ادعمنا بالإعجاب

العولمة ليست إلا احتلالا جديدا

د/ إسماعيل الفيضي كاينا*

العولمة ظاهرة قادمة من الغرب من مجتمعات متقدمة حضاريا، متجهة إلى مجتمعات نامية ومتخلفة، تلك الظاهرة التي برزت مع الأفكار الأساسية التي يبشر بها النظام العالمي الليبرالي الجديد، وهي ظاهرة متعددة الجوانب تشمل انفتاح الاسواق واتساع معدلات التجارة الدولية وتدفق العمالة وراس المال والتكنولوجيا اضافة الى اتساع معدل انتقال الافكار، والقيم واساليب الاستهلاك وتعني رفع الحواجز الجغرافية والثقافية والاجتماعية وانفتاح الثقافات والحضارات الإنسانية  بعضها على بعضها  وذلك جاء بوسع الانسان بسبب تأثير الثورة التقنية والتكنولوجية والمعلوماتية وقدرة الاتصالات، بحيث ازدادت كثافة وسرعة وحجم الاتصالات والتعاملات والنشاطات الإنسانية بصورة تؤدي إلى عولمة الواقع البشري· وجعل البشرية كلها تعيش في ظروف نفسية وثقافية واجتماعية وحضارية توحد مصيرها، وتعولم مشكلاتها.

