ادعمنا بالإعجاب

العربية الفصحى!


مجلة الرائد ،العدد : 247 الموافق في ذو القعدة 1424 هجري  1/2004 ميلادي
الكاتب : ع. عماد الدين
العربية الفصحى تعني للإنسان المسلم ، وللعربي غير المسلم أيضاً في بعض الجوانب ، قرآنَه ودينَه ، وهويتَه وتراثَه وحريته وكرامته وحاضره ومستقبله الوطيد الأصيل

ما من جهة عادتِ الإسلام وحاربته في الماضي إلا عادت العربية الفصحى ، وحاربتها في مجالات التعليم والثقافة والحياة الاجتماعية ، وناصرت العامية ودعت إليها ، وإلى إحلالها محلّ العربية الفصحى ، أو إلى الكتابة بالحروف اللاتينية ، لتنقطع الصلة بذلك بين العرب والمسلمين وبين أصولهم الروحية والحضارية ، ويفقدوا الهوية والشخصية ، ويصبحوا فريسة سهلة للغزو التبشيري والحضاري

وما من جهة استعمارية جائرة طامعة أرادت الهيمنة على العرب والمسلمين إلا حاربت العربية الفصحى ، وسعت لِتُحلّ محلّها لغتها ، أو اللهجات العامية المحلية ، لتنحلّ بذلك الرابطة اللغوية بين أجزاء العالم العربي والإسلامي ، فَيُقْضَى على وحدته ، ويتفكك بعضه عن بعض ، وتسهل الهيمنة عليه ، وتضعف قدرته على المقاومة والتحرر

ولقد رأينا ذلك واضحاً كل الوضوح في القرن التاسع عشر الميلادي والقرن العشرين ، ونراه الآن أوضح ما يكون وأقوى ما يكون في مطلع هذا القرن الجديد : القرن الواحد والعشرين

فاللغة العربية الفصحى في زَعْمِ أعدائها الداخليين والخارجيين ، قد انقطعت عن ركب الحياة ، ولم تعد قادرة على أن تصل العرب والمسلمين بالعلم والتكنولوجيا في أيّ ميدان من الميادين ؛ بل لم تعد قادرة على أن تصلهم بالفكر والأدب والثقافة العالمية ، بل لم تعد صالحة للتعبير بها عن أنفسهم ، في أفكارهم ومشاعرهم ، وفي مختلف شؤون حياتهم ..
وارتفعت أصوات بالدعوة إلى تعليم كافة العلوم في الجامعات بلغات أجنبية ، وبعضها يعلّم بالفعل بالإنجليزية أو الفرنسية
وأنشئت في عدد من البلاد العربية مدارس وجامعات الأساس فيها التعليم بغير العربية
وهكذا تزداد العربية إقصاءً عن المجال العلمي والتعليمي والثقافي ، وبذلك تموت أيُّ لغة من اللغات على الزمن ، مهما ملكت من قابليات الحياة
ويقترن ذلك أيضاً بإقصاء العربية في المجالات السياسية والإعلامية والفنية
فالعامية المحلية تنتشر وتنتشر وتنتشر : تنشرها الإذاعات ، وتنشرها الفضائيات ، وتنشرها الأغاني ، وتنشرها المسلسلات ..
وتتولى كِبْرَ ذلك أو تشارك فيه أنظمة وحكومات وجهات تدّعي القومية ، والإيمان بالوحدة العربية ؛ وكيف للوحدة العربية أن تقوم إذا قتلوا اللغة الجامعة أو أبعدوها : إذا أبعدوا أو قتلوا العربية الفصحى

إننا في الواقع أمام جريمة تاريخية ، إنسانية ، حضارية ، سياسية كبرى ، لا يرى أَبْعادَها الآن أكثرُ العرب والمسلمين
إنَّ إبعاد العربية الفصحى ، وإضعافها ؛ بل قتلها يوماً بعد يوم ، إنما هو قتل للأمة العربية والإسلامية : قتل لأصالتها ، قتل لهويتها وشخصيتها ، قتل لآمالها في الوحدة والتحرر ، والمستقبل الكريم
ولو كانت اللغة العربية الفصحى قاصرة عاجزة عن التجدّد والتطور والوفاء بحاجات أبنائها على كل صعيد ، لوجدنا لمن يهجرونها بعض العذر ؛ ولكنها - كما يشهد بذلك العلماء المختصون المنصفون - من أفضل لغات العالم ، وأغناها ، وأكثرها قابلية للحياة والنمو المستمر ، وتلبية حاجات العلم والفكر والأدب والحضارة ، والإنسانية والإنسان ؛ ولكن أين من يخلص لها ، وينهض بها ، في هذا الواقع العربي البائس السيء على كل صعيد
كانت “ العِبْريِّة ” لغة ميتة ميتة ، فأحياها ونهض بها الإسرائيليون
والعربية لغة حيّة حيّة ، أفتموت على أيدينا نحن العرب والمسلمين ؟!!
يا للخزي والعار!!
أليس هذا من أدل الدلائل على الحضيض الذي انحدرنا إليه ، ومن أدلّ الدلائل على انحلالنا الماديّ والمعنويّ
يَجب أن نستيقظ لأنفسنا - أيها العرب والمسلمون - فقد أوشك يفوت الأوان ، في عالم وعصر تمر فيه الفرص مرّ السحاب ، ويعادل اليوم الواحد فيه قرناً من الزمن القديم
ولست أنكر الانفتاح على اللغات وعلى الثقافات العالمية والإنسانية الأخرى ؛ بل أرى ذلك ضرورة وواجباً  وأدعو إليه بإصرار ، وإلى أن تُتَّخَذَ إليه الوسائل والأسباب
يجب أن نستكمل معرفتنا وثقافتنا باللغات والثقافات الأخرى ، وأن نتفاعل معها ، ونستفيد منها ، ولكنني أنكر كلّ الإنكار ، وأرفض كلّ الرفض أن تَحُلّ في بلاد العرب مَحَلَّ العربية لغة أخرى

وأنا أدعو علماء العربية المختصين ، ومجامعها المختصة ، إلى أن يواجهوا هذه القضية بشجاعة ومسؤولية وحزم ، ويرسموا سياسة شاملة واضحة ، ويضعوا منهجاً علميّاً واقعيّاً جريئاً ، لإعادة العربية إلى مكانتها العتيدة القديمة ، وتطويرها ، ووصلها بمختلف جوانب الحياة والنشاط الإنساني
وأدعو العرب والمسلمين - حكاماً ومحكومين - إلى مساندة هذا المنهج ، وتوفير كل ما يلزم لتحقيقه وتنفيذه مهما تطلب ذلك من جهد وتضحيات ، فالقضية قضية حياة أو موت ، والموت العقيديّ والحضاريّ شرٌّ من الموت الجسديّ والماديّ

وأدعو العرب والمسلمين الذين يعيشون خارج العالم العربيّ والإسلاميّ إلى أن يُعَلّموا أبناءهم شيئاً من العربية ، لتبقى لغةُ قرآننا حَيّةً في وجداننا وعلى لساننا ، مع لغات بلادنا المختلفة ، أو أوطاننا البديلة


يجب أن نربح معركة العربية الفصحى ، فذلك كسب لنا ، وكسب للإنسانية كلّها ، وخير لنا - إن شاء اللَّه - في الدنيا والآخرة.

مواضيع ذات صلة
شأون الخارجية, مقالات دينية,

إرسال تعليق

0 تعليقات