ادعمنا بالإعجاب

العرب بين الجاهلية والإسلام: المقتربات العقائدية ودوافع الشرك د. خالد ناجي السامرائي


الملخص:
كثر الحديث عن العصر الجاهلي، وأسهب العلماء والرواة في التطرق لها، ووصف طبيعتها وإن كان هذا الإسهاب سطحيا دون الولوج إلى مسارب دقائق حياة الجاهليين وفهم مغزاها ودلالاتها.
وجد العلماء والرواة المسلمون أنفسهم على طرفي نقيض مع كل ما جاء بهالجاهليون وما مارسوه واعتنقوه، وفي خضم حماستهم للإسلام العظيم وبيان مكامن هذهالعظمة، راحوا يسفهون الحياة الجاهلية وينتقصون من عقلية العربي الجاهلي وينعتونه بمختلفالنعوت التي تدور في فلك الجهل والسفه والانحلال. وإذ لا يمكن لأي باحث منصف أنينكر عظمة الإسلام والرسالة المحمدية التي كان لها الفضل الأول في إخراج الناس من الديجور إلى النور، لا يمكن أن ننكر ونتقاطع بشكل مطلق مع كل جزئيات الحياة الجاهلية، ويمكن الاستدلال على صحة ما نذهب إليه في هذا السياق من خلال إقرار الرسول العظيم محمد-صلى الله عليه وسلم- للكثير من العادات والقيم الجاهلية، فحب الضيف وإكرامه والذود عن الحمى والشرف والنخوة، والنجدة والصدق والأمانة وإغاثة الملهوف، والترفع عن الغدر والخيانة، وغير ذلك كثير، كانت مفردات تشكل جانبا مهما من حياة الجاهليين التي أكدها الرسول العظيم -صلى الله عليه وسلم- وحث الناس على اعتناقها والعمل بها. فإن هذه الدراسة سوف تقوم بدراسة مقارنة بين الجاهلية والإسلام، وتستنتج ما هو المتوافق وما هو المتفارق بين هاتين الحياتين.

ذهب العلماء العرب وغير العرب في تسفيه الحياة الجاهلية إلى مذهبين، أولهما: الفريق الذي وقع تحت وطأة الحماسة والعاطفة المتطرفة للإسلام فحاول بيان الفرق الشاسع بين ما جاء به الإسلام وما كان الناس عليه في الجاهلية، وأ دت الغفلة وحسن النية دورهما في إعطاء الشعوبيين وأعداء العروبة مادة دسمة وغنية ليستخدموها في ذكر مثالب العروبة وتعدادها، وتجريد العرب من مزاياهم الحضارية بدعوى أن الحضارة العربية حديثة العهد ولا يتعدى عمرها عمر الإسلام، دون الاعتراف بحقيقة أن العرب كانوا ورثة الحضارات العظيمة التي أنشأها أسلافهم الساميون على الأراضي العربية.

بينما كان الفريق الثاني من العلماء والرواة وذوي الأصول غير العربية بخاصة يفهم جيدا أن تجريد العرب الجاهليين من كل المزايا الحضارية هو الطريق الأمثل ونقطة الشروع التي استند إليها الشعوبيون في تدعيم دعواهم والبرهنة على صحة ما يذهبون إليه في ذم العرب، ومن ثم أصبح الطريق أمامهم سالكا في محاولتهم تقويض الإسلام وتهديمه من الداخل.
إن الحياة العربية الجاهلية غنية بالكثير مما يمكن التطرق إليه للبرهنة على صحة دعوانا، فالعربي الجاهلي وإن كان مشركا بالله فإن هذا لا يمنع أنه كان يتمتع بمزايا وخصال كريمة كثيرة. فمنهم الفارس المغوار وحامي الجار والذائد عن القيم الشريفة العزيزة فضلا عن المقتربات العقيدية والشعائ رية الكثيرة مع الإسلام. ويمكننا في هذا السياق أن نستدل على خطل الكثير من الأحكام والروايات التي ساقها الأخباريون عن تلك الحقبة ببيان طبيعة تلك المقتربات ومغزاها.
لعل الإشراك بالله كان حجر الزاوية في وسم العرب قبل الإسلام بالجهل والضلالة والسبب الرئيس في إطلاق مصطلح الجاهلية على تلك الحقبة من تاريخهم.
مع إقرارنا بوجاهة الأسباب التي وقفت وراء هذا المصطلح إلا أن ذلك لا يعني أن عبادة الأصنام لم يكن لها أسبابها ودلالاتها، فقد كانت وراءها فلسفة خاصة تضرب في أعماق التاريخ.
إن إحدى جوانب عظمة الإسلام تكمن في أنه أعطى الحلول والأجوبة الناجعة عن كل ما دار من أسئلة، وحدد بشدة الطرق التعبدية الحقيقية بعد أن رفع عن أعين العرب غشاوة الشرك وأحيى ديانة أبيهم إبراهيم –عليه السلام- هذا يعني أن طقوس الجاهليين وشعائرهم كانت محاولة للإجابة عن تلك الأسئلة واجتهادا يعبر عن الرغبة في الوصول إلى نمط من الوشائج الجمعية بين الإنسان وربه من جهة، وبينه وبين الطبيعة من جهة ثانية.
إن من المسلمات في علم الإنسان أن كثيرا من العادات والمعتقدات التي تسود بين الناس وتتخذ شكل تقاليد اجتماعية راسخة هي من مخلفات ديانات بدائية، ووثنية متقدمة، وأساطير وشعائر وطقوس متوارثة وأنها تطورت عبر الأجيال وثأثرت حتى بالديانات السماوية وأنها تطبع سلوك كثير من الناس وتنعكس في نتاجهم الثقافي والفني والأدبي، موحدين وغير موحدين.
            "وتشخص الدراسات الاجتماعية والأنثربولوجية ظواهر من هذه العادات والمعتقدات ضمن مسميات شتى منها: " الشمانية " فقد أخذت من كلمة " شمن " Shamanومعناها كاهن أو طبيب " شمان " أو من كلمة Shemen التي معناها صنم أ ومعبد أ ومن أصل آخر. ويراد بها ديانة تعتقد بالشرك أي بتعدد الآلهة أ وبعبادة الأرواح مع عبادة الطبيعة لاعتقادها بوجود أرواح كامنة فيها ويعتقد في هذا الدين أيضا بوجود إله أعلى هو  فوق جميع هذه الأرواح والقوى المؤلهة وبتأثير السحر "[1]
وقد حدد علماء تاريخ الأديان ديانات أخرى تعبد الأشياء المادية الجامدة التي لا حياة فيها وتقدسها، لاعتقاد أصحابها بوجود قوة سحرية غير منظورة فيها تلازمها ملازمة مؤقتة، أو دائمة. وأتباع هذه الديانات لا يعتقدون بقدرة هذه المظاهر الجامدة على التأثير، بل يعتقدون أن أرواحا تسكنها هي المسؤوله عن تسيير الطبيعة، والمظاهر الجامدة على هذا لا تحظى بقدسية لذاتها بقدر ما تمثل لأتباع هذه الديانات منازل للأرواح المقدسة.
ويبدو أن بعضاً من ديانات الجاهليين لم يبتعد كثيراً عن فكرة حلول روح الإله في الحجر أ وفي رموز الطبيعة الجامدة، وكانت عبادتهم للأصنام في حقيقتها عبادة للروح التي تسكنها والتي تقربهم إلى الله زلفى، يقول الله تعالى في محكم كتابه: )ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من ه كواذب كفار[2]
ويتبين من هذه الآية ومن آيات أخرى أن فريقا من العرب كانوا يعتقدون بوجود الله، وأنه هو الذي خلق الخلق، وأن له السيطرة على تصرفات عباده وحركاتهم ولكنهم عبدوا الأصنام وغيرها، واتخذوا الأولياء والشفعاء لتقربهم إلى الله زلفى[3]
إن فكرة التقرب إلى الله من خلال مخلوقاته هي فكرة تضرب عميقا في جذور التاريخ فلا غرابة أن يعتقدها العربي الجاهلي فيتقرب إلى الله (عز وجل) من خلال الأحجار والنجوم والشمس والقمر والأشجار وغيرها من رموز الطبيعة، ولذا كانت الرموز الطبيعية تكتسب دائما أهمية استثنائية في المعتقد الجاهلي وحتى الأصنام التي ينحتها الإنسان ويعبدها لا تعبد لكونها من نحته وابتكاره بل لأنها متشكلة من الأحجار، وهنا يكمن سر قدسيتها آنذاك.
