ادعمنا بالإعجاب

المكتبة الإسكندرية فرية الإحراق جديرة بالإنمحاق من الأوراق


محمد إسماعيل الهدوي[1]
ismaeelap@gmail.com
من الحقائق التاريخية التي خفيت على كثير من العوام  إحراق المكتبة الإسكندرية، ومن دواعي الأسف أن المسلمين الأبرياء قد اتهموا من ورائها، والحق أنها كانت من افترائات بعض المعاندين الذين شدوا مئازرهم لاجتياح الشوكة الإسلامية من وجه الأرض، وزعموا أن عمرو بن العاص فاتح مصر هو الذي أحرق هذه المكتبة الزاخرة تنفيذا لأمر عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين، لا يدري المفتري على من يفتري، وبم يفتري وعلام ينتهي، مع أن عمر وعمرو -وهما صحابيان جليلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم- مشهوران بالعدل والأمانة والعلم والفطانة.

قد ناقش في هذه المسألة كثير من المؤرخين شرقا وغربا، وتفحص في ذلك العلامة شبلي النعماني، وحسن إبراهيم حسن، وغيرهما فحصا بسيطا، وأحلّونا في علم اليقين بأن من ينسب الإحراق إلى عمر وعمرو رضي الله عنهما يقول بقول لا أصل له ويستدل بدليل لاجذور له، ومن تدرس في هذا الأمر المتنازع فيه من العلماء العباقرة من الفرنجة مثل جبون (GIBBEN) وبطلر (BUTTLER) وسديو)  (SEDILOT وجوستاف ليبون (LEBON) وغيرهم، لم يجزموا برأي فيها، بل ارتابوا في صحة التهمة التى وجهت إلى هذين الصحابيين، وقالوا إنها تخالف التقاليد الإسلامية، ولا يؤيدها أحد من المؤرخين المعاصرين للفتح الإسلامي للإسكندرية، وكذلك لم ترد في تاريخ الأقدمين كاليعقوبي، والبلاذري، وابن عبدالحكم، والطبري، والكندي، ولا في كتب من جاء في إثرهم واقتبس منهم كالمقريزي، وأبي المحاسن، والسيوطي، وغيرهم مع أنهم كلهم كتبوا كثيرا في شؤون مصر.
وأول من افترى هذه الفرية في الغرب هو أبو الفرج بن هارون الذي كان عدوا لدين الإسلام والمسلمين ومشهورا بالعصبية لملته النصرانية، كان أولا يهوديا ثم  تنصر أبوه فتنصر هو أيضا، ألف كتابا في اللغة السريانية معتمدا على الكتب في العربية والفارسية واليونانية وغيرها ثم اختصره وسماه مختصر الدول. يقول أبو الفرج عن كيفية حريق هذه المكتبة على يد عمرو بن العاص: كان في وقت الفتح (فتح مصر) رجل اكتسب شهرة عظيمة عند المسلمين يسمى يوحنا النحوي كان قسيسا من الإسكندرية، واشتهر بين المسلمين بيحيى النحوي (وعندنا غرما طيقوس)،  دخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلم، فأكرمه عمرو وسمع من ألفاظه الفلسفية، وكان عمرو عاقلا حسن الاستماع صحيح الفكر، فلازمه وكان لا يفارقه، ثم قال له يحيى "إنك قد أحطت بحواصل الإسكندرية وختمت على كل الأشياء الموجودة فيها، فما لك به انتفاع فلا أعارضك فيه، وما لا انتفاع به فنحن أولى به، فقال له عمرو: ما الذي تحتاج إليه؟ فقال كتب الحكمة التي في خزائن الملوكية، فقال له عمرو: لا يمكنني أن آمر فيها إلا بعد استئذان عمر أمير المؤمنين، وكتب إلى عمر وأخبره بقول يحيى، فرد عليه عمر بكتاب يقول فيه: وأما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليه فتقدم بإعدامها، فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات الإسكندرية وإحراقها في مواقدها فاستنفدت في ستة أشهر فاسمع ما جرى وأعجب"
