ادعمنا بالإعجاب

التصوف في كتابات أبي الحسن علي الحسني الندوي العربية

محمد إسماعيل الهدوي. أي.ب [1]

التصوف آداب وسلوك وأعمال كما أنه هو علم وفن أيضا، عماده تصفية القلب من أوضار المادة وقوامه صلة الإنسان بالخالق العظيم، تعرف هذه  من حدود التصوف التي تبلغ نحو ألفين،[2]. قال ابن عجيبة رحمه الله: " التصوف علم يعرف به كيفية السلوك إلي حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل وتحليتها بالفضائل، وأوله علم ووسطه عمل وآخره موهبة"[3]. والتصوف على رأي أبي الحسن الشاذلي رحمه الله "تدريب النفس على العبودية وردها لأحكام الربوبية"، وقال بعضهم "التصوف كله أخلاق فمن زاد عليك بالأخلاق زاد عليك بالتصوف"[4]. هذه المقالة تعالج اللمسات الصوفية في كتابات العلامة أبي الحسن علي الحسني الندوي، وخدماته أديبا صوفيا.
 أبو الحسن علي الندوي أديبا صوفيا
ومن الواضح جيدا أن أبا الحسن علي الندوي هو الذي بلّغ مجد  الهند مبلغ الآفاق، كرس حياته وأفكاره لتطور التعاليم الإسلامية والأدب العربي خلال تصنيفاته وخطبه، تصنيفاته عديدة وموفورة في شتى المجالات الإٍسلامية تتميز كلها بالدقة العلمية وبالغوص العميق في تفهم أسرار الشريعة وبالتحليل الدقيق لمشاكل العالم الإٍسلامي ووسائل معالجتها، عدا ما يمتاز به من روح مشرقة وخلق نبوي كريم كما يظهر لكل من له إلمام بكتبه المختلفة العديدة الموضوعات، ومن الجدير بالذكر أن علم التصوف الذي هو مدار بحث هذه المقالة أيضا قد حظي بتأليفات هذا العالم الأديب الصوفي.
والتصنيفات في علم التصوف  تصل إلى كمال النهاية  إذا كانت ممن تذوّقه من معينه، وعاش في بيئة صوفية وتنفّس من جوّ الإحسان والصلاحية، والشيخ أبو الحسن علي الندوي نشأ في البيئة الإيمانية الثقافية الخلقية المتّزنة المتوازنة، المتقدة بنور الإيمان والإحسان، كانت لهذه النشأة ثمار يانعة ونتائج حسنة، صار ذا خلق حسن وارتدى برداء الصوفية حتى كان مصلحا ربانيا يعيش حياة الزهد والورع واتصف برباني الأمة والرجل القرآني والمحمدي الذي جعل الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم أسوته في هديه وسلوكه وحياته كلها، واتخذ مسيرته نبراسا له في مسيره.
قد صنف كتبا كثيرة تتضمن شتى نواحي علم التصوف، فيها ما يبحث عن أصالته وجذوريته في الدين الإسلامي، وما يسرد سير الصوفيين والمصلحين وأعلام الدين، حتى إن أول مقالته في العربية في سنه الرابعة عشرة من عمره كانت حول شخصية الإمام السيد أحمد بن عرفان الشهيد[5] الذي أثّر بشخصيته الصوفية الجليلة طول حياته[6].
صنف هذه الكتب كلها في أسلوب أنيق ممتع جمع بين أسلوب الكتابة في العصر القديم والعصر الحديث، ينعكف القارئ في القراءة من غير ملل ولا سآمة، وينتهي منها مملوءة البطن والعلبة بأحمال العلم والحكمة، يذوب أمام استدلالاته لإثبات هذا الفن دعاوي أعداء التصوف كما يذوب البرق في الشمس.
ومن أهم المصنفات للشيخ أبي الحسن علي الندوي في هذا المجال:
ربانية لا رهبانية
إذا هبت ريح الإيمان
الدعوة الإسلامية في الهند
شخصيات وكتب
رجال الفكر والدعوة
المسلمون في الهند

