ادعمنا بالإعجاب

العلاقة الدبلوماسية في السيرة النبوية

محمدعلي الوافي[1]
إننا في أشدّ حاجة لمعرفة المنهج النبوي في تربية الأمة وإقامة الدّولة، وكان منهجه شاملا متكاملا ومتوازنا. وغرس معلم البشرية صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه، التشريع السماوي والمنهج الرباني. وكانوا يتبعون خطى الرسول صلى الله عليه وسلم في كلّ صغيرة وكبيرة.

إن السيرة النبوية العطرة مليئة بالدروس والعبر، ويوجد فيها نبينا صلى الله عليه وسلم رجلا مثاليا في كل الجوانب الحياتية ليكون النبي خير قدوة لمن يسايرونه ويتبعونه. وأما الجانب السياسي الخارجي أو في كلمة أخرى العلاقة الدبلوماسية في عهده صلى الله عليه وسلم، فلم يوفر لها حظها لأنه قليل هم الذين قاموا بدراسة هذا الجانب النبوي. وهذا الجانب متناثر غير مرتب في بطون الكتب والمصادر والمراجع، سواء كانت كتب التاريخ أو التفسير أو الحديث أو الفقه أو الأدب أو التراجم والجرح والتعديل، فهذه محاولة متواضعة لجمعها وترتيبها وتحليلها.
 معنى السفارة أو الدبلوماسية:

من المعلوم أن السفارة كلمة عربية أصلية، وذلك على خلاف  كلمة دبلوماسية فهي  في أصلها من لغة اليونان القديم إشتقت من فعل (دبلو) ومعناه يطوى أو يثنى ومنه جاء إسم تلك الوثيقة أو المكاتبة الرسمية التي تطوى أو تثنى، والتي عرفت بإسم (دبلومة) وهذه الوثيقة التي كانت تبعث بها الحكام أو السلطان أو غيرهم في منزلتهم في علاقاتهم الرسمية وقد كانت تمنح لحاملها إمتيازات كثيرة ومعاملة خاصة أثناء سفره لأداء المهمة الملقاة على عاتقه [2]وقد دخلت هذه الكلمة(diplomacy) إلى القواميس الدولي منذ أوساط القرن السابع عشر حين حلّت محلّ كلمة المفاوضة (negotiation) . وقد تطوّر مدلول الدبلوماسية مع الأزمان، وأصبحت تشير إلى معان شتّى .
والدبلوماسية  مصطلح قديم يرجع إلى أصول كلاسيكية، استعمله اليونان القدامى ثمّ انتقل منهم إلى الرومان ومن الرومان إلى اللغات الحديثية[3]. والكلمة الدبلوماسية هي كلمة يونانية اشتقت من كلمة دبلوم أو دبلون ومعناها طبق أو ثنى، ولقد كانت تختم جميع جوازات السفر ورخص المرور على الطرق الإمبراطورية الرومانية، وكذا تختم قوائم المسافرين وبضائعهم بخاتم ذي وجهين مطبقين ويستعمل هذا الخاتم تذاكرا للمرور وسمّي هذا التذاكر  (دبلومات) واتسعت كلمة دبلوما حتى شملت وثائق رسمية التي تمنح المزايا أو تحتوي على إتفاقات مع جماعات أو قبائل أجنبية[4].
السفارة أو الدبلومساية في العهد النبوي:
وكان صلى الله عليه وسلم هو المعلم الأول للسفراء المسلمين، وهو مؤسس نظم السفارات، وواضح أصولها الثابتة وقواعدها المحددة ومناهجها القويم الذي اتبعه خلفاؤه من بعد في سبيل بناء الدولة الإسلامية والدفاع عن عقيدتها وكيانها. وفي السنة السادسة من الهجرة، وبعد عقد الصلح مع قريش تتجلى السفارة أو الدبلوماسية الإسلامية في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعث من كتب ووفد إلى القبائل العربية وإلى ملوك الدول المجاورة للمدينة، ورؤسائها يدعوهم للدخول إلى دين الله الحق، وكان من أهم أغراض دبلوماسيته صلى الله عليه وسلم دعوة الناس كلهم إلى دين الله الأحد الصمد، ولإتمام هذا الغرض أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يراسل من حوله من الملوك أو رؤساء القبيلة. ومن مراسلاته هذه يستطيع من يبحث فيها أن يفهم أن مجهوداته صلى الله عليه وسلم في المجال الدبلوماسي  ترتكزعلى نشر دعوته وبث رسالته، ولذا كانت رسالاته التي توجه إلى الملوك ورؤساء القبيلة مصدّرة بعبارة "سلام على من اتبع الهدى".
مواصفات الرجل الدبلوماسي الإسلامي:
يقول الدكتور علي محمد الصلابي في سيرته النبوية [5]، ناقلا عن محمود شيت خطاب، عن شروط ومواصفات رجل الدبلوماسية الإسلامية، ومن أهم تلك الشروط والمواصفات:
1.     الإسلام والدعوة إليه: قال تعالى: ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )[6]. وإذا كان المسلمون كلهم دعاة إلى الله تعالى، فرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء في زمانه هم صفوة الدعاة.
2.     الفصاحة والوضوح: الفصاحة، وجزالة اللفظ، والدقة في توصيل المعاني إلى السامعين شرط أساسي في الرجل الذي يتصدى للمهمة الدبلوماسية، وقد طلب موسى تدعيمه بموقف الفصاحة من هارون أخيه: (واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، اشدد به أزري)[7]. وقد اختار الرسول صلى الله عليه وسلم كل سفرائه ومبعوثيه من العرب الذين تربوا في الجزيرة العربية ومع البدو أحيانا، فقد كانوا أصحاب نقاوة لم تتكدّر باختلاط الأعاجم بعد، فقد كانوا على قدر كبير من الفصاحة والوضوح.
3.     حسن الخلق: أخلاق السفير النبوي هي أخلاق الإسلام التي بينها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، وفصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سننه، وأهمها في السفير: الصدق، والتواضع.
4.     العلم: لا نريد هنا أن نبين منزلة العلم، لأن الكلام على هذا المسألة طويل، ولكننا نؤكد هنا: أن العلم بالشيء هو وسيلة نقل الفكرة والمبدأ، لذا عندما تنظر إلى جعفربن أبي طالب رضي الله عنه وهو يحاور النجاشي، ثم يقرأ عليه سورة: (كهيعص)[8] تتيقن من دقة الإختيار النبوي، ونصاعة خطاب العالم، ودقة اختياره للألفاظ، والعبارات.
5.     الصبر: قال تعالى: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون )[9].والحقيقة أن الصبر هو عدة الداعية وزاده المستمر، ولو تصفحت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته الأجلاء، لوجدتها حافلة بالصبر على الدعوة .
6.     الشجاعة: قد تحدث التاريخ الإسلامي عن شجاعة السفراء، والذين أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك ، وأنهم كانوا لا يخافون لومة لائم .
7.     الحكمة: وقد كان سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم يتصفون بالحكمة، فهذا عمرو بن العاص كان مسددا في أقواله، وأفعاله ، قيل لعمرو: ما العاقل ؟ قال: الإصابة بالظن، ومعرفة ما يكون بما قد كان، ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، إنما العاقل الذي يعرف خير الشرين .
8.     سعة الحيلة: يجب أن يكون السفير مدركا لأبعاد المناورة السياسية، متأنيا كتوما. وسعة الحيلة التي ترتكز أولا وقبل كل شيء على الذكاء من أهم سمات السفير، وقد كان سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم يتصفون بالذكاء والدهاء، وتوقع الأحداث، والحساب لكل ما يمكن أن يحدث، وهذه مقومات سعة الحيلة.
