ادعمنا بالإعجاب

منهج الشيخ الندوي في مخاطبة حكام البلاد

الكاتب:     محمد طلحة، الطالب في السنة النهائية من الدراسات العليا-قسم الحديث
مجلة النادي العربي السنوية عدد ممتاز عن منهج الإمام الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الدعوة والفكر الإسلامي لطلبة النادي العربي دار العلوم لندوة العلماء ، لكناؤ 1435هـ الموافق 2014م

"ولم يكن معي زاد في هذا الطريق إلا الدعاء والإنابة إلى الله والتوكل عليه ،وأحمد الله تعالى على أنني لم أرد من هذه المحاولات واللقاءات تحقيق  أي غرض أو مصلحة شخصية  أو سياسية، ولم أكن أطلب جاها ولا منصبا وقد شاهدت ولله الفضل والمنة تأثير هذه النية في كل مقابلة".
نجد العلماء عامة في موقفهم إزاء الحكومة ومنهج التعامل مع حكام البلاد بين قسمين ،لا يتحد أحدهما مع الآخر وكلاهما يصلان إلى حد التطرف:قوم شعارهم التملق والخضوع أمام حكام البلاد،يبعثهم عليه الحرص عما في أيدي هؤلاء الحكام من جاه و مال وسلطان ،لايرون بأسا في تضحية مصالح الأمة لخدمة مطالبهم الذاتية،وقوم يقف موقف العزلة الكاملة عن الحكام ومراكزهم ،يعيشون بعيدين عن معترك الحياة ،لا يهمهم إلا أمورهم الشخصية من عبادةوتدريس وتأليف.
أما الشيخ الندوي فإنه لم يكن عالما ربانيا فحسب، بل كان مع ذلك مصلحا اجتماعيا، يهمه هم المسلمين بل همّ البلاد ، ويشغل فكره كل وقت ويتحرق له قلبه، وكان يرى  أن المسلمين جزء من شعب هذه البلاد، فكل ما يحدث في هذه البلاد سياسيا وتعليميا و اقتصاديا يمس المسلمين، كما كان يرى أن التصدي لحل القضايا الوطنية التي تمس المسلمين مباشرة أوغير مباشرة، وبذل ما في الوسع من قوة و حكمة ووقت لمعالجتها مسؤلية العلماء،لا تقل أهميتها عن أي مسؤلية أخرى تقتضيها هويتهم العلمية، وأنه أكبر جهاد في سبيل الله، فلم يغمض الشيخ عينه عن هذه القضايا بل لم يدع قضية إلا وخاض فيها وعالجها بحكمته وحنكته المثاليتين،وكان الشيخ على اطلاع مستمر على الأحداث الوطنية و كان يتابع الأوضاع السياسية والظروف الاجتماعية بدقة وأمانة ، وكان كالحارس اليقظ على حقوق هذه الأمة،فيكون لأي تغيير في النظام أوالانقلاب في الحكومة وقع شديد في قلبه، ويطير النوم من عينيه بما كان يشعر به من عظم المسؤلية نحو أمته التي يمثلها،فلم يدخر وسعا في حل القضايا عن طريق إبداء رأيه وكتابة الرسائل إلى الوزراء والحكام ومواصلة سلسلة اللقاءات معهم،تشهد له الرسالات المفصلة الكثيرةالتي تكونت ديوانا الموجهة  إلى إندرا غاندي وراجيف غاندي والمستر وي.بي.سنكهـ و نرسمها راؤ و أتل بهاري واجبي من الذين تولوا منصب رئاسة الوزراء في هذا البلد العلماني في فترات مختلفة في حياة الشيخ، إلى غيرهم من  كباروزراء الولايات والوزراء في الحكومة المركزية وحكومات الولايات، واللقاءات العديدة التي جرت بينه وبين هؤلاء. يقول الشيخ الندوي في مسيرة الحياة وهو يلقي الضوء على الانقلاب السياسي الذي جاء مفاجأة بعد ما انهزم حزب المؤتمر الوطني التي كان يقوده راجيف غاندي في الانتخابات العامة التي جرت في الفترة ما بين2426 فبراير سنة1987م ،وحل مكانه حزب جنتا الإئتلافي ونجح في تشكيل حكومة تحت رئاسة المستر وي بي سنكهـ بتأييد من أحزاب مختلفة،مما يدل على شعوره البالغ بالمسؤلية فيما يجري في البلاد من تغيير وانقلاب.