وقبل الشروع في الكلام على هذا نشير إلى حقيقة أخرى، هي أن المؤرخين الذين يقولون بهذه الفرية يستدلون بالأدلة التالية (1) إن المسلمين كانت لهم رغبة عظيمة في محو كل كتاب غير القرآن والسنة، (2) إنهم أحرقوا مكاتب الفرس عند فتح بلادهم كما ذكر ذلك حاجي خليفة في كتابه ‘كشف الظنون’، (3) إن هذه الرواية التي تثبت الحريق لم يروها أبو الفرج فقط بل رواها أيضا مؤرخان مسلمان هما عبد اللطيف البغدادي وابن القفطي (4) إن إحراق الكتب كان أمرا معروفا وشائعا يتشفى به كل مخالف ممن خالفه  في رأيه.
وإذا نظرنا إلى هذه الأدلة بعين الاعتبار وجدناها كلها لا تمت بصلة إلى هذه الفرية، أما الدليل الأول فهو غير مسلم به أبدا، لأن المعروف من شيمة المسلمين ونمطهم تشجيع العلم والحث على تعلمه وتعليمه كما رأينا ذلك في قول أبى الفرج أيضا عن عمرو بن العاص رضي الله عنه حيث يقول إنه كان يصغي إلى أقوال يوحنا النحوي ويعجب بها كل الإعجاب ويعطيه كل حقه وحرمته، هذا رأي مسيحي، نضيف إلى ذلك ما وقع بعد غزوة بدر، وذلك أن المسلمين كانوا يجعلون فداء من لم يجد مالا يفتدي به نفسه أن يعلم عشرة من صبيان المسلمين، أي شيء أعظم من هذا دليلا.
أما الدليل الثاني فهو أنهم أحرقوا مكتبة الفرس عند الفتح، ثم أكدوا دليلهم بوجودها في كتب حاجي خليفة، علينا أن نعلم أولا أن هناك قواعد وأصولا ومبادئ يجب أن تتحلى بها الرواية، وإن لم تكن تتحلى بها لا يلتفت إليها أصلا، ومن ذلك أن الناقل للرواية إما أن يكون شاهدا للواقع وإلا فليبين سند الرواية ومصدرها حتى تتصل الرواية إلى من شهدها بنفسه، ومنها أن يكون رجال السند معروفين بصدقهم وديانتهم، ومنها ألا تكون الرواية تخالف الدراية ومجاري الأحوال، وعلى هذا إن سلم أن حاجي خليفة كتب هكذا فهل هو شاهد لها أو هل له من نقل صحيح بسند غير مبهم أم لا، نعلم جيدا أن الأمر ليس كذلك.
أما الدليل الثالث فهو أيضا لا يثبت لأن عبد اللطيف البغدادي وابن القفطي عاشا في القرن السادس الهجري، أي بعد القرون من الواقعة، ولم يذكرا لناالمصدرالتاريخي ولم ينقلا برواية صحيحة، بل ذكرها عبد اللطيف عرضا في سياق كلامه عن عمود السواري الموجودة في الإسكندرية، إنما تلقف ذلك من ألسنة العوام، مع أنه ليس بمصري بل بغدادي، والأمر المشار إليه قبل هذا أنه لم يذكر أحد من المؤرخين قبله بهذا البهتان.
أما دليلهم الرابع فيؤكدونه بأن عبد لله طاهر أتلف كثيرا من الكتب الفارسية من مؤلفات المجوس سنة 213 هـ، وحذا حذوه هولاكو التتاري سنة 656 بإلقاء خزائن الكتب في دجلة، وإن سلم هذا لا يثبت دعواهم لأن عبد الله بن طاهر عاش بعد القرون، وهكذا هولاكو لا يؤخذ حجة على عمر بن الخطاب الذي عاش في خير القرون، وإضافة إلى ذلك أن ما أتلف عبد الله بن طاهر هو كتب المجوس عباد النار،  والمسلمون يفرقون بين الكتب المجوسية وأهل الكتاب من اليهود والنصارى لاتفاق الجميع على غاية واحدة أعني الاعتراف بالله القادر خلاف المجوسية كما في قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم (آل عمران 64)