9.     المظهر: تميز سفراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمظهر الحسن مع نقاء المخبر، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار سفرائه من بين أصحابه الذين تتوافر فيهم صفات شكلية جميلة إلى جانب سماتهم العقلية، والنفسية سالفة الذكر.
وهناك شروط أخرى تتعلق بالدبلوماسية، وهي شروط في الرسائل[10]:
·    أن جميع  كتب الرسول صلى الله عليه وسلم التي أرسلها إلى الملوك والرؤساء يفتتحها بالبسملة ، وقد واظب عليها في كتبه صلى الله عليه وسلم .
·    وينبغي أن يكتب في الكتاب إسم المرسِل والمرسَل إليه .
·    عدم بدء الكافر بتحية الإسلام، وهي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطرح السلام في كتبه على ملك من ملوك الكفر، بل كان يصدر كتبه بقوله : سلام على من اتبع الهدى .
·    اتخاذ الخاتم: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختم رسائله بعد كتابتها بخاتمه ، وقد كتب عليه ثلاث كلمات: محمد رسول الله
 فعن أنس رضي الله عنه قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم قيل له : إنهم لا يقرؤون كتابا إلا أن يكون مختوما ، فاتخذ خاتما من فضة، فكأني أنظر إلى بياضه في يده ، ونقش فيه  محمد رسول الله[11] .
يقول الدكتور علي محمد الصلابي في كتابه السيرة النبوية [12]عن نتائج إرسال الكتب إلى الملوك والأمراء:
"أظهر الرسول صلى الله عليه وسلم في سياسته الخارجية دراسة سياسية فاقت التصور، وأصبحت مثالا لمن جاء بعده من الخلفاء، كما أظهر صلى الله عليه وسلم قوة وشجاعة فائقتين، فلو كان غير رسول الله صلى الله عليه وسلم لخشي عاقبة ذلك الأمر، لا سيما أن بعض هذه الكتب قد أرسلت إلى ملوك أقوياء على تخوم بلاده كهرقل وكسرى والمقوقس، ولكن حرص رسول الله وعزيمته على إبلاغ دعوة الله، وإيمانه المطلق بتأييد الله سبحانه وتعالى ، كل ذلك دفعه لأن يقدم على ما أقدم عليه وحققت هذه السياسة النتائج الآتية:
1.     وطد الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه السياسة أسلوبا جديدا في التعامل الدولي لم تكن تعرفه البشرية من قبل .
2.     أصبحت الدولة الإسلامية لها مكانتها وقوتها وفرضت وجودها على الخريطة الدولية لذلك الزمان .
3.     كشفت للرسول صلى الله عليه وسلم نوايا الملوك والأمراء وسياستهم نحوه وحكمهم على دعوته .
4.     كانت مكاتبة الملوك خارج جزيرة العرب تعبيرا عمليا على عالمية الدعوة الإسلامية، تلك العالمية التي أوضحتها آيات نزلت في العهد المكي مثل قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)[13].
وخلاصة القول، أنه صلى الله عليه وسلم أدى دوره الدبلوماسي من حيث إنه رسول رب العالمين ومن حيث إنه سلطان يملك من الأرض ما يسع من المسافة ما تساوي أية دولة قوية في القديم والحديث. وكانت علاقاته صلى الله عليه وسلم قائمة على أصل واحد وهو دعوة كافة الناس إلى الصراط المستقيم. وهذا الأصل واضح عندما نحلل نظره السياسي والاجتماعي والدبلوماسي، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتقدم للاتصال مع الملوك إلا بعد تحييد قريش وتقييدها في صلح الحديبية، وبعد فتح خيبر والقضاء على آخر قلاع اليهود في بلاد الحجاز.
ثم كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة من الزعماء واتصل بهم بالمراسلات الدبلوماسية:
1.                                         زعماء نجران: وقد استجابوا لمراسلة النبي صلى الله عليه وسلم، ودخلوا في الإسلام.
2.                                         هرقل ملك الروم: آثر الدنيا والملك على الإسلام، فلم يسلم ولكن أسلم كبير أساقفته (صفاطر)، وأسقف بيت المقدس (ابن الناطور).
3.                                         كسرى ملك الفرس: لم يسلم وأمر بمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن أسلم باذان ملك اليمن من طرف كسرى.
4.                                         النجاشي ملك الحبشة: الذي أسلم وحده، ولم يسلم معه رجال دولته.
5.                                         جيفر وعبد الله ملكا عمان: وقد أسلما، وأسلم معهما أهل عمان.
6.                                         المنذر بن ساوى ملك البحرين: وقد أسلم وأسلم الناس معه.
7.                                         هوذة الحنفي ملك اليمامة: لم يسلم، ومات كافرا.
8.                                         الحارث بن أبي شمر الغساني: لم يسلم؛ ولكن أسلم رئيس ديوانه (مرى).
9.                                         المقوقس ملك مصر: لم يسلم.
هذه هي دبلوماسيته صلى الله عليه وسلم، مع الملوك والأمراء والزعماء في عصره، وهذه هي تفاصيل اتصالاته مع أولئك الملوك والأمراء، وهذه هي جهود رسله وموفديه في تبليغ دعوته، وتوصيل كتبه.




[1] باحث، مركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جوهرلالنهرو، نيودلهي
[2]الدبلوماسية الإسلامية والعلاقات السليمة مع الصليبين ، د ، عمر توفيق كمال ص: 17
[3]الدبلوماسية الإسلامية والعلاقات السليمية مع الصليبين ، د, عمر توفيق كمال ص: 19
[4]تاريخ الدبلومسي : الاستاذ قاسم محمد عثمان اللبناني.
[5]السيرة النبوية للدكتور علي محمد الصلابي ص:852-853.
[6]سورة يوسف :108.
[7]سورة طه : 29-31.
[8]سورة مريم : 1.
[9]سورة الأحقاف : 35.
[10]السيرة النبوية ، الدكتور علي محمد الصلابي ص: 856.
[11]فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني ج:6 ، ص: 108.
[12]السيرة النبوية للدكتور علي محمد الصلابي ص: 858.
[13]سورة الأنبياء : 107.

مواضيع ذات صلة
التاريخ الأسلامي, دراسات,

إرسال تعليق

1 تعليقات

أكتُبْ تعليقا