ادعمنا بالإعجاب

دور الحضارة العربية في نهضة العلوم الأوروبية: قراءة في فكر زيغريد هونكه

بقلم: محمد عبد الواحد، أستاذ ضيف في جامعة مرشد آباد، بنغال الغربية

(مجلة كاليكوت المجلد الخامس عشر، العدد الثاني، مايو - أغسطس ٢٠٢٥)

الملخص

رأت المستشرقة الألمانية (Sigrid Hunke) زيغريد هونكه أن أوروبا مدينة بالشكر للحضارة العربية على إنجازاتها الناجحة في العلوم والتكنولوجيا الحديثة يتناول كتابها الشهير "شمس العرب تسطع على الغرب" فكرة أن للعرب دورًا كبيراً في تشكيل الحضارة الغربية، ويؤكد أن العصر الذهبي، الذي امتد من القرن التاسع إلى القرن الرابع عشر، شهد ازدهارا ثقافيًا وفكريًا في العالم الإسلامي، مما أدى إلى تقدم في العلوم والفلسفة والطب والرياضيات والفلكيات والعمارة وغيرها. وتشير السيدة هونكه إلى أن هذه الإنجازات كان لها تأثير عميق على أوروبا، حيث أرست أسس عصر النهضة وساهمت في تطوير الفكر والحضارة الغربية.

ستتناول هذه المقالة الإنجازات الاستثنائية التي حققها العلماء العرب والمسلمين في تطوير العلوم الأوروبية الحديثة، كما وصفت المؤلفة في كتابها بالتفصيل.

الكلمات المفتاحية: التراث الثقافة، العلوم الحديثة، علماء العرب، المستشرقة، النهضة.

المقدمة

ومن المعروف لدى الجميع أن تاريخ العلم يتكون من جهود العلماء من مختلف الحضارات والثقافات. وفي العصور الوسطى، كان الشرق أكثر تقدمًا وازدهارًا من الغرب. ترجم العلماء العرب وجمعوا النصوص اليونانية والرومانية والفارسية والسنسكريتية، مع الحفاظ على المعرفة القديمة وتوسيع نطاقها، وعملوا على تحسينها وتكميلها بجهودهم الدؤوبة والمتواصلة. تميزت هذه الفترة بتبادل حيوي للأفكار والمعارف بين علماء وفلاسفة من خلفيات ثقافية ودينية متنوعة. وكانت المجتمعات الإسلامية خلال هذه الفترة مراكز للتعلم والابتكار والاختراع كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" (Allahs Sonne über dem Abendland Unser ألفته الدكتوراة زيغريد Arabisches Erbe هونكه في عام ١٩٦٣م، وتُرجم إلى العربية في عام 1964م. يُعدّ هذا العمل إبداعيًا، الذي يتحدى التصورات التقليدية حول طبيعة العلاقة بين العالم العربي والعالم الغربي. تغوص السيدة هونكه في فكرة أن الحضارة الإسلامية لعبت دورا مهما في تشكيل الحضارة الغربية الحديثة، وهي تُقدّم الفكرة الرئيسية لكتابها، مشيرةً إلى أن تأثير الإسلام على تطور الحضارة الغربية قد أغفل أو أُسيء فهمه إلى حد كبير في الوقت الحاضر. وهي تسعى إلى تحدي المفاهيم الخاطئة الشائعة وتسليط الضوء على العلاقة التاريخية بين العالمين الإسلامي والغربي. قبل أن ندخل مباشرة في صلب الموضوع، علينا أن نتعرف على حياة مؤلفة الكتاب باختصار، لنفهم الخلفية التي انطلقت منها في عرضة وجهة نظرها حول الموضوع الحيوي.

عن الكاتبة

زيغريد هونكه (۱۹۱۳-۱۹۹۹م) تعد من أبرز الكاتبات من ألمانيا. حصلت على الدكتوراه من جامعة فريدريش فيلهلم ببرلين عام ١٩٤١م. خلال الحرب العالمية الثانية، انضمت إلى الخدمة العلمية الألمانية في قوات الأمن الخاصة Wissenschafteinsatz) (Germanistischer حيث ركزت أبحاثها على علم النفس العرقي. كرست عملها لاحقًا لدراسة الهوية الأوروبية، وحققت شهرة واسعة بفضل كتبها التي تناولت العلاقة بين أوروبا والعالم العربي. شاركت السيدة هونكه بدور بارز في الحركة الدينية التوحيدية الألمانية التي تميزت عن نظيرتها البريطانية والأمريكية وجهت انتقادات حادة لهذا التيار التوحيدي المسيحي الألماني، باعتبارها غريبة عن العقل الأوروبي، كما هاجمت الرؤية " اليهودية المسيحية للعالم، مشيرة إلى أنها أدت إلى فصل غير طبيعي بين المقدس والدنيوي وأسفرت عن هيمنة المادية وتراجع القيم الروحية. ومن هذا المنطلق دعت السيدة هونكه إلى استعاد التقاليد الوثنية الأوروبية والتخلص من التأثير الديني المسيحي، الذي وصفته بـ" الحكم الأجنبي".

درست هونكه الفلسفة وعلم النفس والأديان وسعت إلى فهم الثقافة العربية والإسلامية بعمق من خلال رحلاتها إلى الدول العربية، حيث أقامت في المغرب لفترة ثم عادت إلى ألمانيا. نالت العديد من الأوسمة منها جائزة شيلر من المنظمة الثقافية الألمانية تقديرا لروحها الأوروبية (١٩٨٥م). وقد تم تكريمها من قبل المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة (۱۹۸۸م)، حيث أصبحت عضوا فيه، لبحثها العلمي حول العلاقة بين الثقافات العربية والأوروبية وحضاراتهما. وظلت رئيسة مجلس أمناء جمعية زيغريد هونكه حتى وفاتها (۱۹۹۹م).

الفصول للكتاب

يبدأ الكتاب بدراسة تأثير الإسلام على الغرب بشكل عام من حيث أصوله الثقافية، ثم ينتقل إلى التخصصات العلمية في العالم الإسلامي ومساهماتها في الغرب. تنقسم النسخة الأصلية باللغة الألمانية من الكتاب إلى سبعة فصول في مقدمة الكتاب، تشدد المؤلفة على قلة الوعي في العالم الغربي بالحضارة الإسلامية، ويُرجع جزءً كبيرا من هذا الجهل إلى الرؤية التاريخية الغربية التي كثيرا ما اتسمت بالتحامل والاستخفاف بإنجازات المسلمين.

الفصل الأول

يبدأ الفصل الأول من الكتاب بعنوان "توابل كل يوم" بتسليط الضوء على بعض الكلمات الشائعة في الغرب كالسكر )Safari( وسفر )Alcohol( والكحول )Sugar( وموسم (Monsoon) والجبر (Algebra) والكيميـ ۲ وغيرها )Safran الزعفران Chemistry( ترجع جذور هذه المصطلحات إلى اللغة العربية . ويتناول هذا الفصل أيضا ضعف التجارة العالمية لأوروبا مقارنة بالإمبراطورية الإسلامية في العصور الوسطى. ثم تشير المؤلفة إلى الحضور الكبير للثقافة الشرقية في مدينة البندقية كمثال، وهي عاصمة منطقة فينيتو شمال إيطاليا، كما هي تقول: "إن مدينة البندقية لم تكن لتحقق ما قد حققت لولا تبادل التجارة مع العرب". تستشهد الكاتبة بمجموعة متنوعة من البضائع التي جلبها المسلمون إلى الغرب، بما في ذلك الملابس والأغذية والمعدات الزراعية. حتى أن الناس في الغرب كانوا ينتظرون الحجاج والمسافرين لطلب هدايا وسلع ونعم الشرق.... وقد أبرزت وجود التوابل وغيرها من البضائع الآسيوية في المدن الأوروبية البارزة في ذلك الوقت. وتحدثت عن كيفية انتقال مجموعة التقنيات الشرقية إلى الدول الغربية. فعرب الأندلس في إسبانية هم أول من استعمل القذائف النارية في أوروبية لأهداف عسكرية فأصبحوا بذلك أساتذة الأوروبيين أيضاً في هذا الحقل". يمكن ملاحظة نقاط ضعف الغرب خلال العصور المظلمة عند مقارنتها بوضع العالم الإسلامي في تلك الفترة. ففي إشارة إلى صناعة الورق، على سبيل المثال، تستخدم المؤلفة عبارة "أوروبا الأمية" ليعكس النقص في إنتاج الورق في الغرب في بداياته مقارنة بالعالم الإسلامي".

الفصل الثاني

ويناقش الفصل الثاني للكتاب التأثير الكبير على مختلف مجالات الحياة في أوروبا من خلال نقل المعرفة في الرياضيات والحساب من الشرق إلى الغرب، حيث لعب علماء الرياضيات العرب دورًا مهمًا في الحفاظ على المعرفة الرياضية الموروثة من الحضارات القديمة وتوسيعها، ومن بين هؤلاء العلما البارزين برز اسم محمد بن موسى الخوارزمي (۸۵۰-۷۸۰ م) كواحد من أكثر الشخصيات تأثير في تاريخ العلوم. وضع عمله قواعدًا أساسية في الجبر للتدوين والخوارزميات الجبرية الحديثة حيث قدم أطروحته "كتاب الجبر والمقابلة" حلولاً منهجية للمعادلات الخطية والتربيعية مما ساهم في تطوير الجبر في أوروبا. تقول المؤلفة يذكر الخوارزمي نوعين لشكل الارقا الهندية كان يكتبها العرب، وبقي حدهما إلى يومت هذا، وهو الذي ساد في الشرق العربي بينمـ اندثر الشكل الآخر الذي كتبت به الارقام في غرب العالم الإسلامي والذي هو أصل شكل الارقام الأوروبية الآن. وبالإضافة إلى الجبر قدم علماء الرياضيات العرب مساهمات كبيرة في الهندسة وعلم المثلثات وحساب التفاضل والتكامل. كانت أعمال العلماء المسلمين مثل ثابت بن قرة (۸۳٦-۹۰۱م)، وأبو الوفاء البوزجاني ۹٤٠-۹۹۸م) ، وناصر الدين الطوسي (١٢٠١ - ١٢٧٤م) مفيدة في تطوير المفاهيم الرياضية التي أثرت لاحقا على علماء الرياضيات الأوروبيين، على سبيل المثال، ليوناردو فيبوناتشي Leonardo Bonacci) ويوهانس كيبلر (Johannes Kepler) وغيرهما. ووفقا لقول السيدة هونكه: ولا ننس علم الجبر الذي يعود الفضل الى العرب، وفي طليعتهم الخوارزمي في وضعه وسكبه بقالب ترتيبي نظامي (System)، وجعله علماً بكل ما في هذه الكلمة من معنى. فمن كتب الجبر للعالم ابي كامل المقيم في مصر. ومن مخطوطات البيروني وابن سينا والكرابيسي استمد ليوناردو البيزي معلوماته في المعادلات الرباعية والثلاثية وصنفها في كتابه المشهور "Liber haci)". وتابعت حديثها قائلة: "ولسنا نحن الألمان الناس الوحيديين في هذا، فكل الأمم المتحضر تستخدم اليوم الأرقام التي تعلمها الجميع عن العرب".

قد يتناول هذا الفصل أيضًا تاريخ أنظمة الأرقا الشرقية من خلال المنظمات الدينية والتجارة بالإضافة إلى العقبات المبكرة التي واجهته البيروقراطيات الغربية عند التعامل مع هذ الأساليب الجديدة اخترع العرب المسدسات للسطوح و )Octagon ومثمنات )Hexagon( أول مرصد جوي أُنشئ في بلاد الغرب في أورانينبورغ (Uranienburg)، الواقعة في إحدى جزر البحر الشمالي، نجد أجهزة عربية مجددًا ويعود الفضل في ذلك إلى ابن النبيل الألماني هيرمان وتسجل المؤلفة ذلك بهذه الطريقة "فقد اخترع العرب مسدسات (Hexagon ومثمنات (Octogon) السطوح. وفي أول مرصـ جوى أنشئ في بلاد الغرب في اورانينبور (Uranienburg) الواقعة في جزيرة من جز البحر الشرقي همين.......

الفصل الثالث

ويصف هذا الفصل من الكتاب عدة فروع رئيسية للعلوم الطبيعية في العالم العربي، وهي علم الفلك والميكانيكا والفلسفة بالإضافة إلى تأثير النجاحات الإسلامية على تمهيد الطريق للنهضة العربية الكبرى في أوروبا. وذلك وفقا لما تؤكده المؤلفة: "إذ أن كل مؤذن كان بحكم محنته عالما) فلكيا صغيرا له معرفة عملية بعلم تحديد الأوقات... وعليه كذلك أن يحسب مواعيد غروب الشمس وشروقها لتحديد مدة الصيام وموعد الإفطار". والمعلوم لدى الجميع أن علماء الفلك العرب قد حققوا اكتشافات رائدة أحدثت ثورة في فهم الكون. فقد استفادوا من معارف الحضارات القديمة كاليونانيين والفرس والهنود، فحسنوا الأدوات الفلكية وطوّروا نماذج متطورة لحركة الأجرام السماوية. ولعل أبرز علماء الفلك أمثال محمد بن جابر بن سنان البتاني (٨٥٠-٩٢٩م).
وإبراهيم بن يحيى الزرقالي (۱۰۲۹-۱۰۸۷ م) وابن الشاطر (١٣٠٤-١٣٧٥م) قدمت ملاحظات وحسابات دقيقة كانت ذات أهمية بالغة في مجالات الملاحة، وضبط الوقت، وتطوير علم الفلك الأوروبي. نقل النصوص الفلكية العربية على سبيل المثال "المجسطي" لبطليموس وأعمال علماء الفلك )Claudius Ptolemy( الإسلامي، إلى اللاتينية خلال فترة العصور الوسطى دورًا محوريًا في تشكيل عصر النهضة الأوروبية.

كانت هذه النصوص بمثابة الأساس الذي بنى عليه علماء الفلك الأوروبيون مثل نيكولاس وتايكو ،)Nicolaus Copernicus كوبرنيكوس براهي Tycho rahe)، ويوهانس كيبلر (Johannes Kepler) نموذجهم الثوري للنظام ) الشمسي. والمؤلفة تقول: "ألف الخوارزمي كتبا عدة في الجغرافية والفلك ترجمها بعد ثلاثة قرون العالم الإنكليزي ادلارد فون باث الى اللغة اللاتينية )Athelhort Von Bath( وعرف بها الغرب". قامت المؤلفة بجمع مساهمات موسى بن شاكر من القرن التاسع الميلادي، هو عالم الفلك وباحث في بلاط الخليفة المأمون، وإنجازات أبنائه الثلاثة في الميكانيكا وعلم الفلك والرياضيات ولو كان في البداية قاطع طريق، بحسب ما تقول: "لم يثبت أبناء موسى بشهرتهم، بفضل ابحاثهم الخاصة فحسب، بل بالخدمات الجلسى التي قدموها للعلم، ولا سيما علم الفلك؛ وكانوا في مقتبل العمر تقريباً حين ظهروا للملأ كأساطين كرماء للعلم. وقد قاموا بإيفاد الرسل على نفقتهم الخاصة الى الإمبراطورية البيزنطية بحثاً عن المخطوطات الفلسفية والفلكية والرياضية والطبية القديمة..... " ، واستمرت قائلة: "في حياة هؤلاء الإخوة الثلاثة نجد كل تلك القوى متوافرة وجميع الاتجاهات ممثلة. وقد تناول العلماء العرب علم النجوم، بعد أن صمت صوت الإغريق إلى الأبد، فوهبوه حياة وهيأوا له وثبة هائلة ودفعوه ليملأ الفراغ الثقافي في أوروبا فأحدثوا بذلك أثراً بعيد المدى. وكانت عبقريةىالتراجم الفذة.

اشتهر ابن رشد (۱۱۲٦-۱۱۹۸) بشروحه العميقة لأعمال أرسطو، ولعب دورا محوريا في نقل الفلسفة الأرسطية إلى الغرب، حيث أصبحت ركيزة أساسية للفكر المدرسي الأوروبي. ويُعد ابن خلدون (١۳۳۲-١٤٠٦) من الرواد الأوائل في ميدان التاريخ وعلم الاجتماع، واضع الأسس الأولى لما بات يعرف اليوم بالعلوم الاجتماعية الحديثة. لم تقتصر هذه المساهمات على الحضارة الإسلامية فحسب، بل كان لها أيضًا تأثير بالغ العمق في تطور الفكر والعلوم في أوروبا الحديثة، حيث كانت أوروبا تعاني من الجهل والتعصب في العصور الوسطى. وخلال عصر النهضة في أوروبا، استفاد الباحثون والعلماء من الدول الغربية من إنجازات العرب بعد ذلك. كما تقول الكاتبة "ان كتاب (القانون) لابن سينا، كان من الكتب الأولى التي اعتمد عليها الغرب في سعيه وراء العلم في بدء نهضته: فقد ظهر القانون في ميلانو في شهر فبراير من عام ١٤٧٣م. وبعد مرور سنتين طبع للمرة الثانية، وظهرت في الوقت نفسه تعليقات وشروح خاصة بابن سينا بقلم ايطالي لقب (**Anima Avicennas).بروح ابن سينا.

الفصل الرابع

يتعلق هذا الفصل بتطور علم الطب، حيث تقدم المؤلفة شرحاً مفصلاً للإنجازات الملحوظة التي حققها الأطباء المسلمون في مجال علاج الأمراض، بالإضافة إلى التقدم الذي أحرزه الصيادلة المسلمون في إنتاج الأدوية الفعالة، حسب قولها: "... وكانوا (العرب) أول من افتتح الصيدليات العامة وذلك في العام الثمانين من القرن الثامن في ظل حكم الخليفة المنصور. كما أنهم ألحقوا بكل وبيمارستان صيدلية خاصة به، كما كان الوضع في جنديسابور، وأنشأوا صيدليات خاصة بساحة المعركة كانت تصحب البيمارستانات المحمولة المتنقلة (Ambulance) ومنذ أيام المأمون في التاسع الميلادي كانت الصيدليات وكل القرن قسم من أقسام الصحة العسكرية تحت إشراف حكومي". والمعروف لدى الجميع أن الأطباء العرب قدموا مساهمات كبيرة في مجال الطب، إذ دمجوا معارف الحضارات القديمة مع ملاحظاتهم واكتشافاتهم. وشهدت شخصيات بارزة مثل أبو بكر الرازي (٨٦٥-٩٢٥م)، وابن سينا (۹۸۰-۱۰۳۷م)، وابن النفيس (۱۲۱۳ ۱۲۸۸م) تطورات رائدة في علم التشريح، وعلم وظائف الأعضاء، وعلم الأدوية، وأخلاقيات الطب وغيرها.

تركزت صاحبة الكتاب إنجازات العلماء المسلمين في مجال الطب العيون، حيث تفوقوا على ما وصلوا إليه اليونيون، أسهمت اكتشافاتهم الغزيرة في ترسيخ علم البصريات كعلم العربي الأصل لا يمكن إنكار فضله. كان ويعد أول كتاب ألف في هذا المجال هو "العشر مقالات عن "العين"" لإسحاق بن حنين. وحتى القرن الثامن عشر، ظلت كتابات علي بن عيسى وعمار الموصلي تعد من أبرز المراجع في طب العيون داخل الأوساط الطبية الأوروبية. سوف يتضح الأمر تماما بعد إلقاء نظرة على اقتباستها قد بلغ العرب في فرع طب العيون شأواً عظيماً تفوقوا فيه على اليونان، وساعدهم في هذا اكتشافاتهم الناجحة في علم البصريات (Optik) الذي يعد علماً عربياً دون أية مبالغة. وأول كتاب في هذا الموضوع كان كتاب اسحق بن حنين "العشر مقالات عن العين)". وهي تقول أيضاً أن العرب كانوا متفوقين في التعامل مع تشوهات المفاصل والعظام وقدموا طريقة جديدة لعلاج خلع الكتف لا تزال تعرف بالطريقة العربية حتى يومنا هذا. "فإن العرب برعوا في معالجة تشويهات المفاصل والعظام (Orthopadie) وأدخلوا طريقة جديدة لمعالجة خلع الكتف ما تزال تدعى بالطريقة العربية حتى أيامنا هذه. يُنسب إلى الرازي استخدام خيط الشعر في العمليات الجراحية في العصور الوسطى. ويُعدّ استخدام التخدير العام في العمليات الجراحية إنجازا طبيا هاما آخر ينسب إلى العرب. تميزت التخدير الذي ابتكره الأطباء العرب عن المشروبات المسكرة التي استخدمتها الحضارات الهندية واليونانية لتسكين الألم، إذ كان فريدا من نوعه، وفعالا في تأثيره، وأقل ضررا على المرضى. وتعبر المؤلفة الأمر عن ذلك بقولها:

"وأما فضل استعمال خيط الشعر في العمليات الجراحية في القرون الوسطى، فيرجع إلى الرازي. وللعرب على علم الطب فضل آخر كبير غاية الأهمية، ونعني به استخدام المرقد المخدر العام في العمليات الجراحية، وكم كان التخدير العربي فريداً في نوعه، صادقاً في في ( مفعوله رحيماً بمن يتناوله؛ "". وقام أبو القاسم بنشر مبادئ الجراحة التي استمرت كمرجع أساسي لعدة قرون في أوروبا. كما قدم البيروني فكرة دوران الأرض حول الشمس، مقدمًا إسهاما بارزًا للمجتمع الفكري العالمي. بالإضافة إلى إجراء اختبارات باستخدام المرايا والعدسات المخروطية الدائرية والأسطوانية، ساهم الحسن بن الهيثم في كشف قوانين الرؤية وتأسيس علم البصريات. وبينما كان العالم العربي يقترب بسرعة من ذروة عصره الذهبي، كان الغرب مصدوماً ومرعوباً، خائفاً من أن العالم على وشك الزوال. وهذا ما تصرح به المؤلفة بوضوح"نشر أبو القاسم مبادئ الجراحة التي ظلت شائعة لقرون عدة، وشرح البيروني، أرسطو طاليس العرب للفكر العالمي دوران الأرض حول الشمس، واكتشف الحسن بن الهيثم قوانين الرؤية وأجرى التجارب بالمرايا والعدسات المستديرة والأسطوانية المخروطية".

الفصل الخامس

يتناول الفصل الخامس العوامل التي ساهمت في ازدهار الثقافة العربية مسلطاً الضوء على الدور الحاسم الذي لعبته الترجمة في نموها وتطورها خلال العصور الوسطى. وبعد أفول النشاط الفكري اليوناني أقبل العلماء العرب على العلم والفلسفة باهتمام بالغ فأحيوا هذه التخصصات وطوروها بصورة ملحوظة ليسدوا بذلك الفراغ الفكري الذي خلفه تراجع الحضارة وأسهموا في تهيئة الأرضية لنهضة أوروبا لاحقا. وقد كان هذا التحول مدفوعا - إلى حد كبير - ببراعة المترجمين العرب التي لا مثيل لها، إلى جانب جهودهم المتواصلة في جمع المخطوطات الأجنبية وصونها، مما أسهم في حماية تراث الحضارات السابقة. ومن خلال هذه المبادرات الجليلة، استطاع العرب الوصول إلى كنوز المعرفة الثقافية والانغماس في عوالم الفكر وهو ما مهد الطريق لتشييد حضارة مزدهرة كما ذكرت المؤلفة هكذا وكانت عبقرية الترجمة الفذة... وكان القيام بجمع المخطوطات التي أنقذت تراث الثقافة القديمة من براثن النسيان، فخرج العرب بفضل ذلك بالأصول، وانطلقوا في عالم الفكر والثقافة حتى تمكنوا من بناء ما بنوا".

الفصل السادس

وتقدم المؤلفة في الفصل السادس تفاصيل عن التطورات في صقلية وإسبانيا، وهما منطقتان من أوروبا كانتا تحت الحكم الإسلامي لعدة قرون. وتعتقد الكاتبة أن التقدم العلمي والتكنولوجي في أوروبا كان مبنيًا على التطورات السابقة التي حققها المسلمون في هذه المجالات. وهي تناقش أيضا الجسور التي تربط الشرق بالغرب عبر صقلية وإسبانيا. وفي الأندلس كانت قرطبة مركز جذب لطلبة العلم من كل أنحاء العالم، وذلك بفضل مدارسها العليا ومكتبتها العظيمة التي جمعها الخليفة عبد الرحمن الثاني، أحد أبرز علماء عصره. وقد جمع الخليفة نصف مليون كتاب ثمين، ورتب لها الآلاف من العلماء والباحثين، وعلق بنفسه على هوامش كثير منها قبل وفاته. وفي القاهرة نظم مئات العمال والفنيين مكتبات الخليفة التي بلغ عددها مليونين مجلد، أي عشرين ضعف ما كانت تحتويه مكتبة الإسكندرية الوحيدة في ذلك العصر. وفقا لما قالت المؤلفة وفي الأندلس تجتذب قرطبة طلاب العلم من كل أنحاء الشرق بل والغرب أيضاً. تجذبهم بمدارسها العليا ومكتبتها العظيمة التي جمع لها الخليفة الحكم الثاني، وهو من أشهر علماء عصره، نصف مليون من الكتب القيمة جمعها له عشرات من رجاله، وعلق الخليفة بنفسه على هوامش عدد كبير منها قبل وفاته، قبل نهاية القرن العاشر بأربعة وعشرين عاماً.

الفصل السابع

يتناول الفصل الأخير تطور مختلف المجالات في أوروبا، بما في ذلك الهندسة المعمارية والفن والموسيقى والأدب. ويشير الكتاب إلى أن فريدريك تأثر بشكل ملحوظ بالأساليب المعمارية العربية، حيث أدرج عناصر مثل الأعمدة البيزنطية والرومانية للمساعدة في تشكيل وتنظيم دولته. وقد أرست هذه التأثيرات الأساس لنجاحه في مجال البناء وساهمت في تحقيق تقدم دائم في الهندسة المعمارية والتصميم الحضري. وهي تشرح كذلك أيضا عن التقنية الزخرفية المتمثلة في التناوب بين المرمر الأسود والأبيض في الأقواس كانت مستوحاة من العمارة العربية التي ازدهرت في صقلية. وقد شكلت التقاليد الفنية العربية نموذجاً لها، لا سيما في حدود المرمر المزخرفة، والأقواس المدببة، والقاعات البلدية، واستخدام تركيبات الألوان النابضة بالحياة بالإضافة إلى ذلك، استمدت أبراج كنائس عصر النهضة في إيطاليا إلهامها من تصميم المآذن الإسلامية. بحسب ما تقول الكاتبة أخذت عن فن البناء العربي المزدهر في صقلية فكرة مزج المرمر الأسود بالأبيض في تزيين حنيات الأقواس أنما يتخذ من الفن العربي نموذجاً له في التزيين والحواشي رفات مرمرية والاقواس العربية المدببة وقاعات العمد ومزج الالوان واتخذت ابراج كنائس عصر النهضة في إيطاليا شكلها عن المآذن الإسلامية".

وتختتم السيدة هونكه كتابها بالتأكيد على الأهمية الحيوية للاعتراف بالترابط التاريخي والثقافي بين الإسلام والعالم الغربي. إنها تدعو إلى الحوار والاحترام المتبادل والتعاون باعتبارها خطوات أساسية نحو بناء مجتمع عالمي أكثر شمولاً وتناغما. وتؤكد أن أي انقسام متصور بين الشرق والغرب هو انقسام سطحي، وأن ما يهم حقا هو التفاعل بين الثقافات والسعي لتحقيق الأهداف المشتركة.

النقد

غير أن الكتاب لا يخلو من بعض المؤاخذات، من بينها ..

غياب التنظيم الواضح والتقسيم المنهجي للفصول، إلى جانب عدم وجود فهرسة دقيقة للموضوعات، مما يصعب على القارئ الوصول إلى المعلومات المحددة بسبب غزارة المحتوى وتنوعه. .

