ادعمنا بالإعجاب

مصطفى لطفي المنفلوطي: شاعرا





د/ محمد رئيس الدين عالم*

يعد مصطفى لطفي المنفلوطي من أشهر أدباء مصر، ورواد الحركة الأدبية والنثرية الفنية. وله مواقف خاصة تجاه قضايا عصره الاجتماعية والدينية، لقد كان يريد الخير والصلاح للمجتمع المصري، كما كان يدعو الشعب العربي الإسلامي إلى الفضيلة والعدالة. ويظهر ذلك واضحا في  الانفعال العاطفي في مساهماته الأدبية والشعرية. وكان يفهم الدين فهما صحيحا، ويحارب الفساد والانحراف والزيغ عن العقيدة. وكان علما من أعلام الأدباء والكتاب البارزين، ومن رواد النهضة الأدبية العربية في مصر، واحتل مكانة مرموقة بين التراث العربي الحديث.[1]

ولو أن مصطفى لطفي المنفلوطي اشتهر بـ " صاحب النظرات والعبرات " بين عامة الناس وخواصهم وأرفعهم وأوسطهم وبين جمهور رجال البحث والأدب والنقد، لكنه في الحقيقة كان شاعرا مشهورا أيضا، وترك آثاره في حقل الشعر في أوائل حياته العلمية والأدبية.
وكاتب هذه السطور أحد الباحثين الذين قاموا بدراسات أدبية ونقدية لأعمال المنفلوطي، وقد كتبتُ كتابا باسم "مصطفى لطفي المنفلوطي في ضوء النظرات والعبرات" ونشرته حاليا بونيربان برينتارس، هدايتفور، غواهاتي. والآن أريد أن أتجه إلى شعر المنفلوطي، لأن الذين  يعرفون أن المنفلوطي كان شاعرا مجيدا أيضا، قليل جدا.
ينتمي السيد مصطفى لطفي المنفلوطي إلى أسرة مصرية عريقة لها علاقة متينة بالعلم والأدب والدين، ومعروفة بالحسب والشرف، وتوارث رجال أسرته القضاء ونقابة الصوفية الرفيقة قرابة مائتي سنة. وكان أبوه السيد محمد لطفي قاضيا شرعيا لـ "منفلوط" ونقيبا لأشرافها وزعيما لأسرة لطفي الكاملة المنتشرة في أنحاء مصر . وينتهي نسبه إلى الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما. وكانت أمه تركية من أسرة علمية أدبية شهيرة.[2]
ولد مصطفى لطفي المنفلوطي في مدينة "منفلوط" في مديرية "أسيوط" عام 1876م. بعد ما حفظ القرآن الكريم في الحادية عشرة من عمره، التحق بالأزهر وتتلمذ على يد الإمام الشيخ محمد عبده، وأثرت صحبته على حياته وفكره. وكان محمد عبده يثني على فطانته وذكاءه،  ويرجو منه أن يكون رائدا كبيرا للأدب والفكر الإسلامي، ويستفيد المنفلوطي من قربه إلى السياسي المصري سعد زغلول، ومن هذين يجد زلفاه إلى الصحفي والكاتب علي يوسف صاحب " المؤيد ".[3]
مكث المنفلوطي في الأزهر عشر سنوات في اكتساب العلوم والمعارف العلمية والأدبية والدينية، حيث بدأ حياته الأدبية واشتغل بنظم الشعر ولفت الأنظار إليه حتى حبس في سجن الخديوي عباس الثاني لقصيدته الشهيرة "قدوم" حيث هجا فيها الشاعر الخديوي.[4]
وإليكم مقتبس من هذه القصيدة:
"قدوم ولكن لا أقول ســـــــعيد

وملك وإن طال المدى ســيبيد


بعدت وثغر الناس بالبثير باسم

وعدت وحزن في الفؤاد شديد


تمربنا لا طرف نحوك ناظــــر

ولا قلب من تلك القلوب ودود


علام التهاني هل هناك مــــآثر

فنفرح أو سعي لديك حمـــيد!!


إذا لم يكن أمر ففيم مـواكب!!

