ادعمنا بالإعجاب

فضائل القرآن الكريم

  تفاصيل عن المقالة

عنوان المقالة :  فضائل القرآن الكريم

الكاتب: بقلم سماحة الشيخ العلامة السيد محمد الرابع الحسني الندوي 

تعريب : محمد فرمان الندوي

المصدر: مجلة البعث الإسلامي (مجلة إسلامية شهرية جامعة)

تصدر عن :  مؤسسة الصحافة والنشر لكناؤ الهند

رقم العدد: السادس

المجلد: التاسع والخمسون

تاريخ الإصدار: ربيع الأول 1435 هـ يناير 2014 مـ

بلد النشر : الهند

رئاسة التحرير: سعيد الأعظمي الندوي، واضح رشيد الندوي.

، إن أهم ما يمتاز به القرآن الكريم أنه بريئ عن كل شبهة وكتاب هداية وإرشاد ، ذكر الله هذه الحقيقة في القرآن بهذه الكلمات فقال : ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (سورة البقرة الآية /٢) وأي مزية أعظم من أن الله سماه موعظة وشفاء وهدى ورحمة وفضلاً ، قال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ : قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (سورة يونس الآيتان / ٥٧ - (٥٨) .

ومن فضائله الجمة أنه ذكر وموعظة للعالمين ، قال تعالى : إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) (سورة ص الآية / ۸۷) ، وهذا القرآن مفخرة وشرف للرسول ولأمته ، قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (سورة الزخرف الآية / ٤٤) ، والفضيلة التي ينفرد بها القرآن أن مصدره علم الله عز وجل ، وهو حق ، ويهدي إلى الحق ، وإن جميع أخباره وأحكامه مبنيه على الصدق والعدل ، قال الله تعالى : إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدُ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّين) (سورة الزمر الآية (٢) .

وقد تكفل الله بحفظه وصيانته ، فقال : إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ (سورة القيامة الآيات ١٧ - ١٩) والفضيلة البارزة بين فضائل القرآن أنه سهل من حيث المعاني والمفاهيم ، ويتسم لفظه وأسلوبه بالسهولة واليسر ، فلا صعوبة فيه للفهم والذكر ، ويوجد في الدنيا ملايين من الحفاظ والمفسرين ، هذا يدل على عظيم فضله ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ وغاية كماله مدَّكِر) (سورة القمر الآيات / ۱۷ - ۲۲ - ۳۲) .

ومما يتبين منه فضيلة القرآن الكريم أنه يوجه الناس إلى أرشد فكر وأحسن سلوك ، قال الله تعالى : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كبيراً ) (سورة الإسراء الآية / ٩) .

وقد اعتبر القرآن الاشتغال بوظائفة الثلاث أعظم عبادة : تلاوةالقرآن ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق في سبيل الله ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَة لَنْ تَبُورَ) (سورة فاطر (الآية / (۲۹) ، وقال رسول الله ﷺ : خيركم من تعلم القرآن وعلمه ( صحيح البخاري : كتاب فضائل القرآن رقم / ٥٠٢٧) .

مكانة القرآن بين الكتب السماوية الأخرى :

كانت هناك كتب سماوية أيضاً قبل نزول القرآن ، لكن لم يبق كتاب سماوي على أصالته سوى القرآن الكريم ، وقد حرفت ألفاظها ونصوصها ، فقد دونت التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام بعد وفاته ، وألحقت أبواب عديدة بها تتعلق بالتنبؤات قبل موسى عليه السلام وبعده ، ولا تزال الإضافات جارية ، ثم تعددت تراجمها التي كانت مختلفة عنها تماماً .

وكذلك الإنجيل دونه تلاميذ عيسى عليه السلام بعد رفعه إلى السماء ، ثم أضيفت إليه قصص حياة عيسى عليه السلام وأقواله ، فلم يبق الإنجيل على أصالته في كلمات الله عز وجل ، حتى لا يمكن أن يجزم القول عن أقوال سيدنا عيسى عليه السلام أنها ثابتة عن سيدنا عيسى عليه السلام ، فهناك تناقض شديد في الروايات ، ويوجد تفاوت ملحوظ في روايات الأناجيل الأربعة ، وكتابها ، لكن لا يشعر اليهود والنصارى بأدني حرج وتحريف فيها ، فلم يكن هناك فكرة لحفظ الكلام الإلهي لفظاومعنى قبل القرآن الكريم ، وهكذا دواليك في الكتب السماوية الأخرى .. 

إلا أن القرآن الكريم الذي نزل على سيدنا محمد بن عبد الله ﷺكان قد منع من أن يزيد حرفاً من عنده ، حتى لم يكن له خيار أن يبدل كلمة مكان كلمة ، إن الله تعالى يوحي كلامه إلى جبريل عليه السلام ، وهو يأتي به إلى محمد ، ثم يقرأ أمام الناس ، بالألفاظ والكلمات التي أخبره بها جبريل عليه السلام ، وقد كان النبي مأموراً بأن لا يسرع في تلاوة القرآن الكريم ، بل عليه أن يستحضر الكلام الإلهيبألفاظه ومعانيه في ذهنه ثم يتلوه أمام الناس ، كان الهدف وراء ذلك أن يثبت الكلام الإلهي بمعانيه في قلبه وعقله مثلما تثبت ألفاظه فيهما ..

كان القرآن الكريم يدون تدريجيا في حياته كلما نزلت آياته ، وكان له كتاب يكتبونه ، ثم كان النبي يعيد تلاوة القرآن كاملاً مرة فيالسنة ، ويوحى إليه عن آيات كل سورة : أين موضعها من القرآن ، فلم يكن للنبي أدنى تدخل في ترتيب الآيات وسورها ، فرتبها النبي بوحي من الله عز وجل هكذا عني بحفظ القرآن ، ودون القرآن بكل حيطة في مصحف ، وهو متداول لدى مسلمي العالم بأسره اليوم ، فليس فيه زيادة حرف ونقصه ، ولم يقع تعديل في ترتيب السور وآياتها ، وبقيت قدسيته وفضيلته كما كانت وقت نزول القرآن الكريم ، وتبقى بإذن الله تعالى إلى يوم القيامة

القرآن في ضوء شهادات الأعداء :

أبدى المستر كونت انطباعات عن القرآن في الكلمات الآتية :دهش العقل الإنساني أن مثل هذا الكلام كيف نطق به لسان رجل كان أميا ، اعترف الشرق بأجمعه بأن النوع البشري عجز عن تقديم مثيله لفظا ومعنى من كل ناحية ، هذا هو الكلام الذي طمأنت أساليبه المعجزة قلب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فآمن بالله إيماناً صادقا ، هذا هو الكلام الذي حينما تلا جعفر بن أبي طالب بعض آياته التي تتعلق بولادة سيدنا عيسى عليه السلام أمام النجاشي همعت عيناه ، وصرخ البطارقة بأعلى صوت أن هذا الكلام صدر من المصدر الذي كان منه كلام عيسى عليه السلام (۱) .

وجاء في الموسوعة البريطانية : إن معاني أجزاء القرآن المختلفة يتفاوت بعضها بعضاً ، فكثير من الآيات تشتمل على توجيهات دينية وخلقية ، وجاء فيها التذكير بعظمة الله تعالى ورأفته وفضله عن طريق مظاهر الكون وتاريخ إلهامات الأنبياء ، وذكر فيها أيضاً عن طريق محمد () أن الله هو الواحد الأحد ، وقادر على كل شيئ ، وأن الوثنية وعبادة العباد حرام مطلقاً ، وصحيح ما يقال أن القرآن أكثر الكتب المعاصرة في الدنيا قراءة وتلاوة وفهماً ودراسة (٢) . وقال المؤرخ الشهير بانجلترا الدكتور غبن في تأليفه :

وقد اعترف جميع سكان الأرض من بحر أطلنطا إلى نهر كنكا بالهند بأن القرآن روح البرلمان ، والقانون الأساسي ، فليس هو للدين فقط ،بل للأحكام التعزيرية والقوانين التي يتوقف عليها سير الحياة ، وحياة النوع البشري منوطة به ، وله علاقة قوية بترتيب ونسق الحياة الإنسانية ، الواقع أن شريعة محمد () تحتوي على جميع شعب الحياة ، وقد دونت بأسلوب قانوني وقاعدة حكيمة ، لا يوجد لها نظير في العالم كله (٢)

القرآن مهيمن على الكتب السابقة ، وآخر سلسلة للوحي الإلهي :

ما موقف القرآن عن الكتب السابقة خاصة وعن الأنبياء والرسل الماضين عامة ؟

يمكن أن نذكره في ثلاث نقاط للإيضاح والتفصيل :

1. لا يسلم القرآن بأن مسافات الأوقات والأزمان أو اختلافات الأمم المختلفة يمكن أن تبدل وجه الصدق والواقع ، فالصدق ظاهرة واحدة شاملة وغير منقسمة ، وهو جزء لا يتجزأ ، بل الأصح أن يقال : هذه ظاهرة مسلمة معترف بها ، وجديرة بالتقدير والتسليم

وقد بعث الأنبياء والرسل لنشر هذه الظواهر الواقعية والحقائق العالمية الشاملة وتوسعة نطاقها في أمم مختلفة ، فيجب لكل مؤمن أن يؤمن بجميع الأنبياء والرسل الذين واصلوا سير نشر الصدق والعدل حينا لآخر .

وقد حوى القرآن في آياته جميع هذه الحقائق ، وصدقها تصديقاً كاملاً ، فإنه أكد مراراً : أيها الناس : صدقوا بسلسلة الوحي والرسالة التي بدأت من آدم عليه السلام وانتهت على سيدنا محمد رسول الله ، وآمنوا بجميع الأنبياء من غير تمييز وتفريق : قال الله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ (سورة النساء الآية (١٣٦) وقال : قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (سورة البقرة الآية / ١٣٦) .

2. وقد سمى القرآن ذكر الأنبياء الماضين والكشف عن الحقائق العالمية الغابرة في آياته بالهيمنة ، وهو مهيمن ، وهو نكتة ثانية أخرى في هذا الشأن ، قال الله تعالى : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَيَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنَا عَلَيْهِ) (سورة المائدة الآية / ٤٨)

المهيمن من أسماء الله الحسنى أيضا قال الله تعالى : (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (سورة الحشر الآية / ٢٢) .

3. ما معنى "المهيمن" أصلا ؟ الواقع أنه لا توجد كلمة جامعة في الأردية لكشف هذا المعنى .

"تأملوا مدلولات كلمة "المهيمن" ينكشف لكم أن القرآن كلما استعمل كلمة المهيمن عن التعاليم السابقة ، كان معناها أنه لم يحتفظ فقط بروح التعاليم السابقة وجوهرها من حيث كونه شاهداً وأميناً ، بل لاحظ وأشار بصفة كونه مهيمنا إلى مواقع التحريف، ومواضع التغيير والتبديل ومواطن الزيغ والانحراف ؟ وكيف أخطأت أو زلت الأمم الماضية في فهم الحقائق الدينية والعمل بها ؟ (٤) .

الكلام الرباني واللغة العربية :

كل كلام ينطق به الإنسان يحمل ثلاثة جوانب ، أولها أصل الفكرة التي يبلغها إلى المخاطبين ، ثانيها الصورة اللفظية التي تحملها هذه الفكرة ، وثالثها أسلوب عرضها وطريقة أدائها ، فمراعاة هذه الجوانب تجعل الكلام جميلا ، ويكون الكلام مؤثراً ، وتارة يكون هدف الكلام إخبار المخاطب حقيقة الأمر ، وتارة توجيه عقله وقلبه إلى وجهة صحيحة ، أما إخبار المخاطب بحقيقة الأمر، فهو في وسع كل إنسان يملك رصيدا من اللغة ، لكن إذا كان توجيه العقل والقلب إلى وجهة خاصة كان اختيار الكلمات المناسبة لهذا الغرض وترتيبها لازما ، وكلما راعى المتكلم هذه الأمور بإتقان استطاع أن يقوم بأداء الكلام على أحسن وجه .

القرآن الكريم كلام رب العالمين وخالق الكون والخلائق كلها ،فإن الله ليس هو خالقاً لها فقط ، بل هو مبدع مواهبها أيضاً ، فكلامه لا يكتفي بالإخبار بشيء ، بل يمكن في قلوب وعقول المخاطبين غاية خلقهم وكلمات نافعة لهم ، وقد خلق الله مواهب فهم المخاطبين وكيفية قلوبهم وعقولهم ، فمن يدرك نسبة فهمهم وإدراكهم وموهبة قبولهم سوى الله تعالى ؟

وهو يعلم أن مواهب الناس كيف يختلف بعضها عن بعض ، وما قيمة هذا الفرق ؟ وما مقتضيات فوائدها ، من يعرفها سوى الله عز وجل ؟ فالكلام الذي ورد في القرآن كان مشتملا على أحسن صورة بالنظر إلى هذه الاعتبارات ، ما هي المعاني التي يفهمها عامة الناس ؟ وما هي المفاهيم التي يناسب عقول الأذكياء ؟ هذه الميزة جعلت القرآن معجزة خارقة ، ولا تزال تنكشف أمام العلماء والباحثين في أربعة عشر قرنا جوانب جديدة لميزة القرآن هذه ونجاحه في تحقيق الغايات ، والآن حينما قد انقضت أربعة عشر قرنا تتجلى مناح جديدة أخرى له .

إن لكل كلام باطنا ، فيختفي فيه الغرض الحقيقي للكلام ، الذي تنتقى لبيانه الكلمات المؤدية لمعناه ، ويستعملها كل إنسان حسب مواهبه ، وإن قيمة الظاهر مثل اللباس ، ويكون الباطن داخلا فيه ، ويُعرف الباطن بالظاهر ، وإن باطن المخلوقات ولا سيما باطن الإنسان جعل متنوعاً ، وعميقا ودقيقا.

إن دقائق باطن الإنسان كثيرة ، يصعب أداؤها في صورة ظاهرة للعبارة من جهد إنساني ، وخاصة إبداء الأحاسيس ، التي يكمن فيها الكبر والغرور ، والتواضع وكسر النفس وعلو الهمة والثقة بالذات . والتسرع والشعور بالاستعلاء ومركب النقص ، وقوة العمل وضعف الهمة ، والفخر ، والإعجاب بالنفس ، والرياء والتوكل أو التواكل ، والكراهة وطيب النفس وبعض حالات الهم والغم ، والغبطة والحسد والمحبة والبغض وتصوير الخيال والحب والمقت ، هذه هي كيفيات متنوعة ، لا يستطيع إنسان أن يبديها كاملة وفق ذلك ، وإن أبديت هذه الكيفيات في العبارة بوضوح لا يمكن أن يفهمها السامع أو القارئ كاملاً ، لكن خالق الإنس والجن الذي هو خالق كل شيئ يعرف هذه الخصائص ، ويُدرك مواهب إدراك القارئين أو السامعين ، فما راعى منها في خطاب الإنسان لا يوجد له مثال ، كذلك يحمل كلامه تأثيراً قوياً مثيرا للشعور والوجدان ، وبما أن مهمة خلق الإنسان جعلت عالية ، فخوطب الناس تحقيقا لهذه الغاية ، فالكلام الإلهي يشتمل على دقائق مؤثرة للكلام ، وليس في وسع الإنسان أن يفهم ما وضع فيها من مراعاة خاصة في أدائها ، وقد جعله الله تعالى بأن يصل الكلام إلى المخاطبين وفقا لأفهامهم ، ولا يقولوا : قد كنا عن هذا غافلين .

كان مخاطبو القرآن مباشرة العرب أو الرجال الذين لهم معرفة باللغة العربية ، فكانوا يتأثرون بالكلام المؤثر ، ويحملون ذوقا عاليا لفهم الكلام العربي ، ويدركون أسراره إلى حد كبير ، فاستفادوا منه حسب الحاجة استفادة كاملة ، وهي مستمرة إلى الآن ، وإن ما ألقيت عليهم من مسئولية إبلاغه إلى الناس ، فتمت هذه الوظيفة بأحسن وجه ، فالذين يحملون ذوقا عاليا للكلام العربي يتأثرون بالقرآن الكريم أشد تأثيراً ، لا يوجد له مثال في موضع آخر ، يندهشون برؤية المزايا المكنونة في ألفاظ القرآن ، ويقولون : ما هذا قول البشر ، هذا كلام إلهي ، فيستفيدون منه ويؤدون حقه ، لكن الذين لهم شغف زائد بالعلم ، وإدراك تام في معرفة دقائق الكلام وميزاته ، يعرفون كل المعرفة أن القرآن أشد تأثيرا وتنوعاً للخصائص ، بل كل كلمة حتى كل جانب يحمل معجزة ، ويمكن للإنسان أن يستفيد منه حسب الحاجة ويفهمه إلى حد كبير ، وليس في وسع أي إنسان أن يصوغ كلاماً مثله ، فلو اجتمع الناس كلهم وسعوا في صياغة كلام بل آيات مثل القرآن لعجزوا عن ذلك ، وقد حاول بعض الناس في سابق الزمان محاولة خبيثة له ، ولكن الله عز وجل كشف عوارها ، وبين زيفها للناس ، وإنها كلام من صنع البشر لا علاقة له بكلام الله تعالى ، وقد صرح القرآن بهذا الواقع فقال : (قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسِ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظهيراً) (سورة الإسراء الآية / ۸۸) .

كتاب لا تبلى جدته :

فإن القرآن الكريم آخر الكتب السماوية ، الذي أنزله الله عز وجل لإصلاح النوع البشري في الدنيا وإحراز الفوز في الآخرة ، وهو منارة نور لنيل رضا الله تعالى ، لا يستغني عن إشراقاتها أي إنسان ، ومن يستغن عنها ، يحرم النجاح الحقيقي السرمدي ، فإن القرآن الكريم يحمل درجة سامية ومكانة عالية كبيرة ، لأنه كلام مقدس إلهي ، وتكون تلاوته عبادة وسبباً لابتغاء وجه الله عز وجل ، وتكون معانيه ومفاهيمه أداة لكسب الصلاح في الدنيا ونيل النجاح في الآخرة وهو بالنظر إلى خصائصه وصفاته منبع حقائق ودقائق ومصدر أسرار ورموز ، تنكشف جوانبها المتنوعة ، وكوامن لآليها دائما ، وتتماثل أمام الأعين فوائدها الجديدة ،

وقد أشار القرآن الكريم إلى أنه "نور" (٥) ، و "مبين" (٦) ، و حكيم (٧) ، و "عربي" (۸) ، و "ذكرى" (۹) ، ورحمة و "شفاء" (۱۰) ، و "فرقان (11) ، و "مبارك" (۱۳) ، و "عزيز (۱۳) ، و "كريم" (١٤) ، و "علي" و "أم الكتاب (١٥) ، فالقرآن كتاب يحمل صفات وخصائص متنوعة ، وليس هناك كتاب أنفع وأشد إتماماً لحاجيات النوع البشري .

نفسية ادخار الأموال وموقف القرآن نحوها :

يتميز البشر بالتعددية في طبائعهم وخصائصهم ، إلى مدى بعيد لا يعلمه إلا الله ، لأنه الخالق والمودع فيها الدقائق والميزات ، إنه يبين الأحكام في القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى الإرشاد الناس إلى الصراط المستقيم ، وإيقاظه من سباته وفقا لتنوع أمزجتهم ، ومراعاة لنفسيتهم ، ويوجد في القرآن الكريم نماذج كثيرة تكشف القناع عن هذا الأمر في أسلوب مؤثر ، وهي مبعثرة في مواضع شتى ، فمثلا تبين سورة التكاثر أن الأثرة الشديدة والولوع بتحقيق شهوات قد يسري في الإنسان إلى حد كبير ، فينهمك في التنافس في هذا الأمر حتى يحين موته ، ويطلع على سوء عاقبته ، فيتأسف ويتحسر ، ثم يرى بأم عينه نهاية غفلته ونسيانه في صورة جهنم ، ويتصور ، بل يشاهد مؤاخذة الله على أعماله ومحاسبته عليها ،

قال الله عز وجل : أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ : ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ : لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ : ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ) (سورة التكاثر الآيات / ١ - ٨)

سورة إنسان منغمس في ملذات الدنيا 

كذلك صور الله تعالى في سورة الماعون صورة إنسان ينغمس في حياة الأثرة والانطلاق ، ويعرض عن قبول القول السديد ، وإطاعة الله عز وجل ، ويرفض أحكام ربه في بداية أمره ، ثم كان موقفه أنه يجتنب كل الاجتناب مواساة الآخرين ، يدع اليتيم وينهره ولا يحض الناس على طعام المسكين ، ويتغافل عن أداء الصلاة ، ويباشر أعماله رياء وسمعة ويبخل على الناس بالشيء المتواضع اليسير ، قال الله عز وجل : أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بالدِّينِ : فَذَلِكَ الذي يَدُعُ اليَتِيمَ : وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينَ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ : الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (سورة الماعون الآيات / ١ - ٧) .