وفكرة التقرب إلى الله من خلال مخلوقاته لم تقتصر على الرموز الطبيعية، بل تجاوزتها إلى المخلوقات الحية. أما ما تناقله الأخباريون عن أناس كانوا يعبدون آلهة يصنعونها من التمر أو سواه ثم يأكلونها حينما يجوعون فمستبعد[4]  إذ أن دراسة طبيعة معتقد الجاهليين الديني ومكامن أسراره وفلسفته وبخاصة من خلال النص القرآني الكريم يدفع إلى الشك في صحة هذه الأخبار، فليس من المعقول أن يعبد العربي إلها مصنوعا من التمر ثم يأكله، فهذا المنحى مخالف تماما لفكرة عبادة الأصنام التي تتشكل من الأحجار التي يعتقدون بحلول الروح فيها، فالتمر على هذا لا يصلح مادة لصنع الأصنام لأنه لا يمتلك من السمات ما يؤهله لحمل روح الإله، ثم إن أكل هذا الإله يحيله إلى ما يأنف الجاهلي من الاقتراب منه.
وهناك الكثير من الإشارات التي تفيد أن أقواما سامية قطنت المنطقة العربية وما حولها، كانوا يحرقون آلهتهم أو ملوكهم الذين عبدوهم، وقد حدت هذه الطقوس ببعض الباحثين " إلى الظن بأن هذه العادة، كانت مبنية على فكرة قوى النار التطهيرية، فهي إذ تأتي على العناصر التي لابد أن تفسد وتفنى في الإنسان تجعله أهلا للاتحاد بما هو إلهي لا يقبل الفناء، والأناس الذين كانوا يصنعون آلهتهم من شبه أنفسهم، ويتصورون أن الآلهة معرضة لما هم معرضون له من انحلال وموت، من الطبيعي أن يظنوا أن النار ستغدق على الآلهة ما تغدق على البشر حسب اعتقادهم فيحسبون أنها تطهرهم من رجس الفساد والانحلال، تغربل الفاني من الخالد في تكوينهم وتضفي عليهم شبابا أزليا[5] ". فهم لا يبغون من 2 حرق آلهتهم وملوكهم الذين عبدوهم قتل الإله والتخلص منه، إنما يعتقدون جازمين أنهم بحرقه يبقونه حيا إلى الأبد، بعيدا عن يد الانحلال والفناء، فكومة الرماد المتخلفة ما هي إلا جلده الذي نفاه عنه، إما ه وفبعيد في عوالمه الأثيرية في السماء، فوق الأشجار، يطير مع الريح، ينزل مع المطر، ينبت مع الحشائش والورود.
فهل كان العربي الجاهلي بعيدا عن روحية هذه العادة المقدسة وأن لم يلجأ إليها؟ نقول: إنه ليس من المنطق بمكان أن يحيل العربي الجاهلي إلهه إلى محض فضلات بينما دأب أسلافه الساميون على البحث عن عوالم أثيرية لأرواح آلهتهم تبعدها عن نجاسة الأرض وما يعلق بأجسادها من شوائب.
وقد أولت الديانات السامية بعامة والعربية منها بخاصة أهمية استثنائية للروح، فكان الأحياء يحملون من القدسية ما يحمله الأموات، فقد كان "ملوك بابل الأوائل يُعبدون بصفتهم آلهة ما داموا أحياء "[6]. وإن هذه الصفة تنتفي عنهم بمجرد موتهم وتنتقل بطريقة ما يعتقدونها إلى من يخلفهم، وفكرة التقرب إلى الله من خلال البشر واعتقاد بعض الناس بها مصورة في بعض مواضع القرآن مثلما ورد في سورة يوسف حين أراد إخوة يوسف التوبة والرجوع إلى الله، فإنهم لجأوا إلى أبيهم ليدعوا لهم الله ليغفر لهم  قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين * قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هوالغفور الرحيم[7]. فإخوة يوسف الذين ثقلت عليهم السيئات لإلقائهم أخاهم في الجب، رأوا أن دعاءهم قد لا يجاب لمعصيتهم ربهم، فلم يجدوا أفضل من أبيهم نبي الله يعقوب (ع) ليفعل ذلك لأنهم اعتقدوا أنه نبي مقرب ودعاؤه يلقى استجابة أفضل من الله تعالى وبخاصة لكونه من تحمل تبعة آثامهم، وورد عن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: " قحط الناس فاستسقى عمر بالعباس وقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال فسقوا" [8]
 هذا الأمر يدلل على أن المسلمين الأوائل أقروا بمثل هذه العادات بعد أن شذبوها ورفعوا عنها ما يعتريها من شوائب الوثنية والشرك وأعطوها مسحة الإيمان والتوحيد.
واتخاذ المشركين الأنداد لله، والوسائل للوصول إليه ومناجاته لا ينفي إيمانهم بوجود إله خالق أعظم، هذا الإيمان تؤكده أدلة نقلية كثيرة، وإلا فما معنى أن يؤمن العرب بأن الكعبة بيت الله؟ وما معنى أن يقدسوها كل هذا التقديس ويجتنبوا صيد طيرها وسفك الدم في حرمها؟
إنهم كانوا يتشبثون ببقايا ديانة أبيهم إبراهيم (ع) وإن أدخلوا عليها الكثير من المعتقدات والشعائر التي لا تمت لها بصلة، فلولا إيمانهم بالخالق الأعظم لما ركن عبد المطلب بن هاشم إلى الله سبحانه ولما أوكل إليه حماية بيته يوم انبرى أبرهة الأشرم مصطحبا فيله لهدم البيت العتيق حينها اكتفى عبد المطلب بالسعي لاسترداد عدد من الإبل كان جيش أبرهة قد صادرها وقال قولته الشهيرة حين عوتب بأنه يهتم بأمر الإبل في الوقت الذي يتهدد الكعبة خطر داهم: " أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه ". فهل كان عبد المطلب ينتظر حماية البيت والذود عنه ضد جيش الأحباش اللجب من بضعة أحجار منحوتة أم أنه كان يعلم علم اليقين أن للبيت ربا لا ينام؟ ربا يشعر ويتحسس ويسمع ويرى ما يُراد ببيته وحرمه وحرمته فكان نصر الله لبيته آية خلدها القرآن تمثلت بطير أبابيل ترمي الجيش الآثم بحجارة من سجيل فجعلته كالعصف المأكول.
ولم يغفل الشعراء الجاهليون الإشارة إلى الله (جل شأنه) والتنويه بصفاته القدسية، الأمر الذي يشير بصراحة إلى إيمان عميق ب رب الأرباب وتسليم لا يشوبه الشك بقدرته غير التناهية على الفعل. يقول طرفة بن العبد ذاكرا الله العلي القدير الذي لا حكم سوى حكمه:
وتقولُ عاذلتي وليس لها                                            بغدٍ ولا ما بعده علمُ
إن الثراءَ هوالخلود وإن                                           المرء يكرب يومه العُدم
ولئن بنيت إلى المشقّر في                                          هضَبٍ تقُصّر دونه العُصمُ
 لتُنقبَنْ عن ي المنية إ                                                 نَّ اللهَ ليس لحُكمهِ حُكمُ [9]
وحكم الله الذي لا يقف أمامه شيء، ولا يحول دونه حائل يتبدى من خلال عطائه ومنحه الأرزاق. فهوالمعطي وهوالمجزي، فلم يصل إلينا ما يشير إلى أن الجاهليين كان وا يسبغون هذه الصفات على غير الله فلا العزى ولا اللات ولا هبل ولا مناة ولا غيرها من الأصنام كانت توسم بهذه الصفات. وهذا يدل على وعي عال بالفرق بين من يعطي ويمنع ويحيي ويميت وبين الأصنام التي تتوسط بين المرء وبين الإله الأكبر لعدم الأهلية للصلة المباشرة معه-على حسب اعتقادهم.