ومن الأدلة المؤيدة لحزبنا ما قاله المؤرخون الموثوقون بأن هذه المكتبة قد أصابها الحريق من قبل مرتين، الأولى سنة 48 ق م، على أثر إحراق  أسطيل يوليس قيصر (JULIUS CAESER)، والثانية في عهد القيصر تيودوسيس سنة 391، فأحرقت الكتب في هذه المكتبة قبل ميلاد عيسى عليه السلام جزئيا، وفي السنة الواحدة والتسعين وثلاثمائة العيسوي تماما، فكيف يكون عمر وعمرو بن العاص رضي الله عنهما الذان ولدا بعد القرون مسؤولين عن هذه العملية الشنيعة، والله إنهما لبريئان مما يتهمون.
يقول جوهر لال نهرو في كتابه المشهورGLIMPSES OF WORLD HISTORY  في الباب التاسع والأربعين:
There is a story that the Arabs burnt the famous library of Alexandria, but this is now believed to be false, The Arabs were too font of books to behave in this barbarous manner it is probable, however that the emperor Theodosius of Constantinople, about whome I have told you something already was guilty of this destruction, or part of it. Apart of the library had been destroyed long before, during siege at the time of Julius Caesar, Theodosius didnot approve of old pagen Greek books dealing with the old Greek mythologies and philosophies، He was much too devout a Christain. It is said that he used these books as fuel with which to heat his baths (glimpses -169)
ومن هذه الأقوال الموثوق بها نفهم أن المكتبة الإسكندرية كانت محرقة  قبل فتح الإسلام، ويؤيده أيضا قول أورازيوس (ORAZIUS)الرحال إنه وجد رفوف المكتبة خالية من الكتب عند زيارته مدينة الإسكندرية في أوائل القرن الخامس الميلادي،  وعلى ذلك إن الكتب التي كانت بالمكتبة من عهد البطالسة لم يبق لها أثر منذ أواخر القرن الرابع الميلادي -أي منذ عهد الإمبراطور تيوديسيس. ومن المعلوم أن حالة مصر قبيل الفتح الإسلامي كانت حالة تأخر في الزراعة والصناعة والعلوم  والمعارف والآداب، فمن البعيد إذا أن يهتم  الناس بإعادة هذه المكتبة إلى عهدها الأول. 
منبع الفرية
أشرنا من قبل إلى أن أول من نسب الإحراق إلى عمر بن الخطاب هو عبد اللطيف البغدادي معاصر صلاح الدين الأيوبي أحد القواد المحاربين ضد الحروب الصليبية، وأشرنا أيضا أنه لم يسجل أحد من المؤرخين قبله في كتبهم عن هذه الواقعة، ولم ينقل من نقل صحيح موثوق لسند صحيح متصل، ولكن الصليبيين تذيلوا لهذا القول بعد انهزامهم في الحروب الصيلبية، فبدأوا في الحروب العلمية ضد المسلمين، وهذه الفرية أيضا من تلك الخدعة، ولكنها ترد على أعقابهم، ولا يمكن لهم تصفية أياديهم من خدعتهم اللامثالية من مثل ما فعلوا بالعلماء العباقرة الذين أبدوا آراء صحيحة كانت غير موافقة لديانتهم فقتلوهم شنقا وخنقا، ومن الأمر الغير المعلوم لكثير من الناس أن القائد الأعظم لهولاكو خان كان نصرانيا، وامرأته نصرانية كان لعبة في يدها حتى قتل كثيرا من الأبرياء المسلمين بحثّ من هؤلاء النصارى، وأتلف كثيرا من كتب بيت الحكمة في نهر دجلة. فنحن معاشر المسلمين برآء من هذه الفرية. اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه آمين.




[1] باحث، قسم العربية، جامعة كاليكوت

مواضيع ذات صلة
التاريخ الأسلامي, دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات