهم من بعد ، ويعملون مايستطيعون لإظهار شعورهم بالكراهية ، نحو الإنجليز والحكومة الاستعمارية في صور مختلفة.
قال سماحة الشيخ أبو الحسن علي الندوي عنهم : وقد كان من أكبر العلماء والمشائخ الذين قادوا الثورة وأشهرهم  مولانا أحمد الله ، ومولانا لياقت علي وهما اللذان يتزعمان الحركة وكان الجنرال بخت خان هو القائد العام ونائب الملك ، وكان الحاج إمداد الله ، والشيخ محمد قاسم  ، والشيخ رشيد أحمد ، والحافظ محمد ضامن الشهيد وغيرهم ممن كانوا فيها خاضوا بعض المعارك.[8] وقد ذكر الكاتب الهندوسي’’سندري لال‘‘ عددا من كبار المساهمين في هذه الثورة ، منهم الشيخ أحمد الله خان بهادر بير علي كريم. ويقول سندري لال : "ما من شك أن اسم الشيخ أحمد الله الشاه من شهداء عام 1857م سيخلد محترما في تاريخ شهداء الحرية في العالم".[9]  
ولكن القدر شاء غير ما شاؤوا فأخفقت الثورة وفشلت هذه الحركة الثانية أيضا ودخلت الهند في الحكم المباشر للتاج البريطاني ، ونتيجة لذلك شاع اليأس في المسلمين خاصة ، والشعب الهندي عامة ، ولكن العلماء الربانيين لم يقنطوا ولم تضعف عزائمهم ، فأخذوا يفكرون في طرق يمكن بها ، مقاومة الأغراض الاستعمارية ، فقرروا تكوين جبهة قومية تعليمية ، يقومون بواسطتها مقاومة الغزو الفكري الإنجليزي في جانب ، والمحافظة على الثقافة الإسلامية في جانب آخر ، ولهذا الغرض أنشئت في "ديوبند" الجامعة الإسلامية دارالعلوم كقلعة إسلام ومعسكر للمسلمين.
الحركة الثالثة:
من المعلوم أن الحركة التى بدأها السيد أحمد الشهيد ، ما توقفت بعد استشهاده ، بل كانت تجري في مختلف المناطق الهندية على أيدي أتباعه ، وكان لهذه الحركة بعد وفاته مركزان  الأول : في دهلي ، والثاني : في صادق فور"بتنه" أما مركز دهلي ، فغير أسلوبه ومنهجه وبدأ يعمل بطراز جديد من الفكر للاستقلال ، واختار الطريق فيما بعد للمقاومة علي القومية المشتركة ، وهذه الفكرة ، هي التي اختار حزب المؤتمر الوطني بعد خمسين عاما وسماها القومية المتحدة.
أما المركز الثاني في صادق فور "بتنه" فتقلد وسار على منهجه القديم ، وبدأ يحاول لتحرير الوطن عن الطريق الذي اختاره مؤسس هذه الحركة السيد أحمد الشهيد يعني الكفاح المسلح ، وكانت هدفت إلى الهجرة والجهاد والتضحية وما إلى ذلك.[10] قد أسس هذا المركز في صادق فور بتنه ، الشيخ ولايت علي ، الذي كان من أتباع السيد أحمد الشهيد ، وإنه زار السيد أحمد في بلدة "لكناؤ"حينما كان يحضر حلقة الدرس للأستاذ محمد أشرف ، فتأثر بحركته تأثرا عظيما ، وبايع على يديه ، وعندما تخرج من تحصيل العلوم رجع إلى وطنه "بتنه" بيهار حيث قام بإنشاء هذا المركز الإسلامي ، وبدأ يدعو الناس إلى الله ، ويحث المسلمين على الهجرة والجهاد.[11]
ثم قام بجولة في القرى والأرياف في ولاية بنغال وظل يحث الناس على الجهاد حتى وصل إلى كولكاتا حيث عين بديع الزمان إماما في مسجد "مصري غنج " بصفته خليفة له ، ثم قصد إلى مومبائي وأقام بها شهرين ، يدعوالناس إلى الإسلام وينفخ في قلوب المسلمين روح حب الحرية ويلهب شعلة الجهاد التي أشعلها الشيخ السيد أحمد الشهيد ، فعندما رجع إلى "صادق فور" أعد المجاهدين حوالي خمس مائة وأرسلهم إلى بالاكوت  حيث ألقي القبض عليه ، وكثير من أصحابه قتلوا ، ولكن عندما أخرج من السجن بدأ ينظم المجاهدين من جديد ، فأدركت الحكومة الإنجليزية هذا الخطر ، وقامت بالقضاء عليهم ، وفي نهاية المطاف فشلت هذه الحركة الثالثة في عام 1882م.
الحركة الرابعة:
ثم نشأت حركة رابعة أقوى وأعم ، تحت قيادة شيخ الهند محمود حسن الديوبندي ، رئيس هيئة المدرسين بدار العلوم ديوبند ، وكان من أعضاء هذه الحركة الدكتور مختار أحمد الأنصاري ، ومولانا أبو الكلام آزاد ، والحكيم أجمل خان، والحاج عبد الغفار خان ، ومولانا عبد الرحيم ، والبرو فيسور بركت الله ، وراجه مهندر برتاب سينغ ، وهرديال سينغ ، ورام جندر، والشيخ عبيد الله السندي ، والشيخ مصنور أحمد الأنصاري ، والشيخ حسين أحمد المدني ، وغيرهم من كبار القادة.