يقول النابغة الذبياني عن عطاء الله (جل جلاله):
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم                                           من الجود والأحلام غير عوازبِ[10]
ويقول أيضا في معرض مديحه للنعمان بن المنذر ملك الحيرة مشيرا إلى أن الله هوالملاذ الأخير للإنسان وليس ثمة ملاذ آخر بعده:
حلفت، فلم أترك لنفسك ريبة                                             وليس وراء الله للمرء مذهبُ[11]
ثم يضيف مشيرا إلى أن الله قد أعطى النعمان، وليس إله غيره يعطي:
ألم تر أن الله أعطاك سورة                                                      ترى كل ملك دونها يتذبذبُ [12]
            وحاتم الطائي كان يؤمن هوايضا بأن الأرزاق من الله، ويبد أ ون هذه الفكرة كانت متداولة بين العرب بتأثير الحنيفية، يقول:
 فلا تلتمس رزقا بعيش مقتر                                                 لكل غد رزق يعود جديدُ
ألم تر أن الرزق غاد ورائح                                                        وإن الذي أعطاك سوف يعيدُ [13]
وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة أشار الله فيها إلى أن فئة من الكفار كانوا يؤمنون بالله وقدرته وسطوته وأنه خالق كل شيء، يقول عز من قائل: )ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله، فأنى يؤفكون[14]
وفي سورة أخرى سؤال آخر موجه للمشركين: )ولئن سألتهم من أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون[15]
ومثلما كان الإيمان بالله موجودا –وإن شابه الشرك وثلمه وقوض معانيه الركون إلى أحجار اتخذها اصحابها واسطة بينهم وبين الله- فإن الإيمان بعالم ما بعد الموت كان موجودا أيضا ، ولكن بحدود ضيقة، فقد أشار الشعراء الجاهليون في مواضع من أشعارهم إلى فكرة الإيمان بيوم الحساب وعالم ثانٍ يحيا فيه الإنسان وينشر فيه الناس بعد موتهم ويسألون عما اقترفت أيديهم وما جنت أنفسهم، يقول طرفة بن العبد في إشارة واضحة إلى إيمانه بأن الإنسان مسؤول عن أعماله محاسب على سيئاته:
فكيف يرجي المرء دهرا مخلدا                                                وأعماله عما قليل تحاسبه[16]
 ومثلما آمن طرفة بالحساب واليوم الآخر آمن حاتم الطائي بأن الله قادر على أن يحيي العظام وهي رميم وينشر الموتى للحساب يقول:
 أما والذي لا يعلم الغيب غيره                                            ويحيي العظام البيض وهي رميمُ
لقد كنت أطوي البطن والزاد يُشتهى                       مخافة يوما أن يُقال لئيمُ [17]
 ويقول زهير ابن أبي سلمى في السياق ذاته:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم                         ليخفى ومهما يُكتم اللهُ يُعلَمِ
يؤ خر فيوضَع في كتاب فيدّخَر                                              ليوم الحساب أويُعجّل فُينقَمِ [18]
وكان للجاهليين بعض المعتقدات التي تدل على إيمان باليوم الآخر. ومن ذلك ما يفعلونه حين يموت الرجل منهم حيث يعمدون إلى راحلته التي ركبها، فيوقفونها على قبره معكوسة رأسها إلى يدها، ملفوفة الرأس في وليتها، فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت ليركبها إذا خرج من قبره. وكانوا يقولون إن لم يفعل هذا، حشر يوم القيامة على رجله وكانت تلك الناقة التي يفعل بها هذا تسمى " البلية ". وقال أب وزبيد الطائي، وذكر نساء مسلبات في مأتم فشبههن بالبلايا:
 كالبلايا رؤوسها في الولايا                                      ما نحات السموم حر الخدود[19]
وقال عم ر وبن زيد يوصي ابنه:
ابني زودني إذا فارقتني                                                 في القبر، راحلة برحل قاترِ
للبعث اركبها إذا قيل اظعنوا                مستوسقين معا لحشر الحاشرِ
 من لا يوافيه على عيرانةٍ                                      والخلق بين مدفع أ وعاثرِ [20]
وكانوا يسمون الطريق الذي يقطعونه وصولا إلى المستقر الأُخروي " الهار" ويعتقدون أنه وادٍ سحيق طويل يزدحم فيه الناس ويتدافعون. يقول جريبة بن أشيم الفقعسي يوصي ابنه أيضا ليعد له بلية صالحة تعينه على عبور الهار:
يا سعد أما أهلكن فإنني                     أوصيك ان أخا الوصاة الأقربُ
لا تتركن أباك يعثر راجلا                     في الحشر يصرع لليدين وينكبُ
واحمل أباك على بعيرٍ صالحٍ               وتق الخطيئة إن ذلك أصوبُ
ولعل لي مما جمعت مطية                  في الهار اركبها إذا قيل اركبوا[21]
ولهذه الأسطورة الدالة على الإيمان باليوم الآخر وبحياة ثانية نظائر في ميثولوجيا العراقيين القدامى ومن بعدهم المصريين والإغ ريق، إذ تستبدل الميثولوجيا الإغريقية واسطة العبور إلى العالم الآخر –وهي الناقة في الحالة العربية- بقطعة نقود توضع تحت لسان الميت وتدفن معه. يعتقد الإغريق أنها ستعين الميت على رشوة ملك النهر في العالم السفلي لكي ينقله بزورقه إلى الضفة الأخرى حيث المستقر الأخير، أما الفراعنة فأمرهم أشهر من أن يغيب عن أحد، إذ تمثل الأهرامات بما تضمه من مومياء الفرعون وحوائجه وكنوزه وخدمه خير معبر عن الإيمان بعالم ثانٍ ينشر فيه الملك فيجد كل ما يحتاج إليه.
ومع وجود دلائل على تأثر العرب الجاهليين بالأقوام المجاورة لهم ولا سيما الساميين إلا أننا لا نملك جوابا قاطعا عن الكيفية التي تصور فيها " أولئك الجاهليون حدوث البعث والحشر، هل ه وقصاص وثواب، وعقاب وحساب، وجنة ونار، أو ه وبعث وحشر لا غير، فاهل الأخبار لم يأتوا عنه بحواب، ولم يذكروا رأي تلك الفئة المقرة بالبعث والحشر في ذلك. ولهذا فليس في استطاعتنا إعطاء صورة واضحة عن الحشر وعما يحدث بعده من تطورت وامور [22]على حسب معتقد الجاهليين.
وعلى الرغم من هذه الإشارات الدالة على إيمان فئة من الجاهليين باليوم الآخر فإن ما ورد في القرآن الكريم يشير بوضوح إلى أن الأكثرية الغالبة من أهل الجاهلية لم يكونوا يؤمنون إلا بالحياة الدنيا، ومن هؤلاء مشرك وقريش الذين جادلوا الرسول –صلى الله عليه وسلم- في اليوم الآخر واستهزؤوا به حين أعلمهم أنهم مبعوثون ليوم لا ريب فيه يحاسبون على أعمالهم. يقول الله سبحانه وتعالى حكاية عن المشركين: )وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين[23]
بل إن الإيمان باليوم الآخر جوبه باشد أنواع الجحود والمعارضة، وكان علامة مميزة للأمم الكافرة. فكم من أمة سلفت جاءها رسول من رسل الله يدعوهم إلى الوحدانية وإلى الإيمان بعالم الغيب والتسليم باليوم الآخر كفرت وأصمت آذانها عن سماع الحق. يذكر الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه حكاية أمة من تلك الأمم )ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون * وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون * أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون * إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين * إن ه وإلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين[24] .
أما الإيمان بعالم الجن في الجاهلية فه وإيمان لا لبس فيه، فالأمثلة على ذلك لا تحصى ولا تعد، بل إن الأمر وصل بالعرب –بحسب بعض هذه الأخبار- إلى الاعتقاد بأن الجن تقول الشعر، وتتقاتل فيما بينها وتقتل الرجال مثلما قتلت سعد بن عبادة، وسمع الناس هاتفا يقول:
قد قتلنا سيد الخزر                               ج سعد بن عبادة
ورميناه بسهمينِ                                             فلم نُخطِ فؤاده[25]
ورأت العرب أن البيت المشهور:
وقبر حرب بمكان قفر                                                                          وليس قرب قبر حرب قبر [26]
قد قالته الجن بالنظر لقرب مخارج حروفه وعدم القدرة على النطق به ثلاثا ووضعت له خرافة زعمت فيها أن هذا البيت مما قالته الجن بعد قتلها لحرب بن أمية. ومما نسجوه أيضا قولهم إن الجن قتلت مرداس بن أبي عامر السُلمي واستهوت طالب بن أبي طالب وغيبته بعد خروجه مع قريش لقتال المسلمين في معركة بدر. وزعموا أيضا أن الجنيات قد يتزوجن من إنسيين وما شابه ذلك من أخبار يعد معظمها من نسج الخيالات الساذجة  ومن صنع المخيلة الشعبية الخصبة، المهم في هذا كله الخلوص إلى نتيجة مفادها: إن من يؤمن بوجود الجن لابد أن يكون عقله ومخيلته ووعيه على استعداد للإيمان بغيبيات أخرى.