أربعة شروط للإنسان الناجح :

اقرأ - أيها القارئ الكريم - سورة "والعصر" في القرآن الكريم تعرف أن الله سبحانه وتعالى يبين شروط الإنسان الناجح في هذه السورة الوجيزة ، فلا يبتعد من خسارة فادحة للحياة إلا الإنسان الذي امتثل أوامر الله تعالى ، وعمل أعمالاً صالحة ، وتواصى بالخير ، وتجشم كل ما يحدث من صعوبات أو مخالفات في سبيل الله بابتسامة ، وأشار على الناس بالصبر والاستقامة في الحق ، قال الله عز وجل : وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (سورة العصر الآيات / ۱ - (٣) .

القرآن الكريم زاخر بأمثلة كثيرة :

إن دراسة القرآن الكريم توضح لكل ذي بصر وبصيرة أن أمثلة كثيرة منوعة ذات تأثير بالغ ذكرت في القرآن الكريم حول إصلاح وهداية النوع البشري من خلال طبائعه وأمزجته ، يوفر القرآن الكريم بذلك أسباب الهداية مع مراعاة نفسية جميع الناس ويقدم لهم قانونا أكمل وأشمل ، يغطي جميع مناحي الحياة ، ويلاحظ الفطرة الإنسانية ملاحظة ، يقع كلامه  موقعه من السامع على مستواه ، ويجد فيه كل إنسان بغيته ، ويكون فيه وقاية من زلة وخطأ ، فكان القرآن كتاب هداية ورشد للنوع البشري لا يوجد له مثيل في تاريخ كتب الديانات .

حياة العرب وتأثير بيئتهم على القرآن :

كانت حياة العرب منعزلة عن المدنية ، ولا توجد لديهم أسباب الرفاهية ، والاقتصاد ، بل هي شبه مفقودة ، فكان العرب يضطرون إلى إرهاق الجسد وإتعاب النفس ، وكان إباؤهم وحماستهم القومية والدينية تبعثهم على المقاتلة والمحاربة بأسرع ما يمكن ، رغم ذلك كله كانوا يحملون قيما وأدابا بإقامتهم في المناطق الجافة ، وتشتعل بها نيران الحرب فيما بينهم ، وبالإضافة إلى ذلك كانت إعانة المسافرين وإكرامهم فطرتهم في مثل هذه المناطق ، وهم يتمتعون بعاطفة المواساة للمسافرين والضيوف كثيرا ، وإن حروبهم تارة تستمر إلى سنين طوال ، نظرا إلى الحاجة الاقتصادية ، وكانوا على أهبة تامة لهذه الحروب ، فتحقيقا لهذا العرض كانوا يحتاجون إلى كثرة الأولاد والأسلحة الحربية التي يؤدي فيها الأولاد دورا بارزا ، وإن الفرس الفاره الجميل الذي كان أسرع عدوا أحب إليهم من الجواهر الغالية ، وكانوا يفتخرون بصفات الخيول فيشعل ذكر بطولاتهم وصفات خيولهم في الحرب قلوبهم ويملؤهم حماسة وقوة ، فلما أراد الله أن يحرضهم على قبول الهداية أنزل ضمن السور الأخرى سورة العاديات" في أسلوب معجز مع مراعاة نفسيتهم : قسما لهذه الخيول المسرعة الجري ، مثل البرق ، جريا تثير فيه أخفافها النار وتمتلئ أفواهها باللعاب ، وهي تغير صباحاً على الأعداء ، وتثير النقع من أقدامها وتخوض في خضم الأعداء ، هكذا يأسر القرآن عقولهم وقلوبهم ، ويقول مشوقا لهم : إن الإنسان لكنود" ، وهو يرى ويشاهد كنوده وكفرانه بالنعمة ويعقله ، يعني أن الله تعالى أسبغ عليه نعما جليلة ، ومنحه ما يوافق نفسيته وهواه ، ومن مباهج ومسرات ، لكن هذا الإنسان لا يلتفت إلى إطاعة الله تعالى وشكر النعمة ويمارس أعماله طلباً للنفع المادي مجاوزاً حدود الله عز وجل حتى إذا بعثر من القبور ، وعرض أمامه ما أسلفت يداه حاسبه الله حساباً شديداً ، قال الله تعالى : وَالْعَادِيَاتِ صَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً * إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القَبُورِ * وَحُصَلَ مَا فِي الصُّدُورِ : إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِير) (سورة العاديات الآيات / ١ - ١١) .

 وقد ورد في سورة الحج ذكر عبادة الإنسان التماثيل المصنوعة ، وذلك مع مراعاة النفسية الإنسانية خاطب الله عز وجل الكافرين بنعمه أيها الجاحدون لنعمة الله تعالى ! إن التماثيل التي تنادونها وتستغيثون بها كالية من دون الله لتحقيق حوائجكم ، لن يمكنها أن تخلق شيئا صغيرا حقيراً ، مثل الذباب ، وإذا اجتمعت هؤلاء الآلهة الكاذبة لإنجاز هذا العمل ما استطاعت ، إن خلق الذباب لها صعب ، وإذا جلس الذباب يأكل الحلاوي التي وضعت لديها ، أو ذهب بها ، ما تمكنت من سلبها منه ، ما أضعف السائل والمسئول ! وما أحقر الطالب والمطلوب ! ، وهم لا يعرفون مكانة الله عز وجل وقدره ، قال الله عز وجل : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ : مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِينٌ) (سورة الحج الآيتان / ٧٣ - ٧٤) .