إذا هبت ريح الإيمان
هذا الكتاب يشتمل على مقتطفات من تاريخ الدعوة والجهاد في الهند في القرن الثالث عشر الهجري، وأضواء علي حياة قائد هذه الدعوة والحركة السيد الإمام أحمد بن عرفان الشهيد وسيرة أصحابه ورفاقه وأخلاقهم في أمانة تاريخية وأسلوب قصصي.
يبدأ مقدمة الكتاب بقوله "إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالأعاجيب في العقيدة والأعمال والأخلاق"
ثم يردف قائلا: وقد هبت هذه الريح في الهند في فجر القرن الثالث عشر الهجري وتجددت ذكريات القرون الأولى يوم قام الإمام السيد أحمد بن عرفان الشهيد بدعوة التوحيد والتجديد والجهاد....." وبعد ذلك يلفت النظر إلى حياة الشيخ الشهيد وإصلاحاته الدعوية وأعماله الباسلة في معركة الجهاد وما إليه في الهند.
شخصيات وكتب
بين في هذا الكتاب أيضا سيرة بعض الشخصيات وجهودهم المحمودة في بذر فكر الإصلاح في قلوب الإنسان، وبعض الكتب التي أثرت في فكر المصنف وحوّل تيار حياته، وكذلك فيه بيان عن حياة من عاصرهم وتقديم لبعض الكتب المؤلفة علي أيدي معاصريه.
ربانية لا رهبانية
هذا الكتاب هو الذي قدمناه أنموذجا للبحث عن لمحات التصوف في كتب الشيخ أبي الحسن علي الندوي، هذا أيضا مجموعة عدة مقالات كتبت في أحيان مختلفة كما يشير إليه صاحب البيان أيضا يقول:
فهذه مقالات كتبت في أوقات مختلفة وفي مناسبات مختلفة، وبعضها حديث لم يطبع، تجمع بينها وحدة معنوية، وهي شرح فكرة على أساس العلم والتجربة.... ودفاع عن جماعة اشتدت حولها الخصومة في هذا العصر، ومعظم من يخوض فيها ويتحمس لا يعرفها معرفة شخصية عميقة ولا يتعب نفسه في دراستها[7].
يقول في أول الكتاب في الباب الأول "فراغ يجب أن يملأ" تحت العنوان الأول "جناية المصطلحات على الحقائق والغايات" أن السبب المهم في تولد الخلاف في أكثر الفنون الاصطلاحات الجديدة المتداولة بين الأئمة، ولو عدل عن هذه الاصطلاحات الجديدة إلى الأسماء القديمة لانحلت العقدة وهان الخطب، هكذا الأمر في علم التصوف أيضا، يقول:
"ومن هذه المصطلحات والأسماء العرفية التي شاعت بين الناس (التصوف)، ومن هنا ثارت أسئلة وبحوث وتساءل الناس ما مدلول الكلمة وما مأخذها؟.... ومتى حدثت هذه الكلمة؟ ولم نعرف لها أثرا في الكتاب والسنة وما جاءت في كلام الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، وكل ما كان هذا شأنه فإنه من البدع المحدثة، وقد حميت المعركة بين أصدقائه وخصومه والموافقين والمعارضين.
أما إذا عدلنا عن هذا المصطلح الذي نشأ وشاع في القرن الثاني ورجعنا إلى الكتاب والسنة وعصر الصحابة والتابعين وتأملنا في القرآن والحديث وجدنا القرآن ينوّه بشعبة من شعب الدين ومهمة من مهمات النبوة يعبر عنها بلفظ "التزكية"، ويذكرها كركن من الأركان الأربعة التي بعث الرسول الأعظم لتحقيقها وتكميلها"[8]، وخلال هذه السطور يثبت جذورية علم التصوف وأصالته في الدين، ويكبت منكري التصوف وكونها ركنا من أركان الدين.
ويقسم الشريعة وما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قسمين: الأول أفعال وهيئات كقيام وركوع وأدعية وأحكام ومناسك، والثاني كيفيات باطنية تصاحب هذه الأفعال والهيئات عند الأداء كالإخلاص والاحتساب والتوكل والصبر وما إليها، والأول يسمى فقه الظاهر والثاني فقه الباطن.
وأشار في الكتاب أيضا إلى الملحدين الذين خلّطوا الحابل بالنابل وجنايتهم على التصوف[9]، وبعد ذلك يشير إلى أن التصوف هو الحل الوحيد في هذا العصر الذي تدهورت فيه الصلاحية وغلبت الطلاحية، وعصرنا هذا عصر الأزمات الأخلاقية؛ فهو عصر الشهوة والنزوة والمادة، والانحراف الخلقي والفراغ الروحي. وقد أصبحت الحاجَة اليوم ملحة إلى التصوف. 
والشيخ يبين هذه الحقيقة أمام القارئ تحت عنوان "الأزمة الروحية والخلقية في بعض الأقطار الإسلامية:  سببها وعلاجها" ويقول:
"انظر إلى بلاد ضعفت فيها الدعوة إلى الله والربانية وتزكية النفوس من زمان، ندر فيها وجود الدعاة إلى الله وتجديد الصلة بالله وإصلاح الباطن بنفوذ الحضارة الغربية أو للقرب من مركزها أو بفعل عوامل أخرى، إنك لتشعر فيها بفراغ هائل لا يملؤه التبحر في العلم ولا التعمق في التفكير، ولا فضل من ذكاء، ولا غنى من أدب ولا نسب قريب بلغة الكتاب والسنة، ولا نعمة من استقلال، إنها أزمة روحية وخلقية لا علاج لها، ومشكلة من أدق مشكلات المجتمع لا حل لها، فالدهماء والشعب فريسة المادية الرعناء، ونهامة المال العمياء والأمراض الاجتماعية والخلقية، والمثقفون -الثقافة الدينية أو المدنية- فريسة الحرص على الجاه والمنصب، والأمراض الباطنية من حسد وشح ورياء وكبر وأنانية، وحب الظهور ونفاق ومداهنة، وخضوع للمادة وللقوة. والحركات الاجتماعية والسياسية تفسدها الأغراض وعدم تربية النفوس وضعف القادة. والمؤسسات يفسدها الخلاف والشقاق وقلة الشعور بالمسؤولية والتفكير الزائد في المادة وزيادة الرواتب.