            أما أخبار الأمم السالفة فليس من الصواب الاعتقاد بأن العرب لم يكونوا على دراية بجوانب منها، بل إنهم بشكل أو بآخر كانوا يعرفون نتفا من تلك الأخبار ويلمون بأنباء عن غضب إلهي حل بأمم جاورتهم وكان كفرها مدعاة لإرسال حاصب من السماء أو صاعقة أو أمطارهم بحجارة من نار أو غيرها من ألوان العذاب، وإشارة الشعراء الجاهليين إلى الأمم السالفة كثيرة مطردة، فها ه وطرفة بن العبد يضمن شعره أخبار لقمان بن عاد وذي القرنين فيقول:
ألم تر لقمان بن عاد تتابعت                          عليه النسور،ثم غابت كواكبه وللصعب أسباب يحل خطوبها                                                أقام زمانا ، ثم غابت مطالبه
إذا الصعب ذو القرنين أرخى لواءه                                  إلى مالك ساماه، قامت نوادبه
 يسير بوجه الحتف والعيش جمعه                            وتمضي على وجه البلاد كتائبه[27]
ويقول أيضا مشيرا إلى نبي الله داود:
وهم ما هم، إذا ما لبسوا                                                              نسج داود لباس محتضر[28]
وعلى المنوال ذاته يتطرق إلى النابغة إلى بعض ما أصاب الأمم السالفة من هلاك ه وحق مكتوب على بني البشر:
ولقد رأى أن الذي هو غالهم                          قد غال حمير قيلها الصباحا
والتبعين، وذا نواس غدوة                                                            وعلا اذينة سالب الأرواحا[29]
وذ ونواس الذي عناه النابغة ه وملك اليمن وقصته مع أهل نجران معروفة إذ يُذكر أن ذا نواس هذا كان على دين اليهودية وأراد أن يرغم نصارى نجران على أن ينسلخوا من دينهم ويتهودوا " فسار إليهم ذ ونواس بجنوده من حمير وقبائل اليمن، فجمعهم ثم دعاهم إلى دين اليهودية، فخيرهم بين القتل والدخول فيها، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود، فحرق بالنار، وقتل بالسيف ومثل بهم كل مثلة، حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا [30] وقد أشار القرآن إلى قصة أصحاب الأخدود، إذ يقول جل شأنه: )قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد[31]
أما قصة عاد التي ذكرها القرآن الكريم فإنها كانت معروفة بشكل أو بآخر للجاهليين لكن ليس بتفصيلاتها القرآنية التي غابت عنهم وأراد الله أن يبرهن من خلاله ومن خلال قصص أخرى لم يسمعوا بها على نبوة الرسول –صلى الله عليه وسلم- ودليلا على أن ما جاء به الرسول –صلى الله عليه وسلم- ليس من عنده، بل ه ووحي يوحى إليه من الله جل شأنه
 يقول طرفة مشيرا إلى عاد وما أصابهم:
ولقد بدا لي أنه سيغولني                                        ما غال عادا والقرون فاشعبوا[32]
ومن الأخبار الأخرى التي تناولها الشعراء الجاهليون قصة الحضر وهي مدينة في العراق بين دجلة والفرات بحيال تكريت وكان بها رجل من الجرامقة يقال له الساطرون وهوالذي يقول فيه أبو دؤاد الأيادي:
وأرى الموت قد تدلى من الحض                                            ر على رب أهله الساطرون
والعرب تسمية الضيزن وقد ذكره الأعشى في شعره أيضا إذ يقول:
ألم تر للحضر إذ أهله                                                             بنعمى وهل خالدا من نعم[33]
وقال فيه عدي بن زيد العبادي:
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج                                                     لة تجبى إليه والخابورُ
 شاده مرمرا وجلله كل                                                                     سا فللطير في ذراه وكورُ
لم يهبه ريب المنون بناد ال                                                          مُلك منه فبابه مهجورُ [34]، [35]
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى المشركين من خلال القرآن الكريم بقصص الأمم الأسلفة وما حل بهم جزاء كفرهم وعصيانهم، وحثهم على تجنب ما يمكن أن يحيق بهم وخاصة أنهم كانوا يعرفون ديار هذه الأقوام ويمرون عليها ويشاهدون آيات الله عيان ا . يقول جل شأنه عن قوم لوط وخرائبهم: )وإن لوطا لمن المرسلين * إذ نجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا في الغابرين * ثم دمرنا الآخرين * وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون[36].
وربما لهذا السبب كان من أمر العرب أنهم إذا ما أمطرتهم السماء بماء غزير يطول هطوله وتصحبه الرعود والبروق يلجؤون إلى كهوف الجبال وشعابها ويصطحبون معهم القيان فيسكرون على صخب الموسيقى والطبول محاولة منهم التغطية على صوت الرعد كانهم بذلك يحاولون دفن خوفهم من عذاب الله وتناسيه، لأنهم كانوا يستحضرون ما تراكم في عقلهم الباطن من خوف تأتى لهم مما يعرفونه عن الأمم الضالة التي أصبحت أثرا بعد عين كقوم صالح أو قوم هود أو قوم شعيب وغيرهم من الذين سكنوا في الجوار فضلا عن إحساسهم بأنهم على الضلالة وإن ما هم عليه لا يمثل حقيقة ديانة إبراهيم –عليه السلام ، وإنما هي نتف من مفردات دينه دخلتها شوائب وخرافات كثيرة أخرجتهم من هذا الدين وأعادتهم إلى الشرك الذي جاء سيدنا إبراهيم من أجل نبذه ومحاربته.
يقول طرفة عن يوم الدجن وكيف يحاول تقصيره –أي عدم الإحساس بطوله نتيجة الرعب- بالشرب ومصاحبة الحسناوات:
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب   ببهكنة تحت الطراف المعمد[37]
يقول الله سبحانه وتعالى واصفا حال المشركين في رعبهم من البروق والرعود: )أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين[38].
وتعد الحنيفية التي كانت معروفة إلى حد ما في الجزيرة العربية أكثر المعتقدات مساسا بالإسلام وأشدها اقترابا منه. فكانت فئة من العرب تتحنف وترفض عبادة الأصنام وتلتمس دين الحنيفية وه ودين إبراهيم الخليل –عليه السلام-. يقول الله سبحانه وتعالى واصفا إبراهيم–عليه السلام-: )ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين[39] .
ولأن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولأن هاتين الديانتين دخلتهما شوائب كثيرة فإن هذه الفئة المتحنفة لم تر فيهما مبتغاها ولم تطمئن نفوسها إلى معتقدهما في الله، وبالتالي فقد ظلت تلتمس دين الحنيفية التي كان عليه إب راهيم.
ومن هؤلاء الأحناف عثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل، وزيد بن عم ر وبن نفيل الذي " اعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان ونهى عن الموؤدة. وقال: اعبد رب الخضراء. وباديء قومه بعيب ما هم عليه وكان يقول: اللهم ل وأعلم أي الوجوه أحب إليك سجدت إليه، ولكني لا أعلمه ثم يسجد على راحته. وكان زيد أول من عاب على قريش ما هم عليه من عبادة الأوثان. ثم خرج يلتمس دين إبراهيم –عليه السلام- فجال ارض الشام حتى أتى البلقاء فقال له راهب بها عالم: قد أظلك زمان نبي يخرج في بلادك يدع وإلى دين إبراهيم –عليه السلام-. فأقبل بسبب قول الراهب مسرعا يريد مكة. فلما توسط أرض جذام عدوا عليه فقتلوه "[40]. ومن الأحناف المشهورين أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي " يذكرون عنه أنه بعد أن صبأ عن قومه وتحنف، لبس المسوح على زي المترهبين في هذه الدنيا ورافق الكتب ونظر فيها، ليستلهم منها العلم والحكمة والرأي الصحيح، ثم حرم الخمر على نفسه مثل بقية المتألهين، وتجنب الأصنام وصام، والتمس الدين وذكر إبراهيم وإسماعيل "[41].
ومن أشعاره في الحنيفية:
كل دين يوم القيامة عند الله                                                  إلا دين الحنيفية زورُ [42]
 ويروى أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- كان معجبا بشعر أمية وكان حريصا على سماعه ومن ذلك ما رواه الشريد ابن سويد الثقفي إذ قال: " أنشدت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مائة قافية من شعر أمية بن أبي الصلت. يقول بين كل قافية )هيه( وقال:  كاد أن يسلم) " [43] .