 اللافت للنظر في الآيات المذكورة أعلاه أن الله تعالى أودع هنا لطمأنة النفس أسلوباً نفسياً أن الإنسان جعل ما صنعه بيده ، إلها ، فليس في وسعه أن يخلق شيئاً حقيراً ، مثل الذباب ، وأعرض عن الله تعالى الذي هو عظيم وقادر على كل شيئ ، وخلق الله الكون كله ، وخلق جميع المخلوقات ، وخلق كل شيئ حسب إرادته ، وأودع فيه مواهب وقدرات بمشيئته ، فإن الأصنام التي يعبدونها لا يمكنها خلق الذباب ، فإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه ، ثم قال : انظروا ، كم ضعف طلاب الهتهم التي نحتوها بأيديهم ، إن رعاية نفسية الإنسان والانسجام مع وجدانه ومشاعره توجد نماذجه في القرآن الكريم حيث يخاطب بأسلوب يقع في القلب كل موقع ، فينكسر طلسم الجهالة والطقوس التي تصورها الإنسان في ذهنه ، إن دل هذا على شيء فإنما يدل على الإعجاز الفني للقرآن الكريم . 

الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم :

خاطب القرآن قراءه ومستمعيه على قدر عقولهم ومكانتهم ، هناك ألفاظ ومفردات لبيان معنى العلو والارتفاع ، لما استعملها للعصاة المتمردين مثل فرعون قال : إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأَرْضِ) (سورة القصص الآية /٤) إشارة إلى العصيان والظلم ، وعلو النفس ، وحينما استعمل هذه الكلمة في معنى رضا

الله تعالى استعار منها كلمة "العلي" دون العالي ، قال عز من قائل : العلي الكبير" (سورة الحج الآية (٦٢) وقال : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (سورة البقرة الآية / ٢٥٥) هذا في موضع المدح ، وذاك في موضع الذم .

 كتاب يخاطب العقل والقلب معا :

القرآن كتاب يجمع بين دفتيه كلاماً يوافق العقل والقلب معاً ،يتحير الإنسان بمجرد سماعه ويعترف بأنه كلام الله المقدس ، ومثال ذلك ما ظهر من قصة إسلام عمر رضي الله عنه (١٦) ، حينما سمعه من رسول الله ، هذا المنهج الإعجازي للقرآن الكريم يقدم أمام الدعاة العاملين في حقل الدعوة الإسلامية نموذجا حيا .

مما لا شك فيه أن هذه الصحيفة السماوية نعمة من الله غالية ، توفرت لأهل الأرض ، خاصة في المناسبة التي لا يوجد على الأرض أي مخلوق استفاد من الرسالة السماوية والكلام الرباني مثلما استفاد الإنسان من القرآن ، وبما أن الكلام السماوي يحمل قوة لا تستطيع الأرض أن تحملها ، لكن الله أنزل الكلام المفعم بالقوة السماوية بقدرته وحكمته في صورة اللغة الإنسانية ، وقد صارت هذه اللغة جديرة بإكمال الحاجيات الإنسانية ومقتضياتها على أتم صورة منذ نزول القرآن ، وكانت مواهب ناطقيها لفهمها وإدراك معانيها مستحكمة ، بذلك تمهد سبيل الاستفادة من الكلام الرباني للناس من هذه اللغة ، وقد أشار الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم إلى عظمة الكلام الإلهي وحاجة الناس إليه بقوله : لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا القرآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (سورة الحشر الآية / ٢١) .

ثم وجه الخطاب في الآية الأولى للقرآن من حيث النزول إلى الاستفادة من أعلى المواهب للإنسان ، (العلم) ، وهذا العلم لا يحصل للإنسان إلا بمعرفة اللغة ، بذلك يتفوق الإنسان على جميع مخلوقات الأرض ويتميز به ، والعلم نعمة غالية من الله تعالى ، ما زال الإنسان يستفيد منه للرقي الشامل في حياته المادية والمعنوية ويكون محتاجا إليه في المستقبل .

موضوع رئيسي للقرآن الكريم :