[5]    وإن لم يكن نني ففيم جــنود؟!!"    
لقد قضى المنفلوطي ستة أشهر في سجن الخديوي عباس، فعرف فيه مرارة الحياة السجنية، ثم تم العفو عنه على توجيه الإمام الشيخ محمد عبده لدى الخديوي وعاد الوفاق بينهما وقامت الصلات الودية فمدح بالثناء على الخديوي وقرض القصائد في مدحه.[6]
كما ينشد في إحداها:
وعفوت عني عفو مـــــقتدر

والذنب فوق العغو والــــــــغفر


والصفح أجمل ما يكون إذا

ما الذنب جل وضاق عن عذر


فمتى أقوم بشكر أنعمك الـ

جلى، وقد جلت عن الــــــشكر [7]

بعد وفاة الإمام الشيخ محمد عبده سنة 1905م، أسف المنفلوطي أسفا شديدا، وعاد إلى بلده "منفلوط"، واشتغل بكتابة المقالات الاجتماعية والإصلاحية والأخلاقية. مات هذا الشاعر الأديب الكبير سنة 1924م في الثامن والإربعين من عمره. كتب "مجيد طراد" عن وفاته:
"لم يعمر المنفلوطي طويلا، فقد وافته المنية يوم الخميس الواقع في 12 حزيران 1924 (10 ذي الحجة 1342) يوم جرت فيه محاولة اغتيال الزعيم الوطني سعد زغلول، حيث نجا من تلك المحاولة، لكنه جرح جرحا بليغا، فانشغل الناس بتلك الحادثة ولم يلتفتوا كثيرا إلى مأتم المنفلوطي كما ينبغي. وحين أبلغ سعد زغلول باشا بوفاة أديبنا الكبير، حزن عليه أعمق الحزن وذرف عليه الدموع السخية. أما أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، فقد رثياه في مأتم مهيب أقيم له في وقت لاحق، ولحق بهما كثير من شعراء الأقطار العربية في العراق والشام ولبنان، فرثوه بأعذب الأشعار وأرق الكلمات".[8]
 رثاه أمير الشعراء " أحمد شوقي " بقصيدة طويلة يظهر فيها آلامه وأحزانه، ومنها:
اخترت يـــوم الهول يــود وداع

ونعاك في عصف الرياح النــاعي


هتف النعاة ضحـى فأوصد دونهم

جــرح الـرئيس منافـذ الأسمــــاع


فــجع البـيان وأهـله بمصـــــــور

لــبق بــوشي الممتعات صنـــــاع


يا مصطفى البلغاء أي يــــراعـه

فقـدوا ؟ وأي معـلــم بــــــــــيراع


سكن الأحبة والعدى وفرغت من

حقـد الخصوم ومن هوى الأشياع


كم غارة شنوا عليـه دفعـتــــــها

تصل الــجهود فكن خير دفـــــاع


والجبن في قلب البليـغ نظــــيره

في السيف منقـصة وسوء سمــاع[9]

شعر مصطفى لطفي المنفلوطي:
نظم المنفلوطي الشعر في أغراض اعتاد الناس أن ينظموا فيها. وكان شعره يقف موقف الصحافة الوطنية والخطباء الوطنيين وقادة الرأي الاجتماعيين، فكان المنفلوطي شاعر السياسة والاجتماع والمدح والرثاء وغيرها.
قام الأستاذ الدكتور محمد أبو الأنوار بجمع أشعار المنفلوطي في كتاب، لأن أشعاره غرقت في بطون الصحف والجرائد والمجلات التي لا تعرف على وجه التحديد أسماءها، فضلا عن مواقيتها، تستوي في ذلك الدورية اليومية والأسبوعية والشهرية والفصلية والحولية. كان الأستاذ الدكتور محمد أبو الأنوار باحثا للدوريات المطبوعة والمخطوطات وقارئا لها، فجنى شعر المنفلوطي من صفحات "العمدة" و"المشير" و"المنار" و"الهلال" و"الجمهورية" و"الجامعة" و"الصاعقة" و"مصباح الشرق" وغيرها، وسماها بـ"شعر المنفلوطي جمع وتوثيق".[10]،
كما أنه ألف كتابا قيما حول أعمال المنفلوطي باسم "مصطفى لطفي المنفلوطي: حياته وأدبه" في ثلاثة أجزاء، فالجزء الأول يبحث فيه عن حياته وأفكاره وأرائه، ونشر هذا الجزء بمكتبة الشباب في عام 1981م. والجزء الثاني يبحث عن القصة في أدبه. ونشر هذا الجزء بمكتبة الشباب في عام 1982م. وأما الجزء الثالث فيبحث فيه عن شعره جمعا وتوثيقا ودراسة. ونشر هذا الجزء في عام 1985م. وقد قسم هذا الجزء إلى قسمين. فالقسم الأول في دراسة تاريخية فنية تحليلية، وأما القسم الثاني ففي جمع وتوثيق شعر المنفلوطي.
إن معظم أشعار المنفلوطي منسوبة إلى السياسة والمدح والرثاء والاجتماع. وسأسلط عليها الضوء بإيجاز.
الشعر السياسي:
بدأ مصطفى لطفي المنفلوطي حياته الشعرية حينما كان في سنه الواحدة والعشرين بالشعر السياسي، لأنه كان شابا متدفق الشعور وجياش العاطفة، ثار ثورة شعرية ضد الاحتلال بقصيدته "تحرير مصر". واشتهرت هذه القصيدة باسم "عدو الاحتلال" ونشرت في جريدة "المشير" في عام 1897م. ونالت هذه القصيدة شهرة وقبولا ورواجا بين عامة الناس وخواصهم وبين الشعب المصري والعربي الإسلامي. ومن مطلعها:
ألا راية للعدل في مصر تخفق