فضلا عما تقدم فإن الجاهليين لم يبدوا ستغرابهم من إنسية الرسول محمد –صلى الله عليه وسلم- ولم يستنكروا أن يكون نبيا يمشي في الأسواق ويأكل الطعام إلا من باب الجدل المحض الذي لا يراد منه الوصول إلى الحقيقة بقدر ما يراد به الجحود وصم الآذان، وقسوة القلب ولم يكن سوى أمرٍ مفتعلٍ لا يعبر عن رأي مستقر في وعيهم. يقول سبحانه وتعالى حكاية عن المشركين: وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا [44]
فإذا كان استغرابهم واستهجانهم صحيحين فأين هم من اليهود الذين جاوروهم وسمعوا منهم أخبار التوراة ونبي الله موسى–عليه السلام-؟ وأين هم من الأحناف الذين حدثوهم عن دين إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-؟ وأين هم من أخبار الأنبياء الآخرين؟ أفلم يعلموا أنهم جميعا من البشر، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويتزوجون وينجبون، ويعملون ويسعون في الأرض؟
لم تقتصر المقتربات العقائدية بين الجاهلية والإسلام على الكليات فقط، بل تعدتها إلى جزئيات كثيرة تمثل نواهي حث الإسلام العباد على اجتنابها مثل أكل الدم ولحم الخنزير وشرب الخمر، فكان من الجاهليين من حرم على نفسه شرب الخمر لما كان يرى فيها من وسيلة تخرج المرء من وقاره وتحط من قدره ومنزلته ومن ذلك ما يروى عن قيس بن عاصم المنقري أنه سكر فغمز عكنة ابنته، فلما أخبر بذلك حرمها وقال في ذلك:
رأيت الخمر مصلحة وفيها                                      خصال تفسد الرجل الكريما
فلا، والله، أشربها حياتي                                       ولا أدع ولها أبدا نديما
فإن الخمر تفضح شاربيها                                    وتجنيهم بها الأمر العظيما
 إذا دارت حمياها تعلت                                           طوالع تسفه المرء الحليما
ومن الجاهليين من حرم على نفسه القداح والميسر، ومن هؤلاء عفيف بن معد يكرب الكندي وبهذا سمي " عفيفا " وكان اسمه شراحيل اذ قال:
قالت لي: هلم إلى التصابي                               فقلت: عففت عما تعلمينا
وودعت القداح وقد أراني                              بها في الدهر مشغوفا رهينا 
وقال الأسلوم اليامي وكان ممن حرم الزنا والخمر في الجاهلية:
سالمت قومي بعد طول مظاظة                      والسلم أبقى ف الأمور وأعرفُ 
           وتركت شرب الراح وهي أثيرة                 والمومسات، وترك ذلك أشرفُ
            وعففت عنه يا أميم تكرما                        وكذاك يفعل ذو الحجى المتعففُ[45]
ومن الجاهليين من أتى فعلا وافق حكم الإسلام، ومن ذلك توريث البنات فقد كانت العرب مصفقة على توريث البنين دون البنات. فورث ذ ا ولمجاسد وه وعامر بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر ماله لولده في الجاهلية للذكر مثل حظ الأنثيين. فوافق حكم الإسلام[46].
بل إن الظلم الذي كان سمة ملاصقة للجاهلية لم يكن فعلا أصيلا عند أصحاب الشرف والرفعة من العرب، فقد أنف معظم العرب من أن يأتوه، وترفعوا عن سلب حقوق الغير والتعدي على حرمات الناس، ولهذا فقد اقترن الظلم بالسفلة والسوقة دون الأشراف والسادة وكرام الناس. وليس أدل على مقت الأشراف والحريصين على السؤدد للظلم وسل الحقوق من الحلف الذي تداعت إليه قريش واجتمعت"في دار عبد الله بن جدعان لشرفه  وسنه، وكانوا بني هاشم، وبني المطلب، وبني أسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب وتيم بن  مرة فتحالفوا وتعاقدوا أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وشهده رسول الله–صلى الله عليه وسلم- فقال حين أرسله الله تعالى: لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ول ودعيت به في الإسلام لأجبت"[47]
وعلى الرغم مما أثبتناه في بحثنا هذا وما أشرنا إليه من مقتربات عقيدية بين الإسلام والجاهلية ووشائج ثقافية واجتماعية ونفسية وصلت بينهما فإن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن مرحلة الجاهلية لم تكن مرحلة قلقة مضطربة وفترة إرهاص لتغيير كبير وجديد ولا تعني هذه المقتربات وتلك الوشائج أن الإسلام كان امتدادا لفكرة منتشرة بين الناس عمل النبي على إظهارها وتوكيدها كما قد يزعم من ينكر فضل الرسول–صلى الله عليه وسلم- وقدسية الوحي ولكن الإسلام كان استجابة لضرورة قائمة جاءت في حينها الموقوت من لدن رحيم عليم كتب على رسوله أن يبشر وينذر ويتحمل بصبر وجلد ضروبا من الإرهاق واللجاجة والأذى. لقد شاءت إرادة الله أن يكون الإسلام الخلاصة النقية التي تبلورت فيها كل آمال هذه الأمة وتمثلت فيها مطالبها النفسية، ومثلها العليا[48] .
فضلا عن ذلك فإن تلك المقتربات ظلت منقوصة، وقاصرة عن أداء مهمتها بالشكل المطلوب حتى جاء الإسلام ووضعها في إطارها وسياقها الصحيحين ولعل نقصانها وقصورها يعودان إلى سببين رئيسين:
أولهما: إن تلك المقتربات لم ينتظمها سياق واحد يمكن أن نستدل منه على وعي جماعي بأهميتها وإرادة مشتركة لتمثلها، فقلما كان العربي يمارس طقوسه ويعيش حياته مستلهما تلك المقتربات بالكامل، بل إن الدارس يمكنه أن يخلص بسهولة إلى أن تلك المقتربات التي وضعنا اليد عليها كانت خلاصة بحثية ونتاجا لفحص ونظر متمعنين لفترة الجاهلية بأكملها، أنها نتف متناثرة موزعة بين هذا الشخص أو ذاك، وهذه القبيلة أو تلك، فحين تنتدب قريش إلى دفع الظلم عن المقهورين كانت في الآن ذاته تئد البنات وتمارس الزنا، وكان العربي الذي يأنف من شرب الخمر، يأكل أموال الأيتام أو يمنع إرثه عن البنات ويستأثر بالحقوق والحال نفسه مع من يدع وإلى السلم وينبذ التناحر ويستقسم بالأزلام وي رابي في وقت واحد. وبطبيعة الحال فإن الإسلام لم يدعُ إلى مكرمة وينبذ أختها، بل إنه بعقيدته السمحاء كان منظومة متكاملة لا يعتريها الوهن ولا يخترمها النقصان، فقد دعا إلى مكارم الأخلاق كلها بما تستحيل معه تلك المكارم إلى دين جمعي ملزم قبل أن تكون نزعة اجتماعية وثقافية ونفسية يلتزمها البعض ويدعها البعض الآخر، أو ينتقي منها الشخص ما يلامس نفسه ويدع منها ما لا يراه مناسبا .
ثانيهما: إن تلك المقتربات قد أفرغت من محتواها يوم اقترنت بعبادة الأصنام ويوم مارسها من يشرك بالله ويتخذ له أندادا .