وتخلط مؤلفة الكتاب في كثير من الأحيان بين العرب والمسلمين، وذلك من خلال الإشارة إلى العلماء المسلمين غير العرب باعتبارهم عرباً، مما يعتبر خطأ شائعًا بين الدارسين والباحثين في التاريخ الإسلامي.

يفتقر الكتاب إلى التوثيق العلمي للمعلومات والبيانات لأنه لا يذكر حتى المراجع والمصادر المستخدمة في إعداده.

يلاحظ وقوع الكاتبة في بعض الأخطاء والتأويلات في الفصل الأخير من الكتاب.

الخاتمة

وفي الأخير، نستطيع أن نقول إن كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" يعتبر عملا مهما لفهم تأثير العرب على التطور العلمي الأوروبي في القرون اللاحقة، ويشكل هذا الكتاب مساهمة قيمة في ميدان دراسة العلاقات بين الحضارتين الإسلامية والغربية يتحدى عمل هونكه القراء لإعادة النظر في تصوراتهم المسبقة وتحيزاتهم التقليدية تجاه الإسلام ومكانته في الحضارة الغربية، مما يشجع على فهم أكثر دقة وشمولاً،

على سبيل المثال:

  1. تفنيد الادعاءات الباطلة التي غالبا ما يوجهها الغرب إلى العرب والمسلمين.
  2. إبراز الدور المحوري الذي لعبتها الحضارة العربية الإسلامية في إخراج أوروبا من عصور الظلام والانحطاط ومساهماتها في إشعال شرارة النهضة الأوروبية.
  3. توضيح أن الحضارة الغربية مدينة للحضارة العربية، وأن ضرورة إقامة علاقات سياسية وعلمية وتجارية مع العرب أمر أساسي لتقدمها.
  4. إجراء استعراض شامل للجوانب المتنوعة التي تشملها هذه العلاقات، وتسليط الضوء على الأثر المستمر للمساهمات العربية في المجالات العديدة مثل الجغرافيا والفلك والرياضيات والطب والهندسة وغيرها.
  5. يوضح الكتاب أيضًا كيف ساهمت المفاهيم والتقنيات العربية في تطور الغرب، وكيف أصبحت جزءًا لا يتجزأ من تقدمه التاريخي والثقافي والاقتصادي والعلمي.

المصادر والمراجع

  1. بدوي عبد الرحمن موسوعة المستشرقين، ط:۳ ، بيروت، دار العلم للملايين، ١٩٩٣م.
  2. ديترش البرت الدراسات العربية في ألمانيا: تطورها ووضعها الحالي، ألمانيا، مكتبة فيسبان، 1962.
  3. سنو، عبد الرؤف، ألمانيا والإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين، بيروت الفرات للنشر والتوزيع، 2007.
  4. العقيقي نجيب المستشرقون، مصر، دار المعارف، ١٩٦٤م.
  5. فالتر فايبكه، نشر التراث العربي ودراسته في ألمانيا، مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، ۱۹۷۹م.
  6. المنجد، صلاح الدين المستشرقون الألمان: تراجمهم وما أسهموا في الدراسات العربية، ط: ١ ، بيروت، دار الكتاب الجديد ۱۹۷۸م.
  7. الولي الشيخ طه الإسلام والمسلمون في ألمانيا بين الأمس واليوم، ط 1 ، بيروت، دار الفتح للطباعة والنشر، ١٩٦٦م.
  8. هونكه زيغريد. شمس العرب تسطع على الغرب، ط ۸. (ترجمة: فاروق بيضون وكمال دسوقي)، بيروت: دار الجيل دار الآفاق الجديدة، ١٩٩٣م،

المصادر الأجنبية

  • Hunke, Sigrid. Allahs Sonne über dem Abendland Unser Arabisches Erbe. Berlin: Fischer Bücherei, 1963, p. 9.
  • Said, Edward. Orientalism. Penguin Random House, India, Gurgaon, India, 2003
  • Suzanne L. Marchand, German Orientalism in the Age of Empire: Religion, Race and Scholarship, Cambridge University Press, UK, 2010.
  • Wokoeck, Ursula, German Orientalism: The study of the Middle East and Islam from 1800 to 1945, Routledge, London, 2009

مواضيع ذات صلة

إرسال تعليق

0 تعليقات