لعل مساعي دولة الظلم تــخفق


ألا صدمة للجور توقف ســـيرة

فيجبر ذاك الكسر والفتق يرتق


أتؤنا لتأييد الأمير فأصــبح الـ

أمير بلا أمر فكيف نــــــصدق؟!!


أيؤمل إصلاح لنا وأمـــــــيرنا

بغل تفوذ الاحتلالي مـــــــوثق


إذا رام أمرا هم  يريدون غيره

يقر بما راموه قسرا ويـــــنطق

وفي نهاية هذه القصيدة قال:


ويا رب "برلين" الهمام و "قيصر"

و"جوزيف" إن الخطب في مصر محدق


ولا تترك اليونان إلا بــــــــتركهم

لــنا مصر وابق الدهر فيها إذا يـــــــــــقوا
وأما القصيدة السياسية الثانية للمنفلوطي هي قصيدة " قدوم "، وهذه هي القصيدة التي هزت مصر تماما، وهجا المنفلوطي فيها الخديوي عباس الثاني. بعد انتشار هذه القصيدة غضب عليه الخديوي غضبا شديدا وحبسه في سجن، لأنها تشهد على قرير مشاعر الكراهية، وتحديد الأمنية في قول المنفلوطي:


تذكرنا روياك أيام أنزلـــت

علينا خطوب من جد ولك سود


رمتنا بكم (مقدونيا) فاصبنا

مصوب سهم بالبلاد شـــــــديد


فلما توليتم طغيتم وهـــــكذا

إذا أصبح التركي وهو عـــميد


 وفي هذه القصيدة يقدح الشاعر الخديوي أيضا كما يقول:

                                                  أ عباس لا تحزن على الملك إن

تقضي، فهذا الحزن ليس يـــفيد


أ عباس صار الملك في يد عادل

يذب الردي عن حوضه ويذود

ثم أثنى الشاعر على الإنجليز في هذه القصيدة، بموجب رأي الشاعر أن الإنجليز أفضل من الخديوي في تحكيم البلاد كما نظم:
بريطانيا" لا زال أمرك نافذا