إن الإسلام جاء بمحظورات عدة لا يمكن الاقتراب منها أو تخطي حدودها أولها التوحيد وعدم الإشراك وما يستتبعه من خلوص العمل لوجه الله تعالى. فلا قيمة لعمل مهما كان محمودا ومهما كان متطابقا مع حكم الإسلام طالما اقترن في ذات المرء العامل وفي عقله بالشرك، لأن العمل حين لا يراد به وجه الله يتحول سعيا إلى مجد شخصي ومكانة دنيوية، قد لا يحرمها الجاهلي ولكنها ستكون في المحصلة النهائية حظه الذي لا حظ له غيره وه وفي الآخرة من الخاسرين. فالمشرك لا ينفعه الخير لأن الخير الذي ابتغاه كان لمجد أو لعصبية أو لسؤدد ومن ذلك ما قالته عائشة لرسول الله–صلى الله عليه وسلم-" ان عبد الله بن جدعان كان يطعم الطعام ويقري الضيف، فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال: لا لانه لم يقل يوم ا : ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين " [49]
وكان عبد الله بن جدعان من أجود قريش وقد حجر رهطه عليه لما أسن )فكان إذا أعطى أحدا شيئا رجعوا على المعطى فأخذوه منه فكان إذا سأل سائل قال: كن مني قريبا إذا جلست فإني سألطمك. فلا ترضى إلا بأن تلطمني بلطمتك أو تفتدي لطمتك بفداء رغيب ترضاه. وله يقول ابن قيس الرقيات:
 والذي أن أشار نحوك لطما              تبع اللطم نائلٌ وعطاء [50]
وذكروا أن أمية بن أبي الصلت دخل على عبد الله وعنده قينتان له، فلما رآهما قال: أنعم صباحا ، أبا زهير ثم أنشأ يقول:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني                              حياؤك؟ إن شيمتك الحياء
                    خليل: لا يغيره صباح                                      عن الخلق الجميل ولا مساء
 وأرضك كل مكرمة بناها                                بن وتيم وأنت لها سماء
 إذا أثنى عليك المرء يوما                                كفاه من تعرضه الثناء
تباري الريح مكرمة ومجدا                              إذا ما الكلب أجحره الشتاء
فقال له: " خذ بيد أيهما شئت ". فأخذ إحداهما ثم خرج على مجالس قريش فقالوا له: يا أمية أتيت شيخنا وسيدنا، وعنده جاريتان له تلهيانه فسلبته إحداهما فتذمم أمية من ذلك، فرجع فلما رآه عبد الله قال له: اكفف حتى أخبرك مالذي ردك، جزت على قريش فقالوا لك كذا وكذا، أنا أعاهد الله لتأخذن الأخرى فإن إحداهما لا تصلح إلا بالأخرى فأخذهما وخرج وه ويقول:
عطاؤك زين لامريء إن حبوته                       بفضل وما كل العطاء يزينُ
     وليس بشين لامريء بذل وجهه                 إليك كما بعض السؤال يشينُ [51]،[52]
وكان مما جادل مشرك وقريش رسول الله –صلى الله عليه وسلم- به أنهم قالوا: نحن أهل الحرم وسدنة بيت الله وحجابه، يتطاولون بذلك على الناس، وي دعون منزلة متميزة عند الله. فأنزل الله سبحانه وتعالى آيات تبين لقريش أن سقاية الحجيج وعمارة المسجد الحرام لا تعفي المرء من أن يوحد الله ولا يشرك به شيئا ، الأمر الذي يدل على أن المشرك لا ينفعه عمله ول كاون عملا كريم ا . يخاطب جل جلاله قريش قائلا : ) أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين[53].  
عرض أسرى هوازن على رسول الله –صلى الله عليه وسلم-بعد أن قفل من حنين وكانت سفانة ابنة حاتم الطائي من جملة من عرض عليه، وبعد أن استشفعت عند رسول الله–صلى الله عليه وسلم- بفعل أبيها قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- منوها بتلك الفعال ومشيدا بكرم الرجل أن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، وحين سئل من بعض جلسائه، إن كان يحب مكارم الأخلاق فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فأجاب عليه الصلاة والسلام: أنه كان يبغي أمرا وأدركه. في إشارة إلى أن حاتم الطائي كان يطلب بفعاله الكريمة تلك مجدا دنيويا وصيتا ذائعا بين العرب وكان له ما أراد أما الآخرة فلها شأن آخر، فكم من سيد طار ذكره في بلاد العرب كلها يكون يوم القيامة من الخاملين، وما ذاك إلا لأنه أشرك بالله وتقرب إليه بالأصنام.
فهل ثمة إمكانية للتوفيق بين الموقفين: الموقف الذي تقترب فيه العقائد الجاهلية من الإسلام وخاصة إذا كانت نتاجا لإيحاءات يكتنفها الغموض من الحنيفية، والموقف الذي يترتب على ذلك الغموض الذي اكتنف إيحاءات الحنيفية وأدى بها إلى الخروج عن المسار الصحيح والوقوع في هوة سحيقة من الخطايا يمثل الشرك أعلى سلمها.
يبد أ ون الإسلام كان حادا وصارما إزاء عقد مثل هذه المقاربة، ولعل الشرك الذي وقع فيه الجاهليون كان القشة التي قصمت ظهر البعير واستبعدت مثل هذه المحاولات المهمة في علم الأديان. وكانت تلك الصرامة من الشدة بحيث أن الباحثين لم يجرؤوا على محاولة تلمس تلك المقتربات العقائدية التي نرى أنها كانت أساسا انطلق منها العربي الجاهلي في تعامله مع الدين الجديد، وكانت حافزا مهما وحقيقيا للإيمان الفوري للبعض منهم، مما يدلل على أن العرب كانوا مهيئين للإسلام وكانت إرهاصات التغيير التي مثلها الإسلام قد بدأت بالتبلور منذ أمد طويل سبق ولادة الرسول –صلى الله عليه وسلم- نفسه.
كانت الجاهلية الثانية التي سبقت الإسلام بمائة إلى مائة وخمسين سنة على تقدير معظم الباحثين حبلى بوليد طال انتظاره، وعرف العرب أن أوانه قد أزف، وإنه سيخرج في أرضهم يحمل بشارة المسيح ومن قبله موسى-عليه السلام.
ومع فهمنا لهذه الإرهاصات وللنفس العربية المجبولة على الخير وللشائع من بقايا ديانة إبراهيم-عليه السلام- وللأعراف الاجتماعية الراقية نُلص إلى أن المعادلة التوفيقية والتقريبية بين فترة الجاهلية وبين الإسلام جائزة وموضوعية.
ولكن واقع الحال يوحي بأن تلك المقاربة أن صحت مع فئة المؤمنين الأوائل فإنها لا تصح مع قريش ومعظم العرب الذين وقفوا موقفا مضادا من الإسلام، هذا الموقف بدا فيه الإسلام بالنسبة لهؤلاء منبتا عما سبقه، على العكس من موقف المؤمنين الأوائل الذين مثل لهم الإسلام حدثا كانوا يتوقعونهوينتظرونه بلهفة وحبور، ونتساءل: لماذا وقفت قريش ضد الإسلام؟
بقدر ما كان موقف قريش من الإسلام مصيريا فإنه اتسم بخصوصية شديدة أيضا ، ولا يبد أ ون الخصوصية التي اتسم بها موقف قريش جاءته من مؤثرات فكرية أو عقيدية مضادة للإسلام بقدر ما جاءته من مؤثرات وعوامل أخرى لأن قريش لم تكن مختلفة عن بقية العرب بالقدر الذي يمكن أن يتبلور لديها موقفٌ عقيديٌ خاصٌ .
يبد وأن ثمة عاملين كان لهما التأثير الأعمق في عناد قريش وتكبرها وإصرارها على الكفر:
 أولهما: عامل الأنفة والاعتزاز بتراث الآباء والأجداد:
وهو أمر لا يقتصر على قريش وحدها بل يتعداها إلى معظم القبائل العربية، فقد أصر المشركون على البقاء على ديانة آبائهم وأجدادهم ورفض الإسلام الذي رأوا فيه أمرا محدثا سيخرجهم مما اعتادوا عليه واستقر في نفوسهم وعقولهم إلى ما ليس لهم به علم.
 لقد كان من الطبيعي أن يرى الجاهليون في الإسلام ثورة كبرى على تقاليدهم وموروثاتهم التي يقدسونها ويحافظون عليها، فضلا عن أن الإسلام سفه دين آبائهم وحث على نبذ ما كانوا عليه، والعربي عامة والبدوي خاصة لا يقنع بضلال أبيه وأجداده بسهولة ويسر، يقول الله )جل جلاله( في هذا الشأن: )وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو ل كاون آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون * ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون [54].
وليس أدل على هذه الأنفة وذاك الاعتزاز بتراث الآباء من إصرار أبي طالب عم الرسول –صلى الله عليه وسلم- على البقاء على دين عبد المطلب وشيوخ قريش على الرغم من أنه كان من أشد المناصرين لرسول الله–صلى الله عليه وسلم- وكان أول من منع عنه أذى قريش، حتى قال كتاب السيرة أن قريشا لم تتمكن من الوصول إلى رسول الله–صلى الله عليه وسلم- أو تمسه بسوء حتى توفي أبو طالب.
يروى أنه حين بعث الرسول –صلى الله عليه وسلم- ودعا بدعوة الإسلام وفشا أمره في قريش ساله عمه أب وطالب " ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: أي عم هذا دين الله، ودين ملائكته، ودين رسله، ودين أبينا إبراهيم بعثني الله به رسولا إلى العباد وأنت أي عم، أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه، فقال أب وطالب: أي ابن أخي، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت"[55].
هذا الاعتزاز بدين الأجداد ه ووحده الذي يقف حائلا بين الرجل والإسلام إذ لا يدل موقفه على قناعة راسخة بخطل حكم الإسلام، ولا يعبر عن إيمان ثابت بصحة دين الجاهلية، وإنما تؤدي العصبية وحدها دورا في إصرار أبي طالب على ما ه وعليه بوصفه امتدادا لسيرة آبائه وأجداده، إذ يروي ابن هشام أن أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية كانا حاضرين حين دعا الرسول –صلى الله عليه وسلم- عمه إلى الإسلام فوثبا عليه يسألانه باستهجان ويردانه عما ظنا أنه عزم عليه من الإسلام: أترغب عن ملة عبد المطلب، فقال: "أنا على ملة عبد المطلب"[56].
