بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
أما بعد.. فإن بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يكمل الإيمان، فقد روى البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»، وفيما رواه أيضاً من حديث عبدالله بن هشام أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال: والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك ».
فقال عمر رضي الله عنه: «فإنك الآن والله أحب إليَّ من نفسي »، فقال: «الآن يا عمر»...
ويتضح صدق الحب له صلوات الله وسلامه عليه باتباعه، واتباعه دليل على محبة الله تعالى أيضاً، لقول الله جل شأنه: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (آل عمران : (۳۱).
ومن دلائل كمال الإيمان الذي يتذوق العبد به حلاوته حب الله ورسوله، كما روى البخاري في صحيحه، بسنده عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار».
وقد دفعت محبة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرا من المحبين أن يمدحوه وأن يوجهوا العباد إلى كريم شمائله، وعظيم خلقه وفضائله، وأن يبينوا في مديحهم ووصفهم مكانته العلية، ومنزلته السنية كما أخبرنا عن ذلك في حديثه الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه حين يقول صلوات الله وسلامه عليه «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع ».
وقد ظهر بين الناس بعض الطوائف التي حاولت أن تنهي الناس عن مدحه، ويقولون عن المادحين لأشرف المرسلين إنهم مبتدعون في الدين محاولين الاستناد في ذلك إلى حديث: «لا تطروني...» مع أنهم لو أكملوا الحديث العلموا أن الإطراء المنهى عنه هو الذي يخرجه عن كونه بشرا، كما أطرت النصارى ابن مريم حين قالوا عنه ابن الله فقد قال صلوات الله وسلامه عليه
لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم» رواه البخاري عن عمر رضي الله عنه.
ومن كبار المادحين لخاتم الأنبياء والمرسلين الإمام شرف الدين أبو عبدالله محمد البوصيري » رحمه الله رحمة واسعة.. ونسبه بالكامل
هو محمد بن سعيد بن أبي سرور بن حيان ابن عبدالله ابن ملاك بن صنهاج، وقيل: محمد بن سعيد ابن حماد بن تحسن بن عبدالله بن حياني الحبوني الصنهاجي أبو عبدالله شرف الدين الدلاصي المولد المغربي الأصل البوصيري المنشأ، وأصله من قلعة حماد ببلاد المغرب من قبيل يقال لهم بنو حبنون.
وكان أبوه من ناحية بوصير، وأمه من ناحية دلاص فكانت نسبته الدلاصيري واشتهر بالبوصيري ولد بناحية دلاص في يوم الثلاثاء أول شوال سنة ست أو عشر أو سبع وستمائة من الهجرة...
ولقد مدح البوصيري الرسول صلى الله عليه وسلم بعدة قصائد وضح فيها الشمائل النبوية، والمحامد الشريفة، ومن أشهر مدائحه: «البردة».. فهو نجم المادحين، وخيرة المحبين والعارفين، ولقد رد على المدعين دعاواهم، ونزّه ساحة مدحه عما ادعته النصارى حين قال:
دع ما ادعته النصارى في نبيهمو
واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
فإن فضل رسول الله ليس له
حد فيعرب عنه ناطق بفم
فيحذر من المدح الذي قاله النصارى في سيدنا عيسى عليه السلام حيث قالوا إنه ابن الله أو ثالث ثلاثة.. ولا يخرجه عن بشريته ولكن يثبت أنه خير . خلق الله فيقول:
فمبلغ العلم فيه أنه بشر
وأنه خير خلق الله كلهم
والإمام البوصيري هو أحد العارفين بالله المحبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. لقد بدأ حياته بحفظ كتاب الله تعالى ودرس العلوم الدينية والعربية وكان رحمه الله جياش العاطفة في محبته للرسول صلوات الله وسلامه عليه، صادق الإيمان قوي اليقين تدفقت شاعريته الملهمة بالعديد من القصائد الدينية في مدح خير البرية عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
وكانت أعظم قصائده، وأروع فرائده درة الشعر الفصيح بردة المديح، التي لم يشبهها سابق، ولم يقترب منها لاحق، وكم قصائد ألفت على غرارها، ونهجت طريقها، ونسجت على منوالها.. ولكنها لم تصل إلى رتبة بردة البوصيري، حتى إن أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله قال عنها في قصيدته «نهج البردة»
المادحون وأرباب الهوى تبع
مديحه فيك حب خالص وهوى
الصاحب البردة الفيحاء ذي القدم
الله يشهد أني لا أعارضه
وصادق الحب يملي صادق الكلم
وإنما أنا بعض الغابطين ومن
من ذا يعارض صوب العارض العرم
يغبط وليكَ لا يذمم ولا يلم
هذا مقام من الرحمن مقتبس
ترمي مهابئه سحبان بالبكم
ومما روته بعض المراجع في سبب نظم البوصيري للبردة أنه قد أصابه مرض الفالج، وهو عبارة عن شلل يصيب أحد شقي الجسم طولاً، فنهض في نظم قصيدة يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستشفع بها إلى ربه سبحانه وتعالى، وكرر قراءتها مرارا وتشفع إلى الله تعالى بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في إزالة كربه، وأكثر من الدعاء والتضرع والإنابة، ونام، فرأى في منامه سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم وهو يمسح بيده الشريفة على ما به من وجع، ثم ألقى عليه بردة، فانتبه وقد عوفي مما به...