وهي موضوع شامل ومعقد وهناك مفاهيم عدة للعولمة حسب اتجاه التيارات الفكرية الايديولوجية للمفكرين والباحثين، فمنهم من  ينظر للعولمة على انها ظاهرة لتطور تاريخي طبيعي، ومنهم من  يعدها ظاهرة سياسية او اقتصادية أوتكنولوجية والبعض الاخر يعدها ظاهرة ثقافية اجتماعية.
وهناك اخرون يرون ان العولمة ظاهرة حتمية لاخيار لنا في رفضها وليس امامنا الا قبولها والتسليم بها ومعايشتها والعمل قدر الامكان على درء مخاطرها والاستفادة من ايجابياتها وحسناتها، كما ان المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها، شعر كل من  الدول أنه لايستطيع  بمفرده ان يتغلب عليها، لهذا بدأت الدول تشعر بضرورة التعاون مع بعضها بالاعتماد المتبادل ووجود وفاق بينها يؤدي الى المحافظة عليها
وقد ورد مصطلح العولمة وشاع بعد عام 1995،  فصموئيل هنتغتون صاحب مقالة صدام الحضارات واعادة بناء النظام العالمي وكذلك فرانسيس فوكوياما صاحب نهاية التاريخ لم يستعملا المصطلح بعينه وانما اشارا الى فشل الاشتراكية ونجاح النظرية الراسمالية الغربية ولكن ما ان بدأ استعمال المصطلح ياخذ مدلولات متعددة الاتجاهات، حتى برزت تعبيرات أخرى كالكونية، والكوننة، والكوكبة، والامركة، والغربنة) وهذه الكلمات جاءت مترادفة للمصطلحات في اللغتين الانجليزية Globalization وبالفرنسية Mondalisation   الا ان تعبير العولمة قد شاع واتسع نطاق استعماله مع مرور الوقت على الرغم من اختلاف تفسير وشرح وتحديد اطرافها البعيدة .
اتسع مفهوم العولمة في ظل النظام العالمي الجديد الذي هدف به مبتكروه العلماء الاجتماعيون المتعصبون إلى فرض سيطرة الدول المتقدمة، وفي مقدمتها أمريكا، حضاريا على العالم، وقد تغذى هذا المفهوم بمجموعة من التنظيرات لعلماء الاجتماع وفلاسفة ومفكرين مدعين لاستيلاء الغرب على العالم، وفي مقدمتهم صمويل هنتجتون الذي ذهب في كتابه (صراع الحضارات) إلى تفضيل الحضارة الأمريكية واعتبارها النموذج الأرقى والجدير بترسيخ مركزيته في العالم، والاحتداء من طرف الدول الأخرى، وأيضا عالم الاجتماع الياباني الأصل فرنسيس فوكاياما الذي أكد من خلال كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) على أن كل الإديولوجيات التي تعاقبت على التاريخ وقدمت تصورها لتغيير المجتمع اضمحلت عن الوجود، مثل النموذج الاشتراكي، باستثناء النموذج الأمريكي الذي يراه النموذج الذي استطاع تحقيق تنمية حضارية شاملة، والديمقراطية للمجتمع الأمريكي، بالرغم مما يعرفه من تنوع في نسيجه الاجتماعي، هذا بالإضافة إلى مفكرين آخرين مثل ريتشارد وليوتار، وبودريار الذين احتفوا بالتطور التكنولوجي والحضاري الهائل الذي حققه النموذج الأمريكي، مؤكدين على صلاحيته لسيادة العالم دون التساؤل عن الأخطار الناجمة عن ذلك مثل استئصال الخصوصية النوعية للشعوب الأخرى ومصادرة حريتها، وحق تمثيل نفسها تماشيا مع إرثها الحضاري، والواقع أن بروز العولمة  راجع أيضا إلى تراجع النموذج الاشتراكي الذي كان مزدهرا في أوروبا الشرقية، مما أفسح المجال أمام النموذج الأمريكي ذي النزعة الرأسمالية، للتسلط والهيمنة على العالم بما فيه العالم العربي، وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن المجتمعات العربية والإسلامية هي الأكثر تأثرا بمضاعفات العولمة وسلبياتها لكونها عاجزة عن تبادل التأثير مع الغرب المتقدم، أو إنتاج خصوصية في سائر المجالات، ومن هذا المنطلق فإننا نستنتج أهم انعكاسات العولمة على المجتمع الإسلامي:
1. في العقيدة: لعل من أخطر ما تحمله العولمة هو تهديدها لأصل العقيدة الإسلامية، وذلك لأنها تشتمل على الدعوة إلى وحدة الأديان، وهي دعوة تنفض عقيدة الإسلام من أساسها وتهدمها من أصلها، لأن دين الإسلام قائم  على حقيقة أنه الرسالة الخاتمة من الله تعالى للبشرية الناسخة لكل الأديان السابقة التي نزلت من السماء، ثم أصابها التحريف والتغيير ودخل على أتباعها الانحراف العقائدي والعولمة تشجع ما يسمى بـ:(حوار الأديان) لا على أساس دعوة الأديان الأخرى إلى الإسلام بل على أساس إزالة التمييز بين الإسلام وغيره بالحوار الذي يتوقعون أنه سيحمل المسلمين على التنازل عن اعتزازهم بدينهم واعتقادهم ببطلان غيره، وبذلك يزول التعصب وتتقارب الأديان. وتنجلي خطورة هذه الدعوة في كونها تنفض عقد الإسلام من أصله. والله تعالى قال:  ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
2. في الموقف  من الدنيا:  فالكون – في نظر العولمة الثقافية والفكرية- لم يخلق تسخيرا للإنسان، ليكون ميدان امتحان للناس ولابتلائهم أيهم أحسن عملا؛ والإنسان لم يخلق لهدف عبادة الله تعالى، والحياة ليست إلا صراعا ابتدأ منذ خلق الإنسان بين الحق الذي يمثله الرسل والأنبياء وأتباعهم الذين يدعون إلى سبيل الله تعالى بالوحي، وبين الباطل الذي يدعو إليه الشيطان. هذه المفاهيم الأساسية للعقيدة الإسلامية، ليست في نظر العولمة الفكرية والثقافية سوى خرافة.