والعلماء يضعف سلطانهم اهتمامهم الزائد بالمظاهر وخوفهم الزائد من الفقر، وسخط الخاصة والعامة واعتيادهم الزائد للحياة الرخية الناعمة. ولا علاج لكل ذلك إلا في (التزكية النبوية)، التي نطق بها القرآن وبُعث لها الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي (الربانية) التي طولب بها العلماء في قوله تعالى: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون). [آل عمران، 79]. إنني لا ألح على منهاج خاص من التزكية درج عليه جيل من أجيال المسلمين، واشتهر في الزمن الأخير بالتصوف...، ولكن لا بد أن نملأ هذا الفراغ الواقع في حياتنا ومجتمعنا، ونسد هذا المكان الذي كان يشغله الدعاة إلى الله والربانية والمشتغلون بتربية النفوس وتزكيتها وتجديد إيمانها وصلتها بالله، والدعوة إلى إصلاح الباطن، والعناية بالفرد قبل المجتمع...[10]
لم ترجع أمة حادت عن الجادة إلى الصراط المستقيم إلاّ بإرشادات المصلحين وتزكية الربانيين، يحقق ذلك بإيراد أسماء بعض من قاموا بهذه المجاهدات مثل الحسن البصري وفضيل بن عياض ومعروف الكرخي والجنيد البغدادي والشيخ عبد القادر الجيلاني عليهم الرحمة،[11]، وخضع التتار الذي فتح العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري أمام تعاليم الدين بربانية الصوفيين وصلاحيتهم، يحكي هنا قول المؤرخ المشهور تومس آرنولد من كتابه "دعوة الإسلام"([12](the preaching of islam
وفي باب واحد قد كمل سيرة ابن تيمية وفصل صلاحيته وإصلاحياته ومجهوداته كلها تحت عناوين خاصة، وبعد ذلك اختار بابا كاملا لبيان دور الصوفية الإصلاحي في الهند وتأثيرهم في المجتمع، وأبدى قائلا بأن العهد الإٍسلامي في الهند بدأ بهؤلاء الصوفية، وخاصة الشيخ معين الدين الأجميري رحمه الله، الذي اسس الطريقة الجشتية في هذه البلاد[13]، وسرد بعد ذلك عن المجددين والمصلحين في بلادنا الهند مثل الشيخ احمد بن عبد الأحد العمري السرهندي الذي ثبّت اقدام الإٍسلام المتزلزلة في الهند، وازال معالم الكفر والضلالة التي خلفها عهد اكبر الملك الغولي، وبعد ذلك عن الإمام ولي الله الدهلوي رحمه الله، قد لاحظ جوانب التقصير في الأمم الهندي وعالجها بأحسن العلاج، ثم الإمام السيد احمد الشهيد رحمه الله وغيرهم، وفي الباب التالي بين سهم الشيوخ والعلماء الربانيين في الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله وفي مقاومة الإحتلال الغربي[14]منهم عبد القادرالجزائري وشيوخ الطريقة النقشبندية والسيد احمد الشريف السنوسي واهل الطريقة السنوسية وما اليها
المسلمون في الهند
هذا الكتاب الفه الشيخ ابوالحسن علي الندوي مرجعا عظيما للجاهلين عن بلاد الهند والمسلمين فيها، قد خصص فيه بابا لبيان دور الصوفيين في الهند وتأثيرهم في المجتمع، يقول في هذا الكتاب " إن التصوف علم شريف، ومستمد من الشرع، وقائم على الشرع ولا يخرج عن الشرع، فكيف يأتي سفيه، ويقول: إن التصوف علم مبتدع، وليس له أصل في الشريعة، وهو زندقة ورجاله زنادقة، أعتقد أن هذا الكلام لا يخرج إلا من جاهل؛ فإن أقوال أئمة التصوف وأعلام الصوفية نجدها كلها تدور حول اتباع الكتاب والسنةوالابتعاد عما يخالفهما، وكلها تدعو إلى مكارم الأخلاق, وإلى الخوف من الله تعالى، وإلى تقواه وابتغاء رضاه, وتدعو إلى السخاء، والحاصل أنها تدعو إلى جماع الخير وتنهي عن جماع الشر، وفي هذا تبين لنا حقيقة التصوف، وهي أنه علم يقصد به صلاح المسلم والوصول إلى رضا الله والالتزام بالشريعة وترك ما خالفها بالكلية، وهذه هي غاية خلق الإنسان على هذه الأرض، وفي هذا بيان واضح لمن أراد أن يتعرف على حقيقة التصوف. فهل    فيما ذكر شيء لا يرضاه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟! هل في هذا ما لا يرضي العقل والدين؟! أعتقد لا، فهذا هو التصوف وهؤلاء هم الصوفية، وما خالف هذا نضرب به عرضالجدار، بل ونضربه بنعالنا، ونطأ عليه تحت الثرى."
            وفي صفوة القول، كان العلامة الشيخ ابوالحسن على الندوي  ممن اثّر بتعاليم التصوف وآدابه وحياة الصوفيين وسلوكهم منذ نعومة الأظفار الي آخر لحظاته في الحياة، حتي إن آخر لحظاته من قيد الحياة أظهر حجة على صفاء القلب وإخلاص النية، ابدى آرائه الموافقة للتصوف في كل الكتابات والخطابات بقلمه السيال وكلامه السلسال، وبهت امامه  المعاندون والمخالفون لعلم التصوف وأهله،