وظلك في أرجاء مصر مــديد


ليصبح شمل الأمر وهو منظم

[12]   ويصبح عنه الظلم وهو طريد

شعر العفو والمدح إلى الخديوي عباس الثاني:
ذكرنا آنفا أن الخديوي عباس الثاني حبس المنفلوطي لقصيدته "قدوم" حيث هجاه فيها. كان المنفلوطي طالبا في الأزهر آنذاك، وهذا هو الوقت الضيق الذي مر به المنفلوطي كما كتب في مقدمة "النظرات":
"تلك أيامي التي سعدت بها برهة من الدهر، ومر لي فيها أحسن ما مر لأحد، والتي لا أزال أذكرها بعد مرور تلك الأعوام الطوال فأكاد أشرق بدمعي لذكراها، ثم انثنيت فوجدت يدي صفرا منها، وإذا أنا بين يدي هذا العالم المظلم المقشعر عالم الحقيقة والألم، فنظرت إليه نظر الغريب الحائر إلى بلد لا عهد له ولا سكن له فيه، فرأيت مخازيه وشروره وظلمة أجوائه واغبرار سمائه، وقتال الناس بعضهم بعضا على الذرة والحبة والنسمة والهبوة، واتساع مسافة الخلف بين دخائل القلوب وملامح الوجوه، وسلطان القوة على الحق وغلبة الجهل على العلم. وإقفار القلوب من الرحمة، وجمود العيون عن البكاء، وعجز الفقراء عن فتات موائد الأغنياء، وتمضغ الأغنياء بلحوم الفقراء، ورأيت الترائي بالرذيلة حتى ادعاها لنفسه ونحلها إياها من لا يتخلق بها طلبا لرضا الناس عنه برضاه عنها، ورأيت البراءة من الفضيلة حتى فربها صاحبها من وجوه الساخرين به والناقمين عليه فرار العاري بسوأته والموسوم بخزيته".[13]
ويستطرد قائلا:
" وكنت إنسانا بائسا لم يترك الدهر سهما من سهامه المريشة لم يرمني به، ولا جرعة من كأس مصائبه ورزاياه لم يجرعني إياها، فقد ذقت الذل أحيانا، والجوع أياما، والفقر أعواما، ولقيت من بأساء الحياة وضرائها ما لم يلق بشر، فشعرت بمرارة الحياة في أفواه المساكين. ورأيت مواقع سهام الدهر في أكباد البائسين والمنكوبين، فكان من همي أن أبكي كل بائس، وأندب كل منكوب، وأطلب رحمة القوي الضعيف، والغنى للفقير، والعزيز للذليل".([14])
قضى المنفلوطي ستة أشهر في سجن الخديوي، وعانى فيها من حياة السجن الضيقة، وكان في تلك الفترة من حياته مضطرا إلى الحصول على عفو الخديوي، فطلب منه العفو في قصيدة قال منها:
أ أهنأ بالدنيا ومـــولاي واجــــــــد

علي وأرضاها ومولاي مــــــــغضب


إذا لم يكن عني مليكي راضــــــــيا

فلا طاب لي عيش ولا لذ مـــــــشرب


دعوتك يا مولاي علما بأننــــــــــي

أرجي كريما عنده الخير يــــــــــطلب


أ تسفي الورى غيثا فلا غصن ذابل

علي عهدك الزاهي ولا روض مجدب


وأحرم من تلك المكارم قـــــــــطرة

تعود على ربعي الجديب فــــــيخصب[15]

فعفى عنه الخديوي وصار بينهما صلة ودية، فقرض القصائد في مدحه، منها قصيدة نظمها بمناسبة عيد الفطر، يقول منها:
العيد أقبل باسم الـــــــثغر
ومناه أن تحيا مدى الــدهر

حتى تعيش بغبطة أبـــدا
ويعد من أيامك الــــــــــغر

فأهنأ به وأسعد بطــالعه
ماضي العزيمة نـافذ الأمر

وأفاك يحمل في بشائره
ما شئت من عز ومن عمر[16]

وقال في قصيدة أخرى يمدح الخديوي:

أشهرت فينا ظبا ألحاظك السود
                                                 في غير ثأر عيون الخرد الغيد

وخادعتنا أقال الله عثرتـــــــها
حوراء مشرقة اللــــبات الجـيد

أدنت مسامرتي حتى إذا بلغت
غالت حياتي، وفاتتني بمجلـود

أكلما أقتضيك الوصل واحربا
جعلت إخلاف المــــــــواعيــد [17]

شعر المدح:
إن المدح سمة أساسية في الشعر العربي من البداية إلى يومنا هذا. إن شاعرنا مصطفى لطفي المنفلوطي أيضا ليس خاليا منه. لقد مدح في شعره الخديوي وإمام الأمة الشيخ محمد عبده و "العمدة" وصاحبها الشريف الرضي والسلطان عبد الحميد واللورد كتشنر وغيرهم. ومعظم أشعار المنفلوطي المدحية هي في الشيخ محمد عبده كما في قوله:

جرى الدمع حتى ليس في الجفن مدمع

وقاسيت حتى ليس في الصبر مطمع


وما أنا من يبكي ولكنـــه الــــــــــهوى

يريد من الأسد الخضوع فتخضـــع


فلله قلبي ما أجل أصطبــــــــــــــــاره

وأثبته والسيف بالسيـــف يــــــقرع


ولله قلبـي مــا أقـل احتمـالـــــــــــــــه

إذا ما نأى عنه الحبيب المـــــــودع


إذا لاح لي سيف من الخطب   رعتــــه

وإن لاح لي سيف من اللحظ أجزع[18]

  وفي مناسبة عيد الأضحى أثنى عليه المنفلوطي في قصيدة مطلعها:

ثقاها وحيا تربها وابل الــــــقطر

وإن أصبحت قفراء في مهمة قــفر


طواها البلي طي الشحيح رداءه

وليس لما يطوي الجديدان من نشر


مرابض آساد مأوى أراقـــــــــم

تجاور في قيعانها الغيل بالــــجحر


يكاد يضل النجم في عراصاتها

ويزور عن ظلمائها البدر من ذعر [19]

كما قدم المنفلوطي الشكر والتقدير إلى " العمدة " وصاحبها الشيخ الشريف الرضى في قصيدة رشيقة، يقول منها:
مباسم الثغر ما أحلى حـــــــمياك

وطلعة البدر ما أبهى نــــــــحياك


وأعين العين من للعين إن نظرت

بحظك الفاتر الأجفان والشــــاكي


يا جنة الجلد في الدنيا وسلسلـــها

رضابك العذب في مجرى ثناياك


يا مهاة إذا مر النسيم علـــــــى

نبت الخزامى حسبنا النشر رياك


ويا فتاة فتنت الناس قــــــاطية

فأصبح الناس كل الناس قتـــلاك[20]

شعر الرثاء:
ورث المنفلوطي من سلالته القلب الرقيق والفؤاد الحليم وصادق العبرة ومهتاج العاطفة وشديد الإحساس، فتراه يرثي عدة أحيان المناظر الأليمة والوقائع المفجعة والحوادث المحزنة، كما كتب بعد وفاة الشيخ محمد عبده والشيخ علي يوسف في النظرات:
"ما كنا نرجو لهذه الأمة غير هذين الرجلين، ميت الأمس الشيخ محمد عبده، وميت اليوم الشيخ علي يوسف، فقد كانا لها طودين شامخين رابضين على أكنافها، يمسكها الأول أن تزل بها مزالق المدنية الخالية فيذهب دينها، ويمسكها الثاني أن تطير بها أحلام السياسة الكاذبة فتذهب جامعتها، واليوم لا نرجو لها من بعدهما أحدا، فويل للأمة في دينها، ويل لها في جامعتها. العلماء والخطباء والكتاب في هذه الأمة كثير، ولكن الرجال قليل.
إنما ينفع الأمة ويضطلع بخطوبها ويحمل أعباءها على عاتقه الرجل الذي يشعر من نفسه بأنه ينزل منها منزلة رئيس الأسرة من أسرة يعلم أنه مأخوذ بالقيام عليها، والسعى لها، فيقوم لها بكل ما تريد؛ ويسعى لها سعي الكادح المجد، يرحم صغيرها، ويحنو على كبيرها، ويحتمل مغارمها، ويغتفر عبث أطفالها، ويجهل شيوخها، ويرى لها في كل شأن من شؤونها خيرا مما ترى لنفسها، أرضاها ذلك أم أغضبها، من حيث لا يمن عليها بذلك، ولا يطلب عندها جزاء ولا أجرا، بل من حيث لا تعلم ما يلاقي بينه وبين نفسه من آلام الحياة، وما يعالج من شدائدها في سبيلها ".[21]
ونجد بعض الأشعار التي قرضها المنفلوطي في رثاء "السيد إبراهيم عوض"، خطيب مسجد منفلوط، ومن مطلعها:
أودى بي الحزن وأغتال الجوي الجلدي
وفرق اشجو بين الروح والــــــجسد