 إن أبا طالب يمتنع عن الإيمان بدين يبد أ ونه كان يعلم علم اليقين أنه الحق لأنه يخاف السبة على الرسول –صلى الله عليه وسلم- وبني هاشم، ويأنف أن تقول عنه قريش إنه آمن جزعا من الموت الذي يقترب منه، فحين دعاه الرسول –صلى الله عليه وسلم- وحين رأى حرص الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال: " يا ابن أخي والله ل ولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي وأن تظن قريش أني قلتها جزعا من الموت لقلتها لا أقولها إلا لأسرك بها "[57]
وثانيهما: العامل الاقتصادي:
فإذا كان العامل الأول مشتركا بين القرشيين والقبائل العربية الأخرى ويعبر عن النزعة العقلية والروح البدوية اللتين انماز بهما العربي بعامة، فإن العامل الاقتصادي الذي يشكل دعامة أساسية أخرى من دعامات الشرك ودافعا آخر من دوافعه كان مقتصرا على قريش وحدها، فقد كان القرشيون سدنة البيت وحجابه وحفظة أصنام العرب، إذ كان في الحرم ثلاثمائة وستون صنما بقدر عدد القبائل الع ربية وكان العرب يحجون إليها ويطوفون بالبيت ويتاجرون، يبيعون ويشترون وكان موسم الحج سوقا تدر على أثرياء قريش الأموال الطائلة ولهذا فإن الدين عند قريش لم ينفصم عن التجارة، بل كان للدين عندهم وجه اقتصادي واضح. وكان لوجود الكعبة في مكة الدور الفاعل في تلك المكانة المرموقة التي تميزت بها قريش من بين القبائل العربية قاطبة فعقدت الإيلاف مع القبائل التي تمر تجارتها في أراضيها متجهة إلى الشام صيفا وإلى اليمن شتاء .
لقد كان الإسلام بالنسبة للقرشيين ثورة أقضت مضاجعهم وقوضت دعائم تجارتهم وزعزعت نظامهم الاجتماعي القائم على الطبقية وعلى استغلال الأثرياء للفقراء والعبيد لما ينشده من عدالة اجتماعية ولما يدع وإليه من ردم للهوة بين الأثرياء والفقراء وإلغاء نظام العبودية الأمر الذي من شأنه إلغاء امتياز قريش من بقية القبائل وامتياز السادة من العبيد وكان خوف قريش من الإسلام يتأتى أيضا من دعوته إلى الوحدانية ونبذ عبادة الأصنام والدعوة إلى المباشرة بين العبد وربه على أساس أن الله موجود في كل مكان يرى ولا يُرى يسمع الدعاء ويجيب دعوة الملهوف والمظلوم وهذا ما سيؤدي حتما إلى انتفاء الحاجة إلى عبادة الأصنام الموجوده في مكة وانتفاء صفتها كواسطة بين العبد وربه، فإذا كان الله في كل  مكان فما حاجة العربي للذهاب إلى مكة لاتخاذ صنمه واسطة بينه وبين الله وهكذا ستضمحل أهمية مكة كموئل للأصنام وكقلعة للدين، ويتراجع دورها الاقتصادي أيضا وهذا ما لم يرده سادة قريش وأثرياؤها.
إن جبروت قريش وخيلاءها لم يكن يحد من غلوائهما سوى المصالح الاقتصادية فكم من مرة انتفضت قريش بقضها وقضيضها للدفاع عن تلك المصالح بينما كانت تقدم رجلا وتؤخر أخرى في مواقف تمس صميم عقيدتها لا لشيء إلا لأن إحجامها في مثل هذه المواقف كان ضروريا للحفاظ على امتيازاتها وتجارتها.
فلم تفكر قريش أن تغزو الرسول –صلى الله عليه وسلم- في مدينته حتى بعدما أصبح يمثل خطرا على دينها وأصبح له أتباع في القبائل العربية كلها، ولكنها بمجرد أن هدد المسلمون تجارتها إلى الشام تداعت لإنقاذ أموالها، وهبت بشبابها وشيبها مسرعة إلى الحرب وعندما أنقذ أب وسفيان عير قريش آثر بعض السادة العودة بعد أن زالت مبررات النفير.
والشواهد على ما تمثله المصالح الاقتصادية من أهمية قصوى لقريش كثيرة متعددة منها ما يروى عن أبي ذر الغفاري الصحابي الجليل إذ بعد أن أسلم مبكرا في وقت كانت فيه الدعوة سرية قال له الرسول –صلى الله عليه وسلم-: " ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري فقال والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه فأتى العباس فأكب عليه فقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأنها طريق تجارتكم إلى الشام وأنقذه منهم"[58] .
 إن الأنفة من استضعاف الغريب والاستعلاء عن التكالب على من لا نصير له لم يمنعا قريش من الانقضاض على أبي ذر وضربه ولكن انتساب الرجل إلى غفار كان كفيلا بإنقاذه وكافيا لتبتلع قريش غيظها وحنقها على امرئ تحدى كبرياءها واستفز جبروتها. فالمال قدس أقدس قريش، وكل ما سواه يحتل المرتبة الأدنى حتى وإن كان ذلك مقدساتها وآلهتها.
 خلاصة القول:
إن عناد قريش وإصرارها على الكفر لم يكن ينم عن إيمان فكري راسخ بجدوى دين الشرك، ولم يكن يعبر عن قناعة بما يمارسونه من طقوس وعادات وتقاليد بقدر ما كان يقف وراءه هذان الدافعان وأعني دافع العصبية لتراث الآباء والدافع الاقتصادي، ولم تتمثل قبيلة هذين الدافعين مثلما تمثلتهما قريش، ولهذا فما إن فتحت مكة ودخلت قريش فيما دخل فيه الناس من الحق حتى تهافتت وفود القبائل على الرسول – صلى الله عليه وسلم- تعلن إسلامها وإيمانها بالدين الجديد.
لقد كانت القبائل تراقب موقف قريش من الدعوة الجديدة وتحاكي فعلها إزاء هذه الدعوة وتتمثله، إيمانا منها بأن قريش أقدر العرب على اتخاذ الموقف الصحيح من هذا الدين باعتبارها القائمة على دينهم القديم وخدمة البيت العتيق، ولهذا فإن إيمان قريش كان إيذانا بإيمان معظم القبائل وإن كان الكثير من العرب لم يدخل الإسلام بداية عن إيمان راسخ إذ  سرعان ما ارتدت معظم هذه القبائل بعد وفاة الرسول–صلى الله عليه وسلم- فيما عرف تاريخيا بحروب الردة التي قادها خليفة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أب وبكر الصديق – رضي الله عنه- ولهذا كله فقد أكد النبي–صلى الله عليه وسلم- مكانة قريش ودورها في قيادة العرب إذ ورد عنه –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم"[59].
 عندما توفي رسول الله–صلى الله عليه وسلم-وارتدت العرب وتهيأت جيوش المسلمين لقتال أهل الردة تحلق عدد من الصحابة يتحادثون " فلما دنا منهم عمر سكتوا، فقال: فيم أنتم؟ فلم يجيبوه. فقال لهم: إنكم تقولون: ما أخوفنا على قريش من العرب قالوا: صدقت، قال: فلا تخافوهم، أنا والله منكم على العرب أخوف مني من العرب عليكم، والله ل وتدخلون معاشر قريش جحرا لدخلته العرب في أثركم فاتقوا الله فيهم"[60] . يبرهن ما قاله عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- على سلطان قريش على العرب جميعا ، هذا السلطان الذي لم يتبد في شأن من شؤون الحياة مثلما تبدى في الدين والعقيدة يقول الرسول الأعظم–صلى الله عليه وسلم- مبينا هذا السلطان:"الناس تبع لقريش في الخير والشر" [61] .
 فقد اتبع العرب قريشا يوم كفرت وساروا على آثارها يوم أسلمت. فكان فتح مكة فتح الفتوح بحق لأنه كان نقطة الشروع في اندحار الشرك في كافة أنحاء الجزيرة العربية، ومن أجل ذلك حث الله سبحانه وتعالى رسوله الأمين –صلى الله عليه وسلم- على أن يسب بحمد ربه ويشكره على نصره المبين الذي خلد الله ذكره في محكم كتابه فأنزل فيه آيات بينات يقول عز من قائل: )إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا [62] .