3. في مبادئ الشريعة الإسلامية: كما أن العولمة تحمل في طياتها نقضا لأحكام الشريعة الإسلامية بفرضها مبادئ تخالف الشريعة، ومن الأمثلة الواضحة على هذا: قضية فرض مفهوم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، فهذا المفهوم منصوص عليه في الميثاق العالم لحقوق الإنسان، ومقتضاه إزالة جميع الفوارق على الأحكام والحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة، وهو الأمر الذي يتناقض مع الشريعة الإسلامية التي تقوم على أساس الفرق الفطري والخلقي بين الرجل والمرأة، ذلك الفرق الذي يقتضي اختلافا في بعض الأحكام والحقوق والواجبات بحسب اختلاف الاستعدادات الفطرية والمؤهلات التكوينية بينهم. ولوإننا نستنتج أهم انعكاسات العولمة في  سلوك الشباب المسلم نرى أنها تظهر في المجالات المهمة:
1. في المجال الديني: لا يخفى على ملاحظ في سلوك الشباب ونشاطاته الدينية تأثير العولمة السلبي  فيه حتى يرى بعض الملاحظين الاجتماعيين أنها هي التي فصلت الشباب عن قيم دينهم، واعتقدوا بعدم صلاحيتها للاستمرار والتفاعل مع سيرورة العصر الراهنة نتيجة تأثرهم بمظاهر معتقدات جديدة يعرضها الإعلام الغربي، خاصة وأنها ترتبط بشخصيات ونجوم في الغناء والسينما، مما يدفع الشباب العربي إلى التأثر بمعتقدات هذه النجوم وتشربها للظهور مظهر الحداثة، حيث يظهر الشباب مستهترين بقيم دينهم الأصيل ومتحللين خلقيا، ومدمنين على الخمور والمخدرات والتجديف في المقدسات أسوة ببعض القيم والمظاهر التي يسربها الغرب إلى المجتمع العربي الإسلامي.
2. لهذا التأثير-   تبعيد الشباب عن القيم الدينية -  جانب آخر، وهو أخطر تأثير  تمارسه العولمة على الصعيد الديني، هو ظهور نزعات أصولية متطرفة، فنتيجة لسعي النظام العالمي الجديد الهادف إلى تسييد النموذج الأمريكي على العالم، وما يحمله من قيم متعددة جاء رد الفعل متطرفا من بعض الشباب العربي والمسلم ، وحاول الاحتماء من خطر الغرب بالرجوع إلى الماضي، والتعصب  للدين تعصبا أعمى ورفض كل أشكال الحوار والتعايش، وأثر في تشويه وجه الدين، حيث ظهر الشباب العربي المسلم في صورة المتطرف الرافض للحوار والتعايش ورسم للإسلام صورة قاتمة تنفر منه كل الشعوب، وسائر البشر، وتثبت صحة تلك الصور التخييلية التي رسمها الغرب للإسلام باعتباره مشجعا على الإرهاب والعنف والتطرف، ودليلا على البربرية.
والدعوة المتشددة إلى الرجوع إلى الماضي، والتسليم بكل ثوابته وقيمه واعتباره النموذج الأرقى والجدير بالإتباع لضمان التقدم دون مساءلة أو بحث، هو أمر يساهم في التخلف وعدم مواكبة مظاهر العصر الراهنة، كما أنه يتيح للغرب الفرصة للسيطرة علينا وتعميقها، لأنه يجد الحاضر فارغا بسبب هذا الانكفاء على الذات والإغراق في الماضوية، كما أن البحث عن حل للأزمة من طرف الشباب عن طريق الارتماء في حضن الماضي، هو أمر يحمل معه سلبيات أخرى ممثلة في تقديم الإسلام للغرب باعتباره عاجزا عن استيعاب مظاهر الحضارة الجديدة، ويؤكد تلك الأفكار التي اتخذها الغرب مطية لاستعمار الدول العربية.
3. وأظهر الآثار السلبية في سلوك الشباب في المجالات الاجتماعية، حيث نلاحظ ارتداء الشباب وخاصة الفتيات والنساء لملابس هي غاية في التحرر والابتذال بدعوى الحرية، متأثرين في ذلك بما تعرضه الأفلام الأمريكية من مظاهر الحرية، وإثبات الذات، ومتجاهلين بذلك حقيقة بالغة الأهمية وهي أن مظاهر التحرر التي تقدمها الأفلام الأمريكية للمرأة الأوروبية هي منسجمة إلى حد كبير مع خصوصية المجتمع الغربي الذي حقق العلمانية واللادينية منذ عصر النهضة، في حين أن المجتمع العربي له مرجعية مختلفة هي المرجعية الدينية الإسلامية التي تعتبر اللباس المحترم شرطا من شروط صلاحية الفرد واستقامته داخل المجتمع، وأهليته للإسهام البناء في تقدم مجتمعه.
والواقع أن خطورة هذا التحرر في اللباس لم تقف عند حدود المظهر الخارجي للفرد بل استتبعت معها انحرافا في السلوك، وتحللا في الأخلاق، ومن مظاهر انعكاسات العولمة على البنية الاجتماعية تراجع الدور التربوي الأسري، نتيجة انشغال الآباء بأعباء الحياة وتكاليفها الجديدة التي ازدادت مع نظام العولمة الأمر الذي جعل الأطفال عرضة لتأثر المباشر بوسائل الإعلام التي تزرع في روحهم العنف، وتشحنهم بقيم منافية لمجتمعاتهم مستوحاة من قيم المجتمع الغربي، وقد كان من نتائج ذلك تفكك الرابطة الأسرية وضعف تشرب الفرد لقيم أصيلة نابعة من سيرورة مجتمعه التاريخية ومتلاحمة مع القضايا الراهنة التي تشغل أمته.




* أستاذ مساعد، الكلية السنية العربية، تشيندمنغلور، كاليكوت.

مواضيع ذات صلة
شأون الخارجية,

إرسال تعليق

0 تعليقات