"رأيت من واجبي في هذه الظروف العويصة  أن تزال الشكوك والأوهام،وتعد الأذهان لاستقبال العهد الجديد،وتعين جهة العمل للاستفادة من هذا التغير ،والاعتبار منه، وأرشد إلى الدرس الذي يجب على الحكومة نفسها،والشعب الهندي أن يتلقاه من تغير الحكومة ،وما هو المنهج الصحيح الذي ينبغي للحكومة  الجديدة أن تختاره،فكتبت بهذا الصدد مقالا بعد إعلان نتائج الانتخابات بعدة أيام تحت عنوان"درس من انتقال الحكم،والمنهج الصالح لقيادة البلاد"،وأرسلت هذا المقال إلى الصحف والمجلات المختلفة ، ونشرته صحف كثيرة ،ثم نقل هذا المقال إلى اللغة الإنجليزية ،وسلمته إلى السيد محمد يونس سليم،ليقدمه هوبنفسه إلى "وي بي سنكهـ"رئيس وزراء الهند آنذاك ،ويتأكد من أنه قرأه كله في حضوره،وهكذا حدث،فقرأ رئيس الوزراء الجديد هذا المقال كله بين يديه ،ووضع العلامات على نقاط هذا المقال المهمة،وتلقيت رسالة منه،يصرح فيها أنه يوافق على أكثر ما جاء في هذا المقال، وسيسعى للعمل به."
وإذا درسنا منهج الشيخ الندوي في  مخاطبة حكام  هذا البلد العلماني نستطيع أن نرى فيه خصائص لا توجد في غيره من العلماء والزعماء.
منهج الإقناع والتفهيم:
كان الشيخ الندوي يرى أن كسب الود والعطف خير من العداء والكراهية لحل المشاكل، فلم ينتهج في مخاطبته مع الحكام منهج الناقد الجارح ،بل كان منهجه في ذلك منهج الإقناع والتفهيم،فلا نرى في رسائله أوخطاباته ما يكدر صفو المخاطب أو يبعث في قلبه البغض والشحناء ،من الجمل النابية والتعبيرات القاسية،لأنه كان يدرك تمام الإدراك بأن رد فعل إذا كان من حاكم لكان أكبر خطرًا وأعظم ضررًا لأمته التي يمثلها، بل كان يذكر فضائل المخاطب ويثني عليه الخير ويذكّر صلته القديمة معه، حتى يثبت للمخاطب بأن هذا الرجل ناصح مخلص،فيتآلف قلبه ويقع ما يريد الشيخ أن يلقى عليه كالمسمار في الساج،وكسهم يصيب الهدف .
وهذا ما نراه في رسالة مفصلة كتبها الشيخ إلى إندرا غاندي رئيسة وزراء الهند، يشرح فيها الوضع السائد في البلاد في أيام حالة الطوارئ،والبطش والاستبداد  الذي يواجهه الشعب، أنه يبدأ فيها بذكر صلته بوالدها، ونوه بخدمات جواهر لال نهرو في سبيل تحرير البلاد، وخدمات حزب المؤتمر الوطني في إرساء قواعد متينة للوطن بعد الحرية، وتضحيات الزعماء والقادة المناضلين للاستقلال، أمثال مهاتما غاندي، وموتي لال نهرو، ونوه بجرأتها وصرامتها وذكائها في سياسة البلاد.
يقول الشيخ محمد واضح رشيد الحسني الندوي متحدثا عن منهج الشيخ الندوي، وكان منهجه في ذلك تختلف عن منهج زعماء الحركات الإسلامية الأخرى ،وهو منهج المواجهة أو المقاومة ،بل كان منهجه منهج الإقناع والتفهيم والكفاح في إطار الدستور والحقوق الديمقراطية،والإحتراز عن كل حركة تحدث شحناء أو رد فعل لذلك كان ينال الشعبية العامة واحترام سائر القادة والحكام ،مهما كانت انتماءاتهم الحزبية حتى الحزب الذي عرفت بعدائه للمسلمين،كان زعماؤه يثقون به ،ويتوددون إليه ،ويحترمون رأيه،ويقدرونه،ويغيرون من مواقفهم إذا عرفوا موقف الشيخ الندوي ،كما حدث في قضية "وندي ماترم".(الشيخ أبوالحسن الندوي،قائدا حكيماص14))
وما كان منهج الشيخ منهجا عقيما ،لايجدي نفعا ولا ثمر ثمرة،بل كان أكثر وقعًا وتأثيرًا من مناهج غيره من العلماء والزعماء، وهذا العدد الوفير من القضايا الوطنية التي تعرضت لخطرها الشعب المسلم في الهند في التسعينات، وانسحبت بجهود الشيخ المشكورة ،لا تؤكد إلا على تأثير منهجه ونجاحه.