المصادر والمراجع

     1)    ادونيس / جيمس فريزر / ترجمة جبرا إبراهيم جبرا / دار الصراع الفكري / بيروت – 1957
    2)    أمية بن أبي ال صلت –حياته وشعره / دراسة وتحقيق: د. بهجت عبد الغفور الحديثي / دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد / الطبعة 1لثانية–1991
    3)    تاريخ الإسلام / شمس الدين الذهبي / تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمري / . دار الكتاب العربي / بيروت / الطبعة الثانية- 1989
     4)    تاريخ الرسل والملوك / الطبري / تحقيق: محمد أب ا ولفضل إبراهيم / دار المعارف بمصر / الطبعة الثانية.
    5)    الحيوان / الجاحظ / تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون / مكتبة مصطفى . البابي الجلبي / مصر / الطبعة الثانية- 1967
    6)    ديوان الأعشى الكبير / ميمون بن قيس / شرح وتعليق د. محمد محمد حسين . / دار النهضة العربية / بيروت- 1974
      7)    ديوان حاتم الطائي / تقديم: د. مفيد محمد قميحة / دار ومكتبة الهلال.
    8)    ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات / تحقيق وشرح: محمد يوسف نجم / دار . بيروت-دار صادر / بيروت- 1958
    9)    ديوان عدي بن زيد العبادي / تحقيق وجمع: محمد جبار المعيبد / شركة دار الجمهورية للنشر والطبع / بغداد- 1965
       10)                       ديوان شعر حاتم بن عبد الله الطائي وأخباره / صنعة: يحيى بن مدرك الطائي / رواية: هشام بن محمد الكلبي / دراسة وتحقيق: عادل سليمان جمال / مكتبة الخانجي / القاهرة / الطبعة الثانية- 1990
           11)                       ديوان طرفة بن العبد البكري مع شرح الاعلم الشنتمر ي / تصحيح: مكس سلغسون / مدينة شالون- 1900
         12)                       ديوان طرفة بن العبد / تقديم: كرم البستاني / دار صادر / بيروت.
        13)                       ديوان النابغة الذبياني / تحقيق وشرح: كرم البستاني / دار صادر / بيروت.
       14)                       ديوان النابغة الذبياني / تحقيق وشرح: محمد الطاهر بن عاشور / الشركة. التونسية للتوزيع والشركة الوطنية للنشر والتوزيع – الجزائر - 1967
        15)                       الروض الأنف / عبد الرحمن السهيلي / تحقيق وتعليق وشرح: عبد الرحمن الوكيل / دار الكتب الحديثة / القاهرة.
     16)                       السنن / ابن ماجه (أبو عبد الله محمد بن يزيد) / تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي / بيروت.
        17)                       السيرة النبوية / ابن هشام / تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي / دار إحياء التراث العربي.
     18)                       شعر أبي زُبيد الطائي / جمعه وحققه: الدكتور نوري حمودي القيسي / مطبعة . المعارف / بغداد- 1967
       19)                       شعر ذي الرمة(دراسة فنية)/ د. خالد ناجي السامرائي / رسالة دكتوراه / . كلية الاداب / الجامعة المستنص رية- 1997
      20)                       شعر زهير بن أبي سُلمى / صنعة: الأعلم الشنتمري / تحقيق: د. فخر الدين قباوة / المكتبة الوطنية / حلب / الطبعة الأولى- 1970
      21)                       شعر المخضرمين وأثر الإسلام فيه / د. يحيى الجبوري / مؤسسة الرسالة / . بيروت / الطبعة الخامسة- 1998
      22)                       صحيح مسلم / شرح النووي / مكتبة زهران /القاهرة.
      23)                       القرآن الكريم.
     24)                       الكامل في التاريخ / ابن الأثير / دار الكتاب العربي / بيروت / الطبعة . الثالثة- 1980
     25)                       المحبّر / أبو جعفر محمد بن حبيب / رواية: أبي سعيد الحسن بن الحسين السكري / اعتنى بتصحيحه: الدكتورة ايلزة ليختن شتيتر / دار الآفاق الجديدة / بيروت.
       26)                       المزهر في علوم اللغة وأنواعها / جلال الدين السيوطي / تحقيق: محمد أحمد جاد المولى وعلي محمد البجاوي ومحمد أب ا ولفضل إبراهيم / دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع / بيروت.
     27)                       المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام / د. جواد علي / دار العلم للملايين / بيروت / الطبعة الأولى- 1970




[1] المفصل في تاريخ العرب / د. جواد علي / ج 6، ص 45
[2] سورة الزمر / الآية 3 
[3] المفصل في تاريخ العرب / د. جواد علي / ج 6، ص 44
[4] شعر ذي الرمة / دراسة فنية / د. خالد ناجي السامرائي ص37-39
[5] ادونيس / فريزر / ص 130
[6] ادونيس / فريزر / ص 130
[7] سورة يوسف / الآيتان98-97
[8] تاريخ الاسلام / الذهبي / الخلفاء الراشدون / ص377
[9] ديوان طرفة بن العبد / ص 159
[10] ديوان النابغة الذبياني / تحقيق محمد الطاهر ابن عاشور / ص49
[11] نفسه / ص 17
[12] نفسه / ص18
[13] ديوان حاتم الطائي / صنعة يحيى بن مدرك الطائي / ص250
[14] العنكبوت / الآية61
[15] العنكبوت / الآية63
[16] ديوان طرفة / ص148
[17] ديوان حاتم الطائي / دار مكتبة الهلال / ص76
[18] شعر زهير ابن ابي سُلمى / ص14
[19] شعر ابي زيبد الطائي / ص 56
[20] المحبر / محمد بن حبيب / ص  323-324
[21] نفسه / ص  323-324
[22] المفصل / ج 6، ص 131
 [23] الانعام / الآية 30
[24] المؤمنون / الآيات 31-38
[25]   الحيوان / الجاحظ / ج 6، ص 209
[26] نفسه / ج 6، ص 207
[27] ديوان طرفة بن العبد / ص148-149
[28] نفسه / ص58
[29] ديون النابغة الذبياني / طبعة دار صادر  ص 28
[30] تاريخ الرسل والملوك / الطبري ج 2، ص123
[31] البروج / الايات4-8
[32] ديون طرفة بن العبد / طبعة دار صادر / ص 12
[33]  ديوان الاعشى / القصيدة 4، البيت 60 ، ص93
[34] ديوان عدي بن زيد العبادي / ص88
[35]  ينظر خبر الساطرون في تاريخ الطبري / ج 2، ص 47-50
[36]  الصافات / الايات133-138
[37] ديوان طرفة / ص29
[38] البقرة / الاية18
[39] آل عمران / الاية66
[40] المحبر / ص171-172
[41] المفصل / ج 6، ص 484
[42] البيت مما اخل به ديوان امية بن ابي الصلت.
[43] سنن ابن ماجه / ج 2، ص 1236 ؛ المزهر السيوطي / ج 2، ص 309
[44] الفرقان / الاية7
[45] المحبر / ص237-291
[46] نفسه / ص 236-237
[47] الكامل في التاريخ / ابن الاثير / ج 2، ص 26 ؛ السيرة /لابن هشام / ج 1، ص 133-134
[48] ينظر شعر المخضرمين وأثر الاسلام فيه / د. يحيى الجبوري / ص 30
[49] السيرة / لابن هشام / ج 1، ص 134 " الهامش ".
[50] دياون عبيد الله بن قيس الرقيات / ص 93
[51] ديوان امية / المقطوعة 134 / ص308-309
[52] المح بر /137-138
[53] التوبة / الآية19
[54] البقرة / الآيتان169-170
[55] السيرة / لابن هشام / ج 1، ص247
[56] ينظر السيرة لابن هشام / ج 2، ص 418
[57] الروض الانف / السهيلي / ج 4، ص16
[58] (( صحيح مسلم / بشرح النووي / ج 16 ، ص34
[59] نفسه / ج 12 ، ص 199
[60] . الكامل في التاريخ / ج 2، ص 238
[61] صحيح مسلم / ج 12 ، ص 199
[62] سورة النصر.

مواضيع ذات صلة
دراسات, شأون الخارجية,

إرسال تعليق

1 تعليقات

  1. علي الملا داود3 سبتمبر 2022 في 4:42 ص

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، اخي الكريم ارجوا ان تجعل خاصية النسخ متاحه، ولكم مني جزيل الشكر والتقدير.!




    ردحذف

أكتُبْ تعليقا