[1] الباحث – جامعة كاليكوت.
[2] - الشيخ عبد القادر عيسي رحمه الله، حقائق عن التصوف، ص 9
[3] - أحمد بن عجيبة، معراج التشوف الي حقائق التصوف ، ص 4
[4] - ا لشيخ عبد القادر عيسي رحمه الله، حقائق عن التصوف، ص 8
[5] - السيد عبد الماجد الغوري، العلامة أبوالحسن الندوي رائد الأدب الإسلامي ص 14
[6] - يقول العلامة الندوي"عثرت خلال بحثي عن مؤلفات والدي على مذكراته – قد أثر في قلبي تأثيرا جذريا عميقا رغم بساطة ألفاظها وسهولة تعبيرها، وتغلغل في أحشائي حب العلماء الربانيين وذقت حلاوة ما وجدتها في كتب الأدب والشعر والقصص والروايات، وبها نشأ في قلبي حب الإمام أحمد بن عرفان الشهيد، وملك قلبي وعقلي، فكلما ذكره الوالد ترنحت أعطافي واهتز قلبي، وطربت نفسي وذاق القلب لذة عجيبة، شخصيات وكتب ،ص 157
[7] - ربانية لا رهبانية، مقدمة الكتاب،
[8] - ابوالحسن علي الندوي ، ربانية لا رهبانية، ص 13-15
[9] - ربانية لا رهبانية، ص 19،20
[10] - نفس المصدر 24-26
[11] - نفس المصدر 40,41
[12] - نفس المصدر، 48
[13] - نفس المصدر ص 75

[14] - نفس المصدر ص 93

مواضيع ذات صلة
الندويات, دراسات, نداء الهند،,

إرسال تعليق

0 تعليقات