إن هداية الإنسان وإخراجه من الظلمات إلى النور موضوع رئيسي بين جميع خصائص القرآن الكريم وفوائده اللامتناهية ، قال الله عز وجل : الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَميد) (سورة إبراهيم الآية (١) ، إن الله خالق كل شيئ في الكون ، ومسير له في وظيفته ، فهو مطلع على كل شيئ ، وبصير بالطبائع الإنسانية وخصائصها ، إنه يعلم جوانب الخير والشر في الإنسان ويعرف حالاته الظاهرة والباطنة ، فبالجملة أن الله تعالى خاطب الناس مع مراعاة الطبيعة الإنسانية وحاجيات الحياة ، فاختار لهدايتهم اللغة التي كانت لغة مخاطبيه ، حتى إن الأميين منهم كانوا يدركون معانيها ويفهمونها ، وإن ألفاظ هذه اللغة وأسلوبها الذي ينسجم مع فهمهم وشعورهم اعتنى به القرآن أيضاً ، وهو يخاطب نفسية الإنسان وعقله ، هذا هو السبب فيما إذا ضرب على الوتر الحساس ، ويؤثر في العقل والقلب معا ، الواقع أن هذا التأثير لم يوجد في أسلوب كلام إنساني ، ولم يشهد التاريخ مثاله ، فكان القرآن الكريم معجزة كاملة ، وإن كانت الاستفادة منها سهلة ميسورة للإنسان ، وهو يقرؤه ويفهمه ، قال الله عز وجل : وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ) (سورة العنكبوت الآية / ٤٣) أنزل هذا الكتاب على سيدنا رسول الله المهمة عظيمة ، بعيدة عن الأغراض المادية الدنيوية ، فقد أشير فيه إلى التخويف من الضلالة والغواية وعاقبتها الوخيمة في جانب ، وفي جانب آخر يوجد فيها ذكر آيات عظمة الله تعالى وقدرته ، وصرفت عنايته إلى الدور العظيم الذي يمثله الإنسان على الأرض ، بذلك يسهل فهم قدرة الله تعالى وحكمته للإنسان على أساس العلم الذي أودع الله فيه بوجه خاص ، قال الله عز وجل عن العلم : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقَ : اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (سورة العلق الآيات / ١ - ٥) وقال قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَابِ) (سورة الزمر الآية (٩) وقال : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (سورة فاطر الآية (۲۸) ، فالعلم هو المفتاح الذي يفتح به الإنسان جميع المغاليق .

ويبحث عن فرص مواتية جديدة في مختلف شعب الحياة ، وإن القرآن يوجه الأمة العربية التي كانت أمية أن تهتم بالعلم ، ليكون زينة لحياته وذريعة الصلاحها ونيل جميع الإمكانيات التي تكون مساعدة في المستقبل ، وقد أقسم الله بالقلم ، والقلم هو أغلى شيء يكتشف للإنسان نواحي جديدة للعلوم والفنون ، قال الله تعالى : (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) (سورة القلم الآية (1) .

 جعل الله عز وجل كلامه جزءاً من كتابه الذي سماه : بالكتاب من خزينة علمه وإرادته ، وخزينة العلم هذه تختص بخالق الكون وصانعه ، فعلم صفاته وقدرته بحر لا ساحل له ، ولا يُعرف مبتداه ومنتهاه ، وقد منح الله العالم الإنساني نزرا يسيراً من كتاب علمه ومعرفته في صورة القرآن الكريم ، قال الله عز وجل : الم : ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (سورة البقرة الآيتان (۱ - (۲) هذا هو العلم الذي يوجد جزء منه في القرآن الكريم كتاب الله العزيز وهو كلام مقدس يميز بين الحق والباطل ، أنزله الله تعالى بعباده ليكون ذريعة لسعادتي الدنيا والآخرة ، وقد أمر الله سبحانه وتعالى الإنسان بأن يطلب نجاحه في الدنيا والآخرة ، ويسأل بهذه الكلمات : رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (سورة البقرة الآية / (۲۰۱) ، وعلمه أن يقول : رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْرْنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (سورة آل عمران الآية / ١٩٤) ، هذه الآيات ترشد الإنسان إلى أهداف حياته الأصلية . 

ثلاثة أنواع المعاني القرآن :

قال الله عز وجل وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (سورة النور الآية / (٢٤) ، تشير هذه الآية إلى ثلاثة أنواع من المعاني المذكورة في القرآن الكريم : 

1- آيات القرآن التي هي واضحة ومبينة ، يستطيع الإنسان أن يستفيد منها ، فهو يقرؤها ويفهمها ، هذه الآيات تهدي إلى الصراط السوي للحياة المثالية ، وهي مفعمة بأنواع من مظاهر الكون والعلوم والفنون المنوعة ودالة على الحقائق الكونية التي هي مسلمة ومصدقة ، وكاشفة للإنسان عن عقيدة صحيحة وطريق يؤدي إلى سبيل النجاة في الدنيا والآخرة .

2-  يكشف القرآن عن قصص الأمم الماضية التي نبذت نصائح أنبيائها ورسلها وراءها ظهريا ، ولم تطع ولم تستفد ولم تعتبر من الدلائل الكونية  والبراهين السماوية فأهلكت وقطع دابرها .

3- تكثر أساليب النصيحة والموعظة في القرآن الكريم التي تفتح قلوب المتقين وتحثهم على القيام بأعمال الخير ، وتشير بعض الآيات إلى هذا الجانب ، قال الله عز وجل : وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (سورة الزمر الآية ( ۲۷ ) ، وقال : (قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرُّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) (سورة الفرقان الآية (٦) . 

ذكر الله تعالى عظمة كلامه وجلال أسلوبه المعجز وأنه يشتمل على آيات مغيبات يقصر عن إدراكها الحواس الإنسانية ، قال الله عز وجل : تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (سورة هود الآية (٤٩) . وهناك آيات تبين الإعجاز البياني والعلمي في أسلوب التحدي ، قالالله تعالى : (قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظهيرا ) (سورة الإسراء الآية / ۸۸) ثم قال : قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) (سورة القصص الآية / ٤٩) .