لين في حزم ورفق في صلابة:
ولم يكن للين والرفق في المنهج عند سماحة الشيخ ، معنى  المهادنة مع الحكام والخضوع أمامهم والاستسلام لضغوطهم  أو الانهياز عن الموقف والتدلي عن الرأأأأأي،بل كان الشيخ متصلبا وصارما في رأيه، لا تزول قدمه قيد شعرة عن موقف يرى فيه صالح الأمة والمجتمع، ولم يتسامح أبدا في أي قرار حكومي يختلف مع مصالح الأمة ولا تتفق مع طبيعة الشريعة.
وموقفه الصارم في قضية النشيد الوثني عام 1998م مشهور،وذلك حينما صرح الشيخ بكل شدة ومتانة بأنه سيسحب الطلبة من المدارس الرسمية إذا ألزمت الحكومة بإنشاد وندي ماترموسرسوتي وندنا،فثارت العناصر المتطرفة للهندوس  على معارضة سماحة الشيخ لهذه الأوامر واعتبرتها خيانة،واعتدت عصابة مسلحة على منزل السماحة الشيخ في الساعة الثانية من ليلة22-11-1998م ،ولكن الشيخ لم تتخلف عن موقفه بل تثبت فيه كالصم الصلاب،حتى اضطرت الحكومة إلى سحب هذه القرارات وطرد وزير التعليم الإبتدائي رويندر شكلامن الحكومة.
فما احسن ما صور الشيخ الدكتوريوسف القرضاوي صلابة رأي الشيخ الندوي و صرامة موقفه، فقال في كتابه"الشيخ أبو الحسن كما عرفته" :ولقد رأيته منذ سنوات حينما أرادت حكومة الهند أن تغير قانون الأحوال الشخصية للمسلمين وأن يلزمهم أشياء لا تتفق مع شريعة الإسلام بالنسبة للممطلقات وغيره،وقف الشيخ ضد هذا التغيير وقفة الأشم ،وزأر زأرة الأسد الهصور،وقال بملئ فيه :لا،وأبلغ ذلك كبار المسؤلين من الهندوس في الدولة،وجميع المسلمين من ورائه لمقاومة هذا المشروع،وخطب في أكثر من مكان في البلاد العربية لتأليب القوة الإسلامية ضد هذا المشروع،وبدا هذا الرجل الهين اللين الخاشع البكاء فارسا مغوارا وسيفا بتارا،وهنا تذكرت موقف أبي بكر رضي الله عنه يوم الردة ،وهو ذو القلب الرقيق والطرف الدامع،كيف وقف الشيخ في هذه المعركة وعدلت الحكومة عن موقفها وسحبت مشروعها بفضل الله تعالى ثم بصلابة الشيخ ونياته، وإبائه.
معالجته للقضايا الوطنية العامة
ولم يكتف الشيخ الندوي في رسائله إلى الحكام ببيان قضايا الأمة المسلمة فقط،بل كان يتكلم عن الشعب الهندي كله، كمواطن يحب وطنه،يلفت أنظار الحكام ويوجه اهتمامهم إلى أموال البلاد الفاسدة وإلى الأخطار العامة التي يواجهها البلاد،فكتب في رسالة موجهة إلى رئيسة الوزراء إندرا غاندي:
"لقد توتر الوضع ،وازداد سوءا من ستة أشهر منذ بدأ تنفيذ تحديد النسل بشدة وعنف،وأخاف أن الأخبار الصحيحة لا تصلك، وإلا لما كان من المعقول أن تتدهور الأوضاع وتتحول من سوء إلى أسوأ، ولا يحتمل ذلك أي زعيم محنك مخلص للبلاد،محب للوطن................وقد أنتج ذلك أن تحولت هذه البلاد إلى ثكنة يسودها القلق والرعب والخوف،ويرتكب الناس لتحقيق مآربهم التافهة والوصول إلى الهدف المطلوب من تحديد النسل كل الأعمال الخسيسة والوحشية،فيصطاد العمال المساكين، والقرويون والمحترفون مثل اصطياد الوحوش والطيور في الغابات،وتستخدم وسائل الترهيب والعنف،والإطماع والترغيب  حتى يكملوا هدفهم، ويشترط للمحافظة على الترخيصات الرسمية للتجارات، أو الحصول على الترخيصات الجديدة أن يقدموا كذا عددا من الأفراد لتحديد النسل،وأصبح  الموظفون الذين هم العمود الفقري للحكومة، والذين كانو يتمتعون بحرية واحترام زائد إلى الآن ،يعيشون في خوف وقلق،والأساتذة والمدرسون الذين عليهم عهدة تربية الجيل الجديد يعانون من الاضطراب النفسي والعقلي الشديد،وعاد هذا الموضوع حديث النوادي والمجالس،والناس في هم وعذاب وبلاء."