وأستهد فتني صروف الدهر رامــــــية
تصوب النبل نحو القلب والكبـــــــد

ما لليالي إذا سلت صوارمـــــــــــــــها
بين الخلائق لا تبقى على أحــــــد؟

أبيت يا دهر سيرا للــــــــــــرشاد وأن
تجرى أمورك في الدنيا على سـدد!"[22]

  كما قرض قصيدة في رثاء نجيب الحداد، منها:

منع   النفس   أن  تنال مناهـــــــــا
سير تلك الآجال طوع قضاها

تشتهي النفس أن تعيش مدى الدهر
وتأبي الأقدار إلا فنــــــــــاها

تتمنى لو نالت السعد لــــــــــــكن
كتب الله في الكتاب شـــــقاها[23]

وهذا ليس الاتجاه الوحيد في شعر المنفلوطي، فهنالك الكثير من القصائد التي قرضها في  الشعر الاجتماعي والشعر القصصي والشعر الذاتي والإنساني وغيرها. وفي النهاية أريد أن أشير إلى قصيدة نظمها الشاعر في وصف القلم ويقول:
يا يراعي لولا يد لك عنـــــــدي

عفت نظمي في وصفك الأشعارا


يا يراع الأديب لولاك مــا أصـ

بح حظ الأديب يشكو العـــــــثارا


غير أني أحبو عليك وإن لــــــم

تك عونا في النائبات وجــــــــارا


أنت نعم المعين في الدهر لـــولا

أن للدهر همة لا تــــــــــــــجارا


أنت نعم الصديق في العيش لولا

 [24]  أن للبؤس بيننا أو طـــــــــــــارا


السمات الرئيسية في أشعار المنفلوطي:
كان مصطفى لطفي المنفلوطي من شعراء الاتجاه المحافظ البياني، وكان يحرص على مراعاة التقاليد الفنية للشعر العربي في عصره، ويتميز شعره بروح البلاغة العربية، كما توجد الطبيعة الفنية البسيطة في شعره، حيث عالج الشاعر في جميع الأغراض موضوعات عصرية إلا في السياسة والاجتماع، لكن السمة الواسعة في شعره هي أنه يتسم بالسهولة والصفاء والوضوح، كما توجد في شعره الفكرة الذكية، واللمحة الدالة، والإحساس الطهور. وهو مفطور ومغرم في الوقت نفسه بتقديم الأفكار الواعية في صورة سهلة. كما يتوجه بفطرته وموهبته إلى التبسيط طلبا للإصلاح المنشود عن طريق الإقناع وإشاعة الفكرة والإحساس أو الخاطرة في أسلوب سهل وجمال وصحة. سجل المنفلوطي في شعره الأحداث العصرية والإنسانية، لا سيما القضايا السياسية والاجتماعية والأخلاقية. وهو يدعو الشعب المصري العربي الإسلامي إلى الإصلاح الديني الإسلامي الأخلاقي.[25]
المصادر والمراجع:
1.      أبو الأنوار، الدكتور محمد. مصطفى لطفي المنفلوطي: حياته وأدبه، الجزء الأول، مكتبة الشباب، 1981م
2.      أبو الأنوار، الدكتور محمد. مصطفى لطفي المنفلوطي: حياته وأدبه، الجزء الثالث، مكتبة الشباب، 1985م
3.      الخفاجي ، محمد عبد المنعم . دراسات في الأدب العربي الحديث ومدارسه . الجزء الثاني ، دار الطباعة المحمدية بالأزهر ، القاهرة
4.      الدسوقي، عمر. نشأة النثر  الحديث و تطوره، دار الفكر العربي، القاهرة
5.      الزيات، أحمد حسن. وحي الرسالة، الجزء الأول، الطبعة العاشرة، دار الثقافة، بيروت، لبنان، 1985م
6.      شوقي، أحمد. الشوقيات، المجلد الثاني، دار الكتب العلمية، بيروت ، لبنان
7.      عالم، الدكتور محمد رئسي الدين. مصطفى لطفي المنفلوطي في ضوء النظرات والعبرات، الطبعة الأولى، ونيربان برينتارس، هدايتفور، غواهاتي، 2011م
8.      عوضين ، إبراهيم (الدكتور) . مدخل إسلامي لدراسة الأدب العربي المعاصر . الطبعة الأولي، 1990م
9.      الفاخوري ، حنا . تاريخ الأدب العربي . الجزء الثاني ، المطبعة البولسية، الطبعة السادسة ، بيروت ، لبنان .
10.  كوكن ، محمد يوسف . أعلام النشر و الشعر في العصر العربي الحديث . الجزء الأول ، دار حافظه ، مدراس، 1980م
11.  المنفلوطي، مصطفى لطفي. الشاعر (قدم لها وشرح نصوصها مجيد طراد)، مكتبة المعارف بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 2003
12.  المنفلوطي، مصطفى لطفي. النظرات، الجزء الأول، دار الجيل ، بيروت، لبنان
13.  المنفلوطي، مصطفى لطفي. النظرات، الطبعة السابعة، الجزء الثالث، المطبعة الرحمنية بمصر، 1932م
14.  هيكل، الدكتور أحمد. تطور الأدب الحديث في مصر، الطبعة الرابعة، دار المعارف، القاهرة، 1983م