على كل ، فإن القرآن مشتمل على أنواع مختلفة من أسلوب البيان وبلاغة الكلام ، بذلك يسهل فهم وإدراك معاني هذه الآيات ، وتكون الدلائل الكونية والطبيعية معاونة في إدراكها ، وتأتي في إطارها قصص الأمم الماضية وأحوالها ويساعد علم المغيبات الإنسان في الهداية ، وهذا جانب له يماثل الموضوع .

أما جانب القرآن الذي هو عبارة عن جمال وروعة الكلام الظاهري وأداء المعنى فلا يخلو من الإعجاز أيضاً ، لأن فيه كلمات مؤثرة ، وتنوع أسلوب البيان والفصاحة الساحرة والبلاغة الباهرة زمن فصحاء العرب وبلغائهم الذين نزل فيهم القرآن ، وكانوا على قمة عالية من فصاحة اللغة وبلاغتها ، لكن لما سمعوا القرآن دهشوا ، وحينما تحداهم القرآن خضعوا أمام الإعجاز القرآني وبلاغته ، فإن الأسلوب المؤثر الذي اختاره القرآن في ذكر قصص الأمم السابقة والوصف البارع للجنة والنار ويوم القيامة أعلى مثال للبيان والبلاغة ، ولا يكون نظام أقوى وأحسن للوصف من هذا ، فإن قلوب السامعين والقارئين تمتلئ رعباً ودهشة .

أما أسلوب الوصف فهو يحيط بقلوب العباد كلها ، فيوجد تنوع عظيم في استعمال الألفاظ حسب الأحوال والمناسبات المختلفة ، مثلاً كلمة "الريح" ، فقد أريد بها معنى العذاب والهلاك باستعمالها مفردة ، كما ورد في قصة قوم عاد ومواضع أخرى ، لكن حينما استعملت هذه الكلمة جمعاً أريد بها معنى الخير والعافية ، الذي ورد ذكره ضمن إنزال المطر لصالح النباتات والأشجار ، وهنا كلمة "نعمة" ، إذا كان استعمالها بكسر النون أريد بها معنى صفة الخير والنفع ، وجعل رحمة للعباد المؤمنين ، لكن حينما استعملت بفتح النون أريد بها معنى الأمور التي ظاهرها خير وفلاح ، وباطنها من قبله عذاب ، كما جاء في القرآن للكفار والمترفين : ونعمة كانوا فيما فاكهين ، كذلك استعملت للشئون الدنيوية صيغة الثلاثي المجرد ، وللشئون كلمة الخطأالدينية الثلاثي المزيد فيه ، وله غير ذلك من الأمثلة .

 وقد يوجد اتزان عجيب الصوتية الألفاظ في استعمالها ، كما ورد في آخر سورة مريم : تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشق فإنه يحمل تطابقاً صوتياً بالنظر إلى المعنى ، فتدل صوتية الألفاظ على معانيها مباشرة .

وتحقيقاً لهذا الهدف ألف العلماء مؤلفات كثيرة لبيان الخصائص والميزات البلاغية للقرآن ، منها ما يبين الإعجاز القرآني في الألفاظ والمعاني ، ومنها ما يشتمل على التنبؤات التي ظهرت بعد نزول القرآن ، ولا تزال تظهر فينة لأخرى ، ومنها ما يشمل أصناف الاستدلال المختلفة والكائنات والطبيعيات ، ومنها ما يتعلق بالقصص التي هي للأمم الماضية ، وكمايوجد فيها أحكام وأمثال مؤثرة

كتاب معجز :

تناول القرآن الكريم لهداية الناس وصلاحهم ، لفظا ومعنى أفضل أساليب الكلام وعلم النفس الإنساني ، تتجلى من التدبر في آياته نكت يندهش أمامها القارئ ، ويزداد يقينه ويعترف بأن القرآن هو الكتاب المعجز ، فالذي يقرأ القرآن ويتلوه بذهن مفتوح يتأثر به للغاية ، ويؤمن به قائلا : آمنا وصدقنا ، ولا شك أن القرآن كتاب هداية ومنارة نور لإيصال حياة الإنسان إلى الصراط المستقيم .

المراجع

(۱) شهادة الأقوام ص / ١٤ .

(۲) الموسوعة البريطانية ج / ١٦ ص / ٥٩٩ .

(۳) الموسوعة البريطانية ج / ٥ الباب الخامس.

(٤) مطالعة قرآن للشيخ محمد حنيف الندوي ص / ۳۱ - ۳۳ ، باللغة الأردية .

(٥) قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) (سورة المائدة الآية (١٥) .

(٦) (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) (سورة المائدة الآية (١٥) .

(۷) (ذَلِكَ تَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنْ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيم) (سورة آل عمران الآية (٥٨) .

(۸) (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (سورة يوسف الآية ( ٢ ) .

(۹) (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (سورة الأعراف الآية (٢) .

 (۱۰) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (سورة يونس الآية / ٥٧) .

(۱۱) (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) (سورة الفرقان الآية (١) .

(۱۲) (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) (سورة الأنعام الآية / ٩٢) .

(١٣) (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز) (سورة فصلت الآية / ٤١) .

(١٤) (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (سورة الواقعة الآية / ٧٧) .

(١٥) (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (سورة الزخرف الآية / ٤) .

(١٦) سيرة ابن هشام ج ١ ص / ٣٤٢ - ٣٤٦ .


 


 



مواضيع ذات صلة
القرآن, القرأن,

إرسال تعليق

0 تعليقات