وكتب كذالك عن الفوضى الإدارية والخلقية( كما نبه عن خطر تصاعد الطائفية وحركات الإحياء الهندوكية،وتدهور الأمن والسلام في البلاد في رسالة مفصلة أخرى وجهها إلى رئيسة الوزراء إندرا غاندي،بعد عودتها إلى الحكم.(والرسالة بكاملها في :الشيخ أبو الحسن قائدا حكيما. ص 88 92)
زهده واستغنائه:
لم يبهرعين الشيخ الندوي طول علاقاته مع الحكام، ما عندهم من المناصب والجاه والأموال، ولم يستعمل هذه العلاقة أبدا لحصول أي غرض أو لنيل أي منصب له أولأحد من أقربائه،بل عاش دائما مستغنيا عنهم يغض بصره عن زخارفهم،فلم يمد يده طلبا لجاه ،أو نيلا لمنصب،وكان يرد هذه الجملة:"إن الذي يمد رجله لا يمد يده".
ولعل هذه الصفة الكريمة  التي كان من أبرز ميزات الشيخ  كانت من أعظم الأسباب وراء ما كان يتمتع به الشيخ من الإعتماد الكامل والثقة التامة عند الحكام،وما كانت لكلماته من وقع عجيب وتأثير نفسي قوي عندهم، وما تنال لمواقفه الصارمة من آذان سامعة وآيادي نافذة منهم،لأنهم كانوا أدرك لإخلاص هذا الرجل وصرامة رأيه وتصلبه في موقفه،وأعلم بأن عزيمة هذا الرجل الزاهد لا يمكن أن تشترى بثمن قليل أو بدراهم معدودة.
ولما أصيب الشيخ الندوي بمرض الفالج في 15\مارس\آذار سنة 1999م،وعرضت عليه حكومة الولاية بإشارة من الحكومة المركزية بأن ينقل إلى دلهي في طائرة حكومية، ويعالج  في مستشفى "دلهي" عاصمة الهند،على نفقة الحكومة،واتخذت سائر الإجراءات للنقل،وكان كبار الموظفين يتخذون الإجراءات، وفي آخر لحظة علم الشيخ الندوي،فرفض هذا العرض،وأصر على البقاء في ندوة العلماء والعلاج محليا،وظل طريح الفراش، وأنهكه المرض ،فكان يجد صعوبة في الكلام ،وفي أثناء مرضه زاره رئيس وزراء الهند أتل بهاري باجبائ في 28\مارس عام 1999م ،فقال له :إن البلاد في خطر، فعليكم أن تتخذوا الإجراءات لوقايتها وسلامتها،ولكن رغم كل ذلك لم يأب الشيخ إلا أن يموت في فراشه ،فمات رحمه الله زاهدا كما عاشه.
المراجع:
1.الشيخ أبوالحسن كما عرفته/الدكتور يوسف القرضاوي
2. الشيخ أبوالحسن الندوي،قائدا حكيما\الأستاذ محمد واضح رشيد الحسني الندوي
3. الشيخ أبوالحسن الندوي،الشخصية التي بدلت التاريخ \ سماحة الشيخ محمد رابع الحسني الندوي
4. الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي –الإمام المفكر،الداعية الأديب \ السيد عبد الماجد الغوري
. أبو الحسن الندوي العالم المربي،والداعية الحكيم \الدكتور محمد أكرم الندوي.5


مواضيع ذات صلة
الندويات, دراسات,

إرسال تعليق

0 تعليقات