وكانت هذه الحركة سرية جدا ، أعد شيخ الهند خطة بدقة تامة ، وحصل على مساعدة عدد كبير من كبار الشخصيات في طول البلاد وعرضها ، كما حصل على دعم ومساعدة حكومة أفغانستان والخلافة العثمانية وألمانيا  وهذه الحركة الثورية ، تهدف إلى قضاء الحكم الإنجليزي من الهند. ولتحقيق هذا الغرض النبيل أرسل تلميذه الشيخ عبيد الله السندي ، والأمير مهندر برتاب سينغ ، والبرو فيسر بركت الله إلى أفغانستان ، حيث قاموا بتأسيس حكومة هندية مؤقتة ، وعقدوا اتفاقية مع روسيا وتركيا وألمانيا ، واتفقوا على أن تقام الثورة في داخل الهند ، يهاجم عليها من الخارج هجمات قاسية لاستخلاص الوطن من براثن الاستعمار.[12]    
ومن سوء الحظ انكشف السر وعلم الحكام الإنجليز، هذالمخطط ، واطلعوا على الخرائط التي كانت مرسومة على منديل حريري ، ولهذا اشتهرت هذه الحركة بـ’’حركة الرسائل الحريرية‘‘(أي)’’ريشمي رومال ، فألقى القبض على شيخ الهند ورفقائه وسجنوا في مالطة ، وهكذا  فشلت هذه الحركة الرابعة التحريرية أيضا ولكنها خلفت آثارها في الحركات التحريرية الأخرى ومهدت السبيل لحركة أخرى على هذا النمط ، على سبيل المثال : (القوات للهند المستقلة) "آزاد هند فوج" لسباش جندر بوس. فطوبى لهؤلاء الأبطال الذين ضحوا بأنفسهم وأموالهم وبكل مالدهم من الطاقات والثروات في سبيل تحرير الهند واستقلالها.
لم يكف العلماء الأبطال ، بعد فشل هذه الحركات الأربعة الثورية ضد الاستعمار البريطاني ، وإنما ظلوا يقاومون الاستعمار عن طرق مختلفة ، ولا حاجة لنا أن نذكر دور العلماء في مقاومة الاستعمار البريطاني ، تحت لواء حزب المؤتمر الوطني فاشترك العلماء في حزب المؤتمر الوطني ، وعلى رأسهم الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي الذي قاد جيش العلماء أيام الثورة عام 1857م ، والشيخ عبد القادر اللودهيانوي وغيرهم.
يقول سماحة الشيخ الندوي عنهم: "إن عددا كبيرا من مفكري المسلمين الأحرار، وفي مقدمتهم علماء الدين ، كانوا يرون تأييد المؤتمر ويرون المساهمة في الحركات السياسية الوطنية، ولا يعتقدون أن السياسة هي الشجرة الممنوعة للمسلمين ، فأصدر الشيخ عبد القادر اللودهيانوي مجموعة من الفتاوى وسماها "نصرة الأبرار" في تائيد المؤتمر الوطني سنة 1886م. وكان من الموقعين عليها كبار العلماء في حواضر الهند المشهورة وفي المدنية المنورة ، وبغداد ، ومنهم العالم الرباني الجليل مولانا رشيد أحمد الكنكوهي ، والأستاذ الكبير مولانا لطف الله العليكرهي. وكان هؤلاء العلماء الذين عاونوا المؤتمر هذه المعاونة من المتحمسين ضد الإنجليز ، وكانت لهم مواقف خالدة في الدفاع عن الوطن والكفاح ضد الاستعمار البريطاني في الهند.[13]
حركة الخلافة:
بدأت الحرب العالمية الأولى في سنة 1914م إذا أعلنت بريطانيا الحرب ضد ألمانيا ، ونزلت تركيا في هذه المعركة  من قبل ألمانيا وشاركت أمريكا مع بريطانيا. فدارت الحرب واستمرت نحو أربعة أعوام . وانتصرت فيها بريطانيا والبلدان الحليفة لها. وفي نهاية الحرب تصرفت الحكومة البريطانية ، مع الدولة التركية تصرفا مجحفا ، وقسمتها إلى أجزاء ، وقضت على الخلافة العثمانية ، فتأثر المسلمون الهنود بهذه الحادثة تأثرا عظيما ، ورفعوا صوتهم ضد هذا القضاء على الحكم العثماني. وأسسوا حركة باسم"حركة الخلافة" سنة 1919م تحت قيادة مولانا محمد علي جوهر, وشوكت علي, ومولانا أبو الكلام آزاد, في تأييد الخلافة العثمانية والمحافظة على حرمات الأماكن المقدسة وفي أثناء الحرب ، نجد أن أباالكلام آزاد يدعو المسلمين والهندوس إلى مقاطعة الإنجليز ، وعدم الولاء لهم ، حتى زج به في السجن. وفي الوقت الذي كان يطوف المهاتما غاندي في البلاد ، تأثر بهذه الحركة عندما رأى حماسة المسلمين الدينية تجاه الخلافة ، وإن كانت قضية الخلافة ، قضية تخص المسلمين ولكن بالرغم من ذلك أيدها المهاتما غاندي تأييدا قويا ، وضمها إلى حركة عدم التعاون مع الإنجليز ، فصارت هذه الحركة حركةً قوميةً هنديةً وفي مدةٍ قليلةٍ غابت حركة الخلافة من صفحة الأرض ولكنها تركت آثارا في سبيل تحرير الهند بحيث أنها وحدت المسلمين والهندوس على رصيف واحد.
            خلاصة القول أن العلماء كانوا في طليعة المناضلين لتحرير البلاد وإجلاء المستعمرين. وقد قِيْدَ كثير منهم إلى جزائر إندمان أو إلى منفى جزيرة مالطة ، ومنهم من قضى شطرا من حياته في السجون في داخل البلاد. فالحق لنا أن نقول: إن تاريخ حركة التحرير والاستقلال  مقترن بتاريخ العلماء في الهند ، فلا يمكن لنا أن نفصل أحدهما عن الآخر.