* كلية كولغسية، باربيتا، آسام.
[1]. ملخصا عن دراسات في الأدب العربي المعاصر لمحمد عبد المنعم الخفاجي، الجزء الثاني، ص: 358-360
[2] . ملخصا عن "تاريخ الأدب العربي" لحنا الفاخوري ص : 1081 و "وحي الرسالة" لأحمد حسن الزيات ص :  391-392
[3] . ملخصا عن "مدخل إسلامي لدراسة الأدب العربي المعاصر " للدكتور إبراهيم عوضين ص : 231-232 وأيضا أعلام النثر والشعر في العصر العربي الحديث لمحمد يوسف كوكن الجزء الأول ، ص : 221-222
[4]. للتفصيل راجع "نشأة النثر الحديث وتطوره" لعمر دسوقي ص : 184-185
[5]. مصطفى لطفي المنفلوطي: حياته وأدبه للدكتور محمد أبو الأنوار، الجزء الثالث: شعره جمع، ونوثيق ودراسة، ص: 290
[6] . للتفصيل راجع "نشأة النثر الحديث وتطوره" لعمر دسوقي ص : 185
[7]. مصطفى لطفي المنفلوطي: حياته وأدبه للدكتور محمد أبو الأنوار، الجزء الثالث: شعره جمع، ونوثيق ودراسة، ص:310
[8]. الشاعر للمصطفى لطفي المنفلوطي، قدم لها وشرح نصوصها مجيد طراد، ص: 12-13
[9]. الشوقيات لأحمد شوقي ، المجلد الثاني ، ص:74-76
[10]. ملخصا عن مقدمة لكتاب "مصطفى لطفي المنفلوطي: حياته وأدبه" للدكتور محمد أبو الأنوار، الجزء الأول، ص: ه- ز
[11]. مصطفى لطفي المنفلوطي: حياته وأدبه للدكتور محمد أبو الأنوار، الجزء الثالث: شعره جمع، ونوثيق ودراسة، ص: 287 و 289
[12]. المصدر السابق، ص: 290-292
[13]. مقدمة النظرات للمنفلوطي، الجزء الأول، ص: 20-21
[14]. المصدر السابق ، ص: 23-24
[15]. مصطفى لطفي المنفلوطي: حياته وأدبه للدكتور محمد أبو الأنوار، الجزء الثالث: شعره جمع، ونوثيق ودراسة، ص:299
[16]. المصدر السابق، ص: 309
[17]. المصدر السابق، ص: 311
[18]. المصدر السابق، ص: 314
[19]. المصدر السابق، ص: 322
[20]. المصدر السابق، ص: 301
[21]. النظرات للمنفلوطي، الجزء الثالث، ص: 54- 55
[22]. مصطفى لطفي المنفلوطي: حياته وأدبه للدكتور محمد أبو الأنوار، الجزء الثالث: شعره جمع، ونوثيق ودراسة، ص: 333
[23]. المصدر السابق، ص: 338
[24]. المصدر السابق، ص: 360
[25]. للتفصيل راجع "مصطفى لطفي المنفلوطي: حياته وأدبه للدكتور محمد أبو الأنوار، الجزء الثالث: شعره جمع، ونوثيق ودراسة، ص: 271-281

مواضيع ذات صلة
الأدب العربي العالمي, دراسات,

إرسال تعليق

1 تعليقات

أكتُبْ تعليقا