وكان هذا سراً فيما بينه وبين الله سبحانه، لم يطلع عليه أحداً من الناس، فلقيه بعض الفقراء (الصوفية) وقد خرج من بيته، وقال له: أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: وأي قصيدة تريد؟ فإني مدحته صلى الله عليه وسلم بقصائد كثيرة، فقال: التي أنشأتها في مرضك التي أولها:
أمن تذكر جيران بذي سلم
والله لقد سمعناها البارحة، وهي تنشد بين يدي من كتبت له، وأخبره أنه رأى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أعجبته القصيدة وألقى على من أنشدها بردة، فأعطاه القصيدة، وشاع المنام بمصر.
ونحن على يقين أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه وكثرة الصلاة والسلام عليه من أهم أسباب تفريج الكرب، وشفاء المرض، وتحقيق الخير للإنسان...
وكم من عباد الله الصالحين، والأولياء المقربين من ابتلي في حياته، فتقرب إلى الله، وأكثر من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف الله كربه، وفرج همه وغمه.. وقد حدث هذا قديماً وحديثاً، ومما حدث من فرج - في عصرنا محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثرة الصلاة والسلام عليه، ما أخبرنا به شيخنا الإمام الأكبر، شيخ الأزهر الأسبق العارف بالله فضيلة الدكتور الإمام عبد الحليم محمود رحمه الله رحمة واسعة.
ولنصغ إلى حديث الإمام عبد الحليم محمود وهو يحدثنا بنفسه عن هذه التجربة حيث يقول رحمه الله: في فترة من الفترات ابتلاني الله بموضوع شق على نفسي وعلى نفس المحيطين بي، واستمر الابتلاء مدة كنا نلجأ فيها إلى الله طالبين الفرج... وذات يوم أتى عندي بعض الصالحين، وكان على علم بهذا الابتلاء وأعطاني ورقة كتب فيها صيغة من صيغ الصلاة على .eta رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اقرأها واستغرق فيها، وكررها منفرداً في الليل لعل الله يجعلها سببا في تفريج هذا البلاء، والصيغة هي: اللهم صل صلاة جلال، وسلّم سلام جمال، على حضرة حبيبك سيدنا محمد واغشه اللهم بنورك كما غشيته سحابة التجليات فنظر إلى وجهك الكريم وبحقيقة الحقائق كلم مولاه العظيم، الذي أعاذه من كل سوء، اللهم فرج كربي كما وعدت «أَمَّنْ يُجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء» وعلى آله وصحبه آمین.
واعتكفت في غرفة بعد صلاة العشاء، وأضأت نور الغرفة، وأمسكت الورقة بيدي، وأخذت في تكرار الصيغة واستغرقت فيها وإذا بي أرى فجأة أن الحروف التي كتبت بها الصيغة مضيئة، فإن الحروف كانت تتلألأ نوراً في وسط النور.. ولم أصدق عيني فغمضتهما وفتحتهما عدة مرات فكان النور على ما هو، فوضعت الورقة أمامي ووضعت يدي على عيني أدلكهما وأدعكهما، ثم فتحت عيني، فإذا بالحروف على ما هي عليه تتلألأ نوراً وتشع سناء.
فحمدت الله وعلمت أن أبواب الرحمة قد فتحت وأن هذا النور رمز ذلك، وفعلاً أزال الله الكرب، وحقق الفرج بكرامة هذه الصيغة المباركة».
وقد رأيت أن أورد هذه التجربة لأمرين:
الأول : لأوضح أن أمر خوارق العادات وفضل محبة الرسول صلى الله عليه وسلم كما حدث لسلفنا في العصور القديمة، فقد حدث مثيله للعارفين بالله في عصرنا الحديث وأن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة.
الثاني : أن فضل مديح الرسول صلى الله عليه وسلم وحبّه الذي تجلى في تجربة الإمام البوصيري في بردته، إنما هو ثمرة للعبادة الحقة والصلة الوثيقة بالله ورسوله.. بكثرة الطاعة وصدق القلب والعاطفة وكثرة الصلاة والسلام على رسول الله، كما أمر الله تعالى بها: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمَا (الأحزاب : ٥٦).
وحَسْبُ المؤمن فضلاً أن من صلى على رسوله صلى الله عليه وسلم مرة، صلى الله سبحانه وتعالى عليه عشراً، كما جاء في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا » ورضي الله عن الإمام البوصيري وأرضاه، ونفعنا الله بحبه سبحانه وتعالى وبحب رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، وأسأل الله تعالى أن يعافينا ويعافي القراء من كل مرض أو ابتلاء أو بلاء، وأن يشفع فينا خاتم الأنبياء، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولسائر المسلمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين...
0 تعليقات
أكتُبْ تعليقا