المراجع والمصادر




[1]  البعث الإسلامي، العدد9،جمادي الثانية، 1420من الهجرة، ص، 71
[2]  مولانا سيد محمد ميان: علمائ هند كا شاندار ماضي، ج: 2 ص78، كتابستان، قاسم جان استريت دهلي،1957
[3]   الكفاح، ص:4 العدد11 أغسطس 1981م جمعية علماء هند، دهلي
[4]  مولانا سيد محمد ميان: علمائ هند كا شاندار ماضي، ج: 2 ص183، كتابستان، قاسم جان استريت دهلي،1957
[5]   نفس المصدر ص: 19
[6]  عبد المنعم النمر: كفاح المسلمين في تحرير الهند، ص: 17 مكتبة وهبية 14 شارع الجمهورية بعابدين ، مصر، عام 1967
[7] السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي: المسلمون في الهند، ص: 148، المجمع الإسلامي العلمي لندوة العلماء، لكناؤ، الهند 1998م
[8]     نفس المصدر ص: 148
[9]   سيد ابراهيم فكري: هندوستاني مسلمانون كا جنغ آزادي مين حصة ص:208، غفار منزل ، جامعة نكر نئ دهلي 1999م
[10]  مولانا سيد محمد ميان: علمائ هند كا شاندار ماضي، ج:3 ص7-8 ، كتابستان، قاسم جان استريت دهلي- 1957
[11]  نفس المصدر ص: 14
[12]  مولانا أسير أدروي: حضرت شيخ الهند: حيات اور كارنامي، ص: 196، شيخ الهند اكيدمي، دار العلوم ديوبند 1998م
[13]  السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي: المسلمون في الهند، ص: 148، المجمع الإسلامي العلمي لندوة العلماء، لكناؤ، الهند 1998م

مواضيع ذات صلة
القضايا الوطنية الهندية, تاريخ الهند, تراث الهند،,

إرسال تعليق

0 تعليقات